الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعد رجوعه من مصر تصدر الفتيا في المسجد الحرام، إلى جانب عقد مجالس التحديث والفقه، وحُقَّ له ذلك فقد جمع بين حديث ابن عيينة وفقهه، وفقه الشافعي، إلى جنب ما سمع واستفاد من غيرهما.
قال أبو عبد الله الحاكم (1): الحميدي مفتي أهل مكة ومحدثهم، وهو لأهل الحجاز في السنة كأحمد بن حنبل لأهل العراق. اهـ.
المطلب السابع شبهات حول شخصية الإمام، ودحضها
لا يكاد أحد ينجو من كلام الآخرين، وخاصة أقرانه، ولا سيما إذا كان ممن بَعُدَ صيتهم وعلت منزلتهم، واشتهرت معارضتهم لغيرهم، لكن هذا الكلام منه المؤثر، ومنه غير المؤثر، ومنه المفتعل. وقد نقل عن الإمام يحيى بن معين في حق الحميدي كلام محتمل، وكلام غريب.
أما المحتمل فهو ما نقله الدوري (2) عنه أنه قال: كان يجيء إلى سفيان، ولا يكتب. قلت ليحيى: فما كان يصنع؟ قال: كان إذا قام أخذها -يعني يحيى أنه كان يتسهل في السماع-. اهـ. فهذا الكلام ليس فيه قدح في الحميدي، لأنه هو صاحب الرجل وملازمه، وراويته، فليس بإمكان ابن معين، أو غيره، ممن يقيم عند سفيان بن عيينة اليوم واليومين، والشهر والشهرين، الحكم على الحميدي وسماعه من سفيان، فإن الرجل قد لازمه ما يقرب من عشرين سنة، فاستوعب ما عنده، وحفظه، وفاق أقرانه فيه.
وذكر ابن الجنيد في سؤالاته (3): قلت ليحيى بن معين: الحميدي
(1) طبقات الشافعية الكبرى (2/ 141).
(2)
تاريخ ابن معين (2/ 308).
(3)
سؤالات ابن الجنيد (576).
-صاحب ابن عيينة- ثقة هو؟ قال: ما أدري، ليس لي به علم. اهـ.
وهذا غريب جدًا، فإنه يبعد أن يكون مثل ابن معين يخفى عليه حال الحميدي، وقد قال ما سبق في رواية الدوري، خاصة وأن سؤالات ابن الجنيد له كانت بعد المائتين، وقد قدم ابن معين على ابن عيينة وسمع منه، وهذا من كبار أصحابه، بل إنه كان مفتي مكة في زمانه -كما تقدم-. وقد اشتهر عن الحميدي (1) رحمه الله منابذته لأهل الرأي، وفرحه برد الشافعي. عليهم، بسبب مخالفتهم لبعض النصوص، والقول في بعض المسائل بآرائهم.
وهذا ليس رأيه وحده، بل جُلُّ أئمة الحديث على ذلك، فكانوا يذمون الرأي وأهله، إلَاّ ما وافق الدليل، مع اعترافهم لهم بالفقه، والتقدم فيه.
وبسبب موقف الحميدي هذا راح بعض من حقق أحد كتبه من المعاصرين يُنَقِّب في طيات الكتب والتراجم، عله يجد ما يغض من مكانة هذا الإمام، وهو لا يتورع في سبيل ذلك عن إعطاء ما يجده حجمًا مهيلًا يستطيع من خلاله تحقيق مآربه. فقال في آخر ترجمته له: والذي لا يكتم أن ما انتهى إلينا من شمائله وسيرته بطريق الرواة ينم عن كونه لا يملك نفسه إذا غضب، وإن جبهه أحد بما لا يرضاه أقذع في الكلام، وأفحش في الرد عليه.
ثم استشهد على ذلك بما وقع بين محمد (2) بن عبد الله بن عبد الحكم، ويوسف البويطي، عندما تنازعا على مجلس الشافعي، فجاء الحميدي فقال: قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف، وليس أحد من أصحابي أعلم منه. فقال ابن عبد الحكم: كذبت. فقال له الحميدي: كذبت أنت وأبوك وأمك.
(1) انظر: آداب الشافعي (ص 41)؛ والحلية (9/ 96).
(2)
انظر: تاريخ بغداد (14/ 300، 301)؛ والسير (12/ 60، 498).
قال: ففي هذا ما يدلك على أنه كان قاسي اللسان -عفا الله عنه وغفر له-.
قلت: مما لا شك فيه أن الحميدي رحمه الله قد تجاوز الحد بتكذيبه لأبيه وأمه، لكن ابن عبد الحكم أظلم، فهو الذي بادر برميه بالكذب، وليس مراد الحميدي تكذيب أبيه وأمه، وإنما مراده المبالغة في الرد عليه، في لحظة غضب. ثم ذكر قصته مع بشر بن السري، عندما ذكر حديث:"ناضرة إلى ربها ناظرة" فقال: ما أدري ما هذا؟ أيش هذا؟
فوثب به الحميدي، وأهل مكة، وأسمعوه كلامًا شديدًا، فاعتذر بعد، فلم يقبل منه. قال المترجم المشار إليه أعلاه: ومع هذا فلم يقبل الحميدي منه، بل كان يقول: إنه جهمي لا يحل أن يكتب عنه.
قال: فهذا يعطيك أنه كان إذا تسخط على أحد، أو نقم منه شيئًا لم يكن ليرضى عنه، ولو تنصل أو اعتذر، ولكن الأئمة لم يتابعوه بل رضوا عن بشر ووثقوه، وأخرجو له، حتى إن البخاري تلميذ الحميدي أخرج له في صحيحه. اهـ.
قلت: ولا يخلو هذا الكلام من بعض المغالطات، فإنه ليس الحميدي وحده الذي لم يقبل اعتذاره، بل قال أحمد بن حنبل (1): وثب به الحميدي وأهل مكة، وأسمعوه كلامًا شديدًا، فاعتذر بعد. فلم يقبل منه، وزهد الناس فيه بعد، فلما قدمت مكة المرة الثانية كان يجيء إلينا، فلا نكتب عنه، وجعل يتلطف، فلا نكتب عنه. اهـ. فقد تبين لك أن أهل مكة، والإمام أحمد، وغيرهم لم يقبلوا اعتذاره، وليس الحميدي وحده، وهذا منهم على سبيل زجر كل من تسول له نفسه الدخول في شيء من البدع، ومخالفة السلف الصالح، وإلا فالرجل تجد صح رجوعه عن ذلك وتوبته منه. ولم أر أحدًا ممن ترجم
(1) تهذيب الكمال (4/ 124).