الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعد هذه القائمة الكبيرة من المصادر الأصيلة التي حلى بها الحافظ كتابه (المطالب)، يحق لنا أن نقول بأنه صنفه وسط هذه الموسوعة، آخذًا في اعتباره مواطن الاتفاق والاختلاف معها، يصرح بذلك تارة، ويلمح أخرى، ويسكت أحيانًا لوضوح المقصود، تفننا منه، وإبداعًا في البناء، ومع هذا وافته المنية وهو غير راض عن هذا المصنف مع عشرات من مصنفاته، لأن همته العالية أبت أن تقنع بمثل ذلك، وفيها (التقريب) و (الدرر)(1)، فكيف لو عاش في زمننا وشاهد الفضلات، تثقل كواهل المكتبات، قد جثمت على رؤوس الأمهات؟ ماذا سيفعل لو رأى المتطفلين على ساح العلماء، قد ركبوا موجة التعالم؟
المطلب الخامس الصناعة الحديثية في الكتاب
وسيكون الحديث في هذا المطلب من خلال الجزئيات الآتية:
1 -
طريقته في سياق الأسانيد، مع المقارنة بغيره:
لا تختلف طريقة ابن حجر عن طريقة البوصيري في أن كلًا منهما يسوق الحديث بإسناده كاملًا إذا كان من أحد المسانيد العشرة، وقد يكتفي بسياق بعضه ثم يحيل على إسناد سابق، أو لاحق (2)، وقد يكون الحديث عنده بإسنادين، من مسند أو أكثر، ويلتقيان في أثناء الإسناد، فيسوقهما إليه، ثم يوحد سياقهما (3).
وقد يكرر سياق الأسانيد وذلك كي يظهر جوانب نقص أو اختلاف بينهما (4).
(1) هما كتاباه (تقريب التهذيب) و (الدرر الكامنة).
(2)
انظر مثلًا: ح (47، 50، 54، 170، 181).
(3)
انظر مثلًا: ح (8، 188).
(4)
انظر مثلًا: ح (40، 55، 148).
وهذا المنهج ليس بدعًا من ابن حجر والبوصيري -رحمهما الله- بل هو الذي سار عليه جماهير المحدثين خلفًا عن سلف، في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها، وفيه يظهر جانب الاختصار وعدم التكرار والحق أن ذكر الأسانيد من أعظم الميزات التي امتاز بها كتابا (المطالب) و (الإتحاف) حيث حفظا لنا المطلوب من أصول كتب أصبح بعضها مفقودًا أو في حكم المفقود.
2 -
طريقته في سياق المتون مع المقارنة بغيره:
مشى الثلاثة -أعني الحافظ والهيثمي والبوصيري- أيضًا على ما مشى عليه السابقون من الاختصار في ذكر المتون، فيذكرون السند ثم يحيلون على متن سابق مثل قولهم (فذكره، بنحوه، بمعناه، بلفظه
…
إلخ)، وقد يقطعون المتن بين الأبواب، وربما يكتفون بالشاهد من اللفظ، وأحيانًا بالإشارة للمتن فقط فتجدهم مثلًا يقولون: فيه حديث فلان تقدم في باب كذا، أو يأتي في باب كذا، ونظرًا لشهرة هذا المنهج، فقد كان غنيًا عن التنبيه، وهو واقع ملموس في أعمالهم، مع أن الوصيري ذكر شيئًا من ذلك في مقدمته (1)، وصرحوا به جميعًا في ثنايا كتبهم، فقد قال الحافظ في ل (142): هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَاقَهُ بِطُولِهِ، وَفَرَّقْتُهُ في أبوابه. وقال في ل (152): أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَقَدْ توخيت ما زاد عليه. وقال في ل (167): وَقَدْ سَبَقَ طَرَفٌ مِنْهُ فِي الصَّوْمِ، وَطَرَفٌ منه في النكاح (2).
3 -
ذكره للمتابعات والشواهد، مع المقارنة بغيره:
يعتبر الحافظ في هذه الناحية أقل من البوصيري، وأكثر من الهيثمي، ففي حين بلغت الأحاديث التي خدمها الحافظ بذلك نحو العشر -بحسب القسم
(1) الإتحاف (ق 1ص 2 - 3) من مقدمة الكتاب.
(2)
وانظر أيضًا المطالب: ح (11، 14، 30، 35، 56. 60، 157)؛ والمجمع (ص 207، 210، 211، 217)؛ والإتحاف ح (10، 21، 39، 100، 110).
المحقق-، فقد أربت على الثلث عند البوصيري وعند الهيثمي لم تجاوز عدة أحاديث (1)، ويبرز ذكر الشواهد والمتابعات عندهم فيما يلي:
(أ) جمع طرق الحديث من الكتب التي استخرجوا زوائدها في مكان واحد.
(ب) سياق طرق أخرى من مصادر أخرى.
(ج) الإشارة إلى شواهد وردت في الكتب المستخرج زوائدها.
(د) ذكر أو الإشارة إلى شواهد من مصادر أخرى.
ولعل قلة عناية الهيثمي رحمه الله بها، راجع إلى أسباب أهمها:
- ضخامة المادة التي جمعها، خاصة إذا عرفنا أنه استقاها من ستة مصادر فقط، ولعله يعتبر أكبر موسوعة لأحاديث الأحكام في العصور المتأخرة.
- اهتمامه بالحكم على الأسانيد.
- عدم ذكر الأسانيد، وهذا ظاهر في عدم العناية بالمتابعات خاصة.
4 -
بيانه لدرجة الأحاديث وتنبيهه على الأحاديث الموضوعة، مع المقارنة بغيره:
وهو في هذا المجال أقل الثلاثة، مع كون الأحاديث التي بين درجتها أو أشار إلى ذلك بلغت أقل من الربع (2) قليلًا، إلَاّ أن البوصيري قد تجاوزت عنده النصف (3)، أما الهيثمي فلا يكاد يترك الحديث بلا حكم إلَاّ في جملة يسيرة، لكن ابن حجر يمتاز عنهما بالتحرير ودقة الأحكام، وفي المثل (سكت
(1) انظر مثلًا: المطالب ح (11، 12، 15، 16، 20، 35، 47)، والإتحاف ح (4، 5، 19، 23، 35، 49)؛ والمجمع (ص 203، 204، 208).
(2)
وانظر على سبيل المثال: ح (1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 10، 11، 12).
(3)
وانظر على سبيل المثال: ح (1، 4، 5، 8، 9، 11، 13، 15، 16).
دهرًا ونطق عبرًا) فكلامه رحمه الله برد الأكباد، وحين يتصدى للحكم على أثر أو قول تتناثر الدرر تحت قلمه، ولذا قلت أوهامه في هذا الكتاب وغيره، بل إنه لم يصبر عن كتابي صاحبيه حتى وشاهما بتلك التعليقات المفيدة، والتي غلب عليها جانب النقد، وقد نقل البوصيري عنه بعض الأحكام، صرح بالنقل عنه أحيانًا وأحيانًا لا يصرح (1).
كما امتاز عنهما بتفننه في الأحكام، وإيجاز ألفاظها، فمرة يحكم على الإسناد ويعلل ذلك (2)، ومرة بدون تعليل (3)، وأحيانًا يحكم على الرواة (4) وأحيانًا يحكم على المتن (5)، وقد يبهم العلة (6)، وهذا كله منه تصريح بالحكم، وفي بعض الأحيان يلمح إليه (7)، وفي حالات قليلة ينقل الحكم عن غيره (8).
5 -
بيانه للتفرد في السند أو المتن مع المقارنة بغيره:
وهذا من أقل ما رأيته في تعليقات الحافظ في المطالب (9)، ولربما كان هو والهيثمي -والذي لم أرَ له شيئًا من ذلك- اكتفيا بالحكم على الإسناد أو المتن، كما يعتذر للهيثمي بما سبق وهو كثرة الأحاديث التي جمعها، أما البوصيري وهو وإن كان في الجملة أكثر منهما إلَاّ أن ما عنده يعتبر قليل (10).
(1) انظر: الإتحاف (ق 1 ص 17) من مقدمة المحقق.
(2)
نظر: ح (1، 135).
(3)
انظر: ح (3، 5، 7).
(4)
انظر: ح (2، 11، 37).
(5)
انظر: ح (12، 15، 16).
(6)
انظر: ح (4، 6، 156).
(7)
انظر: ح (10، 40، 173).
(8)
انظر: ح (67، 69).
(9)
انظر: ح (1).
(10)
انظر: الإتحاف ح (8، 39).
6 -
بيانه لأحوال الرواة توثيقًا وتجريحًا، مع المقارنة بغيره:
جاء الكلام في الرواة عندهم على ثلاثة ألوان، فإما أن يصرحوا بوصفهم، وهذا على لونين:
- أن يوثقوا أو يجرحوا، عموم رواة الإسناد، مثل: رجاله ثقات (1)، أو لأشخاص بخصوصهم مثل: فلان ضعيف، أو مجهول ونحو ذلك (2).
- أن يوثقوا أو يجرحوا ضمنيًا، كأن يحكم على الإسناد بأنه صحيح (3)، أو ضعيف جدًا أو واه (4)، أو حسن (5)، لأن كل وصف له من الرواة ما يناسبه، فلا يمكن أن يكون في الإسناد ضعيف أو متروك، ثم يحكم عليه بأنه صحيح، وهلم جرا.
- أن يلمحوا إلى حال الرواة كان يشير بأن غيره ممن هو أوثق منه قد خالفه (6)، أو أنه شاذ (7)، ونحو ذلك.
وبالجملة فالحافظ يعتبر أقل الثلاثة كلامًا في الرواة، إذ تبلغ نسبة الأحاديث التي تكلم على رواتها نحو العشر، بينما بلغت عند البوصيري ما يقارب النصف، في حين أن الهيثمي نادرًا ما يهمل الحديث من الكلام عن رواته، وهذه ميزة تذكر له رحمه الله، وإياهم وجميع موتى المسلمين، لكن كما أسلفت في العنصر الرابع -الماضي آنفًا- وإن قل كلامه، فهو يمتاز بالتحرير
(1) انظر: ح (2، 11، 194)، والإتحاف ح (9، 11، 30).
(2)
انظر: ح (2، 38، 66)، والإتحاف ح (13، 15، 19).
(3)
انظر: ح (194، 198)، والإتحاف ح (16، 30).
(4)
انظر: ح (7، 78، 90)، والإتحاف ح (47).
(5)
انظر: ح (1، 5)، والإتحاف ح (27).
(6)
انظر: ح (6، 108، 140)، والإتحاف ح (34، 39).
(7)
انظر: ح (16، 31).
والإتقان الذي لا يوجد إلَاّ عند أمثال الذهبي رحمه الله، فهو البلسم الشافعي، ولذا كثرت الأوهام عند صاحبيه، بينما لا تكاد تذكر عنده، ولا أنسى أن أشير أنهم قد ينقلون هذا الكلام عن غيرهم، والبوصيري يتميز عنهما بأنه يبين سبب الحكم العام أو الخاص.
7 -
بيانه للأسماء والنسب والأنساب والكنى والألقاب وغير ذلك مما يميز الراوي عن غيره، مع المقارنة:
هذا الأمر مع قلته في المطالب، فإن الحافظ أكثر عناية به منهما (1)، بل هو نادر عندهما، لا سيما الهيثمي الذي قلما يتعرض لذلك.
8 -
بيانه لبعض ما يؤخذ من الأحكام:
وهو نادر جدًا في المطالب (2)، وشبه معدوم في المجمع، والإتحاف (3) أكثر منهما وإن كان قليلًا، مع العلم أن الحافظ والبوصيري قد ينقلان ذلك عمن سبقهما، ويمكن أن يعتذر لهم في ذلك أن الكتاب ليس شرحًا، كما أن تراجم الأبواب تقوم مقام الاستنباط، خصوصًا في المطالب التي جاءت كثير من تراجمه أعجوية في الفقه ودقة النظر.
* * *
(1) انظر لذلك: ح (1، 66، 79، 108، 161، 191).
(2)
انظر لذلك: ح (147)، ول (42، 62، 93).
(3)
انظر لذلك: الإتحاف (12، 35).