الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَنْ تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَفِ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ مِنْ كَسْبِ الإِْسْلَامِ؛ لأَِنَّ كَسْبَ الإِْسْلَامِ حَقُّ وَرَثَتِهِ، وَلَا حَقَّ لِوَرَثَتِهِ فِي كَسْبِ رِدَّتِهِ، بَل هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ، فَلِهَذَا كَانَ فَيْئًا إِذَا قُتِل، فَكَانَ وَفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ أَوْلَى، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكَسْبِ الإِْسْلَامِ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ، فَإِنْ لَمْ تَفِ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ؛ لأَِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ مِلْكِ الْمَدْيُونِ. . فَأَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ، فَلَا يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْهُ، إِلَاّ إِذَا تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ.
وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ دُيُونَ إِسْلَامِهِ تُقْضَى مِنْ كَسْبِ الإِْسْلَامِ، وَمَا اسْتَدَانَ فِي الرِّدَّةِ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْكَسْبَيْنِ مُخْتَلِفٌ، وَحُصُول كُل وَاحِدٍ مِنَ الْكَسْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الدَّيْنُ، فَيُقْضَى كُل دَيْنٍ مِنَ الْكَسْبِ الْمُكْتَسَبِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِمُقَابَلَةِ الْغُنْمِ، وَبِهِ قَال زُفَرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اكْتَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ، كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ كَسْبُهُ فَيَكُونُ مَصْرُوفًا إِلَى دَيْنِهِ، كَكَسْبِ الْمُكَاتَبِ (1) .
42 -
وَإِذَا أَقَرَّ الْمُرْتَدُّ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُول:
(1) المبسوط 10 / 106، والبدائع 7 / 139، وابن عابدين 4 / 248.
إِنْ أَسْلَمَ جَازَ، أَمَّا إِنْ قُتِل عَلَى رِدَّتِهِ، فَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ إِلَاّ عَلَى مَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ رِدَّتِهِ. أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَيَرَى أَنَّ إِقْرَارَهُ كُلَّهُ جَائِزٌ إِنْ قُتِل مُرْتَدًّا، أَوْ تَابَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إِنْ قُتِل عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ، فَإِنَّ إِقْرَارَهُ بِمَنْزِلَةِ إِقْرَارِ الْمَرِيضِ (1) ، يُبْتَدَأُ أَوَّلاً بِدَيْنِ الإِْسْلَامِ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لأَِصْحَابِ دُيُونِ الرِّدَّةِ؛ لأَِنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا أُهْدِرَ دَمُهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى اعْتِبَارِ إِقْرَارِ الْمُرْتَدِّ عَمَّا قَبْل الرِّدَّةِ وَخِلَالَهَا، مَا لَمْ يُوقَفْ تَصَرُّفُهُ، فَقَدْ قَال الشَّافِعِيُّ: وَكَذَلِكَ كُل مَا أَقَرَّ بِهِ قَبْل الرِّدَّةِ لأَِحَدٍ، قَال: وَإِنْ لَمْ يُعْرَفِ الدَّيْنُ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ، وَلَا بِإِقْرَارٍ مِنْهُ مُتَقَدِّمٍ لِلرِّدَّةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ إِلَاّ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ فِي الرِّدَّةِ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ عَلَيْهِ وَمَا دَانَ (3) فِي الرِّدَّةِ، قَبْل وَقْفِ مَالِهِ لَزِمَهُ، وَمَا دَانَ بَعْدَ وَقْفِ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَيْعٍ رُدَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ سَلَفٍ وُقِفَ، فَإِنْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ بَطَل، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى الإِْسْلَامِ لَزِمَهُ (4) .
أَمْوَال الْمُرْتَدِّ وَتَصَرُّفَاتُهُ:
43 -
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ
(1) المقصود مرض الموت، فلا ينفذ إقراره إلا من الثلث.
(2)
المبسوط لمحمد 177، والتحرير مخطوطة غير مرقمة ج 2
(3)
دان تأتي بمعنى استدان كما في القاموس.
(4)
الأم 6 / 153.
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ لَا يَزُول عَنْ مَالِهِ بِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَالِهِ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل عَلَى الرِّدَّةِ زَال مِلْكُهُ وَصَارَ فَيْئًا، وَإِنْ عَادَ إِلَى الإِْسْلَامِ عَادَ إِلَيْهِ مَالُهُ؛ لأَِنَّ زَوَال الْعِصْمَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ زَوَال الْمِلْكِ؛ وَلاِحْتِمَال الْعَوْدِ إِلَى الإِْسْلَامِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ وَيُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَلَوْ تَصَرَّفَ تَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ مَوْقُوفَةً فَإِنْ أَسْلَمَ جَازَ تَصَرُّفُهُ، وَإِنْ قُتِل أَوْ مَاتَ بَطَل تَصَرُّفُهُ وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَقْبَل التَّعْلِيقَ كَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْوَصِيَّةِ كَانَ تَصَرُّفُهُ مَوْقُوفًا إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالُهُ، أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَكُونُ مُنَجَّزَةً وَلَا تَقْبَل التَّعْلِيقَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ بِنَاءً عَلَى بُطْلَانِ وَقْفِ الْعُقُودِ، وَهَذَا فِي الْجَدِيدِ، وَفِي الْقَدِيمِ تَكُونُ مَوْقُوفَةً أَيْضًا كَغَيْرِهَا.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَزُول مِلْكُهُ بِرِدَّتِهِ؛ لأَِنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ حَالَةَ الإِْسْلَامِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَهِيَ الْحُرِّيَّةُ، وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي الْمِلْكَ كَالْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا تَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ جَائِزَةً كَمَا تَجُوزُ مِنَ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ، أَوْ دَبَّرَ، أَوْ كَاتَبَ، أَوْ بَاعَ، أَوِ اشْتَرَى، أَوْ وَهَبَ نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ، إِلَاّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَال: يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الصَّحِيحِ، أَمَّا مُحَمَّدٌ فَقَال: يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ
مَرَضَ الْمَوْتِ؛ لأَِنَّ الْمُرْتَدَّ مُشْرِفٌ عَلَى التَّلَفِ؛ لأَِنَّهُ يُقْتَل فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ.
وَقَدْ أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ اسْتِيلَادَ الْمُرْتَدِّ وَطَلَاقَهُ وَتَسْلِيمَهُ الشُّفْعَةَ صَحِيحٌ وَنَافِذٌ؛ لأَِنَّ الرِّدَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَصَحَّحَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ - وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مِلْكَهُ يَزُول بِرِدَّتِهِ لِزَوَال الْعِصْمَةِ بِرِدَّتِهِ فَمَالُهُ أَوْلَى، وَلِمَا رَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَال لِوَفْدِ بُزَاخَةَ وَغَطَفَانَ: نَغْنَمُ مَا أَصَبْنَا مِنْكُمْ وَتَرُدُّونَ إِلَيْنَا مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا؛ وَلأَِنَّ الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوا دَمَهُ بِالرِّدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكُوا مَالَهُ.
وَعَلَى هَذَا فَلَا تَصَرُّفَ لَهُ أَصْلاً لأَِنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ.
وَمَا سَبَقَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَدِّ الذَّكَرِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَدَّةِ الأُْنْثَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَزُول مِلْكُ الْمُرْتَدَّةِ الأُْنْثَى عَنْ أَمْوَالِهَا بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ فَتَجُوزُ تَصَرُّفَاتُهَا؛ لأَِنَّهَا لَا تُقْتَل فَلَمْ تَكُنْ رِدَّتُهَا سَبَبًا لِزَوَال مِلْكِهَا عَنْ أَمْوَالِهَا (1) .
(1) البدائع 7 / 136 - 137، وجواهر الإكليل 1 / 35 و 2 / 279، والمدونة 2 / 318، والدسوقي 4 / 307، والحطاب 6 / 284، ومغني المحتاج 4 / 142 - 143، والمهذب 2 / 224، والمغني 8 / 128 - 129، وكشاف القناع 6 / 181 - 182