الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالتَّدْلِيسُ وَالتَّغْرِيرُ، وَالاِسْتِغْلَال وَكَوْنُ الرِّضَا مُقَيَّدًا بِرِضَا شَخْصٍ آخَرَ، يَقُول الْغَزَالِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا: وَيَخْتَل الْقَصْدُ بِخَمْسَةِ أَسْبَابٍ: سَبْقِ اللِّسَانِ، وَالْهَزْل، وَالْجَهْل، وَالإِْكْرَاهِ، وَاخْتِلَال الْعَقْل ".
فَإِذَا وُجِدَ عَيْبٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى إِذَا لَمْ يَتَوَفَّرْ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الرِّضَا فَإِنَّ الْعَقْدَ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال يَكُونُ فَاسِدًا، أَوْ بَاطِلاً - عَلَى خِلَافٍ فِيهِمَا بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ - وَيَكُونُ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال غَيْرَ لَازِمٍ، أَيْ يَكُونُ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ كِلَيْهِمَا حَقُّ الْخِيَارِ، وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ هَذِهِ الْعُيُوبَ بَعْضَهَا يُؤَثِّرُ فِي الرِّضَا تَأْثِيرًا مُبَاشِرًا، فَيَكُونُ الْعَقْدُ الَّذِي تَمَّ فِي ظِلِّهِ فَاسِدًا أَوْ بَاطِلاً - كَمَا فِي الإِْكْرَاهِ، وَبَعْضَهَا يُؤَثِّرُ فِي إِلْزَامِيَّةِ الرِّضَا، فَيَكُونُ الْعَقْدُ الَّذِي تَمَّ فِي ظِلِّهِ غَيْرَ مُلْزِمٍ، بَل يَكُونُ لِعَاقِدٍ حَقُّ الْخِيَارِ، مِثْل التَّدْلِيسِ، وَالتَّغْرِيرِ، وَالاِسْتِغْلَال وَنَحْوِهَا، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ مِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الرِّضَا كَكَوْنِهِ لَمْ يَقَعْ تَحْتَ إِكْرَاهٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ لِلُزُومِهِ، كَكَوْنِهِ لَمْ يَشُبْهُ غَلَطٌ أَوِ اسْتِغْلَالٌ، أَوْ تَدْلِيسٌ - عَلَى تَفْصِيلٍ كَبِيرٍ وَخِلَافٍ (1) .
وَنُحِيل لأَِحْكَامِ هَذِهِ الْمَسَائِل إِلَى مُصْطَلَحَاتِهَا الْخَاصَّةِ فِي الْمَوْسُوعَةِ.
(1) الوسيط، مخطوطة دار الكتب رقم 206 فقه شافعي جـ 3 ورقة (147) ، والروضة 8 / 53 - 62
وَسَائِل التَّعْبِيرِ عَنِ الرِّضَا:
15 -
إِنَّ الرِّضَا فِي حَقِيقَتِهِ - كَمَا سَبَقَ - هُوَ الْقَصْدُ، وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنِيٌّ لَيْسَ لَنَا مِنْ سَبِيلٍ إِلَيْهِ إِلَاّ مِنْ خِلَال وَسَائِل تُعَبِّرُ عَنْهُ، وَهِيَ اللَّفْظُ وَالْفِعْل - أَيِ الْبَذْل - وَالْكِتَابَةُ، وَالإِْشَارَةُ، وَالسُّكُوتُ فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ. يَقُول الْبَيْضَاوِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ضَرُورَةَ وُجُودِ الرِّضَا حَقِيقَةً: لَكِنَّهُ لَمَّا خَفِيَ نِيطَ بِاللَّفْظِ الدَّال عَلَيْهِ صَرِيحًا (1) " وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الأَْلْفَاظَ بَيْنَ عِبَادِهِ تَعْرِيفًا وَدَلَالَةً عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ مِنَ الآْخَرِ شَيْئًا عَرَّفَهُ بِمُرَادِهِ وَمَا فِي نَفْسِهِ بِلَفْظِهِ، وَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الإِْرَادَاتِ وَالْمَقَاصِدِ أَحْكَامَهَا بِوَاسِطَةِ الأَْلْفَاظِ، وَلَمْ يُرَتِّبْ تِلْكَ الأَْحْكَامَ عَلَى مُجَرَّدِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةِ فِعْلٍ، أَوْ قَوْلٍ، وَلَا عَلَى مُجَرَّدِ أَلْفَاظٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَا لَمْ يُرِدْ مَعَانِيَهَا وَلَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا، بَل تَجَاوَزَ لِلأُْمَّةِ عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَل، أَوْ تُكَلِّمْ بِهِ (2) . فَإِذَا اجْتَمَعَ الْقَصْدُ وَالدَّلَالَةُ الْقَوْلِيَّةُ، أَوِ الْفِعْلِيَّةُ تَرَتَّبَ الْحُكْمُ، هَذِهِ
(1) الغاية القصوى 1 / 457، روى مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان 1 / 116 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت أنفسها ما لم تعمل به، أو تتكلم ".
(2)
ورد ذلك من حديث أبي هريرة مرفوعًا: " إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 160 - ط السلفية) ، وأخرجه مسلم بلفظ مقارب (1 / 116 - ط الحلبي) .
قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ عَدْل اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، فَإِنَّ خَوَاطِرَ الْقُلُوبِ وَإِرَادَةَ النُّفُوسِ لَا تَدْخُل تَحْتَ الاِخْتِيَارِ (1) ".
وَسَنُوجِزُ الْقَوْل فِي دَلَالَةِ هَذِهِ الْوَسَائِل:
16 -
دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الرِّضَا، حَيْثُ هُوَ الْوَسِيلَةُ الأُْولَى وَالأَْفْضَل فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الرِّضَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِيهِ مُنْصَبًّا عَلَى بَعْضِ الصِّيَغِ، كَصِيَغِ الاِسْتِفْهَامِ، أَوِ الْكِنَايَةِ، أَوِ الْمُضَارِعِ، حَيْثُ وَقَفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عِنْدَ مُلَاحَظَةِ نَوْعِيَّةِ الدَّلَالَةِ اللُّغَوِيَّةِ، وَاشْتَرَطُوا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا احْتِمَالٌ، فِي حِينِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ - مِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ - ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَأَنَّ الْمَرْجِعَ فِي ذَلِكَ هُوَ الْعُرْفُ، كَمَا أَنَّ الْقَرِينَةَ أَيْضًا لَهَا دَوْرٌ فِي جَعْل اللَّفْظِ دَالًّا عَلَى الْمَقْصُودِ (2) . وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَاسِعٌ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ:(عَقْد) .
(1) إعلام الموقعين 3 / 105 - 106
(2)
يراجع في تفصيل ذلك: فتح القدير 2 / 345، وحاشية ابن عابدين 3 / 15، والفتاوى الهندية 3 / 4، والشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 3، وشرح المحلي مع حاشيتي القليوبي وعميرة 2 / 152، ونهاية المحتاج 3 / 376، وكشاف القناع 3 / 147، الإنصاف 5 / 353، والاختيارات الفقهية ص (121) ، والتعبير عن الإرادة للدكتور وحيد الدين سوار ط. النهضة المصرية، ومبدأ الرضا في العقود دراسة مقارنة ط. دار البشائر الإسلامية.
17 -
دَلَالَةُ الْفِعْل عَلَى الرِّضَا (الْبَذْل) أَيْ عَرْضُ الشَّخْصِ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ الآْخَرُ فَيَدْفَعُ قِيمَتَهُ، وَهَذَا مَا يُسَمَّى بِالْمُعَاطَاةِ، أَيْ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، أَوِ الْقَوْل مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْعَرْضِ مِنَ الآْخَرِ، أَيِ الإِْعْطَاءِ مِنْ أَحَدٍ دُونَ قَوْلٍ، وَالْجَانِبُ الثَّانِي يُعَبِّرُ عَنِ الرِّضَا بِالْقَوْل، أَوِ الْكِتَابَةِ، أَوْ نَحْوِهِمَا.
وَقَدْ ثَارَ الْخِلَافُ فِي مَدَى دَلَالَتِهِ عَلَى الرِّضَا عَلَى ثَلَاثَةِ آرَاءٍ مُوجَزُهَا:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: عَدَمُ صَلَاحِيَةِ الْفِعْل (الْبَذْل) لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الرِّضَا فِي الْعُقُودِ، هَذَا رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: صَلَاحِيَتُهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الرِّضَا، وَإِنْشَاءِ الْعَقْدِ بِهِ مُطْلَقًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ - مَا عَدَا الْكَرْخِيَّ - وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ - مَا عَدَا الْقَاضِيَ - وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمُ الْبَغَوِيُّ وَالنَّوَوِيُّ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِالْعُرْفِ.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: صَلَاحِيَتُهُ فِي الأَْشْيَاءِ الرَّخِيصَةِ، وَعَدَمُ صَلَاحِيَتِهِ فِي الْغَالِيَةِ وَالنَّفِيسَةِ، وَهَذَا رَأْيُ الْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَابْنِ سُرَيْجٍ، وَالْغَزَالِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
(1) فتح القدير 5 / 77، وبدائع الصنائع 6 / 2985، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 3، وشرح الخرشي 5 / 5، والمغني 3 / 561، والإنصاف 4 / 263، وفتح العزيز 8 / 99، والمجموع 9 / 162 - 163، مجمع الأنهر 2 / 5، والبحر الرائق 5 / 291، وإحياء علوم الدين 2 / 69، والغاية القصوى 1 / 457، والمحلى 9 / 294