الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأَْدِلَّةِ، فَلَيْسَ هَذَا النَّمَطُ بِمَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ، فَبَقِيَ مَا كَانَ مَفْعُولاً بِالاِخْتِيَارِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَصْدٍ ".
وَصَرَّحَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ لَا يَقَعُ؛ لأَِنَّهُ سَاقِطُ الاِخْتِيَارِ، وَنَقَل ابْنُ النَّجَّارِ عَنْ أَحْمَدَ قَوْلَهُ: إِنَّ الإِْكْرَاهَ يُزِيل الاِخْتِيَارَ (1) ".
آثَارُ هَذَا الاِخْتِلَافِ:
11 -
لَمْ يَكُنْ هَذَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ لَفْظِيًّا لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الآْثَارُ، وَإِنَّمَا خِلَافٌ مَعْنَوِيٌّ ثَبَتَ عَلَيْهِ آثَارٌ فِقْهِيَّةٌ تَظْهَرُ فِي تَصَرُّفَاتِ وَعُقُودِ الْهَازِل، وَالْمُكْرَهِ، وَالْمُخْطِئِ، وَالسَّكْرَانِ، وَمَنْ لَمْ يَفْهَمِ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعَ لِلإِْيجَابِ وَالْقَبُول، حَيْثُ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ غَيْرِ الْمَالِيَّةِ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَطَلَاقُ هَؤُلَاءِ، وَنِكَاحُهُمْ وَرَجْعَتُهُمْ وَنَحْوُهَا صَحِيحٌ - كَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ - اعْتِمَادًا عَلَى أَصْل الْقَصْدِ وَالاِخْتِيَارِ، وَوُجُودِ الْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُمْ، فَلَوْ أَرَادَ شَخْصٌ أَنْ يَقُول لِزَوْجَتِهِ: يَا عَالِمَةُ، فَسَبَقَ لِسَانُهُ فَقَال: أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ وَقَعَ طَلَاقُهُ عِنْدَهُمْ، وَعَلَّل ذَلِكَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْبُخَارِيُّ الْحَنَفِيُّ بِقَوْلِهِ: اعْتِبَارًا بِأَنَّ الْقَصْدَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ حَقِيقَةً،
(1) الموافقات 2 / 327ط. دار أبي حرفة ببيروت، الوسيط مخطوطة دار الكتب المصرية (212 فقه شافعي) ، ورقة (117، 178) ، وحاشية عميرة 2 / 56، شرح الكوكب المنير 1 / 509.
بَل يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ الدَّال عَلَيْهِ، وَهُوَ أَهْلِيَّةُ الْقَصْدِ بِالْعَقْدِ وَالْبُلُوغِ نَفْيًا لِلْحَرَجِ ". وَقَال فِي تَعْلِيل وُقُوعِ طَلَاقِ السَّكْرَانِ: إِنَّ السُّكْرَ وَإِنْ كَانَ يُعْدِمُ الْقَصْدَ الصَّحِيحَ، لَكِنَّهُ لَا يُعْدِمُ الْعِبَارَةَ، وَيَقُول الْحَصْكَفِيُّ: وَلَا يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِمَعْنَى الإِْيجَابِ وَالْقَبُول فِيمَا يَسْتَوِي فِيهِ الْجِدُّ وَالْهَزْل مِثْل الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ، وَلَمْ يَحْتَجْ لِنِيَّةٍ، وَبِهِ يُفْتَى (1) ".
وَأَمَّا الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ - مِثْل الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ - فَاشْتُرِطَ فِيهَا الاِخْتِيَارُ عِنْدَهُمْ لِلاِنْعِقَادِ، وَاشْتُرِطَ لِصِحَّتِهَا الرِّضَا، فَإِذَا تَحَقَّقَا فِي التَّصَرُّفِ كَانَ صَحِيحًا وَمُنْعَقِدًا - مَعَ تَوَفُّرِ الشُّرُوطِ الأُْخْرَى - وَإِذَا انْعَدَمَ الاِخْتِيَارُ انْعَدَمَ الْعَقْدُ وَأَصْبَحَ بَاطِلاً، وَأَمَّا إِذَا وُجِدَ الاِخْتِيَارُ وَانْعَدَمَ الرِّضَا فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ فَاسِدًا.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَاشْتَرَطُوا وُجُودَ الرِّضَا - أَيْ الاِخْتِيَارِ - فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، إِلَاّ إِذَا دَل دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِي عَقْدٍ خَاصٍّ، مِثْل الْهَزْل فِي الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ (2) .
12 -
ثُمَّ إِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ فَرَّقُوا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
1 -
الْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِمَّنْ لَهُ الأَْهْلِيَّةُ، وَالْمَوْضُوعَةُ
(1) كشف الأسرار 4 / 384، وجامع الحقائق للخادمي ص (98) ،
(2)
المصادر الفقهية والأصولية السابقة للفريقين.
لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرْتِيبِ الآْثَارِ، كَبِعْتُ، وَطَلَّقْتَ.
2 -
قَصْدِ الْعِبَارَةِ دُونَ قَصْدِ الأَْثَرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا، وَهُوَ الاِخْتِيَارُ.
3 -
قَصْدِ الْعِبَارَةِ وَالأَْثَرِ، وَهُوَ الرِّضَا.
فَالأَْوَّل هُوَ رُكْنٌ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ وَالْعُقُودِ، أَوْ شَرْطٌ لاِنْعِقَادِهَا، وَالثَّانِي شَرْطٌ لاِنْعِقَادِ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِلْعُقُودِ الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا الْجِدُّ وَالْهَزْل كَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِمَا، وَلِذَلِكَ يَقَعُ طَلَاقُ السَّكْرَانِ، وَالْمُكْرَهِ، وَالسَّاهِي عِنْدَهُمْ، وَالاِخْتِيَارُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَافِي الإِْكْرَاهَ، بَل يَجْتَمِعُ مَعَهُ، وَلِذَلِكَ تَنْعَقِدُ عُقُودُ الْمُكْرَهِ الْمَالِيَّةُ، وَلَكِنَّهَا لَا تَكُونُ صَحِيحَةً نَافِذَةَ الْعُقُودِ؛ لِكَوْنِهَا تَحْتَاجُ إِلَى شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ الرِّضَا. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ الْمَالِيَّةِ إِطْلَاقًا.
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، فَجَعَلُوا الْعِبَارَةَ هِيَ الْوَسِيلَةَ، وَإِنَّمَا الأَْسَاسُ هُوَ الْقَصْدُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالرِّضَا وَالاِخْتِيَارِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ أَمْ غَيْرِ الْمَالِيَّةِ، يَقُول الشَّاطِبِيُّ: فَالْعَمَل إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْقَصْدُ تَعَلَّقَتْ بِهِ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ، وَإِذَا عُرِّيَ عَنِ الْقَصْدِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا ". وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: مَدَارُ الْعُقُودِ عَلَى الْعُزُومِ وَالْقُصُودِ (1) ". وَيَقُول الْغَزَالِيُّ وَالنَّوَوِيُّ: الرُّكْنُ الثَّالِثُ - أَيْ مِنْ
(1) الموافقات 2 / 324، وقواعد الأحكام 2 / 150.
أَرْكَانِ الطَّلَاقِ - الْقَصْدُ إِلَى لَفْظِ الطَّلَاقِ وَمَعْنَاهُ (1) " وَلِذَلِكَ لَا يَقَعُ عِنْدَهُمْ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ وَالسَّاهِي وَالْغَافِل وَنَحْوِهِمْ (2) .
وَأَمَّا الْخِلَافُ فِيمَا بَيْنَ الْجُمْهُورِ فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ فَيَعُودُ فِي الْوَاقِعِ إِلَى مَدَى النَّظْرَةِ إِلَى عِقَابِهِ وَرَدْعِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ بِالإِْجْمَاعِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِسُكْرِهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي السَّكْرَانِ بِتَعَدٍّ، حَيْثُ نَظَرَ الَّذِينَ أَوْقَعُوا طَلَاقَهُ إِلَى أَنَّ الْقَوْل بِهِ رَادِعٌ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ يُكَيَّفُ فِقْهِيًّا بِأَنَّ رِضَاهُ بِتَنَاوُل الْمُسْكِرِ الَّذِي يَعْلَمُ بِأَنَّ عَقْلَهُ سَيَغِيبُ بِهِ رِضًا بِالنَّتَائِجِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ (3) .
وَكَمَا يُشْتَرَطُ فِي تَحَقُّقِ الرِّضَا قَصْدُ الْعِبَارَةِ - أَوِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ - فَلَا بُدَّ كَذَلِكَ مِنْ قَصْدِ الآْثَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ، فَالْمُكْرَهُ مَثَلاً قَصَدَ الْعِبَارَةَ مِثْل بِعْتُ لَكِنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ انْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ، وَإِنَّمَا تَنْفِيذُ مَا هَدَّدَهُ الْمُكْرِهُ - بِكَسْرِ الرَّاءِ - وَكَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ قَصْدُ الآْثَارِ إِلَاّ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِهَا فِي الْجُمْلَةِ، فَلَوْ رَدَّدَ شَخْصٌ وَرَاءَ آخَرَ " بِعْتُ " أَوْ " قَبِلْتُ " وَلَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ، لَمْ يَتِمَّ الْقَصْدُ، يَقُول الْغَزَالِيُّ:
(1) الوسيط مخطوطة الدار رقم 312 فقه الشافعي ورقة 177، والروضة 8 / 53، وفتاوى ابن الصلاح الشهرزوري ط. الحضارة بالقاهرة ص 260
(2)
المصادر السابقة، والمنتهى لابن الحاجب ص 32، والقوانين الفقهية ص 197، 199.
(3)
القوانين الفقهية ص (196) ، والأم 5 / 235، والروضة للنووي 8 / 12، المغني لابن قدامة 7 / 114 - 116