الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من المدينة ليلا، وبعث عبده إلى أخته، فدخل عليها خفية، فخرجت إليه وألبسته كساء عندها، فسار بجنبها ولم ينته له أحد، فلما دخل زوجها طلب طعامه، فقالت له: عندك ضيف، فقال: أخرجيه إلى، ولم يظن إنه أخوها نفسه، فتباطأت عليه، فقال: هو آمن، ولو إنه فلان. فقالت: هو فلان. فسقط في يديه. فقال له: ما أفعل بهذه الجموع وبقومي، فإنهم موتورون محنقون، فأشار إليه بأن يتمارض، فمكث ثلاثة أيام يدعى المرض، وكان ضيفه خرج إلى رؤساء حسان سرا، وأعطاهم كثيرا من المال، فرجعوا بقومهم، ولما علم به أهل المدينة اخترطوا سيوفهم ليقتلوه، فتلقاهم أبناء أبوهم، ودافعوا عنه، لأن الرئيس الذي آواه منهم، فخيرهم رئيس أهل شنقيط المذكور، بين أن يرجعوا إلى دورهم ونخلهم، وبين أربعين دية، ولا شيء لهم في شنقيط. فاختاروا الديات، وتم الاتفاق بينهم.
حرب أهل شنقيط وأهل وادان
هذه الحرب واقعة بعد التي قبلها، وتقدم أن بين البلدين نحو يوم. وكان سكان وادان، من قبيلة كنته وإدولحاج، وكانوا كالشيء الواحد. فوقعت الحرب بين أهل المدينتين، ومن أصح ما نورد عنها، رسالة حرم بن عبد الجليل العلوي،
وقصيدته. وكان حرم المذكور موجودا إذ ذاك، وموضعه من العلم والورع معلوم، وهذا نصهما:
عفت والعياذ بالله معاهد الإسلام، وغدى المستضيئ بها في أعظم الغياهب والظلام، وصار سلوك مسالك الفسق فخرا بين الأنام، واشتد اشتداد كاهله، وبلغ أشده، وجاوز في كل المواطن حدَّه. وذاع فلم تدرك يد العَدَّ عدَّه. ولكن من أعظم ما سمعنا به في الزمان، ما فعلته وندمت عليه أهل وادان، وذلك أنهم مر منهم بأهل شنجيط رجلان، فقتلهما من غير يمالئ رجل قتلوا قبل أباه، وطالب الثأر منا ليس ينساه، فحاولوا ما صميم الشرع يأباه. فقلنا لهم: هذه دية مهذبة الوسط والنواح:
فإنْ ترضوا فإنا قد رضينا
…
وإلا فأطراف الرماح
مقومة وبيض مرهفات
…
تبين جماجماً وبنانَ راح
فقال سيدهم: لتفعلُنّ كيت وكيت، أو لأطأنكم عما قليل بجحافل، لكنه مضى من ملتقى المحافل، والحال منه يضحك: وينشد قول القائل:
عقبي اليمينِ على عقبي الوغى ندمُ
…
ماذا يزيدك في إقدامك القسمُ
وفي اليمين على ما أنتَ واعده
…
ما دل أنك في الميعاد متّهم
وقلنا لهم: لما رأينا مقالهم، يوم التقى الجيشان كذب الفعل:
أبيتم قبول السلم منّا فكدتمُ
…
لدى الحرب أن تغنوا السيوف عن السلِّ
فصاروا أضحوكة بين أهل السهل والجبال. فحرضتهم نساءهم إذ ذاك على القتال، فوجهوا إلينا في الشهر الحرام جيشا لهاما، وكان من مضى من أهل الملل كفرا وإسلاما، يرى القتال في الشهر الحرام حراما. فلم نبق منهم غاربا ولا سناما. فمن دعاه حب الحمد إلى القتال بقى منشورا، ومن دعاه حب التمر إلى الفرار فر مذعورا:
يفر من فر منهمْ للِعدى دهشا
…
كأنهم في الموامى لم يروا سبلا
وضاقت الأرض حتى كان هاربهم
…
إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
فلا تلم جيشكم من بعد هزمهم
…
إذا رأيت رجالا منهم سلموا
عليك هزمهمُ في كل معترك
…
وما عليك بهم عار إذا انهزموا
ولما أغرقهم اللعين، نكص على عقبيه، كما فعل بقريش في غابر الأزمان. فصاروا كأهل قرية كانت آمنة مطمئة؛ يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، وصاروا حسبنا الله ونعم الوكيل؛ عبرة يعتبر بها المعتبرون. وصاروا ألين من الماء بعد الصلابة، فمتُّول إلى كُنْتَ حينئذ بالقرابة فملكوهم حينئذ ملك الأمراء، بل
لم يبلغوا لهم درجة الوزراء، فألجموا الخيل، وزموا الإبل؛ وأتى منهم من يملأ السهل والجبل، ولما رأينا ما سمعنا من أمرهم، تذكرت ما قال بعض الولائد:
تجمعتمُ من كل أوب ووجهةٍ
…
على واحد لا زلتمُ قِرن واحد
فأتوا معشرا معاطاة كؤوس الحِمام، أشهى إليهم من معاطات كؤوس المدام:
فَجُلْ بقولك في أقصى مآثرهم
…
إن أنت في ذاك بالإفعال لم تجل
لقد وجدت مكان القول ذا سعة
…
فإن وجدت لساناً قائلاً فقل
أولئك قوم كلُّ من جد غيرهم
…
ترى جِدَّه هزلاً إذا ما هُم جَدّوا
ولا ترج يوماً صالحاً لعدوّهم
…
وإن هو منهم كان أكثر إن عُدوا
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا
…
قليل إذا عُدُّوا كثير إذا شَدُّوا
فسقط في أيدي تلك العساكر وولوا خائبين، فكم من فئة قليلة، غلبت فئة كثيرة بإذن الله؛ والله مع الصابرين، فقُطع دابرُ القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين:
إذا الدهر بالمكروه سامك فاصبرا
…
ولا تجزعنْ منه أقلَّ أو اكثرا
فما دام شجوٌ لامرئٍ ومسرة
…
أرى الدهر من هذا وهذاك أكثرا
لقد كنتُ أحجو الهجر أكبرَ فاجع
…
فألفيته من أصغر البين أصغرا
أرى البين عن ساقيه أضحى مشمّراً
…
وشجوك لما شمّر البين شمرا
وليس يرد الحزن من شطّ وليُهَا
…
فأقصرْ عن الأحزان إن كنت مقصرا
تغيرتَ أحوالا كما أن رسمها
…
وحُق له من بعدها قد تغيرا
غدا رائحُ الأرواح والمعْتدى به
…
إذاً بدلاً منه أصمّ وأعورا
أمرُّ على أكنافه متجاهلا
…
لأني متى أعرِفه جَفْتَيَ أمطرا
كأني حنيناً من تذكر أهلها
…
مسنٌ لأيام الشباب تذكرا
تقول وقد أضمرتُ ما بي أترْتضى
…
هوىً لم يزل في مضمر القلب مضمرا
فقلت لها أمسى وأصبح أمره
…
من الشمس أو من فتح وادان أظهرا
أقرَّ بذاك الفتح من كان منكراً
…
له وغدا يُخفيه من كان مظهرا
وأدلج إدلاجاً به كلُّ راكبٍ
…
على رغم أنف الحاسدين وهجّرا
وسيّر في الآفاق أمرَ وقائع
…
تُطيل إذا فَكرت فيها التفكرا
دعا عاجلُ الآجال للحَيْنِ معشراً
…
بوادان لنْ يُدعى مدى الدهر معشرا
لئن وردتْ شنجيطَ يوما ظماؤهم
…
لقد شربوا بوازُعْقاً من الموت أكدرا
وكان لهم شر الموارد مورداً
…
وكان لهم شر المصادر مصدَرا
هم حزبوا الأحزاب من كل جانب
…
كما حزّبت أحزابها أهل خيبرا
أتوا بالرعايا يَنشدون وعيدهم
…
فصاروا على البطحاء لحما منشرا
وفاض أتيٌّ من نجيع دمائهم
…
به شجرُ البطحاء أصبح مثمرا
فمن كرَّ منهم قد تكسر عمره
…
ومن فرّ منهم صبره قد تكسرا
نجا مُذعَراً مما رأت عينه وما
…
نجا من نجا من مأزِق الحرب مذعرا
إذا هو في المِرآة أبصر وجهه
…
توهّم وجه القرب ما كان أبصرا
وإن نام لو حفته منهمْ عساكر
…
رأى مَشْرفياً بين فوديه أحمرا
لكان لهم صبر شديد وشدَّة
…
ولكنهم لاقوا أشد وأصبرا
تطوف بهم صير هناك تخالها
…
إذا وقعت حول العساكر عسكرا
ترى الذئب مسروراً يقول لصحبه
…
يزوّدنا هذا سنيناً وأشهراً
أبوا وطلبنا السلم منهم قبولَها
…
وقالوا لقد كنا على الحرب أقدرا
فولوا على أعقابهم خشية الردى
…
غداة غدا بازِ المنايا مصرصرا
غدت كُنْتَ تقضي دونهم ما ينوبهم
…
من الأمر كانوا غائبين وحُضّرا
فأقبل من آكان جندٌ لنصرهم
…
وأدبر عنه النصر إذا فرَّ مدبرا
فشنجيط ظنوا هدمه متيسراً
…
فألفَوْه من إحياء كبّادِ أعْسرا
كلهمُ لم يعرفوا بأس أهله
…
ولو سالوا بانُمَّ والمسكَ أخبرا
أتوا بخميس لم تكن خمس خمسه
…
فقلْ فيه لو ساواه أو كان أكثرا
أتاه يجوبُ البيد والقفر صائلاً
…
فآب من الأبطال والدين مقفرا
بدا إذ بدا ما قد رأوه تواضعٌ
…
لمن كان منهم طاغياً متكبرا
فقال زعيم القوم أصبحتُ راضياً
…
بما كان من أمر القدير مقدرا
فنالوا إذاً عبداً ببعض دمائهم
…
ونِيماً وتنوريْن والبعضُ أهدِرا
دمٌ أهدرته سادة علوية
…
وما كان فيهم مثلُ ذلك منكرا
وما استنصروا غير الصوارم ناصرا
…
وأغنتهمُ عمن أتى متنصرا
يخوضون يوم الروع في لجج الردى
…
كأنَّ منال العز فيهنَّ أبحرا
يسابق عَزرائيلَ وقعُ سيوفهم
…
إذا ما مُحَيّا الحرب أصبحَ مسفرا
فكم مشهدٍ في الحرب يثنى عليهمُ
…
وكم معشر من بأسهم صار أزورا
تراهم وليس الدهر إلا نوائباً
…
إذا كَبُرَتء تلك النوائب أكبرا
سما للمعالي منْ تقدّم منهمُ
…
فيسموا على آثاره من تأخرا
مآثرهُمْ حَلْىُ الزمان لو إنه
…
على صورة الإنسان كان مصوّرا
فكم من فتى فيهم يروقك علمه
…
ويَهزم من أجناد وادان عسكرا
ويجعل في إحدى يديه مهنداً
…
طريراً وفي الأخرى كتاباً مطرَّرا
يحب الردى يوم الوغى فكأنه
…
إذا مات فيه لا يزال معمَّرا
بعينيك فانظر كيْ ترى بعض مجدهم
…
إذا أنت عن إدراكه كنت مُقْصِرا
ولما أراد كنت، أن ينصروا إدولحاج على إدوعل، وقام لذلك (كبادى) وقعد. وكان من رؤساء كنته. فحذرته امرأته من البغي وخوفته من إدوعل. فقال لها: إن رُصَيَّصهم لا يقتل، لأنهم لا يجعلون في مدافعهم من البارود إلا إصبعين، فبلغتهم المقالة. فعرفه رجل من آحاد الناس وضربه وقال له (صرت عباس الّ صبعين) صرت: أصله سرة. وسرة الإنسان: معروفة. وعباس قريب