الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أغلاطه في رحلته
وقعت لمحمد محمود المذكور، أغلاط كثيرة، منها ما يتعلق بالعربية، ومنها ما يتعلق بالدين. فمن ذلك قوله في قصيدته الأولى.
لطيفة طيِّ الكشح حمصانة الحشا
…
روادفها ملأى من اللحم والشحم
فإن روادف: مبتدأ. وهو جمع ردف نادرا، قاله في المخصص، وملأى: خبره. وهو مفرد، والجمع لا يخبر عنه بالمفرد، إلا إذا كان على فعيل، كقوله تعالى (والملائكة بعد ذلك ظهير). وقال الشاعر:
يعادين من شيبة قد بدا
…
وهن صديق لمن لم يشب
ومن ذلك مسألة عمر، فإنه جازف فيها مجازفة شديدة، وادعى أن النحاة غلطوا فيها منذ اثني عشر قرنا، ولم ينتبه لذلك غيره، وأن أولهم في ذلك سيبويه فإنه غلط فيما ادعى سماعه من العرب من منعه، وأن غيره تابعه على ذلك، كتقليد الأعمى. وحجته في ذلك، إنه وجد مائة بيت للعرب مصروف فيها عمر. وأنه صرف في البخاري ومسلم. وأن العرب لم تمنعه نظما ولا نثرا، وقال في ذلك:
كما خرقوا للعرب ذا المنع مفترى
…
عليهم بلا نثر رووه ولا نظم
وقال في ميميته التي مدح بها أُسكار النصراني:
ولو كان ذاك الميت حياً وجاءني
…
لتاب وخص الرجل مني باللثم
وأشياء كثيرة تشمئز منها النفس، ثم إنه ادعى أن النحاة غفلوا عن كونه جمع عمرة. لأنه لما سمع عامر الذي ادعوا إنه معدول عنه تقديرا، سمع عمر جمع عمرة. فهو منقول عن الجمع، وليس بمعدول عن عامر، وقد ألفت رسالة وطبعت في مصر في حياته، فأرعد وأزبد ونشر في المؤيد: إنه ألف في صرفه كتابا، يتضمن مائة شاهد، لم يبق فيه حجة لأحد، وأنه سيطبعه. ثم انكشف الغيب ان ذلك الكتاب لا حقيقة له، لأن كتبه أفرزت ورقة ورقة، وقيدت أسماؤها في
الكتبخانة الخديوية. كما إنه نوه باسم مؤلف له اسمه (البنيان المرصص، في أوهام
المخصص) ولا حقيقة له ايضا، الا ما كتب على هوامش المخصص. ولا يخفى إنه أخطأ في أكثرها. وبالجملة فإن كلما نقل مما يصرف عمر لا حقيقة له كما تقدم. ومن ذلك أيضا قوله:
ففي سائر الأمثال إثبات صرفه
…
وإبطال منع الصرف والعدل بالوقم
فإن هذا البيت، يقتضي أن عمر صرف في سائر الأمثال، ومن أجل كتبها: أمثال الميداني. وهذا نصه في شرح المثل المشهور: أحمق من جحا. قلت: جحا اسم لا ينصرف، لأنه معدول عن جاح. مثل عمر: من عامر. فكيف لنا أن نصدقه فبما نقل بعد هذا، فتراه يحرف ما نقل من الكتب المتداولة بين الناس فما بالك بالتي لا توجد لو نقل عنها.
أما قوله: إنه وجد مائة بيت، فهذا على تقدير صحته، لا يثبت صرفه، لأن النحاة جعلوا معتمدهم في ذلك سماع العرب، يمنعونه نثرا. وأجابوا عن ذلك: بأن الأبيات ضرورة، وقد بينت في الرسالة التي تقدم ذكرها، أن الضرورة ما وقع في الشعر، لا مالا محيد عنه للشاعر. ولعله عد من هذه الشواهد بيت الكميت الذي حرفه، لما قرئ عليه في قصائده الهاشميات، وادعى إنه أقوى فيه، لأن القافية منصوبة، والبيت هو:
أهوى عليا أمير المؤمنين ولا
…
أرضى بشتم أبي بكر ولا عمرا
فادعى إن الرواية عمر بالجر، مع إنه لم يرو ذلك عن شخص واحد. ومن ذلك البيت المشهور، وهو:
لا تلسمنَّ أبا عمران حجتهُ
…
ولا تكوننْ له عوْناً على عُمَرا
فإن لسان العرب، وتاج العروس، روياه عمرا بالألف. وكذلك ابن جني في الخصائص. وابن سيده في المخصص. ولما طبع المخصص في مصر، وكان محمد محمود مشرفا على طبعه، حرف هذا البيت فيه، وقال: إنه عمر بالجر.
وإن
النساخ حرفوه، كما هو مبسوط على هامشه، وأما قوله: إنه مصروف في مسلم والبخاري، فهذا الشيء قاله من تلقاء نفسه، وهو خلاف ما عليه جميع المحدثين. ولاشك أن الحديث لا يعتمد فيه على غير الرواية. وأما قوله: إن النحاة غفلوا عن كونه جمع عمرة. فهذا غير صحيح، كما بينت في الرسالة المذكورة. وقد نقلت كلام ابن مالك بلفظه في عمدته، فليرجع إليه. وكلام عبد القادر البغدادي، وابن الحاجب في شرح المفصل، وغير هؤلاء. فدعواه الغفلة لا تتأتى. فإن كان اعتنى بالتنقيب، فلا عذر له في عدم مراجعة كتب هؤلاء الأعلام، لأنهم أئمة اللسان، وإن كان تركها ازدراء لها، فقد عرض نفسه لاستهزاء الناس به، وأورد على نفسه ما قال أبو حيان في الزمخشري:
وينسب إبداء المعاني لنفسه
…
ليوهم أغماراً وإن كان سارقا
وقال ابن عصفور في المقرب: وإذا كان فُعَلُ علما، فإن كان له أصل في النكرات، فاقض عليه بأنه مصروف غير معدول، نحو لبد، اسم نسر لقمان. لأنه يقال: مال لبد. إلا أن يقوم دليل سمعي على عدله، يمنع صرفه، نحو: عمر، فهو معدول عن عامر، وليس منقولا عن عمر: جمع عمرة. وإن لم يكن له أصل في النكرات. نحو: قثم، فاقض عليه، بأنه ممنوع الصرف معدول، الا ان يقوم دليل بصرفه، على إنه ليس بمعدول نحو أدد. اهـ. فهل يصدق على ابن عصفور هذا، قوله في ميميته؟
وقد غفلوا عن كونه جمع عمرة
…
له الصرف قبل النقل للعلم الاسم
بل الأشبه أن يقال: إنه هو غفل عن انتباههم لذلك كلهم، ولو لم ينص على هذا غير ابن عصفور، لعذرناه بعدم الاطلاع على كتبه. لكن يبعد أن يكون أراد التنقيب عن هذه المسألة، ولم ينظر في كتب ابن الحاجب وابن مالك على الأقل. وأما طعنه في علة العدل بقوله:
فدعواهُم منع وعدل مقدر
…
وعن عامر محض التقول بالفم
فلا يخفى إنه تحامل محض، فلا هو أبدى قاعدة للنحاة، يبنى عليها الطعن في علة العدل، ولا اخترع من نفسه شيئا يستحق أن يصغي إليه، وهذا الذي وقع له وقع لقاصري النظر، فتراهم يطعنون في تعاليل النحاة، ويقولون: إن العرب لم يقصدوا ذلك.
وقد ذكر ابن جني في الخصائص، حكاية معناها إن أحدهم قال: فلان لغوب أتته كتابي فاحتقرها، فقال له آخر كيف تقول: احتقرها والكتاب مذكر؟ فقال له: أليس بصحيفة؟ فهذا يدلك على أن النحاة بنوا تعاليلهم على أمور معقولة عن العرب، ولنذكر لك ما يثلج صدرك. قال ابن برهان في اللمع: والمثال الكاشف لك عن مغزاهم العدل، هو أن تتصورهم بصورة، من غدا سائرا في الطريق لغاية رفعت له، ونظر إليها ثم عدل عنها إلى غاية أخرى، لا على السمت المستطرق، ففتح بذلك طريقا فصار إلى المراد. إلا أن العدول إنما كان في الأصل لغرض زائد، فالأولى: عامر علما، والثانية قولهم: عمر. ومثل هذا في قول العرب: زيد قام. في قلم ضمير لا يظهر البتة. وإذا قلت: الزيدان قاما. والزيدون قاموا. ظهر الضمير، فجعلوا الضمير بمنزلة السيف، يغمد تارة، وينتضى أخرى. فإن قيل: ومن أين علمهم العدل؟ قلنا لما صرفوا عمرا تكسير عمرة، وصرفوه معرفة، وتركوا صرف عمر. ولم يكن ذلك لمجرد التعريف، دلنا ذلك على ما قلناه. وقال سعيد: انهم نووا في هذا المعدول أن يبنوه على الأصل، ثم عرض له هذا البناء بعد النية، فعمر لم يقع في كلامهم صفة. وزفر وقع في كلامهم مثل عمر. ووقع أيضا مثل حطم. فتقول زفر، فهو زافر، والزفر بهذا بمنزلة عمر، لا ينصرف إن كان علما. قال ابو علي: كان ينبغي أن يقع الاشتقاق لعمر، من المصدر الذي اشتق عامر منه، فلما اشتق عمر من عامر، سمى معدولا، ولو كان على القياس
لسمى مشتقاً. والتغيير في الأعلام أوجد. فلذلك كان باب
العدول، إنما هو في الأعلام. قال. العبد عمر، أبلغ من عامر، كما أن الرحمن أبلغ من راحم، والجاري على الرحمن راحم، وعلى عمر عامر. فالفرع للفرع، والأصل للأصل.
وأما قوله: إنه لم يسمع في نظم ولا نثر، فإن النظم تقدم منه بيتان، ونزيد على ذلك قول ذي الرمة، يمدح عمر بن هبيرة:
أقول للركب إذ مالت عمائمهم
…
شارفتموا نفحات الجود من عمرا
وقول الفرزدق:
إن الأرامل والأيتام إذ هلكوا
…
والخيل إذ هزمت تبكي على عمرا
وقوله أيضا يمدح بشر بن مروان:
كنا أناساً اللأواء فانفرجت
…
عن مثل مروان بالمصرين أو عمرا
وسئل الخليل بن أحمد، عن العلل التي يعتل بها في النحو. فقيل له: أعن العرب أخذتها أم اخترعتها من نفسك؟ فقال: ان العرب نطقت على سجيتها وطباعها، وعرفت مواقع كلامها، وقامت في عقولها علله، وإن لم ينقل ذلك عنها، وعللت أنا بما عندي إنه علة لما عللته منه، فإن أكن أصبت العلة فهو الذي التمست، وإن يكن هناك علة غير ما ذكرت، فالذي ذكرته محتمل إنه علة له، ومثلى في ذلك مثل حكيم دخل دارا محكمة البناء عجيبة النظم والأقسام، وقد صحت عنده حكمة بانيها بالخبر الصادق والبراهين الواضحة، والحجج اللائحة، فكلما وقف هذا الرجل الداخل الدار، على شيء منها. قال: إنما فعل هذا هكذا، لعلة سنحت له وخطرت، محتملة أن تكون علة لتلك، فجائز ان يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار، وجائز ان يكون فعله بغير تلك العلة، إلا أن ما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة كذلك، وقد نص كثير من النحاة، على أن سبب تشبثهم بالعدل في فعل المعدول عن فاعل، أنهم لما سمعوه ممنوعا عن
العرب، أرادوا أن يتكلفوا علة، لئلا يمنع كثير من الأعلام
سبب واحد، فكلما قدروا علة مع العلمية، وجدوها غير مستقيمة، فلذلك اتفقوا على العدل.
فغلطه في مسألة عمر، مسألة لغوية تتعلق بالدين، لأنها يلزم عليها صرف عمر الوارد في الحديث، وكذلك تكفيره للبرزنجيين في رحلته، بإضافة الاسم إلى الذات، فإن تكفير المسلم كفر، وقد جعلهم ملحدين في أسامي الله تعالى، وهذا نص عبارته، قال في رحلته: وهذا كله من صغائر ذنوب البرزنجيين، بالنسبة إلى ذنبيهما العظيمين اللذين لا يغتفران، أولهما: إلحادهم في اسم الله تعالى، واجتنابهم إياه في ابتداء مولدهم النثري بقولهم:
ابتدئ الإملاء باسم الذات العلية
وابتداء مولدهم النظمي على زعمهم بقولهم:
بدأت باسم الذات عالية الشان
فقد خرقوا إجماع المسلمين والجاهلين بذلك، ونسخوا اسم الله تعالى، ولقبوه بالذات المؤنثة، التي هي في الوزن كاللات والعزى، ووصفوه بالعلية، والعالية المؤنثتين. فكأنهم لا يحمدون ولا يعبدون الله جل جلاله، وإنما يحمدون ويعبدون الذات. الخ كلامه، ولا يخفى ان ادعاءه الإجماع، يعد من الغرائب، بل أطلقها عليه كثير منهم، وليس هو أبو عذر هذا الاعتراض، بل سبقه إليه ابن برهان وابن الخشاب النحوي، وقد أجاب العلماء عن ذلك الاعتراض، ويكفى في ذلك، بيت خبيب بن عدى الصحابي، رضي الله عنه. وهو:
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
…
يباركْ على أوصال شلو مُمزع
وفي صحيح البخاري (باب ما يذكر من الذات والنعوت وأسامي الله تعالى) قال الإمام القسطلاني: قال القاضي عياض: ذات الشيء نفسه وحقيقته. وقد استعمل أهل الكلام الألف واللام، وغلطهم النحاة، وجوزه بعضهم. لأنها ترد بمعنى النفس،
وحقيقة الشيء، وجاء في الشعر ولكنه شاذ. واستعمال
البخاري لها على ما تقدم، من ان المراد بها نفس الشيء، على طريقة المتكلمين في حق الله تعالى، ففرق بين النعوت والذوات.
وقال ابن برهان: إطلاق المتكلمين الذات في حق الله تعالى من جهلهم، لأن ذات تأنيث ذو، وهو جلت عظمته لا يصلح له إلحاق تاء التأنيث. قال: وقولهم الصفات الذاتية جهل منهم أيضا. لأن النسب إلى ذات ذوى، وأجيب بأن الممتنع استعمالها بمعنى صاحبة. أما إذا قطعت عن هذا المعنى، واستعملت بمعنى الاسمية فلا محذور. كقوله تعالى (إنه عليم بذات الصدور) أي بنفس الصدور. وقال خبيب رضي الله عنه:
وذلك في ذات الإله الخ
وفي الحديث (أخشين في ذات الله تعالى).
وقال ابن الحاجب في أماليه. قال: ابن الخشاب النحوي: لا يقال ذات الله. لأن ذات بمعنى صاحبة، ولا يقال صاحبة الله، والجواب عن ذلك، ان العرب تضيف المسمى إلى اسمه في قولهم، ذات يوم وذات ليلة، وشبهه. فالذات هاهنا المراد بها المدلول، والمضاف إليه المراد به اللفظ، وكأنه قيل مسمى هذا اللفظ، وأما ذات الله، فلاشك إنها لا تطلق لفساد المعنى، وإنما الكلام في إطلاق لفظة ذات مضافة إلى الله، وهو صحيح بمعنى المذكور، ومثله من كلام العرب قليل، والله أعلم بالصواب.
وروى البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن محجوب، حدثنا حماد عن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال: لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا ثلاث كذبات، ثنتين منهن: في ذات الله عز وجل. قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، إلى آخر الحديث، وقالت أم المؤمنين عائشة
رضي الله عنها في صفة أبيها: فما برحت شكيمته في ذات الله تشتد، حتى اتخذ بفناء بيته مسجدا، يحيى فيه ما أماته المبطلون.