الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَرَدْت لِنَفْسِي خَيْرًا دُونَ الْمُسْلِمِينَ «وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ» بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَهِيَ كَيْفِيَّةٌ يَحْصُلُ فِيهَا انْبِسَاطٌ فِي الْقَلْبِ مِمَّا يُعْجِبُ الْإِنْسَانَ مِنْ السُّرُورِ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ مُضِرٌّ بِالْقَلْبِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا وَهُوَ فِعْلُ السُّفَهَاءِ وَالْأَرَاذِلِ مُورِثٌ لِلْأَمْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ وَلِذَا قَالَ «فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ» أَيْ تُصَيِّرُهُ مَغْمُورًا فِي الظُّلُمَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعِ نَفْسِهِ وَلَا دَفْعِ الضُّرِّ عَنْهَا وَحَيَاتُهُ أَوْ إشْرَاقُهُ مَادَّةُ كُلِّ الْخَيْرِ وَمَوْتُهُ وَظُلْمَتُهُ مَادَّةُ كُلِّ شَرٍّ وَبِحَيَاتِهِ تَكُونُ قُوَّتُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَتَصَوُّرُهُ الْمَعْلُومَاتِ وَحَقَائِقَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَلِذَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ لَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ وَلَا تَمْشِ فِي غَيْرِ أَرَبٍ وَلَا تَسْأَلْ عَمَّا لَا يَعْنِيك وَلَا تُضِعْ مَالَك وَتُصْلِحْ مَالَ غَيْرِك فَإِنَّ مَالَك مَا قَدَّمْت وَمَالَ غَيْرِك مَا أَخَّرْت
وَقَالَ مُوسَى لِلْخَضِرِ عليهما السلام أَوْصِنِي فَقَالَ كُنَّ بَسَّامًا وَلَا تَكُنْ غَضْبَانَ وَكُنْ نَفَّاعًا وَلَا تَكُنْ ضِرَارًا وَأَنْزِعْ عَنْ اللَّجَاجَةِ وَلَا تَمْشِ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا تَضْحَكْ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ وَلَا تُعَيِّرْ الْخَاطِئِينَ بِخَطَايَاهُمْ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِك يَا ابْنَ عِمْرَانَ وَفِي صُحُفِ مُوسَى عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ كَيْفَ يَضْحَكُ عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَنْصَبُ عَجَبًا لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إلَيْهَا
وَفِي الْحَدِيثِ إيذَانٌ بِالْإِذْنِ فِي قَلِيلِ الضَّحِكِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ كَمَا فِي الْفَيْضِ وَخَيْرٌ مِنْهُ التَّبَسُّمُ كَمَا فِي الْمَوَاهِبِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا قَوْمٌ يَتَحَدَّثُونَ وَيَضْحَكُونَ فَوَقَفَ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَزْجُرْكُمْ فَقُلْنَا وَمَا هَاذِمُ اللَّذَّاتِ قَالَ الْمَوْتُ» (هق عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْعَبْدَ لَيَقُولُ الْكَلِمَةَ لَا يَقُولُهَا إلَّا لِيُضْحِكَ بِهَا الْمَجْلِسَ» أَيْ أَهْلَهُ «يَهْوِي بِهَا» يَسْقُطُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ فِي دَرَكَاتِ النِّيرَانِ «أَبْعَدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَزِلُّ عَنْ لِسَانِهِ أَشَدَّ مِمَّا يَزِلُّ عَنْ قَدَمَيْهِ» يَعْنِي: صُدُورُ الْكَذِبِ وَالْفَاحِشَةِ أَضَرُّ لَهُ مِمَّا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ ضَرَرِ سُقُوطِهِ عَلَى وَجْهِهِ قَالَ الشَّاعِرُ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ
جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامُ
…
وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ.
[الثَّانِي مِنْ السِّتَّةِ الْمَدْحُ]
(وَالثَّانِي) مِنْ السِّتَّةِ (الْمَدْحُ وَهُوَ جَائِزٌ) تَارَةً وَمَنْهِيٌّ تَارَةً عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَجِبُ تَعْظِيمُهُ فَهُوَ مِنْ الْقُرَبِ وَأَعْلَى الرُّتَبِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى» أَيْ إنَّهُ يُحِبُّ الْمَدْحَ مِنْ عِبَادِهِ لِيُثِيبَهُمْ عَلَى مَدْحِهِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الشُّكْرِ لِلْوَاحِدِ الْخَالِقِ فَإِذَا كَانَ الْأَشْخَاصُ الْمُذْنِبُونَ الْقَاصِرُونَ يُحِبُّونَ الْمَدْحَ فَاَلَّذِي يَسْتَحِقُّهُ أَوْلَى تبارك وتعالى الْمَمْدُوحُ فِي أَوْصَافِهِ الْمَحْمُودُ عَلَى أَفْعَالِهِ الْمُنْعِمُ عَلَى عِبَادِهِ وَزَادَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ مُسْلِمٍ «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ» الْحَدِيثَ وَإِنَّمَا جَازَ
الْمَدْحُ لِأَنَّهُ يُورِثُ زِيَادَةَ الْمَحَبَّةِ وَالْأُلْفَةِ وَاجْتِمَاعَ الْقُلُوبِ وَجَمْعِيَّةَ الْخَاطِرِ.
(عَدِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ وُزِنَ إيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيمَانِ الْعَالَمِينَ» بِفَتْحِ اللَّامِ «لَرَجَحَ» مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ خَصَّ مِنْهُ الْبَعْضَ فِيهِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَوْلِيَاءِ كَافَّةً سَوَاءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ مِنْ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَمِنْ عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ جِنْسًا أَوْ شَخْصًا وَأَمَّا خَوَاصُّهُمْ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُمْ كَالْأَنْبِيَاءِ دَاخِلُونَ فِي التَّخْصِيصِ وَالْمُخَصِّصُ شَرْعٌ أَوْ عَقْلٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اقْتَضَاهُ الْحَدِيثُ مِنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ فَقَدْ اُسْتُوْفِيَ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ فَارْجِعْ إلَيْهِ تُهْدَ (وَرَوَاهُ هق مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) قِيلَ مَرْفُوعٌ حُكْمًا لِمَا أَنَّ الرَّأْيَ لَا مَجَالَ لَهُ فِيهِ أَقُولُ وَأَيْضًا يُعَضِّدُهُ رَفْعُ ابْنِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لَكِنْ السُّيُوطِيّ أَوْرَدَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ كَلَامُ السَّلَفِ وَابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي طَرِيقِ صَدَقَةِ ابْنِ مَيْمُونَةَ الْقُرَشِيِّ (ت عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) لَكِنْ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ
وَلَوْ دَامَتْ الدَّوْلَاتُ كَانُوا كَغَيْرِهِمْ
…
رَعَايَا وَلَكِنْ مَا لَهَا مِنْ دَوَامِ
وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُطَوَّلِ شَرْحِ التَّلْخِيصِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْمِيزَانِ مِنْ أَنَّهُ اسْتِنْتَاجٌ مِنْ اسْتِثْنَاءِ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ فَطُورٌ آخَرُ غَيْرُ طُورِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَخْفَى تَوْفِيقُهُمَا لِمَنْ تَدَرَّبَ فِي الْمِيزَانِ ثُمَّ يَشْكُلُ أَنَّهُ كَيْفَ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَدْحِ عُمَرَ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ تَعْلِيقِ الْمُحَالِ بِالْمُحَالِ الْآخَرِ أَقُولُ الْمُحَالِيَّةُ لَيْسَتْ بِذَاتِيَّةٍ فَالْمَدْحُ بِمَا فِي الْإِمْكَانِ الْأَصْلِيِّ كَافٍ نَظِيرُهُ مَا قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ وَجْهِ كُفْرِ مَنْ قَالَ لَوْ كَانَ فُلَانٌ نَبِيًّا مَا آمَنْت بِهِ
فَحَاصِلُ الْحَدِيثِ فِي ذَاتِ عُمَرَ وَقَابِلِيَّةِ كَوْنِهِ نَبِيًّا بَعْدِي لَوْ أَمْكَنَتْ النُّبُوَّةُ
فَفِيهِ إبَانَةٌ عَنْ فَضْلِ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِعُمَرَ مِنْ أَوْصَافِ الْأَنْبِيَاءِ وَخِصَالِ الْمُرْسَلِينَ وَقُرْبِ حَالِهِ مِنْهُمْ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ لَيْسَتْ بِاسْتِعْدَادٍ بَلْ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ فَكَأَنَّ النَّبِيَّ أَشَارَ إلَى أَوْصَافٍ جُمِعَتْ فِي عُمَرَ لَوْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلرِّسَالَةِ لَكَانَ بِهَا نَبِيًّا فَمِنْ أَوْصَافِهِ قُوَّتُهُ فِي دِينِهِ وَبَذْلُهُ نَفْسَهُ وَمَالَهُ فِي إظْهَارِ الْحَقِّ وَإِعْرَاضُهُ عَنْ الدُّنْيَا مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهَا وَخُصَّ عُمَرُ مَعَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ إيذَانًا بِأَنَّ النُّبُوَّةَ بِالِاصْطِفَاءِ لَا بِالْأَسْبَابِ ذَكَرَهُ الْكَلَابَاذِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ خُصَّ عُمَرُ بِالذِّكْرِ لِكَثْرَةِ مَا وَقَعَ لَهُ فِي زَمَنِ الْمُصْطَفَى مِنْ الْوَاقِعَاتِ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا وَوَقَعَ لَهُ بَعْدَهَا عِدَّةُ إصَابَاتٍ كَذَا فِي الْفَيْضِ كَأَنَّهُ يُرِيدُ مَا قَالُوا إنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ عَلَى رَأْيِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
وَأَيْضًا مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ حَبِيبَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا قَوْله تَعَالَى - {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]- وَمَدَحَهُ أَيْضًا عليه الصلاة والسلام مَعَ أَصْحَابِهِ بِقَوْلِهِ - {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا} [الفتح: 29]- الْآيَةَ (وَلَكِنْ جَوَازُهُ بِشُرُوطٍ خَمْسَةٍ الْأَوَّلُ أَنْ لَا يَكُونَ) الْمَدْحُ (لِنَفْسِهِ لِأَنَّ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ لَا تَجُوزُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] فَرُبَّمَا يَصِفُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ بِالتَّقْوَى وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لَكِنْ إنْ كَانَ يَقْصِدُ تَحْدِيثَ النِّعْمَةِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ جَائِزٌ بَلْ قَدْ يُسْتَحَبُّ.
(وَفِي حُكْمِهَا) أَيْ مَدْحِ النَّفْسِ (مَدْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَوْلَادِ) كَأَنْ يَمْدَحَ أَوْلَادَهُ بِكَمَالِ الْخِصَالِ (وَالْآبَاءِ وَالتَّلَامِذَةِ وَالتَّصَانِيفِ) لَمْ يَذْكُرْ الْأَسَاتِذَةَ لَعَلَّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى جَوَازِهِ كَمَدْحِ الْأُمَمِ أَنْبِيَاءَهُمْ بَلْ مُطْلَقُ الْأَنْبِيَاءِ (وَنَحْوِهَا بِحَيْثُ يَسْتَلْزِمُ) مَدْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا (مَدْحَ الْمَادِحِ) وَأَمَّا إذَا مُدِحَ بِكَمَالٍ حَصَلَ مِنْ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهِ مَدْحَ نَفْسِهِ (قِيلَ لِحَكِيمٍ) مِنْ الْحُكَمَاءِ مِنْ يَعْلَمُ الشَّيْءَ عَلَى مَا يَنْبَغِي إمَّا بِالْفِرَاسَةِ أَوْ التَّجَارِبِ أَوْ بِالْعَلَامَاتِ أَوْ بِالْكَشْفِ.
وَأَمَّا الْفَلَاسِفَةُ فَسَمَّاهُمْ حُكَمَاءُ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ (مَا الصِّدْقُ الْقَبِيحُ قَالَ ثَنَاءُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ) أَمَّا قُبْحُهُ شَرْعًا فَلِلنَّهْيِ عَنْهُ وَعُرْفًا لِنُفْرَةِ الطَّبْعِ عَنْهُ (إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ التَّحْدِيثَ) فَلَا يَجُوزُ مَدْحُ نَفْسِهِ فِي كُلِّ حَالٍ إلَّا بِنِيَّةِ التَّحْدِيثِ (بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى) وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ - {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]- (أَوْ إعْلَامَ حَالِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ) الْعِلْمَ (أَوْ لِيَقْتَدُوا بِهِ) فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ (أَوْ لِيُعْطَوْا حَقَّهُ) مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَيَجُوزُ لِلْعَالِمِ أَنْ يَقُولَ لِلسُّلْطَانِ أَوْ أَعْوَانِهِ لِأَخْذِ حَقِّهِ أَنَا عَالِمٌ مُسْتَحِقٌّ لِبَيْتِ الْمَالِ فَأَعْطِنِي كِفَايَتِي (أَوْ لِيَدْفَعُوا عَنْهُ الظُّلْمَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّزْكِيَةَ وَالْفَخْرَ ت مج عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ لِي» أَيْ: أَقُولُ ذَلِكَ شُكْرًا لَا فَخْرًا وَتَعْظِيمًا وَتَكَبُّرًا وَقِيلَ لَا أَفْتَخِرُ بِذَلِكَ بَلْ فَخْرِي بِمَا أَعْطَانِي هَذِهِ الرُّتْبَةَ، وَالْفَخْرُ ادِّعَاءُ الْعَظَمَةِ وَالْمُبَاهَاةِ وَهَذَا قَالَهُ لِلتَّحَدُّثِ بِالنِّعْمَةِ وَإِعْلَامًا لِلْأُمَّةِ لِيَعْتَقِدُوا فَضْلَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَأَمَّا خَبَرُ لَا تُفَضِّلُونِي بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ فَمَعْنَاهُ تَفْضِيلُ مُفَاخَرَةٍ أَوْ تَفْضِيلًا يُوهِمُ الشَّيْنَ عَلَى الْغَيْرِ وَتَمَامُ الْحَدِيثِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ «وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ» يَأْوِي إلَيْهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ
«وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ سِوَايَ إلَّا تَحْتَ لِوَائِي وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ» أَيْ أَوَّلُ مَنْ يُعَجِّلُ اللَّهُ إحْيَاءَهُ مُبَالَغَةً فِي الْإِكْرَامِ وَتَعْجِيلًا لِجَزِيلِ الْإِنْعَامِ «وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ» فِي الْقِيَامَةِ لِخَلَاصِ الْعُصَاةِ أَوْ فِي الْجَنَّةِ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ «وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» مَقْبُولِ الشَّفَاعَةِ فِي جَمِيعِ أَقْسَامِ الشَّفَاعَةِ لِلَّهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِرَبِّهِ وَيَهْضِمَ نَفْسَهُ لِئَلَّا يَكُونَ مُزَكِّيًا وَبِحَالِ السِّيَادَةِ وَالشَّرَفِ مُعْجَبًا فَقَالَ «وَلَا فَخْرَ» أَيْ لَا أَقُولُ افْتِخَارًا أَوْ تَبَجُّحًا بَلْ تَشَكُّرًا وَتَحَدُّثًا بِالنِّعْمَةِ وَإِعْلَامًا لِلْأُمَّةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ لِمَنْ قَالَ يَا خَيْرَ الْبَرِّيَّةِ «ذَاكَ إبْرَاهِيمُ» فَعَلَى جِهَةِ التَّوَاضُعِ وَتَرْكِ التَّطَاوُلِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِتَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ. لَا يُقَالُ كَيْفَ يَصِحُّ مِنْ مَعْصُومٍ الْإِخْبَارُ عَنْ شَيْءٍ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ تَوَاضُعٍ أَوْ أَدَبٍ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ خَبَرًا عَنْ أَمْرٍ وُجُودِيٍّ وَالْأَخْبَارُ الْوُجُودِيَّةُ لَا يَدْخُلُهَا نَسْخٌ لِأَنَّا نَقُولُ نَمْنَعُ أَنَّ هَذَا إخْبَارٌ عَنْ شَيْءٍ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ تَوَاضُعٌ يَمْنَعُ إطْلَاقَ ذَلِكَ اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَتَأَدُّبٌ مَعَ أَبِيهِ بِإِضَافَةِ ذَلِكَ اللَّفْظِ إلَيْهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَعْنَى فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا تُطْلِقُوا هَذَا اللَّفْظَ عَلَيَّ وَأَطْلِقُوهُ عَلَى إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَدَبًا مَعَهُ وَاحْتِرَامًا فَهُوَ خَبَرٌ عَنْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَا عَنْ الْمَعْنَى الْوُجُودِيِّ سَلَّمْنَا أَنَّهُ خَبَرُ أَمْرٍ وُجُودِيٍّ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ وُجُودِيٍّ لَا يَتَبَدَّلُ بَلْ مِنْهُ مَا يَتَبَدَّلُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَبَدُّلِهِ تَنَاقُضٌ وَلَا مُحَالٌ وَلَا نَسْخٌ كَالْإِخْبَارِ عَنْ الْأُمُورِ الْوَصْفِيَّةِ
وَبَيَانُهُ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْإِنْسَانِ مُكَرَّمًا وَمُفَضَّلًا أَنَّهُ بِحَسَبِ مَا يُكَرَّمُ بِهِ وَيُفَضَّلُ عَلَى غَيْرِهِ فَفِي وَقْتٍ يُكَرَّمُ بِمَا يُسَاوِي فِيهِ غَيْرَهُ وَفِي وَقْتٍ يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ وَفِي وَقْتٍ يُكَرَّمُ بِشَيْءٍ لَمْ يُكَرَّمْ بِهِ أَحَدٌ فَيُقَالُ عَلَيْهِ فِي الْمَنْزِلَةِ الْأُولَى مُكَرَّمٌ وَفِي الثَّانِيَةِ مُفَضَّلٌ مُقَيَّدٌ وَفِي الثَّالِثَةِ مُفَضَّلٌ مُطْلَقٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَنَاقُضٌ وَلَا نَسْخٌ ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ وَإِنَّمَا أَعْلَمَ أُمَّتَهُ بِالسِّيَادَةِ وَأَنَّهُ أَوَّلُ شَافِعٍ لِيُرِيحَهُمْ مِنْ التَّعَبِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَذَهَابِهِمْ لِنَبِيٍّ بَعْدَهُ لِيَشْفَعَ لَهُمْ أَوْ يُرْشِدَهُمْ لِشَافِعٍ وَأَنَّهُمْ يَمْكُثُونَ بِمَحَلِّهِمْ حَتَّى تَأْتِيَهُ النَّوْبَةُ فَيَقُولَ أَنَا لَهَا أَنَا لَهَا فَمَا ذَهَبَ إلَى نَبِيٍّ بَعْدَ نَبِيٍّ إلَّا مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْخَبَرُ أَوْ نَسِيَ وَأُخِذَ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِقَوْلِ الشَّيْخِ خُذْ مِنِّي هَذَا الْكَلَامَ الْمُحَقَّقَ الَّذِي لَا تَجِدُهُ عِنْدَ غَيْرِي أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ بِقَصْدِ اعْتِنَائِهِ وَعَدَمِ تَهَاوُنِهِ
(تَتِمَّةٌ) خُصَّ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ وَفِي إدْخَالِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَفِيمَنْ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا وَفِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَبِالشَّفَاعَةِ لِيَتَجَاوَزَ عَنْ الصُّلَحَاءِ فِي تَقْصِيرِهِمْ فِي الطَّاعَاتِ وَبِالشَّفَاعَةِ فِي الْمَوْقِفِ تَخْفِيفًا عَمَّنْ يُحَاسَبُ وَبِالشَّفَاعَةِ فِيمَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنْ الْكُفَّارِ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ الْعَذَابُ وَفِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ لَا يُعَذَّبُوا وَفِي أَهْلِ بَيْتِهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ النَّارَ كَذَا فِي الْفَيْضِ لَكِنْ يَحْتَاجُ الْأَخِيرُ إلَى نَوْعِ تَأَمُّلٍ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ أَيْضًا أَنَا قَائِدُ الْمُرْسَلِينَ أَكُونُ أَمَامَهُمْ وَهُمْ خَلْفِي وَلَا فَخْرَ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَمُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ فِي مَرْضَاتِ رَبِّهِ مَا لَمْ يَتَحَمَّلْهُ بَشَرٌ سِوَاهُ وَقَامَ بِالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ حَقَّ الْقِيَامِ فَثَبَتَ فِي مَقَامِ الصَّبْرِ حَتَّى لَمْ يَلْحَقْهُ مِنْ الصَّابِرِينَ أَحَدٌ وَتَرَقَّى فِي دَرَجَاتِ الشُّكْرِ حَتَّى عَلَا فَوْقَ الشَّاكِرِينَ فَمِنْ ثَمَّةَ خُصَّ بِذَلِكَ عَنْ الْعَارِفِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فَهُوَ شَافِعٌ فِي الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ نَعَمْ وَالْمَلَائِكَةِ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَآخِرُ شَافِعٍ فَيُخْرِجُ مِنْ النَّارِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ وَأَيُّ شَرَفٍ أَعْظَمُ مِنْ دَائِرَةٍ تُدَارُ وَآخِرُ الدَّائِرَةِ مُتَّصِلٌ بِأَوَّلِهَا وَمَا عُورِضَ بِحَدِيثِ النَّسَائِيّ وَالْحَاكِمِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «يَشْفَعُ بَيْنَكُمْ أَرْبَعًا أَرْبَعَةٌ جِبْرِيلُ ثُمَّ إبْرَاهِيمُ ثُمَّ مُوسَى أَوْ عِيسَى» الْحَدِيثَ فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ خَبَرٌ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ انْتَهَى وَلَا يَخْفَى أَنَّ الضَّعِيفَ الْمَرْجُوحَ لَا يُعَارِضُ الرَّاجِحَ وَفِيهِ أَيْضًا «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَتَظْهَرُ سِيَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْجَمْعِ كَافَّةً عِيَانًا فَيَفُوقُ عَلَى جَمِيعِ وَلَدِ آدَمَ - حَتَّى أُولِي الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ - وَاحْتِيَاجُهُمْ إلَيْهِ كَيْفَ وَهُوَ وَاسِطَةُ كُلِّ فَيْضٍ وَتَخْصِيصُهُ وَلَدَ آدَمَ لَيْسَ لِلِاحْتِرَازِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ خَوَاصِّ الْمَلَائِكَةِ كَمَا نَقَلَ الْإِمَامُ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ أَيْ إجْمَاعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ «وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ» مُبَالَغَةً فِي إكْرَامِهِ «وَأَوَّلُ شَافِعٍ» فَلَا يَتَقَدَّمُنِي شَافِعٌ وَلَا مَلَكٌ وَلَا بَشَرٌ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّفَاعَةِ «وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» وَفِيهِ «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا
إذَا بُعِثُوا وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إذَا وَفَدُوا» أَيْ قَدِمُوا عَلَى رَبِّهِمْ «وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ» بِقَبُولِ شَفَاعَتِي «إذَا يَئِسُوا لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَئِذٍ بِيَدِي» فَإِنَّ اللِّوَاءَ يَكُونُ مَعَ كَبِيرِ الْقَوْمِ عَادَةً وَقِيلَ اللِّوَاءُ مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ الْحَمْدُ وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي وَمِنْ كَرَامَتِهِ عَلَى رَبِّهِ أَنَّهُ أَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ وَأَشْفَقَ عَلَيْهِ فِيمَا كَانَ يَتَكَلَّفُهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَطَلَبَ مِنْهُ تَقْلِيلَهَا وَلَمْ يَطْلُبْهُ مِنْ غَيْرِهِ بَلْ حَثَّهُمْ عَلَى الزِّيَادَةِ وَأَقْسَمَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ وَأَنَّهُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ وَأَنَّهُ مَا وَدَّعَهُ وَمَا قَلَاهُ وَوُلِدَ مَخْتُونًا عَلَى مَا يَأْتِي لِئَلَّا يَرَى أَحَدٌ عَوْرَتَهُ وَاسْتَأْذَنَ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ فِي الدُّخُولِ فِي قَبْضِ رُوحِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ غَيْرَهُ وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ بَيَّنَهُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَأَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ وَلَا فَخْرَ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ إرَادَتِهِ الِافْتِخَارَ بِهِ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ إنَّمَا أَخْبَرَ بِهِ لِوُجُوبِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَلِتَرْغِيبِ دُخُولِ دِينِهِ وَلِيَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِ وَلِتَعْظِيمِ مَحَبَّتِهِ فِي قُلُوبِ مُتَّبِعِيهِ فَتَكْثُرُ أَعْمَالُهُمْ وَتَطِيبُ أَحْوَالُهُمْ فَيَحْصُلُ شَرَفُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَنَّ شَرَفَ الْمَتْبُوعِ مُتَعَدٍّ لِشَرَفِ التَّابِعِ فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ آحَادٌ فَكَيْفَ يَحْصُلُ الِاعْتِقَادُ الْقَطْعِيُّ بِهَا قُلْنَا أَمَّا الصَّحَابِيُّ فَيَحْصُلُ لَهُ الْقَطْعُ وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُ فَبِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ لِكَثْرَةِ الْأَخْبَارِ الْآحَادِ وَفِيهِ أَيْضًا أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ.
(وَالثَّانِي) مِنْ شُرُوطِ جَوَازِ الْمَدْحِ (الِاحْتِرَازُ عَنْ الْإِفْرَاطِ) فِي الْمَدْحِ وَالْغُلُوِّ فِيهِ (الْمُؤَدِّي إلَى الْكَذِبِ) لِعَدَمِ خَارِجٍ لَهُ (وَالرِّيَاءِ) أَيْ إرَاءَةِ السَّامِعِينَ أَوْ الْمَمْدُوحِ أَنَّهُ مُحِبٌّ مُخْلِصٌ فِي دَعْوَاهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (وَ) الِاحْتِرَازُ عَنْ (الْقَوْلِ بِمَا لَا يَتَحَقَّقُهُ) أَيْ بِمَا لَا يُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ لَا يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ الْمَنْعُ عَنْ مُطْلَقِ الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ فَنٌّ مِنْ فُنُونِ عِلْمِ الْبَدِيعِ وَهُوَ مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْبَلَاغَةِ وَوَقَعَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا.
قَالَ السُّيُوطِيّ الْمُبَالَغَةُ أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَكَلِّمُ وَصْفًا فَيَزِيدُ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ وَهِيَ ضَرْبَانِ مُبَالَغَةٌ بِالْوَصْفِ بِأَنْ يَخْرُجَ إلَى حَدِّ الِاسْتِحَالَةِ وَمِنْهُ {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] وَ {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] وَمُبَالَغَةٌ بِالصِّيغَةِ ثُمَّ عَدَّ أَوْزَانَ الْمُبَالَغَةِ ثُمَّ قَالَ الْمُبَالَغَةُ أَنْ يَثْبُتَ لِلشَّيْءِ أَكْثَرُ مِمَّا لَهُ لَعَلَّ ذَلِكَ دَائِرٌ عَلَى الْمَدْحِ وَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَذِبِ وَالْمَجَازِ مَعْرُوفٌ بِقَصْدِ التَّأْوِيلِ وَعَدَمِهِ فَافْهَمْ وَيُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ الْجَوَابِ مِنْ قَوْلِهِ (وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ كَالتَّقْوَى وَالْوَرَعِ وَالزُّهْدِ) وَهَذِهِ مِمَّا لَا يُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ لِكَوْنِهَا مِنْ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَلَا يَعْلَمُ مَا فِيهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَمِثْلُهُ فِي الْحَاشِيَةِ لَكِنَّ الْحُكْمَ الْكُلِّيَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُلِّ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ لَا سِيَّمَا نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ (فَلَا يَجْزِمُ الْقَوْلَ بِمِثْلِهَا بَلْ يَقُولُ أَحْسَبُ) أَظُنُّ (وَنَحْوَهُ) وَهَذِهِ الْآفَةُ تَتَطَرَّقُ إلَى الْمَدْحِ بِالْأَوْصَافِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالْأَدِلَّةِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْمِثَالِ.
وَأَمَّا إذَا قَالَ رَأَيْته يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَيَتَصَدَّقُ وَيَحُجُّ فَهَذِهِ أُمُورٌ مُتَيَقَّنَةٌ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ أَنَّهُ عَدْلٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْزِمَ الْقَوْلَ بِهِ أَيْضًا إلَّا بَعْدَ خَبَرِهِ بِبَاطِنِهِ وَسَمِعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ قَالَ أَسَافَرْت مَعَهُ قَالَ لَا قَالَ أَخَالَطْته فِي الْمُبَايَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ قَالَ لَا قَالَ فَأَنْتَ جَارُهُ صَبَاحَهُ وَمَسَاءَهُ قَالَ لَا قَالَ وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا تَعْرِفُهُ (وَالثَّالِثُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَمْدُوحُ فَاسِقًا) لَعَلَّ أَنَّهُ إذَا مَدَحَهُ لِلْخَلَاصِ عَنْ ظُلْمِهِ أَوْ لِيَنَالَ حَقَّهُ مِنْ جِهَتِهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ بِإِعَانَتِهِ فَلَا يَضُرُّ إذْ الضَّرُورَةُ مُبِيحَةٌ لِلْمَحْظُورَةِ (دُنْيَا هق عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام «إنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ إذَا مُدِحَ الْفَاسِقُ» أَيْ الْخَارِجُ عَنْ الْعَدْلِ وَالْخَيْرِ وَحُسْنِ زِيَادَةِ الْخُلُقِ وَالْحَقِّ وَإِنَّمَا يَغْضَبُ اللَّهُ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِمُجَانَبَتِهِ وَإِبْعَادِهِ فَمَنْ مَدَحَهُ فَقَدْ وَصَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُقْطَعَ وَوَادَّ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
مَعَ مَا فِي مَدْحِهِ مِنْ تَعْزِيرِ مَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ بِالسُّوءِ وَالْفُحْشِ وَتَزْكِيَةِ مَنْ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ وَالْإِشْعَارِ بِاسْتِحْسَانِ فِسْقِهِ وَإِغْرَائِهِ عَلَى إدَامَتِهِ.
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَشْمَلُ مَا لَوْ مَدَحَهُ بِمَا فِيهِ كَسَخَاءٍ وَشَجَاعَةٍ وَلَعَلَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ (وَفِي رِوَايَةِ يَعْلَى عَدَّ «إذَا مُدِحَ الْفَاسِقُ غَضِبَ الرَّبُّ وَاهْتَزَّ الْعَرْشُ» وَاهْتِزَازُهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ وَدَاهِيَةٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ رِضًا بِمَا سَخِطَ اللَّهُ وَغَضِبَ بَلْ يَكَادُ يَكُونُ كُفْرًا لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُفْضِي إلَى اسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَهَذَا هُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ لِأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالْقُرَّاءِ فِي زَمَانِنَا وَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمَ مَنْ مَدَحَ الْفَاسِقَ فَكَيْفَ مَنْ مَدَحَ الظَّالِمَ وَرَكَنَ إلَيْهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113] قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ النَّهْيُ مُتَنَاوِلٌ لِلِانْحِطَاطِ فِي هَوَاهُمْ وَالِانْقِطَاعِ إلَيْهِمْ وَمُصَاحَبَتِهِمْ وَالرِّضَا بِأَعْمَالِهِمْ وَالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ وَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ كَذَا فِي الْفَيْضِ.
وَقِيلَ وَالْمَيْلُ بِأَدْنَى مَيْلٍ وَفِي الْفَيْضِ عَنْ الذَّهَبِيِّ قَالَ يَحْيَى كَذَّابٌ وَأَبُو حَاتِمٍ مُنْكَرُ الْأَحَادِيثِ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
(وَالرَّابِعُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ) أَيْ الْمَدْحَ (لَا يُحْدِثُ فِي الْمَمْدُوحِ كِبْرًا أَوْ عُجْبًا أَوْ غُرُورًا) يُعْلَمُ ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ وَسُوءُ الظَّنِّ إنَّمَا يُمْنَعُ عِنْدَ عَدَمِ دَلِيلِهِ وَقَرِينَتِهِ فَلَا يُنَافِي حُسْنَ الظَّنِّ الْمَأْمُورَ بِهِ وَقَدْ سَمِعْت مِرَارًا أَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمَ الْمَقَاصِدِ وَأَنَّ مَا يُفْضِي إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ وَأَمَّا إذَا أَحْدَثَ فِي الْمَمْدُوحِ كَمَالًا وَزِيَادَةَ مُجَاهَدَةٍ وَسَعْيَ طَاعَةٍ فَلَا مَنْعَ بَلْ لَهُ اسْتَجَابَ كَمَا فِي الْجَامِعِ عَلَى رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ «إذَا مُدِحَ الْمُؤْمِنُ فِي وَجْهِهِ رَبَا الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِهِ» أَيْ زَادَ إيمَانُهُ لِمَعْرِفَةِ نَفْسِهِ وَإِدْلَالِهِ بِهَا فَالْمُرَادُ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ الَّذِي عَرَفَ نَفْسَهُ وَأَمِنَ عَلَيْهَا مِنْ نَحْوِ كِبْرٍ وَعُجْبٍ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِزِيَادَتِهِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ الْمُؤَدِّي لِزِيَادَةِ إيمَانِهِ وَرُسُوخِ إيقَانِهِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَمَدْحُهُ مِنْ أَعْظَمِ الْآفَاتِ كَمَا فِي خَبَرِ «إيَّاكُمْ وَالْمَدْحَ» (تَتِمَّةٌ) الْمُؤْمِنُ إذَا مُدِحَ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ بِوَصْفٍ لَا يَشْهَدُهُ فِي نَفْسِهِ وَأَجْهَلُ النَّاسِ مَنْ تَرَكَ يَقِينَ مَا عِنْدَهُ لِظَنِّ مَا عِنْدَ النَّاسِ وَالزُّهَّادُ إذَا مُدِحُوا انْقَبَضُوا لِشُهُودِهِمْ الثَّنَاءَ مِنْ الْخَلْقِ وَالْعَارِفُونَ انْبَسَطُوا لِشُهُودِهِمْ ذَلِكَ مِنْ الْمَلِكِ الْحَقِّ كَذَا فِي الْفَيْضِ (خ م عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عليه الصلاة والسلام «وَيْلَك قَطَعْت عُنُقَ صَاحِبِك» بِنَحْوِ الْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالْعَجَبِ بِمَدْحِك وَثَنَائِك «ثَلَاثًا» قَالَهُ ثَلَاثًا أَوْ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا وَهُوَ مُنْتَهَى التَّأْكِيدِ (ثُمَّ قَالَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ. مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ) أَلْبَتَّةَ (فَلْيَقُلْ أَحْسَبُ) أَيْ أَظُنُّ «فُلَانًا» أَوْ كَذَا فَلَا تَقُلْ فُلَانٌ صَالِحٌ أَلْبَتَّةَ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ بَلْ لِيَقُلْ أَحْسَبُ أَوْ أَظُنُّ فُلَانًا صَالِحًا «وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ» عَالِمُهُ لِأَنَّهُ الْمُحِيطُ بِحَقِيقَةِ حَالِهِ أَوْ مُجَازِيهِ عَلَى أَعْمَالِهِ
قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَدْحَ مَذْمُومٌ يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ مِنْ غَيْرِ دَاعِيَةٍ إلَيْهِ وَمِنْ هَذَا قِيلَ مَنْ مُدِحَ فَقَدْ ذُبِحَ «وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا» أَيْ لَا أَقْطَعُ بِتَقْوَى وَلَا أَقُولُ بِزَكَائِهِ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْبٌ عَنَّا عَدَّاهُ بِعَلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْغَلَبَةِ لِأَنَّ مَنْ جَزَمَ عَلَى تَزْكِيَةِ أَحَدٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ فِي مَعْرِفَتِهِ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «أَحْسَبُ» فُلَانًا «كَذَا» عَالِمًا «وَكَذَا» أَيْ مُتَّقِيًا «إنْ كَانَ يَعْلَمُ» أَيْ يَظُنُّ «ذَلِكَ» أَيْ الْوَصْفَ «مِنْهُ» أَيْ الْمَمْدُوحِ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى التَّضْيِيقِ فِي رُخْصَةِ الْمَدْحِ
بِأَنَّ الْمَادِحَ وَإِنْ جَزَمَ بِوُجُودِ مَا مَدَحَهُ فِي الْمَمْدُوحِ لَا يَقُولُ فِي مَدْحِهِ عَلَى وَجْهِ الْيَقِينِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ الْمَمْدُوحُ وَإِنْ لَمْ يَجْزِمْ لَا يَمْدَحُ.
(م عَنْ)(الْمِقْدَادِ) بْنِ الْأَسْوَدِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا رَأَيْتُمْ الْمَدَّاحِينَ» الَّذِينَ صِنَاعَتُهُمْ الثَّنَاءُ عَلَى النَّاسِ وَالْمَدْحُ «فَاحْثُوا» فَارْمُوا «فِي وُجُوهِهِمْ التُّرَابَ» وَالْمُرَادُ زَجْرُ الْمَادِحِ وَالْحَثُّ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ الْمَدْحِ لِإِيرَاثِهِ الْغُرُورَ وَالتَّكَبُّرَ أَوْ مَعْنَاهُ أَعْطُوهُمْ قَلِيلًا يُشْبِهُ التُّرَابَ لِقِلَّتِهِ وَخِسَّتِهِ أَوْ اقْطَعُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ شَيْءٌ حَقِيرٌ كَالتُّرَابِ وَهَذَا يُؤْذِنُ بِذَمِّ الِاحْتِرَافِ بِالشِّعْرِ فَلَا تُوَاخِ شَاعِرًا فَإِنَّهُ يَمْدَحُك بِثَمَنٍ وَيَهْجُوك مَجَّانًا قَالَ بَعْضُهُمْ
الْكَلْبُ وَالشَّاعِرُ فِي مَنْزِلٍ
…
فَلَيْتَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ شَاعِرًا
هَلْ هُوَ إلَّا بَاسِطٌ كَفَّهُ
…
يَسْتَطْعِمُ الْوَارِدَ وَالصَّادِرَا
(برك) ابْنُ الْمُبَارَكِ.
(عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا مَدَحْت أَخَاك فِي وَجْهِهِ فَكَأَنَّمَا أَمْرَرْت عَلَى حَلْقِهِ مُوسًى» هُوَ آلَةُ الْحَلْقِ «رَمِيضًا» حَادًّا يَعْنِي: سِكِّينًا حَادًّا لِأَنَّهُ يُحْدِثُ فِي الْمَمْدُوحِ كِبْرًا أَوْ عُجْبًا وَغُرُورًا غَالِبًا فَكَأَنَّهُ يُمِيتُهُ وَيُهْلِكُهُ وَعَلَى هَذَا الرَّابِعِ حُمِلَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا مَا لِلْعَبْدِ عِنْدَ رَبِّهِ فَانْظُرُوا مَا يَتْبَعُهُ مِنْ الثَّنَاءِ» لِأَنَّهُ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ فَإِذَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الصَّلَاحِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ بِشَيْءٍ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَجْرَى عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مَا لَهُ عِنْدَهُ فَإِنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِإِلْهَامِهِ تَعَالَى كَمَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَتَكَلَّمَ عَلَى أَلْسِنَةِ بَنِي آدَمَ بِمَا فِي الْعَبْدِ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَإِنْ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَلَا يَعْجَبُ بَلْ يَكُونُ خَائِفًا مِنْ مَكْرِهِ الْخَفِيِّ وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَلْيُبَادِرْ بِالتَّوْبَةِ وَيَقْرَبُ إلَيْهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا قَذَفَ حُبَّهُ فِي قُلُوبِ الْمَلَائِكَةِ وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا قَذَفَ بُغْضَهُ فِي قُلُوبِ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ يَقْذِفُهُ أَيْ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ فِي قُلُوبِ الْآدَمِيِّينَ» .
(وَالْخَامِسُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْحُ لِغَرَضٍ حَرَامٍ أَوْ مُفْضِيًا إلَى فَسَادٍ مِثْلَ مَدْحِ حُسْنِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْمُرْدِ وَالنِّسَاءِ بَيْنَ الْأَجَانِبِ لِتَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ فِيهِمْ وَحَثِّهِمْ إلَى اللِّوَاطَةِ وَالزِّنَا) وَالْأَوَّلُ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلثَّانِي أَوْ تَلَذُّذِ النَّفْسِ وَتَطْيِيبِ الْمَجْلِسِ بِهِ وَإِضْحَاكِهِمْ وَمِثْلُ مَدْحِ امْرَأَةٍ لِزَوْجِهَا أَجْنَبِيَّةً.
وَقَدْ مَرَّ فِي (حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ) مَرْفُوعًا «لَا تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ تَنْعَتُهَا لِزَوْجِهَا» (وَمِثْلُ مَدْحِ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ لِيَتَوَسَّلَ بِهِ) بِمَدْحِ الْمَمْدُوحِ (إلَى الْمَالِ الْحَرَامِ) الْمُجَازَى بِهِ مِنْهُمْ (أَوْ التَّسَلُّطِ عَلَى النَّاسِ) بِالْقُرْبِ مِنْ الظَّلَمَةِ (وَظُلْمِهِمْ) أَيْ النَّاسِ (وَنَحْوِ ذَلِكَ) مِنْ الْأَعْرَاضِ وَالْأَغْرَاضِ الْمَمْنُوعَةِ شَرْعًا