الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَكُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَزْمَانًا مُتَوَفِّرَةً يَسْتَحْصِلُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ الذِّكْرِ وَالْعِبَادَاتِ (وَفَقْدُ حَلَاوَتِهَا) لِلِامْتِلَاءِ (وَخَطَرُ الْوُقُوعِ فِي الشُّبْهَةِ) لِمَا أَنَّ حُبَّهُ لِذَلِكَ يُوقِعُهُ فِيهَا (وَ) رُبَّمَا يُوقِعُهُ عِنْدَ ضَعْفِ دِينِهِ فِي (الْحَرَامِ) أَيْضًا وَفِي الصَّحِيحِ «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الرَّجُلُ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَ الْمَالَ أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ» (وَكَثْرَةُ شُغْلِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ بِالتَّحْصِيلِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالتَّهْيِئَةِ ثَانِيًا ثُمَّ الْأَكْلِ ثَالِثًا ثُمَّ بِإِفْرَاغِهِ وَالتَّخَلُّصِ عَنْهُ بِالِاخْتِلَافِ) وَالتَّرَدُّدِ (إلَى الْخَلَاءِ رَابِعًا ثُمَّ بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْأَمْرَاضِ الْمُتَوَلِّدَةِ عَنْ الشِّبَعِ خَامِسًا) لِمَا بَيَّنَّاهُ أَيْضًا آنِفًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بَيَانَ خِسَّةِ الدُّنْيَا فَقَالَ لِمَلِكٍ أَرَأَيْت لَوْ مَنَعْت عَنْك شَرْبَةَ مَاءٍ وَقَدْ بَلَغَ بِك الظَّمَأُ إلَى أَنْ تَمُوتَ إلَّا بِنِصْفِ مُلْكِك أَمَا تَبْذُلُهُ قَالَ بَلَى قَالَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ يُمْكِنْ إخْرَاجُ فَضَلَاتِك مِنْك إلَّا بِبَذْلِ النِّصْفِ الثَّانِي قَالَ أَبْذُلُهُ قَالَ فَلَا أَسَفَ عَلَى مُلْكٍ يُقَابِلُ شَرْبَةَ مَاءٍ كَمَا نَقُلْ عَنْ الْمَوَاهِبِ (وَالسُّؤَالُ أَوْ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَكَيْفَ وَصَلَ إلَيْهِ وَكَيْفَ أَنْفَقَهُ إنْ كَانَ مِنْ الْحَلَالِ وَالْعَذَابُ أَيْضًا إنْ مِنْ الْحَرَامِ (وَخَوْفُ الدُّخُولِ فِي وَعِيدِ قَوْله تَعَالَى - {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]- وَشِدَّةُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ إذْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ شِدَّةَ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ عَلَى قَدْرِ لِذَاتِ الْحَيَاةِ) الْعَاجِلَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا مَعَ أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى
وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْحُجُبَ الْمَانِعَةَ عَنْ وِصَالِهِ تَعَالَى أَرْبَعَةٌ الْأَوَّلُ حِجَابُ الْمَالِ وَيَرْتَفِعُ ذَلِكَ بِتَفْرِيقِهِ إلَّا قَدْرَ الضَّرُورَةِ وَمَنْ لَهُ دِرْهَمٌ وَاحِد يَلْتَفِتُ إلَيْهِ قَلْبُهُ فَهُوَ مَحْجُوبٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى الثَّانِي حِجَابُ الْجَاهِ وَرَفْعُهُ بِالْبُعْدِ عَنْ مَوْضِعِ الْجَاهِ وَبِإِيثَارِ الْخُمُولِ وَبِأَعْمَالٍ تُنَفِّرُ الْخَلْقَ كَمَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ الثَّالِثُ حِجَابُ التَّقْلِيدِ وَرَفْعُهُ بِتَرْكِ التَّعَصُّبِ لِلْمَذَاهِبِ الرَّابِعُ حِجَابُ الْمَقَاصِدِ النَّفْسَانِيَّةِ وَرَفْعُهُ تَرْكُ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَى اللَّهِ سِيَّمَا الْهَوَى - {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]- وَبَعْدَ رَفْعِ هَذِهِ الْحُجُبِ يَتَحَصَّنُ بِأَرْبَعَةٍ الْأَوَّلُ الْجُوعُ فَإِنَّهُ يُنْقِصُ دَمَ الْقَلْبِ وَيُبَيِّضُهُ وَفِي بَيَاضِهِ نُورُهُ وَيُذْهِبُ شَحْمَ الْفُؤَادِ وَفِيهِ رِقَّتُهُ وَرِقَّتُهُ مِفْتَاحُ الْمُكَاشَفَةِ وَمَتَى نَقَصَ دَمُ الْقَلْبِ ضَاقَ مَسْلَكُ الْعَدُوِّ الثَّانِي السَّهَرُ فَإِنَّهُ يُجْلِي الْقَلْبَ وَيُصَفِّيهِ وَيُنَوِّرُهُ وَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ صَفَاءُ الْجُوعِ يَصِيرُ الْقَلْبُ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ وَالْمِرْآةِ الْمَجْلُوَّةِ فَيَلُوحُ فِيهِ جَمَالُ الْحَقِّ وَيُشَاهَدُ فِيهِ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ وَالسَّهَرُ نَتِيجَةُ الْجُوعِ فَإِنَّهُ مَعَ الشِّبَعِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالنَّوْمُ يُقَسِّي الْقَلْبَ وَيُمِيتُهُ إلَّا إذَا كَانَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ فَيَكُونُ سَبَبَ الْمُكَاشَفَةِ لِأَسْرَارِ الْغَيْبِ الثَّالِثُ الصَّمْتُ وَيُسَهِّلُهُ الْعُزْلَةُ وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ فَإِنَّ الْكَلَامَ يُشْغِلُ الْقَلْبَ وَيُثْقِلُ التَّجَرُّدَ لِلذِّكْرِ وَالْفِكْرِ الرَّابِعُ الْخَلْوَةُ وَفَائِدَتُهَا دَفْعُ الشَّوَاغِلِ وَضَبْطُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ إلَّا قَدْرَ الضَّرُورَةِ وَإِذَا سَدَّ الْحَوَاسَّ تَتَفَجَّرُ يَنَابِيعُ الْغَيْبِ مِنْ حِيَاضِ الْمَلَكُوتِ وَتَنْصَبُّ إلَى الْقَلْبِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْجُلُوسِ فِي مَكَان مُظْلِمٍ وَإِلَّا فَيَلُفُّ رَأْسَهُ فِي الْجَيْبِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْمَعُ نِدَاءَ الْحَقِّ وَيُشَاهِدُ جَلَالَ حَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَبَعْدَ التَّحَصُّنِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ يَقْطَعُ عَقَبَاتِ الْقَلْبِ الَّتِي سَبَبُهَا الِالْتِفَاتُ إلَى الدُّنْيَا، وَإِذَنْ حَصَلَ قَلْبُهُ مَعَ اللَّهِ وَتَجَلَّى لَهُ الْحَقُّ وَظَهَرَ لَهُ مِنْ لَطَائِفِ رَحْمَةِ اللَّهِ مَا لَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بَلْ لَا يُحِيطُ الْوَصْفُ بِهِ أَصْلًا
[بَعْضَ مَا وَرَدَ فِي ذَمِّ الشِّبَعِ وَكَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالتَّنَعُّمِ]
(وَلْنَذْكُرْ بَعْضَ مَا وَرَدَ فِي ذَمِّ الشِّبَعِ وَكَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالتَّنَعُّمِ " دُنْيَا " عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ
أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا حَدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا الشِّبَعُ) مُلَازَمَتُهُ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ فِي عَهْدِهِ فِي وَقْتٍ مَا أَوْ حَالٍ مَا بِلَا دَوَامٍ (فَإِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا شَبِعَتْ بُطُونُهُمْ سَمِنَتْ أَبْدَانُهُمْ) وَالسِّمَنُ مَذْمُومٌ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ آخِرُهُ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ (وَضَعُفَتْ قُلُوبُهُمْ) لِأَنَّ السِّمَنَ لَا يَحْدُثُ فِيمَنْ لَهُ شُغْلٌ دِينِيٌّ وَخَوْفٌ قَلْبِيٌّ فَإِنَّهُ يُذِيبُ الْبَدَنَ وَلِذَا قِيلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ مَا أَفْلَحَ سَمِينٌ قَطُّ إلَّا إنْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكْرَهُ الْجَسَدَ السَّمِينَ» نُقِلَ عَنْ الْمَوَاهِبِ لَكِنَّ الْحَقَّ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ إنْ كَانَ السِّمَنُ بِقَصْدِهِ وَصُنْعِهِ فَمَذْمُومٌ وَإِلَّا فَلَا إذْ لَا مُؤَاخَذَةَ فِي اضْطِرَارِيَّةٍ وَأَنَا أَقُولُ فَعَلَى الْأَوَّلِ إنْ لِتَقَوٍّ لِلْعِبَادَةِ أَوْ الْمَرْأَةِ لِتَحْصِيلِ الْجَمَالِ لِحُبِّ زَوْجِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمْنَعَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَجَمَحَتْ) بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ غَلَبَتْ (شَهَوَاتُهُمْ) عَلَيْهِمْ فَمَلَكَتْهُمْ فَوَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فَكَأَنَّهُمْ عَبِيدُ الشَّهَوَاتِ وَأَسْرَى الْهَوَى (ت عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّهُ تَجَشَّأَ» أَيْ أَخْرَجَ الْجُشَاءَ مِنْ صَدْرِهِ كَثِيرًا وَهُوَ رِيحٌ يَخْرُجُ مِنْ الصَّدْرِ عِنْدَ امْتِلَاءِ الْمَعِدَةِ مِنْ الطَّعَامِ «رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ كُفَّ عَنَّا جُشَاكَ» عَلَى وَزْنِ غُرَابٍ ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ خِلَافَ مَنْ قَيَّدَهُ بِالْكَثْرَةِ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ الْجُشَاءِ وَعَنْ سَبَبِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ «فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَلَا يَشْكُلُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي يَدُورُ التَّكْلِيفُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ كَوْنَ نَفْسِ الْجُشَاءِ ضَرُورِيًّا فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ لِعُمُومِ الْأَشْخَاصِ لَكِنَّ سَبَبَهُ الْغَالِبَ الَّذِي هُوَ الشِّبَعُ وَالِامْتِلَاءُ مِنْ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ.
(خ م عَنْ نَافِعٍ) مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ تَابِعِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - (أَنَّهُ كَانَ ابْنُ عُمَرَ) كِلْمَةُ كَانَ تُشْعِرُ بِالِاسْتِمْرَارِ (لَا يَأْكُلُ) طَعَامًا (حَتَّى يُؤْتَى بِمِسْكِينٍ يَأْكُلُ مَعَهُ فَأَدْخَلْت عَلَيْهِ رَجُلًا يَأْكُلُ مَعَهُ فَأَكَلَ) ذَلِكَ الرَّجُلُ (كَثِيرًا فَقَالَ) بَعْدَ ذَهَابِهِ (يَا نَافِعُ لَا تُدْخِلْ هَذَا عَلَيَّ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ) - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَقُولُ «الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ فِي مِعًى» ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَالْقَصْرِ ( «وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» ) لَا يَقْنَعَانِ بِمَا يَقْنَعُ بِهِ الْمُسْلِمُ بَلْ هُمَا حَرِيصَانِ عَلَى الْأَكْلِ قِيلَ الْمُرَادُ
مِنْهُمَا خَاصٌّ.
وَقِيلَ عَامٌّ لَكِنَّهُ غَالِبِيٌّ أَوْ هُوَ تَمْثِيلٌ لِاقْتِصَارِ الْمُسْلِمِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ فَكَأَنَّهُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ لِشَرَاهَتِهِ كَأَنَّهُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةٍ ثُمَّ الْعَاقِلُ الْمُسْلِمُ أَنْ يُوصَفَ بِمَا وَصَفَهُ النَّبِيُّ لِلْمُسْلِمِ لَا بِمَا وَصَفَهُ لِلْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ فَهَلْ يَلِيقُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّصِفَ بِصِفَةِ الْكَافِرِ ثُمَّ الظَّاهِرُ التَّقْيِيدُ بِالْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَحَلِّهَا مِنْ تَجْوِيزِهِ لِأَجْلِ تَقَوِّي الطَّاعَةِ وَتَطْيِيبِ الْمُسَافِرِ وَنَحْوِهِمَا (ت عَنْ مِقْدَادِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ» فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ بَطْنِهِ بِالضَّمِيرِ.
قَالَ فِي شَرْحِهِ لِمَا فَاتَهُ مِنْ خُيُورٍ كَثِيرَةٍ جَعَلَ الْبَطْنَ وِعَاءً كَالْأَوْعِيَةِ الَّتِي تُتَّخَذُ ظُرُوفًا تَوْهِينًا لِشَأْنِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ شَرَّ الْأَوْعِيَةِ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا هِيَ لَهُ وَالْبَطْنُ خُلِقَ لَأَنْ يَتَقَوَّمَ بِهِ الصُّلْبُ بِالطَّعَامِ وَامْتِلَاؤُهُ يُفْضِي إلَى فَسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَيَكُونُ شَرًّا مِنْهَا وَالشِّبَعُ يَزِيغُ عَنْ الْحَقِّ وَيَغْلِبُ عَلَيْهِ الْكَسَلُ فَيَمْنَعُهُ مِنْ التَّعَبُّدِ وَيُكْثِرُ فِيهِ مَوَادَّ الْفُضُولِ فَيَكْثُرُ غَضَبُهُ وَشَهْوَتُهُ وَيَزِيدُ حِرْصُهُ فَيُوقِعُهُ فِي طَلَبِ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ قَالَ بَعْضٌ الشِّبَعُ نَهْرٌ يَرِدُهُ الشَّيْطَانُ وَالْجُوعُ نَهْرٌ فِي الرُّوحِ تَرِدُهُ الْمَلَائِكَةُ «بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ» الْبَاءُ مَزِيدَةٌ أَيْ يَكْفِيهِ «لُقَيْمَاتٌ» .
وَفِي الْجَامِعِ أَكَلَاتٌ أَيْ يَكْفِيهِ هَذَا الْقَدْرُ فِي سَدِّ الرَّمَقِ وَإِبْقَاءِ الْقُوَّةِ وَلِهَذَا قَالَ «يُقِمْنَ صُلْبَهُ» أَيْ ظَهْرَهُ تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِاسْمِ جُزْئِهِ إذْ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الظَّهْرِ فِيهِ فَقَارٌ فَهُوَ صُلْبٌ كِنَايَةً عَنْ أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ مَا يَحْفَظُهُ مِنْ السُّقُوطِ وَيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ قَالَ الْغَزَالِيُّ صِيغَةُ جَمْعِ الْقِلَّةِ لِلْإِشَارَةِ إلَى مَا دُونَ الْعَشَرَةِ «فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ» مِنْ التَّجَاوُزِ عَمَّا ذُكِرَ فَلْتَكُنْ أَثْلَاثًا «فَثُلُثٌ» أَيْ ثُلُثُ بَطْنِهِ يَجْعَلُهُ «لِطَعَامِهِ» مَأْكُولُهُ «وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ» يَدَعُهُ «لِنَفَسِهِ» بِالتَّحْرِيكِ يَعْنِي يُبْقِي مِنْ مِلْئِهِ قَدْرَ الثُّلُثِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّنَفُّسِ وَيَحْصُلُ لَهُ نَوْعُ صَفَاءٍ وَرِقَّةٍ وَهَذِهِ غَايَةُ مَا يَنْفَعُ لِلْبَدَنِ وَالْقَلْبِ فَإِنْ بِالشِّبَعِ ضَاقَ النَّفَسُ وَعَرَضَ الْكَرْبُ وَالثِّقَلُ وَلَمَّا كَانَ فِي الْإِنْسَانِ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ أَرْضِيٍّ وَمَائِيٍّ وَهَوَائِيٍّ قَسَّمَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَفَسَهُ إلَى الْأَجْزَاءِ الثَّلَاثَةِ وَتَرَكَ النَّارِيَّ لِقَوْلِ جَمْعٍ مِنْ الْأَطِبَّاءِ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ جُزْءٌ نَارِيٌّ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ لَوْ سَمِعَ بُقْرَاطُ هَذِهِ الْقِسْمَةَ لَعَجِبَ مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ ذُكِرَ هَذَا الْحَدِيثُ لِبَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ فَقَالَ مَا سَمِعْت كَلَامًا فِي قِلَّةِ الْأَكْلِ أَحْكَمَ مِنْهُ وَإِنَّمَا خَصَّ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَسْبَابُ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ.
(تَنْبِيهٌ) الْجُوعُ اخْتِيَارِيٌّ وَهُوَ جُوعُ السَّالِكِينَ أَوْ اضْطِرَارِيٌّ وَهُوَ جُوعُ الْمُحَقِّقِينَ فَإِنَّ الْمُحَقِّقَ لَا يُجَوِّعُ نَفْسَهُ بَلْ يُقَلِّلُ أَكْلَهُ إنْ كَانَ فِي مَقَامِ الْأُنْسِ وَإِنْ كَانَ فِي مَقَامِ الْهَيْبَةِ كَثُرَ أَكْلُهُ فَكَثْرَةُ الْأَكْلِ لِلْمُحَقِّقِينَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ سَطَوَاتِ أَنْوَارِ الْحَقِيقَةِ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِحَالِ الْعَظَمَةِ مِنْ مَشْهُودِهِمْ، وَقِلَّةُ الْأَكْلِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْمُحَادَثَةِ بِحَالِ الْمُؤَانَسَةِ مِنْ مَشْهُودِهِمْ وَكَثْرَةُ الْأَكْلِ لِلسَّالِكِينَ دَلِيلٌ عَلَى بُعْدِهِمْ مِنْ اللَّهِ وَبُعْدِهِمْ عَنْ بَابِهِ وَاسْتِيلَاءِ النَّفْسِ الشَّهْوَانِيَّةِ الْبَهِيمَةِ عَلَيْهِمْ، وَقِلَّةُ الْأَكْلِ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى نَفَحَاتِ الْجَوْدَةِ الْإِلَهِيِّ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَيَشْغَلُهُمْ ذَلِكَ عَنْ تَدْبِيرِ جُسُومِهِمْ، وَالْجُوعُ بِكُلِّ حَالٍ سَبَبٌ إلَى نَيْلِ عَظِيمِ الْأَحْوَالِ وَالْأَسْرَارِ مَا لَمْ يُفْرِطْ فَإِنَّ إفْرَاطَهُ يُؤَدِّي إلَى فَسَادِ الْمِزَاجِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ (طب دُنْيَا عَنْ جَعْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا عَظِيمَ الْبَطْنِ فَقَالَ بِأُصْبُعِهِ لَوْ كَانَ هَذَا» إشَارَةٌ إلَى مَا فِي الْبَطْنِ مِنْ الطَّعَامِ «فِي غَيْرِ هَذَا» الْبَطْنِ أَيْ فِي بَطْنِ رَجُلٍ آخَرَ «لَكَانَ خَيْرًا لَك» لِمَا فِيهِ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لَوْ كَانَ الِامْتِلَاءُ بِالْمَعَارِفِ لَكَانَ خَيْرًا لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ الْبَدَنِيِّ وَالدِّينِيِّ (دُنْيَا عَنْ ابْنِ بُجَيْرٍ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ وَهْبٍ الْأَنْصَارِيُّ لَهُ رُؤْيَةٌ وَذَكَرَهُ بَعْضٌ فِي الصَّحَابَةِ
وَلَهُ حَدِيثُ مُرْسَلٌ (أَنَّهُ قَالَ «أَصَابَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُوعٌ يَوْمًا فَعَمَدَ إلَى حَجَرٍ فَوَضَعَهُ عَلَى بَطْنِهِ» وَرَبَطَهُ بِهِ لِئَلَّا يَتَقَوَّسَ الظَّهْرُ وَلِئَلَّا تَأْكُلَ الْمَعِدَةُ نَفْسَهَا أَوْ لِحُكْمٍ آخَرَ «ثُمَّ قَالَ أَلَا رُبَّ مُهِينٍ لِنَفْسِهِ وَهُوَ» فِي الْحَقِيقَةِ «لَهَا مُكْرِمٌ» لِأَنَّ النَّفْسَ إنَّمَا تَصِلُ إلَى الْكَرَامَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ بِالْإِهَانَةِ لَهَا وَتَرْكِ لَذَّاتِهَا وَكَسْرِ شَهَوَاتِهَا وَكَبْحِ مُيُولَاتِهَا وَمَنْعِ تَشَهِّيهَا.
(م عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «طَعَامُ الْوَاحِدِ» مِقْدَارُ مَا يُشْبِعُهُ «يَكْفِي الِاثْنَيْنِ» مِقْدَارُ قُوتِهِمَا «وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ» فَشِبَعُ الْوَاحِدِ قُوتُ الِاثْنَيْنِ وَشِبَعُ الِاثْنَيْنِ قُوتُ الْأَرْبَعَةِ وَالْأَرْبَعَةِ لِلثَّمَانِيَةِ وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ إنْ أُرِيدَ بِهِ الْإِخْبَارُ فَمُشْكِلٌ إذْ طَعَامُ الْوَاحِدِ لَا يَكْفِي الِاثْنَيْنِ وَهَكَذَا وَالْجَوَابُ أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ أَطْعِمُوا طَعَامَ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ وَهَكَذَا وَهَكَذَا أَوْ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَقُوتُ الِاثْنَيْنِ وَأَخْبَرَنَا بِذَلِكَ لِئَلَّا نَجْزَعَ أَوْ مَعْنَاهُ طَعَامُ الْوَاحِدِ إذَا أَكَلَ وَحْدَهُ كَانَ لِاثْنَيْنِ مُجْتَمِعًا فَالْمُرَادُ الْحَثُّ عَلَى التَّقَنُّعِ بِالْكِفَايَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْحَصْرَ فِي مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ بَلْ الْمُوَاسَاةَ.
قَالَ عُمَرُ عَامَ الرَّمَادَةِ لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أُنْزِلَ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ مِثْلَ عَدَدِهِمْ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَهْلِكُ عَلَى نِصْفِ بَطْنِهِ وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ أَنَّ السُّلْطَانَ فِي الْمَسْغَبَةِ يُفَرِّقُ الْفُقَرَاءَ عَلَى أَهْلِ السَّعَةِ بِقَدْرِ مَا يَحِيقُ بِهِمْ قِيلَ فِيهِ نَدْبُ الْمُوَاسَاةِ وَأَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ فِيهِ الْبَرَكَةَ فَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يُشْبِعُ الْوَاحِدَ يَرُدُّ جُوعَ الِاثْنَيْنِ وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَالْمُرُوءَةِ وَعَدَمِ الِاسْتِبْذَارِ وَتَجَنُّبِ الْبُخْلِ وَالشِّبَعِ (دُنْيَا طكط عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «سَيَكُونُ رِجَالٌ» إمَّا لِكَوْنِهِمْ مَتْبُوعِينَ لِلنِّسَاءِ أَوْ تَغْلِيبٌ أَوْ عُمُومُ مَجَازٍ بِمَعْنَى بَشَرٍ أَوْ إنْسَانٍ أَوْ مُقَايَسَةٌ أَوْ دَلَالَةُ نَصٍّ أَوْ حَذْفُ الْعَاطِفِ مَعَ الْمَعْطُوفِ مِنْ قَبِيلِ {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] كَمَا فِي أَمْثَالِهِ «مِنْ أُمَّتِي يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ» فَأَكْلُ الْأَلْوَانِ أَيْ الْأَنْوَاعِ بِدْعَةٌ لَكِنْ قَدْ سَبَقَ وَحَكَى بَعْضٌ فِي الْخُلَاصَةِ مِنْ التَّجْوِيزِ وَفِعْلُ بَعْضِ السَّلَفِ مُقَيَّدٌ بِمَصْلَحَةٍ كَالتُّقَا لِنَفْعِ الْبَدَنِ وَكَكَوْنِ التَّشَهِّي بِالْمَجْمُوعِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَجْمُوعُ غَيْرَ مُتَجَاوِزِ الشِّبَعِ أَوْ كَكَوْنِ الْأَكْلَةِ كَثِيرَةً «وَيَشْرَبُونَ أَلْوَانَ الشَّرَابِ وَيَلْبَسُونَ أَلْوَانَ الثِّيَابِ وَيَتَشَدَّقُونَ» التَّكَلُّفَ فِي الْفَصَاحَةِ «فِي الْكَلَامِ فَأُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي» .
قِيلَ الْحُكْمُ بِالشِّرَارِ مَعَ إبَاحَةِ الْأَصْلِ غَيْرُ الْأَخِيرِ لِكَوْنِهِ مُؤَدِّيًا إلَى الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي وَمُقَدِّمَاتِهَا كَأَنَّهُ يَقُولُ لِلْوَسَائِلِ أَحْكَامُ الْمَقَاصِدِ لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّرَارِيَّةَ تَمْنَعُ الْإِبَاحَةَ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْإِفْضَاءِ يَعْنِي الشَّرَارِيَّةَ مَا يَكُونُ مُفْضِيًا وَمَا لَا فَلَا بَعِيدٌ عَنْ إطْلَاقِ النَّصِّ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ بِحَيْثُ يَكُونُ لِكُلِّ جُزْءٍ مَدْخَلٌ فِي الشَّرَارِيَّةِ ضَعِيفٌ أَيْضًا أَوْ الْمَعْنَى فَبَعْضُ أُولَئِكَ مِنْ شِرَارِ أُمَّتِي لَعَلَّ الْوَجْهَ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الرَّابِطَةَ الْفِعْلِيَّةَ لَكِنَّهُ اتَّفَقَ فِي الْخَارِجِ أَنَّ مَنْ عَنَاهُمْ كَذَلِكَ أَكْثَرُهُمْ يَتَّفِقُ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ أَعْظَمُ شُرُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ مَا ذُكِرَ كَالظَّلَمَةِ وَالْجَبَابِرَةِ فَمِنْ قَبِيلِ الْمُعْجِزَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي إخْبَارِ الْغَيْبِ أَوْ يَفْعَلُ كُلَّ ذَلِكَ بِأَغْرَاضٍ فَاسِدَةٍ وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يُطَوِّلُ أَكْمَامَهُ وَيَجُرُّ أَذْيَالَهُ تِيهًا وَعُجْبًا مُصْغِيًا إلَى مَا يَقُولُ النَّاسُ لَهُ وَفِيهِ شَاخِصًا إلَى مَا يَنْظُرُونَ إلَيْهِ مِنْهُ قَدْ عَمِيَ بَصَرُهُ وَبَصِيرَتُهُ عَنْ النَّظَرِ إلَى صُنْعِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ وَصُمَّ سَمْعُهُ عَنْ مَوَاعِظِ اللَّهِ يَقْرَأُ كَلَامَ اللَّهِ وَلَا يَتَلَذَّذُ بِهِ وَلَا يَجِدُ لَهُ حَلَاوَةً كَأَنَّهُ إنَّمَا عُنِيَ بِذَلِكَ غَيْرُهُ فَكَيْفَ يَتَلَذَّذُ بِمَا كُلِّفَ بِهِ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا صَارَ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ اسْمُهُ خَاطَبَ أُولِي الْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ وَالْأَلْبَابِ فَمَنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ وَعَمِيَتْ بَصِيرَتُهُ فِي شَأْنِ نَفْسِهِ وَدُنْيَاهُ كَيْفَ يَفْهَمُ كَلَامَ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَيَتَلَذَّذُ بِهِ وَكَيْفَ يَجْلُو بَصَرُهُ وَهُوَ يَرَى صِفَةَ غَيْرِهِ ثُمَّ قِيلَ الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ وَقِيلَ
مَتْرُوكٌ وَقِيلَ مُخْتَلَطٌ.
(وَيُكْرَهُ الْأَكْلُ فِي السُّوقِ بِمَرْأَى النَّاسِ وَفِي الطَّرِيقِ) وَلَوْ قَالَ وَبِمَرْأَى النَّاسِ بِالْعَطْفِ لَكَانَ أَشْمَلَ لَعَلَّهُ يُشِيرُ بِهِ إلَى عِلَّةِ الْكَرَاهَةِ فِي أَكْلِ السُّوقِ فَلَوْ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ أَيْ مَرْأَى النَّاسِ فِي غَيْرِ السُّوقِ يَتَحَقَّقُ الْحُكْمُ أَيْ الْكَرَاهَةُ إذْ قَدْ يَعُمُّ الْحُكْمَ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ فَافْهَمْ وَجْهَ الْكَرَاهَةِ أَمَّا الدَّنَاءَةُ أَوْ تَعَلُّقُ نَظَرِ الْفُقَرَاءِ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَكَلَ وَرَاءَ الْحِجَابِ لَا يُكْرَهُ
(وَ) يُكْرَهُ الْأَكْلُ (عِنْدَ الْمَقَابِرِ وَالضَّحِكُ أَيْضًا عِنْدَهَا) لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ مَحَلُّ اعْتِبَارٍ وَتَذَكُّرِ الْآخِرَةِ وَالْأَكْلُ وَالضَّحِكُ مُنَافٍ لَهُمَا وَلِهَذَا قِيلَ كُتِبَ عَلَى مَقَابِرِ بَعْضِ السَّلَفِ نَحْنُ مِثْلُكُمْ أَمْسِ وَتَصِيرُونَ غَدًا مِثْلَنَا فَاعْتَبِرُوا بِنَا عَنْ تَفْسِيرِ ابْنِ الْعَادِلِ أَنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدْوِيَةِ لِلْقَلْبِ الْقَاسِي لِأَنَّهَا مُذَكِّرَةٌ الْآخِرَةَ وَالْمَوْتَ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى قِصَرِ الْأَمَلِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَتَرْكِ الرَّغْبَةِ فِيهَا (وَعِنْدَ الْجِنَازَةِ) لِأَنَّ الْأَكْلَ مِنْ لَوَازِمِ الْفَرَحِ وَهِيَ مَحَلُّ حُزْنٍ أَوْ مَحَلُّ عِبْرَةٍ كَمَا عَرَفْت (وَأَكْلُ طَعَامِ الْمَيِّتِ) الْمُتَّخَذُ لِأَجْلِ الْمَيِّتِ سَوَاءٌ اُتُّخِذَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَوْ لِأُسْبُوعٍ أَوْ لِأَرْبَعَيْنِ أَوْ الْأَعْيَادِ (وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي جَلَاءِ الْقُلُوبِ) كَمَا تَقَدَّمَ
(وَ) يُكْرَهُ تَحْرِيمًا (الْأَكْلُ مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالشُّرْبُ مِنْهُمَا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) وَأَمَّا لُبْسُهُمَا فَجَائِزٌ لِلنِّسَاءِ لَا لِلرِّجَالِ لِأَنَّ الزِّينَةَ حَرَامٌ لَهُمْ (وَكَذَا الْأَكْلُ بِمِلْعَقَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) مُطْلَقًا (وَكَذَلِكَ الِاكْتِحَالُ بِمِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَذَا إحْرَاقُ الْعُودِ فِي الْمِجْمَرِ) وَهُوَ مَا يُوقَدُ فِيهِ الْعُودُ (الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وَكَذَا الِادِّهَانُ وَالِاكْتِحَالُ قَالُوا هَذَا عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الدُّهْنِ مِنْ الْآنِيَةِ أَمَّا إذَا صَبَّهُ عَلَى يَدِهِ ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَكَذَا إذَا أَخَذَ الطَّعَامَ مِنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَوَضَعَهُ عَلَى خُبْزٍ أَوْ نَحْوِهِ ثُمَّ أَكَلَ لَا بَأْسَ بِهِ وَيُكْرَهُ الدَّوَاةُ وَالْقَلَمُ وَالرِّيشَةُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَيُكْرَهُ الْوُضُوءُ فِي الطَّشْتِ وَالْإِبْرِيقِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَهُمَا وَحَلَّ لَهُمَا اسْتِعْمَالُ الْأَحْجَارِ بِأَنْ يَجْعَلَ النُّحَاسَ أَوْ الرَّصَاصَ أَوْ الصُّفْرَ أَوْ الْحَدِيدَ أَوْ الزُّجَاجَ أَوْ الْبِلَّوْرَ أَوْ الْعَقِيقَ أَوْ غَيْرَهُ آنِيَةً كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمُضْمَرَاتِ وَعَنْ بَعْضٍ أَنَّ الْأَكْلَ فِي النُّحَاسِ وَالصُّفْرِ مَكْرُوهٌ وَفِي الِاخْتِيَارِ أَنَّ الْخَزَفَ أَفْضَلُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اتَّخَذَ أَوَانِيَ بَيْتِهِ خَزَفًا زَارَتْهُ الْمَلَائِكَةُ» كَمَا نُقِلَ عَنْ الْقُهُسْتَانِيِّ
(وَأَمَّا) الْإِنَاءُ (الْمُذَهَّبُ وَالْمُفَضَّضُ) الْإِنَاءُ الَّذِي فِي بَعْضِ جَوَانِبِهِ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ (فَجَائِزٌ عِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إنْ لَمْ يَضَعْ فَمَهُ) وَكَذَا يَدَهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ وَعَنْ الْمِنَحِ وَيَتَّقِي مَوْضِعَ الْفِضَّةِ بِالْفَمِ وَقِيلَ بِالْفَمِ وَالْيَدِ فِي الْأَخْذِ وَالشُّرْبِ (عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وَعِنْدَهُمَا مَكْرُوهٌ وَعَنْ الْمِنَحِ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ
(وَكَذَا الْكُرْسِيُّ) الْمُذَهَّبُ أَوْ الْمُفَضَّضُ (إذَا لَمْ يَجْلِسُ عَلَى مَوْضِعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَذَا) جَائِزٌ عِنْدَهُ (حَلْقَةُ الْمِرْآةِ وَحِلْيَةُ الْمُصْحَفِ وَأَمَّا السَّرْجُ الْمُفَضَّضُ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا بَأْسَ بِهِ وَكَذَا الثَّفْرُ) مَا يُجْعَلُ تَحْتَ ذَنَبِ الدَّابَّةِ (الْمُفَضَّضُ وَاللِّجَامُ وَالرِّكَابُ الْمُفَضَّضَانِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُف كَرَاهَتُهُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ أَيْضًا
(وَأَمَّا التَّمْوِيهُ) طِلَاءُ الشَّيْءِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ تَحْتَهُ نُحَاسٌ أَوْ حَدِيدٌ (الَّذِي لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ شَيْءٌ) عِنْدَ الْإِذَابَةِ (فَلَا بَأْسَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ) لِأَنَّهُ مُسْتَهْلَكٌ فَلَا عِبْرَةَ لِبَقَائِهِ وَإِنَّمَا مَحَلُّ النِّزَاعِ مَا يَخْلُصُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِذَابَةِ شَيْءٌ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَعِنْدَهُ يَجُوزُ إذَا اتَّقَى عَنْ مَوَاضِعِهِمَا
(وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله أَنْ يَأْكُلَ عَلَى خِوَانِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) عَلَى وَزْنِ كِتَابٍ شَيْءٌ مُرْتَفِعٌ يُوضَعُ تَحْتَ الطَّعَامِ لِيُؤْكَلَ بِلَا انْحِنَاءٍ إلَى السُّفْرَةِ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَلِكَوْنِهِ شِعَارَ الْخُيَلَاءِ قَالَ فِي الْحَاشِيَة وَأَمَّا الْأَكْلُ عَلَى الْخِوَانِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَا يُكْرَهُ (كُلُّهُ) كُلُّ مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِ وَالْأَكْلُ (فِي) كَرَاهِيَةِ (الْخُلَاصَةِ) وَغَيْرِهَا وَفِي التتارخانية لَا بَأْسَ بِجَعْلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي سَقْفِ الدَّارِ وَالْمَسْجِدِ وَأَنْ يُنْقَشَ الْمَسْجِدُ بِمَائِهِمَا إنْ كَانَ مِنْ مَالِهِ وَلَا تَجُوزُ الْمَكَاحِلُ وَالِاكْتِحَالُ بِمِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا يُكْرَهُ خَاتَمُ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ وَحِلْيَةُ السَّيْفِ وَالْمِنْطَقَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى مِقْبَضِ السَّيْفِ وَكَذَا السِّكِّينُ وَحَمَائِلُ السَّيْفِ بِالْفِضَّةِ يُكْرَهُ وَكَذَا الْكِتَابَةُ مِنْ دَوَاةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
(وَ) يُكْرَهُ (أَكْلُ طَعَامِ ضِيَافَةٍ عِنْدَهُ لَعِبٌ أَوْ لَهْوٌ أَوْ غِنَاءٌ وَغَيْرُهَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ) بَلْ اللَّازِمُ حِينَئِذٍ الْمَنْعُ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ إنْ قَدَرَ وَإِلَّا فَالْقِيَامُ وَلَوْ عَلِمَ الْمُنْكَرَ ابْتِدَاءً فَعَلَيْهِ عَدَمُ الْإِجَابَةِ وَفِي الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ أَوْ طَعَامٍ فَوَجَدَ ثَمَّةَ لَعِبًا أَوْ غِنَاءً لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْعُدَ وَيَأْكُلَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَائِدَةِ بَلْ فِي الْمَنْزِلِ وَإِنْ عَلَى الْمَائِدَةِ لَا يَقْعُدُ وَفِي الْأُسْرُوشَنِيِّ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَائِدَةِ فَإِنْ مُقْتَدًى بِهِ لَا يَقْعُدُ لِأَنَّ فِي قُعُودِهِ شَيْنَ الدِّينِ وَفَتْحَ بَابِ الْمَعْصِيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى بِهِ فَلَا بَأْسَ بِقُعُودِهِ وَأَكْلِهِ إنْ لَمْ يَقْصِدْ اسْتِمَاعَ الْمَلَاهِي اتَّخَذَ ضِيَافَةً لِفَسَادٍ كَانَ لِلنِّسَاءِ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْخَبْزِ وَالطَّبْخِ لَهَا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الِامْتِنَاعُ يَنْوِينَ عِنْدَ الْخَبْزِ وَالطَّبْخِ إشْغَالَهُمْ عَنْ الْفَسَادِ مَا دَامُوا فِي الْأَكْلِ فَيُؤْجَرْنَ بِالْخَبْزِ وَالطَّبْخِ وَعَنْ الْخُلَاصَةِ إنْ عَلِمَ قَبْلَ الدُّخُولِ امْتِنَاعَهُمْ عَنْ الْفِسْقِ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَعَنْ الْخَانِيَّةِ نُقِلَ نَوْعُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ حَاصِلُهُ امْتِنَاعُ الْإِجَابَةِ إنْ قَدَرَ عَلَى مَنْعِهِمْ فَلَا يُجِيبُ بَلْ يَجِبُ الْمَنْعُ وَجَوَازُ الْإِجَابَةِ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَنْعِ لَكِنْ يُنْكِرُ فِسْقَهُمْ لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ وَاجِبَةٌ أَوْ مَنْدُوبَةٌ فَلَا يُتْرَكُ لِمَعْصِيَةٍ اعْتَرَضَتْ لَهَا لَعَلَّهُ يَقُولُ الْأُمُورُ الْأَصْلِيَّةُ لَا تَسْقُطُ بِالْعَوَارِضِ الْخَارِجِيَّةِ وَأَيْضًا يُرَجِّحُ مَا هُوَ ذَاتِيٌّ عَلَى مَا هُوَ عَرَضِيٌّ وَفِي الدُّرَرِ إنْ حَضَرَ بِلَا عِلْمٍ ثُمَّ حَدَثَ الْمُنْكَرُ فَإِنْ مُقْتَدًى بِهِ يُمْنَعُ وَإِلَّا خَرَجَ أَلْبَتَّةَ وَلَا بَأْسَ لِغَيْرِ الْمُقْتَدَى بِهِ فَإِنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» فَلَا يُتْرَكْ لِاقْتِرَانِ الْبِدْعَةِ مِنْ غَيْرِهِ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَا تُتْرَكُ لِأَجْلِ النَّائِحَةِ وَبِالْجُمْلَةِ الْأَوْلَى لِغَيْرِ الْمُقْتَدَى الْقُدُومُ مُطْلَقًا وَفِي التتارخانية الِامْتِنَاعُ مُطْلَقًا فِي زَمَانِنَا أَسْلَمُ إلَّا إذَا عَلِمَ يَقِينًا عَدَمَ مُنْكَرٍ وَفِي الْخُلَاصَةِ يَجُوزُ لِلْوَرِعِ أَنْ يُجِيبَ دَعْوَةَ الْفَاسِقِ وَالْأَوْرَعُ أَنْ لَا يُجِيبَ، وَلَا يُجِيبُ الدَّائِنُ دَعْوَةَ مَدْيُونِهِ إنْ زَائِدَةً عَلَى عَادَتِهِ إلَّا إذَا نَصَّ أَنَّهُ لَيْسَ دَيْنٌ وَفِي التتارخانية أَيْضًا دَارًا ظَهَرَ الْفِسْقُ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَكُفَّ رَبُّهَا بِالتَّنْبِيهِ فَلِلْإِمَامِ ضَرْبُهُ أَوْ حَبْسُهُ أَوْ إزْعَاجُهُ مِنْ دَارِهِ
(وَ) يُكْرَهُ (أَكْلُ طَعَامٍ اُتُّخِذَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمُبَاهَاةِ إذَا عُلِمَ ذَلِكَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ بِالْقَرَائِنِ) وَالْأَمَارَاتِ