الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي زَمَانِنَا وَوَفَّقَ بَعْضُهُمْ أَنَّ عَدَمَ الْقَبُولِ بِالنَّظَرِ إلَى مَنْ تَقِلُّ صَلَابَتُهُ وَعِزَّتُهُ فِي حَقِّهِ لِقَبُولِ هَدِيَّتِهِ، وَالْقَبُولُ إلَى مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَفِيهِ مُسْلِمٌ دَعَاهُ نَصْرَانِيٌّ إلَى دَارِهِ ضَيْفًا حَلَّ لَهُ ذَلِكَ، وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ السِّغْنَاقِيِّ الْمَجُوسِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ إذَا دَعَا رَجُلًا إلَى طَعَامِهِ تُكْرَهُ الْإِجَابَةُ ثُمَّ قَالَ: مَا ذُكِرَ فِي حَقِّ النَّصْرَانِيِّ يُخَالِفُ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ رحمه الله قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَمَا نَقَلْنَا سَابِقًا مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرُّخَصِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ) الْيَقِينُ لَا يُرْفَعُ إلَّا بِمِثْلِهِ، وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ قِيلَ لَا شَكَّ مَعَ الْيَقِينِ فَكَيْفَ يَرْتَفِعُ مَا لَا وُجُودَ لَهُ
وَأُجِيبَ الْأَصْلُ الْمُتَيَقَّنُ لَا يُزِيلُهُ شَكٌّ طَارِئٌ عَلَيْهِ قَالَ الْحَمَوِيُّ فِي شَرْحِ الْأَشْبَاهِ: الشَّكُّ لُغَةً مُطْلَقُ التَّرَدُّدِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ: اسْتِوَاءُ طَرَفَيْ الشَّيْءِ وَهُوَ الْوُقُوفُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِحَيْثُ لَا يَمِيلُ الْقَلْبُ إلَى أَحَدِهِمَا فَإِذَا تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يَطْرَحْ الْآخَرَ فَهُوَ ظَنٌّ وَإِنْ طَرَحَهُ فَهُوَ غَالِبٌ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ وَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ فَهُوَ وَهْمٌ، وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ كَاللُّغَةِ فِي سَائِرِ الْأَبْوَابِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَاوِي وَالرَّاجِحِ كَمَا زَعَمَ النَّوَوِيُّ لَكِنْ هَذَا إنَّمَا قَالُوهُ فِي الْأَحْدَاثِ وَقَدْ فَرَّقُوا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَقِيلَ الْيَقِينُ جَزْمٌ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَالِاعْتِقَادُ جَزْمٌ بِلَا دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَالظَّنُّ تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَضْعَفُ مِنْ الْآخَرِ، وَالشَّكُّ تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الشَّكَّ شَكٌّ طَرَأَ عَلَى أَصْلٍ مُحَرَّمٍ أَوْ عَلَى أَصْلٍ مُبَاحٍ، وَشَكٌّ لَا يُعْرَفُ أَصْلُهُ فَالْأَوَّلُ كَأَنْ يَجِدَ شَاةً مَذْبُوحَةً فِي بَلَدٍ فِيهَا مُسْلِمٌ وَمَجُوسٌ فَلَا تَحِلُّ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا ذَكَاةُ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَهَا حَرَامٌ وَشَكَكْنَا فِي الذَّكَاةِ الْمُبِيحَةِ فَلَوْ كَانَ الْغَالِبُ فِيهَا الْمُسْلِمِينَ جَازَ الْأَكْلُ عَمَلًا بِالْغَالِبِ الْمُفِيدِ لِلطَّهَارَةِ
وَالثَّانِي: أَنْ يَجِدَ مَاءً تَغَيَّرَ وَاحْتُمِلَ تَغَيُّرُهُ بِنَجَاسَةٍ أَوْ طُولِ مُكْثٍ يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ الطَّهُورِيَّةِ
وَالثَّالِثُ مِثْلُ مُعَامَلَةِ مَنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ مَالِهِ عَيْنُ الْحَرَامِ فَلَا تَحْرُمُ مُبَايَعَتُهُ لِإِمْكَانِ الْحَلَالِ وَعَدَمِ التَّحْرِيمِ وَلَكِنْ يُكْرَهُ خَوْفًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ ثُمَّ قَالَ: وَنُقِضَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بِالْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ وَهِيَ جَوَازُ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ وَاحِدٍ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِالْيَقِينِ الْقَطْعُ بَلْ إنَّ الشَّيْءَ الثَّابِتَ بِشَيْءٍ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِمِثْلِهِ، وَالنَّصُّ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ وَهُوَ كَافٍ فِي الْأَحْكَامِ كَذَا فِي قَوَاعِدِ الزَّرْكَشِيّ اهـ لَعَلَّ الْمُرَادَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَقَوْلُهُ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ مَنْظُورٌ فِيهِ فَيُعْرَفُ بِمُرَاجَعَةِ الْأُصُولِ (وَبِالْجُمْلَةِ) هِيَ لُبُّ الْمَقَالِ (أَنَّ الِاهْتِمَامَ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ) وَالنَّجَاسَةِ (لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ السَّلَفِ رحمهم الله) كَمَا تَرَى (فَمَنْ لَهُ طَبْعٌ مُسْتَقِيمٌ خَالٍ عَنْ الْوَسْوَسَةِ وَ) عَنْ (اسْتِعْدَادِهَا) بِالطَّبْعِ بِأَنْ خَلَقَ اللَّهُ - تَعَالَى - طَبْعَهُ آبِيًا عَنْ قَبُولِهِ (فَلَهُ أَنْ يَتَحَرَّى) أَيْ يَطْلُبَ (الْأَقْوَى وَالْأَحْوَطَ بِحَيْثُ لَا يَفُوتُ بِهِ أَهَمُّ مِنْهُ كَالْجَمَاعَةِ وَالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ) اللِّسَانِيِّ (وَالْفِكْرِ) الْجَنَانِيِّ كَمَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ (وَالتَّصْنِيفِ) وَيَجْتَنِبُ عَنْ الرُّخَصِ مَا أَمْكَنَ (وَأَمَّا الْمُوَسْوَسُ) مَنْ بِهِ وَسْوَسَةٌ بِالْفِعْلِ (وَالْمُسْتَعِدُّ لَهَا) أَيْ الْوَسْوَسَةِ بِالطَّبْعِ أَوْ بِمُقَارَنَةِ أَهْلِ الْوَسْوَسَةِ (فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى الرُّخْصَةَ وَالسَّعَةَ إلَى أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْهُ احْتِمَالُ الْوَسْوَسَةِ) ثُمَّ يَعُودَ إلَى الْأَقْوَى وَالْأَحْوَطِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالرُّخَصِ إنَّمَا يَكُونُ لِإِزَالَةِ الْوَسْوَسَةِ فَإِذَا حَصَلَ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْعَمَلِ بِهَا كَمَا قِيلَ
[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي التَّوَرُّع التَّكَلُّفِ فِي تَحْصِيلِ الْوَرَعِ]
(الْفَصْلُ الثَّانِي فِي التَّوَرُّعِ) التَّكَلُّفِ فِي تَحْصِيلِ الْوَرَعِ (وَالتَّوَقِّي) التَّحَفُّظِ (مِنْ طَعَامِ أَهْلِ الْوَظَائِفِ مِنْ الْأَوْقَافِ أَوْ) مِنْ (بَيْتِ الْمَالِ مَعَ اخْتِلَاطِ) هَذَا الْمُتَوَرِّعِ مَعَ (الْجَهَلَةِ وَالْعَوَامِّ وَأَكْلِ طَعَامِهِمْ) مَعَ أَنَّ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَجْتَنِبَ عَنْ هَؤُلَاءِ (وَهَذَا) التَّوَرُّعُ (نَاشِئٌ مِنْ الْجَهْلِ) بِحَقِيقَةِ الْحَالِ (أَوْ) مِنْ (الرِّيَاءِ) فَيَتَجَنَّبُ لِيَرَى النَّاسُ أَنَّهُ وَرِعٌ (فَكَمَا أَنَّ الْكَسْبَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا) كَالزَّرْعِ وَأَنْوَاعِ الْحِرَفِ (إذَا رُوعِيَ فِيهَا شَرَائِطُ الشَّرْعِ حَلَالٌ) بَلْ (طَيِّبٌ كَذَلِكَ الْوَقْفُ إذَا صَحَّ وَرُوعِيَ) فِيهِ
(شَرَائِطُ الْوَقْفِ) وَلِلْمَانِعِ أَنْ يَقُولَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوَرُّعُ الْمُتَوَرِّعِ لِلِاشْتِبَاهِ فِي صِحَّةِ أَصْلِ الْوَقْفِ، وَفِي تَحَقُّقِ شَرَائِطِهِ وَوُقُوعِهِ فِي مَصْرِفِهِ وَقَدْرِهِ سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا (فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ) أَيْ فِي حَالِهِ (أَصْلًا) وَلِلْمَانِعِ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ: إنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ لَوْ كَانَ لِنَفْسِ ذَلِكَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُبِيحَ أَوْ يَهَبَ إلَى غَيْرِهِ بَلْ أَوْقَافُ بَيْتِ الْمَالِ مُخْتَصَّةٌ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ؛ وَلِذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِفَايَةِ فِي شُبْهَةٍ (إذْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَقَفُوا)
قِيلَ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَوَّلُ مَنْ وَقَفَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَانَ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَهْمِهِ مِنْ خَيْبَرَ (وَأَكَلُوا مِنْهُ) وَلَمْ يُنْقَلْ الْإِنْكَارُ مِنْهُمْ فَيَحِلُّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ (وَكَذَا بَيْتُ الْمَالِ يَحِلُّ لِمَنْ كَانَ مَصْرِفًا لَهُ إذَا أَخَذَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ) لِنَفْسِهِ وَخَادِمِهِ وَأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ وَالْكُتُبِ اللَّازِمَةِ لَهُ إنْ كَانَ عَالِمًا، وَفِي الْمِنَحِ: لِكُلِّ قَارِئٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَتَا دِينَارٍ أَوْ أَلْفَا دِرْهَمٍ إنْ أَخَذَهَا فِي الدُّنْيَا، وَإِلَّا أَخَذَهَا فِي الْآخِرَةِ كَذَا قِيلَ فِي مَآلِ الْفَتَاوَى أَيْضًا (وَقَدْ أَخَذَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - سِوَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْهُ) أَيْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَعَدَمُ أَخْذِ عُثْمَانَ لِغِنَاهُ وَعَدَمِ احْتِيَاجِهِ؛ إذْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عِنْدَ خَادِمِهِ يَوْمَ قَتْلِهِ مِائَةُ أَلْفِ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَلْفُ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَخَلَّفَ إجْبَاءً قِيمَتُهَا مِائَتَا أَلْفِ دِينَارٍ وَبَلَغَ ثَمَنُ مَالِ الزُّبَيْرِ خَمْسِينَ أَلْفِ دِينَارٍ وَتَرَكَ أَلْفَ فَرَسٍ وَأَلْفَ مَمْلُوكٍ وَخَلَّفَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَغِنَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ فَكَانَتْ الدُّنْيَا فِي أَكُفِّهِمْ لَا فِي قُلُوبِهِمْ
كَمَا نُقِلَ عَنْ التَّنْوِيرِ لَكِنَّهُمْ مَعَ مِثْلِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الْعِظَامِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لِعَدَمِ حُبِّهِمْ إيَّاهَا وَعَدَمِ شَغْلِ قُلُوبِهِمْ فِي وُجُوهِهَا بَلْ مُعْظَمُ قَصْدِهِمْ بَذْلُ تِلْكَ الْأَمْوَالِ إلَى الْمَحَاوِيجِ وَوُجُوهِ الْبِرِّ وَطُرُقِ الْحَسَنَاتِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي غُزَاةِ تَبُوكَ أَحَدٌ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ مَالُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَقَدْ رُوِيَ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا إلَى ثَمَانِينَ أَلْفًا (فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَقْفِ وَبَيْتِ الْمَالِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَكَاسِبِ فِي) أَصْلِ (الْحِلِّ وَالطِّيبِ إذَا رُوعِيَ شَرَائِطُ الشَّرْعِ وَلَا فِي الْحُرْمَةِ وَالْخُبْثِ إذَا لَمْ تُرَاعَ) شَرَائِطُهُ (بَلْ الْأَوَّلَانِ) الْوَقْفُ وَبَيْتُ الْمَالِ (أَشْبَهُ وَأَمْثَلُ فِي زَمَانِنَا) ، وَفِيهِ مَا عَرَفْت لَا سِيَّمَا فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ إذْ جَمْعُهُ لَا يُدْرَى هَلْ هُوَ مِنْ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ أَوْ طَرِيقٍ جَبْرِيٍّ بَلْ فِي زَمَانِنَا عَلَى مَا سَمِعْنَا إنَّمَا هُوَ اسْمُ بَيْتِ الْمَالِ لَا رَسْمُهُ (إذْ أَكْثَرُ بُيُوتِ أَسْوَاقِنَا) كَبَيْعِ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ عَلَى أَنْ يُوزَنَ بِظَرْفِهِ وَيُطْرَحَ لِكُلِّ ظَرْفٍ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ (وَإِجَارَاتِهِمْ) مِثْلَ اسْتِئْجَارِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ لِلْحَلْبِ وَاتِّخَاذِ الْجُبْنِ وَالسَّمْنِ بِالْبَعْضِ مِنْهَا (بَاطِلَةٌ) لَا تُفِيدُ مِلْكًا وَلَا أُجْرَةً؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ خَبِيثٌ وَاجِبُ التَّصْدِيقِ وَيَحْرُمُ التَّنَاوُلُ (أَوْ فَاسِدَةٌ) تُفِيدُ مِلْكًا خَبِيثًا وَاجِبَ التَّصَدُّقِ وَيَحْرُمُ التَّنَاوُلُ فِي الْبَيْعِ، وَأَجْرُ الْمِثْلِ فِي الْإِجَارَةِ وَيَكُونُ نَحْوُ الْجُبْنِ وَالسَّمْنِ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ (أَوْ مَكْرُوهَةٌ) تُوجِبُ نَوْعَ خُبْثٍ
(نَعَمْ الْوَرَعُ فِي الشُّبُهَاتِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَيْسَ كَالْوَرَعِ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ) لِتَخْفِيفِ السَّلَفِ فِي هَذَيْنِ (بَلْ هُوَ أَهَمُّ فِي الدِّينِ) ؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّوَقِّي مِنْ هَذَا يُفْضِي إلَى تَحَمُّلِ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِخِلَافِ أَمْرِ الطَّهَارَةِ فَإِنَّهَا حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - خَاصَّةً وَلِأَنَّهُ قَرِيبٌ إلَى الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ وَسَطِيُّ الْمَسَائِلِ؛ وَلِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْأَهَمِّ فِي الدِّينِ (وَسِيرَةِ سَلَفِ الصَّالِحِينَ وَلَكِنْ فِي زَمَانِنَا لَا يُمْكِنُ) التَّوَرُّعُ عَنْ جَمِيعِ الشُّبُهَاتِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بَلْ إنَّمَا يُمْكِنُ الْبَعْضُ، وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ التَّوَرُّعُ فِي شَيْءٍ مَا؛ إذْ مَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ لَا يُكَلَّفُ بِهِ وَلَوْ نَدْبًا لَكِنْ يَشْكُلُ إنْ أَرَدْت عَدَمَ الْإِمْكَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَشْيَاءِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِ الْوَرَعِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُكَلَّفِ فَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ وَإِنْ أَرَدْت بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَبَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يُمْكِنُ لِبَعْضٍ لَا يَمْتَنِعُ لِآخَرَ لِاتِّحَادِ الْكُلِّ وَاشْتِرَاكِهِ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، وَأَنَّ الْبَعْضَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ لَا يُعْلَمُ صِدْقُ مَفْهُومِ الْوَرَعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّوَرُّعَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ، وَيُعْلَمُ الْجَوَابُ مِمَّا سَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ (بَلْ لَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ بِالْقَوْلِ الْأَحْوَطِ فِي الْفَتْوَى وَهُوَ) أَيْ الْأَحْوَطُ فِيهَا (مَا اخْتَارَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رحمه الله مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِ الرَّجُلِ حَلَالًا جَازَ قَبُولُ هَدِيَّتِهِ وَمُعَامَلَتُهُ) ؛ إذْ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ (وَإِلَّا) وَلَوْ مُسَاوِيًا (فَلَا) تُقْبَلُ هَدِيَّتُهُ وَمُعَامَلَتُهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ عِنْدَهُ حَلَالٌ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَشْكُلُ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ، وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ لَا سِيَّمَا فِي صُورَةِ التَّسَاوِي، وَأَيْضًا يَرِدُ مُطْلَقًا مَا قَالُوا: الْحُرُمَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ.
(قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوِيهِ قَالُوا لَيْسَ زَمَانُنَا زَمَانَ) اعْتِبَارِ (الشُّبُهَاتِ) بِالِاحْتِرَازِ وَالتَّوَقِّي (وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّقِيَ الْحَرَامَ الْمُعَايَنَ) بِالْحِسِّ أَوْ بِخَبَرِ الْعَدْلِ أَوْ الْعَدَدِ (وَكَذَا) قَالَ (صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي التَّجْنِيسِ، وَزَمَانُهُمَا) أَيْ زَمَانُ قَاضِي خَانْ وَالْهِدَايَةِ (قَبْلَ سِتِّمِائَةٍ وَقَدْ بَلَغَ التَّارِيخُ الْيَوْمَ) أَيْ يَوْمَ تَصْنِيفِ الْمُصَنِّفِ هَذَا الْكِتَابَ (تِسْعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ) وَأَنَا أَقُولُ: بَلَغَ الْيَوْمَ ثَمَانِيًا وَسِتِّينَ وَمِائَةً وَأَلْفًا (وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْفَسَادَ وَالتَّغَيُّرَ يَزِيدَانِ بِزِيَادَةِ الزَّمَانِ لِبُعْدِهِ عَنْ عَهْدِ النُّبُوَّةِ) لِحَدِيثِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ» لَكِنْ يَشْكُلُ بِحَدِيثِ مَثَلُ «أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ» وَالتَّوْفِيقُ أَنَّ خَيْرِيَّةَ الْأَوَّلِ بِنَيْلِ شَرَفِ قُرْبِ الْعَهْدِ وَلُزُومِ سُنَنِ الْعَدْلِ وَالصِّدْقِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي، وَأَمَّا كَثْرَةُ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَنَيْلُ الدَّرَجَاتِ فَلَا يُدْرَى أَنَّ الْأَوَّلَ خَيْرٌ لِمَا ذُكِرَ، أَمْ آخِرُ الْأَمَةِ خَيْرٌ لِلْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَالطَّاعَةِ وَالرَّغْبَةِ مَعَ انْقِضَاءِ زَمَنِ مُشَاهَدَةِ آثَارِ النُّبُوَّةِ وَالْمُعْجِزَاتِ كَمَا فِي التَّلْوِيحِ لَا يَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ؛ إذْ الطَّاعَةُ وَالرَّغْبَةُ يُنَافِيَانِ الْفَسَادَ وَالتَّغَيُّرَ، وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِإِنَّ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام خَيْرِيَّةُ الْأَوَّلِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ مُشْتَرَكُ الِاحْتِمَالِ؛ إذْ يَجُوزُ الْعَكْسُ.
وَأَيْضًا مَا فِي الْفَيْضِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ «أُمَّتِي أُمَّةٌ مُبَارَكَةٌ لَا يُدْرَى أَوَّلُهَا خَيْرٌ أَمْ آخِرُهَا» مِنْ
الْقَطْعِ بِخَيْرِيَّةِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمْ نَصَرُوهُ وَآوُوهُ وَجَاهَدُوا مَعَهُ، وَعَدَمُ الدِّرَايَةِ فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يُؤَيِّدُ الْإِشْكَالَ كَقَوْلِهِ فِيهِ أَيْضًا وَجْهُ عَدَمِ الدِّرَايَةِ تَقَارُبُ أَوْصَافِهِمْ وَتَشَابُهُ أَفْعَالِهِمْ فَلَا يَكَادُ يُمَيِّزُ النَّاظِرُ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ تَفَاوَتُوا فِي الْفَضْلِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيُحْكَمُ بِالْخَيْرِ لِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَلِذَا قِيلَ هُمْ كَالْحَلْقَةِ الْمُفْرَغَةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفُهَا وَأَيْضًا قَالَ فِي الْفَيْضِ عَنْ الْكَلَابَاذِيِّ وَغَيْرِهِ فِي الْمَحَلِّ الْمَزْبُورِ، وَأَمَّا خَبَرُ «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» فَخَاصٌّ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ، وَالْمُرَادُ فِي قَرْنِي كَالْعَشَرَةِ وَأَضْرَابِهِمْ، وَأَمَّا سِوَاهُمْ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَاقَ لَهُمْ أَفَاضِلُ أَوَاخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَاَلَّذِينَ يَنْصُرُونَ الْمَسِيحَ وَيُقَاتِلُونَ الدَّجَّالَ فَهُمْ أَنْصَارُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَأَيْضًا فِي الْفَيْضِ فِي شَرْحِ «خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَخُونُونَ» الْحَدِيثَ.
ظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّ الصَّحْبَ أَفْضَلُ مِنْ الْجَمِيعِ، وَعَلَيْهِ كَثِيرٌ لَكِنْ ذَهَبَ جَمْعٌ كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِهِمْ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ مَثَلُ «أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ» الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: وَيَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ الْقَطْعُ بِأَفْضَلِيَّةِ أَعْرَابِيٍّ جِلْفٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ إلَّا مُجَرَّدُ الرُّؤْيَةِ، وَلَمْ يُخَالِطْ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ عَلَى مِثْلِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَمَا فِي حَفِيدِ السَّعْدِ عَلَى النَّوَوِيِّ أَنَّ حَدِيثَ «مَثَلُ أُمَّتِي» ضَعِيفٌ فَيَرُدُّهُ مَا فِي الْفَيْضِ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ حَاصِلُهُ أَنَّهُ وَإِنْ ضَعِيفًا مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ بَلْ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عِنْدَ الْهَيْثَمِيِّ لَكِنْ عِنْدَ ابْنِ حَجَرٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ لَهُ طَرِيقٌ يَرْتَقِي إلَى الصِّحَّةِ كَمَا أُشِيرَ أَيْضًا آنِفًا وَأَيْضًا عِنْدَ الْمُنْذِرِيِّ بِإِسْنَادٍ أَقْوَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ.
وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَيْضًا عِنْدَ حَدِيثِ «مَثَلُ أُمَّتِي» عَنْ الْبَيْضَاوِيِّ كَمَا اجْتَهَدَ الْأَوَّلُونَ فِي التَّأْسِيسِ وَالتَّمْهِيدِ اجْتَهَدَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي التَّجْرِيدِ وَالتَّلْخِيصِ وَصَرَفُوا عُمُرَهُمْ فِي التَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ فَكُلٌّ مَغْفُورٌ، وَسَعْيُهُ مَشْكُورٌ، وَأَجْرُهُ مَوْفُورٌ، وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَخَيْرِيَّةُ حَدِيثِ «خَيْرُ النَّاسِ» بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَجْمُوعِ لَا الْأَفْرَادِ وَلَوْ سَلِمَ كُلُّ ذَلِكَ فَإِنَّ حَدِيثَ «أُمَّتِي أُمَّةٌ مُبَارَكَةٌ» لَا كَلَامَ فِي صِحَّتِهِ بَلْ قَالَ فِي الْفَيْضِ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ إطْلَاقَ حَدِيثِ «خَيْرُ الْقُرُونِ» مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَكْثَرِ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ وَحَدِيثُ «مَثَلُ أُمَّتِي» بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الْأَفْرَادِ لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت قَوْلَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ الْمُجْمَعِ عَلَى جَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ: لَقَدْ أَدْرَكْنَا النَّاسَ وَهُمْ الصَّحَابَةُ كُنَّا فِي جَنْبِهِمْ لُصُوصًا، وَقَالَ ابْنُ الرَّبِيعِ: لَوْ رَآنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَالُوا هَؤُلَاءِ لَا يُؤْمِنُونَ بِيَوْمِ الْحِسَابِ.
وَأَمَّا فِتَنُ نَحْوِ يَوْمِ الدَّارِ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَفَسَادَاتِ يَزِيدَ وَالْحَجَّاجِ فَقَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الصَّلَاحِ فِي زَمَنِهِمْ كَمَا قِيلَ
قَلِيلٌ إذَا عُدُّوا
…
كَثِيرٌ إذَا شَدُّوا
وَكَمَا قِيلَ أَيْضًا
إنَّ الْكِرَامَ كَثِيرٌ فِي الْبِلَادِ وَإِنْ
…
قَلُّوا كَمَا غَيْرُهُمْ قَلُّوا وَإِنْ كَثُرُوا
(فَالْوَرَعُ وَالتَّقْوَى فِي زَمَانِنَا فِي حِفْظِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ) مِنْ آفَاتِهَا الْمَذْكُورَةِ كُلٌّ فِي مَبَاحِثِهَا لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ حَاصِلِ مَا ذُكِرَ نَفْيُ التَّحَرُّزِ عَنْ الشُّبُهَاتِ مَا لَمْ يَعْلَمْ حُرْمَةَ الْأَكْثَرِ أَوْ الْمُسَاوَاةَ فِي أَحَدٍ وَمَا لَمْ يُعَايِنْ الْحَرَامَ وَحَصْرُ التَّحَرُّزِ وَالتَّقْوَى بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالْكُلُّ مَنْظُورٌ فِيهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِحَدِيثِ «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُتَشَابِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» الْحَدِيثَ وَقَدْ قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ مَدَارُ أَمْرِ الشَّرْعِ وَقُطْبُ الْأَحْكَامِ
وَلِحَدِيثِ «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» أَيْ دَعْ مَا تَشُكُّ فِيهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ إلَى مَا لَا تَشُكُّ فِيهِ مِنْ الْحَلَالِ الْبَيِّنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَرَعُ كُلُّهُ فِي تَرْكِ مَا يَرِيبُ إلَى مَا لَا يَرِيبُ، وَفِيهِ عُمُومٌ يَقْتَضِي أَنَّ الرِّيبَةَ تَقَعُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ وَأَنَّ تَرْكَ الرِّيبَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَرَعٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ، وَأَصْلٌ فِي الْوَرَعِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الْيَقِينِ وَرَاحَةٌ مِنْ ظُلَمِ الشُّكُوكِ وَالْأَوْهَامِ الْمَانِعَةِ مِنْ نُورِ الْيَقِينِ وَأَيْضًا لِحَدِيثِ «الْوَرِعُ الَّذِي يَقِفُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ» أَيْ يَشْتَبِهُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ أَوْ يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِلَا رُجْحَانٍ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ عَرَفْت مِمَّا ذُكِرَ أَيْضًا لَمَّا عَرَفْت الْعُمُومَ وَأَنَّ الصُّعُوبَةَ فِيمَا ذُكِرَ لَيْسَتْ بِأَخَفَّ مِمَّا قَبْلَهُ فَمَا وَجْهُ
عَدَمِ الْإِمْكَانِ فِي ذَلِكَ دُونَ هَذَا
وَالْجَوَابُ نَفْيُ الْمُصَنِّفِ رَاجِعٌ إلَى الْوُجُوبِ، وَالْأَحَادِيثُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى النَّدْبِيَّةِ وَالْأَوْلَوِيَّةِ وَمَعْنَى مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ لَا الْوُقُوعُ بِالْفِعْلِ أَوْ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي الْعَوَامّ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْخَوَاصِّ كَالْفَتْوَى وَالتَّقْوَى وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْفَيْضِ عَنْ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ، وَيَنْبَغِي التَّدْقِيقُ فَالتَّوَقُّفُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ إنَّمَا يَصْلُحُ لِمَنْ اسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُ وَتَشَابَهَتْ أَعْمَالُهُ فِي التَّقْوَى وَالْوَرَعِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لَمَّا سَأَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ أَتَسْأَلُونَ عَنْهُ، وَقَدْ قَتَلْتُمْ الْحُسَيْنَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ أَحْمَدَ أَنْ يَكْتُبَ مِنْ مِحْبَرَتِهِ فَقَالَ: اُكْتُبْ هَذَا وَرَعٌ مُظْلِمٌ، وَقَالَ لِآخَرَ لَمْ يَبْلُغْ وَرَعِي وَلَا وَرَعُك هَذَا انْتَهَى وَلَعَلَّ تَعْزِيرَ الْوَرَعِ الْبَارِدِ فِي الْفِقْهِيَّةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ لِلْوَرَعِ مَرَاتِبَ الْأُولَى: وَرَعُ الْعُدُولِ وَهُوَ مَا يَحْرُمُ بِفَتَاوَى الْفُقَهَاءِ
الثَّانِيَةُ: وَرَعُ الصَّالِحِينَ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَنْ احْتِمَالِ الْحُرْمَةِ، وَإِنْ رَخَّصَ الْمُفْتِي
الثَّالِثَةُ: وَرَعُ الْمُتَّقِينَ وَهُوَ مَا لَا حُرْمَةَ فِيهِ بِحَسَبِ الْفَتْوَى وَلَا شُبْهَةَ فِي حِلِّهِ لَكِنْ يُخَافُ مِنْهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى مُحَرَّمٍ وَهُوَ تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ مَخَافَةَ مَا بِهِ بَأْسٌ
الرَّابِعَةُ: وَرَعُ الصِّدِّيقِينَ وَهُوَ تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ أَصْلًا، وَلَا يُخَافُ مِنْهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى مَا بِهِ بَأْسٌ، وَلَكِنَّهُ يُتَنَاوَلُ لِغَيْرِ اللَّهِ لَا عَلَى نِيَّةِ التَّقَوِّي بِهِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ أَوْ يَتَطَرَّقُ الْأَسْبَابَ الْمُسَهِّلَةَ لَهُ كَرَاهِيَةً أَوْ مَعْصِيَةً
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا لَا يَتَرَجَّحُ فِيهِ أَحَدُ طَرَفَيْ الشَّكِّ لَيْسَ بِشُبْهَةٍ وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ احْتِمَالُ حُرْمَةٍ يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ وَيُعَارِضُهُ أَصْلُ الْحِلِّ فَعُرُوضُ الشَّكِّ الْمُحَلِّلِ عَلَى مَا عُلِمَ حُرْمَتُهُ لَيْسَ بِمُحَلِّلٍ، وَالشَّكُّ فِي الْمُحَرَّمِ عَلَى مَا عُلِمَ حِلُّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ كَمَا إذَا طَارَ طَائِرٌ فَقَالَ وَاحِدٌ إنْ كَانَ هَذَا غُرَابًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ، وَقَالَ آخَرُ: إنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَالْتَبَسَ أَمْرُ الطَّائِرِ فَلَا يُقْضَى بِالتَّحْرِيمِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ الْوَرَعَ اجْتِنَابُهُمَا وَغَلَبَةُ ظَنِّ الْحِلِّيَّةِ عَلَى مَا حُرِّمَ إنْ اسْتَنَدَتْ إلَى سَبَبٍ شَرْعِيٍّ فَالْمُخْتَارُ الْحِلُّ وَلَكِنَّ اجْتِنَابَهُ وَرَعٌ كَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَجَرَحَهُ ثُمَّ غَابَ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا وَغَلَبَ ظَنُّ الْحُرْمَةِ عَلَى الْحِلِّ كَذَلِكَ فَحَرَامٌ كَمَا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ نَجَاسَةُ أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ لِعَلَامَةٍ مُعَيَّنَةٍ تُوجِبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ ثُمَّ الشَّكَّ عِنْدَ اخْتِلَاطِ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ فَإِنْ مَحْصُورَيْنِ كَمَنْ تَزَوَّجَ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِعَيْنِهَا فَتَحْرُمُ فَبِالْأَوْلَى عِنْدَ كَوْنِ الْحَلَالِ مَحْصُورًا وَالْحَرَامِ لَيْسَ بِمَحْصُورٍ، وَإِنْ دُونَ الْحَلَالِ فَيَحِلُّ كَمَا إذَا اخْتَلَطَتْ رَضِيعَةٌ بِنِسْوَةِ بَلْدَةٍ كَبِيرَةٍ فَلَهُ أَنْ يَنْكِحَ مَنْ شَاءَ، وَإِنْ غَيْرَ مَحْصُورَيْنِ كَحُكْمِ الْأَمْوَالِ فِي زَمَانِنَا كَمَنْ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ احْتَمَلَ أَنَّهُ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ فَحَلَالٌ لَكِنَّ تَرْكَهُ وَرَعٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَعَ الْغَلُولُ وَاخْتَلَطَ بِالْأَمْوَالِ وَكَذَا أَثْمَانُ الْخُمُورِ فِي أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ بَلْ الرِّبَا أَيْضًا وَمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُتَحَقِّقَ فِي زَمَانِنَا أَكْثَرِيَّةُ الْحَرَامِ لِكَثْرَةِ الظَّلَمَةِ أَوْ كَثْرَةِ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ أَوْ كَثْرَةِ أَيْدِي الظَّلَمَةِ فَمَدْفُوعٌ إذْ الظَّلَمَةُ كَالْجُنْدِيَّةِ وَالْمُتَغَلِّبَةِ إذَا نُسِبَتْ إلَى أَهْلِ الْعَالَمِ فَلَمْ يَبْلُغُوا عُشْرَ عُشْرِهِمْ.
وَكَذَا الْمُعَامَلَاتُ فِي الْأَسْوَاقِ بِشُرُوطِ الشَّرْعِ أَكْثَرُ وَكَذَا أَهْلُ الرِّبَا وَأَمَّا كَثْرَةُ أَيْدِي الظَّلَمَةِ فَقِيلَ إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يَسْتَنِدُ إلَى عَلَامَةٍ تَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ مُعَيَّنٍ فَلَا يَحْرُمُ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى التَّوَرُّعَ وَأَيْضًا إنْ اتَّصَلَتْ مَعْصِيَةٌ بِالْمُحَلَّلِ فَأَمَّا فِي الْقَرَائِنِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَكَالذَّبْحِ بِالسِّكِّينِ الْمَغْصُوبِ فَمَكْرُوهٌ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَالْوَرَعُ اجْتِنَابُهُ، وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ دَرَجَاتٌ تَقْرُبُ مِنْ الْحَرَامِ فَالْوَرَعُ عَنْهَا مُهِمٌّ كَالصَّيْدِ بِكَلْبٍ مَغْصُوبٍ وَدُونَهَا الِاحْتِطَابُ بِالْقَدُّومِ الْمَغْصُوبِ، وَدُونَ هَذِهِ الْبَيْعُ وَقْتَ النِّدَاءِ.
وَأَمَّا فِي مَعْصِيَةِ اللَّوَاحِقِ فَأَعْلَاهَا بَيْعُ الْعِنَبِ مِنْ الْخَمَّارِ، وَبَيْعُ الْغُلَامِ مِمَّنْ يُعْرَفُ بِالْفُجُورِ فَالْمَأْخُوذُ مَكْرُوهٌ شَدِيدٌ، وَتَرْكُهُ مِنْ الْوَرَعِ الْمُهِمِّ وَيَلِيهَا بَيْعُ الْعِنَبِ مِمَّنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَلَمْ يَكُنْ خَمَّارًا فَالْكَرَاهَةُ وَالْوَرَعُ فَوْقَ الْأَوَّلِ وَيَلِيهَا مَا يَكَادُ يَكُونُ مِنْ الْوَسْوَاسِ كَمَنْ لَا يُجَوِّزُ مُعَامَلَةَ الْفَلَّاحِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَبِيعُونَ الطَّعَامَ مِنْ الظَّلَمَةِ، وَإِمَّا مَعْصِيَةٌ فِي الْمُقَدِّمَاتِ فَالْعُلْيَا مَا بَقِيَ أَثَرُهُ فِي الْمُتَنَاوَلِ كَالْأَكْلِ مِنْ شَاةٍ رَعَتْ مِنْ مَرْعَى حَرَامٍ وَالْوُسْطَى مَا نُقِلَ عَنْ بِشْرٍ مِنْ امْتِنَاعِهِ عَمَّا يُسَاقُ مِنْ نَهْرِ الظَّلَمَةِ وَامْتِنَاعِ آخَرَ عَنْ عِنَبِ
كَرْمٍ سُقِيَ بِنَهْرٍ مَذْكُورٍ، وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُ ذِي النُّونِ مِنْ طَعَامٍ حَلَالٍ وَصَلَ إلَيْهِ بِيَدِ سَجَّانٍ، وَقَوْلُهُ: إنَّهُ جَاءَ عَلَى يَدِ ظَالِمٍ، وَالسُّفْلَى قَرِيبَةٌ مِنْ الْوَسْوَاسِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ حَلَالٍ وَصَلَ إلَيْهِ عَلَى يَدِ زَانٍ أَوْ قَاذِفٍ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْ شُرْبِ كُوزٍ صَنَعَهُ عَاصٍ أَوْ ضَارِبٌ أَوْ شَاتِمٌ فَوَسْوَاسٌ لَيْسَ بِوَرَعٍ، وَإِمَّا مَعْصِيَةٌ فِي الْعِوَضِ فَالْعُلْيَا أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا بِثَمَنٍ مَغْصُوبٍ أَوْ حَرَامٍ فَيُسَلِّمَهُ الْبَائِعُ بِطِيبِ الْخَاطِرِ فَيَأْكُلَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَحَلَالٌ، وَعَدَمُ الْأَكْلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا مِنْ الْوَرَعِ الْكَامِلِ، وَإِنَّمَا الْإِثْمُ بِقَضَاءِ الثَّمَنِ مِنْ الْحَرَامِ فَبَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يَنْقَلِبُ حَرَامًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ التَّسْلِيمُ بِطِيبِ الْخَاطِرِ فَحَرَامٌ كَأَكْلِ الْمُرْتَهِنِ مِنْ الرَّهْنِ؛ إذْ لِلْمَالِكِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ لَكِنَّ حُرْمَتُهُ دُونَ حُرْمَةِ مَالِ الْغَيْرِ.
وَأَمَّا إذَا أَوْفَى الثَّمَنَ الْحَرَامَ أَوَّلًا ثُمَّ قَبَضَ فَإِنْ عَالِمًا بِحُرْمَتِهِ بَطَلَ حَقُّ حَبْسِهِ وَبَقِيَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ؛ إذْ مَا أَخَذَهُ لَيْسَ بِثَمَنٍ فَأَكْلُ الْمَبِيعِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حُرْمَتَهُ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَ لَا يَرْضَى وَلَا يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ فَحَقُّ حَبْسِهِ بَاقٍ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ إلَى أَنْ يُبْرِئَهُ أَوْ يُوَفِّيَ مِنْ حَلَالٍ أَوْ يَرْضَى هُوَ بِالْحَرَامِ وَيُبْرِئَ فَيَصِحَّ إبْرَاؤُهُ وَلَا يَصِحُّ رِضَاهُ بِالْحَرَامِ فَالِامْتِنَاعُ مِنْ أَكْلِهِ وَرَعٌ مُهِمٌّ؛ إذْ رِضَاهُ حِينَئِذٍ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْكَرَاهَةِ الشَّدِيدَةِ، وَإِنْ جَازَ فِي الْفَتْوَى، وَالْوُسْطَى أَنْ لَا يَكُونَ الثَّمَنُ حَرَامًا لَكِنَّ الْآخِذَ يَعْنِي الْبَائِعَ يَصْرِفُهُ إلَى مَعْصِيَةٍ كَمَنْ يَجْعَلُ الثَّمَنَ عِنَبًا وَالْآخِذُ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ سَيْفًا وَهُوَ قَاطِعُ طَرِيقٍ فَلَا يَحْرُمُ حِينَئِذٍ فِي الْفَتْوَى لَكِنْ مَكْرُوهٌ فِي التَّقْوَى دُونَ الْأَوَّلِ، وَالسُّفْلَى هِيَ دَرَجَةُ الْوَسْوَاسِ كَمَا إذَا حَلَفَ إنْسَانٌ عَلَى أَنْ لَا يَلْبَسَ مِنْ غَزْلِ جَارِيَتِهِ فَبَاعَ غَزْلَهَا وَاشْتَرَى بِهِ ثَوْبًا فَهَذَا لَا كَرَاهَةَ فِيهِ فَوَرَعُهُ وَسْوَسَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ بِحَصْرٍ بَلْ تَقْرِيبٌ إلَى الْفَهْمِ فَلَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِدَقَائِق الْوَرَعِ إلَّا بِحَضْرَةِ عَالِمٍ، وَإِلَّا كَانَ مَا يُفْسِدُهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي الْأَدِلَّةِ فَإِنْ تَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ فَإِنْ تَرَجَّحَ جَانِبُ الْحُرْمَةِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ الْحِلُّ فَجَائِزُ الْعَمَلِ وَالْوَرَعُ تَرْكُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبٌ فَجَانِبُ الْحَظْرِ رَاجِحٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَإِنْ تَعَارَضَتْ الْعَلَامَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ كَأَنْ يُخْبِرَ عَدْلٌ بِأَنَّ هَذَا الْمَتَاعَ حَلَالٌ، وَآخَرُ حَرَامٌ فَإِنْ ظَهَرَ تَرْجِيحٌ حُكِمَ بِهِ وَلِلْوَرِعِ الِاجْتِنَابُ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ يَجِبُ التَّوَقُّفُ، وَإِنْ تَعَارَضَتْ الْأَشْبَاهُ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي بِهَا مَنَاطُ الْأَحْكَامِ كَمَنْ أَوْصَى لِلْفُقَهَاءِ فَالْفَاضِلُ دَاخِلٌ قَطْعًا وَالْمُتَعَلِّمُ مُنْذُ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ غَيْرُ دَاخِلٍ قَطْعًا وَبَيْنَهُمَا دَرَجَاتٌ يَقَعُ الشَّكُّ فِيهَا فَالْمُفْتِي يُفْتِي بِحَسَبِ الظَّنِّ فَلِلْوَرِعِ الِاجْتِنَابُ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَاتُ فَإِنَّ الْمُحْتَاجَ مَنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، وَالْغَنِيُّ مَنْ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا مَنْ لَهُ دَارٌ، وَأَثَاثٌ وَثِيَابٌ وَكِتَابٌ فَإِنَّ مَا هُوَ قَدْرُ الْحَاجَةِ مِنْهُ، وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُمَا، وَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالتَّقْرِيبِ وَنَحْوِهَا كَسَعَةِ الدَّارِ وَأَبْنِيَتِهَا وَعَدَدِ بُيُوتِهَا وَقَدْرِ قِيمَتِهَا وَمَحَلِّهَا وَجَارِهَا وَنَحْوِهَا فَإِنْ أَفْتَى الْمُفْتِي بِظَنٍّ وَتَخْمِينٍ فَلِلْوَرِعِ التَّوَقُّفُ، وَالْوَجْهُ فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك»
(وَ) أَيْضًا الْوَرَعُ فِي زَمَانِنَا (التَّحَرُّزُ عَنْ الظُّلْمِ) وَلَوْ فِي أَقَلِّ قَلِيلٍ (وَإِيذَاءِ الْغَيْرِ) لَا سِيَّمَا حَيَوَانًا (بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ) كَانَ (بِالسُّؤَالِ) فِيمَا لَا رُخْصَةَ لَهُ فِي الشَّرْعِ (وَالِاسْتِخْدَامِ بِغَيْرِ أَجْرٍ) لَا سِيَّمَا فِي الْخِدْمَةِ الْعَزِيزَةِ (وَأَنْ يَجْعَلَ) أَيْ الْوَرِعُ فِي زَمَانِنَا أَنْ يَجْعَلَ (مَا فِي يَدِ كُلِّ إنْسَانٍ مِلْكًا لَهُ) بِلَا سُوءِ ظَنٍّ؛ لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِيَّةِ (مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ) الظَّاهِرُ أَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ مُلْحَقَةٌ بِالْيَقِينِ فَالشَّكُّ وَالظَّنُّ لَا يُعْتَبَرَانِ (كَوْنُهُ بِعَيْنِهِ مَغْصُوبًا أَوْ مَسْرُوقًا) وَيَلْحَقُهُ نَحْوُ الرِّبَا وَالرِّشَا
(وَإِنْ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ فِي مَالِهِ حَرَامًا قَالَ) فِي حَقِّهِ
(فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَوْ أَنَّ فَقِيرًا) وَكَذَا الْغَنِيُّ (يَأْخُذُ جَائِزَةَ السُّلْطَانِ) أَيْ عَطِيَّتَهُ (مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ السُّلْطَانَ يَأْخُذُهَا غَصْبًا أَيَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ قَالَ: فَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ خَلَطَ الدَّرَاهِمَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ) بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ (فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ) وَالتَّوَقِّي أَفْضَلُ (وَإِنْ)(دَفَعَ عَيْنَ الْغَصْبِ) أَيْ الْمَغْصُوبَ (مِنْ غَيْرِ خَلْطٍ) (لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: رحمه الله هَذَا الْجَوَابُ يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ إذَا غَصَبَ دَرَاهِمَ
مِنْ قَوْمٍ وَخَلَطَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ)
قِيلَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْخَلْطُ نَاشِئًا مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي وَإِلَّا فَلَا يَمْلِكُ عِنْدَهُ أَيْضًا كَمَنْ غَصَبَ دَرَاهِمَ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بِالْإِرْثِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ غَصَبَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ مِنْ رَجُلٍ وَعَشَرَةً مِنْ آخَرَ فَوَضَعَهُمَا فِي مَكَانِ بَعْدَ جَعْلِهِمَا فِي كِيسٍ عَلَى حِدَةٍ فَوَقَعَ الْخَلْطُ بِانْشِقَاقِ الْكِيسِ لَا يَمْلِكُ بَلْ يَبْقَى بِلَا مِلْكٍ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُوجَدَ خَلْطٌ بَعْدَهُ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَغْصُوبِ طَيِّبًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ رِوَايَةٌ مَشْهُورَةٌ طَيِّبٌ أَيْضًا، وَفِي أُخْرَى خَبِيثٌ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ، وَيَحْرُمُ التَّنَاوُلُ؛ إذْ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ لَزِمَ اجْتِمَاعُ الْبَدَلَيْنِ لِكَوْنِهِ ضَامِنًا وَهُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرْعِ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ إذَا أَكَلَ عَيْنَ الْغَصْبِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ يَأْكُلُ حَلَالًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ بِالْمَضْغِ فَيَصِيرُ مِلْكًا لَهُ قَبْلَ الِابْتِلَاعِ، قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤْخَذَ بِهَذَا كَيْ لَا يَتَجَاسَرَ الْغَاصِبُ وَالظَّلَمَةُ عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَهَذَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمُسْتَهْلَكَ يَكُونُ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ حَتَّى لَوْ صَالَحَ مِنْ الْمَغْصُوبِ عَلَى أَضْعَافِ قِيمَتِهِ بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ جَازَ عِنْدَهُ (وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:) (السُّلْطَانُ) الْجَائِرُ (إذَا قَدَّمَ شَيْئًا مِنْ الْمَأْكُولَاتِ إنْ اشْتَرَاهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِهِ وَلَكِنَّ الرَّجُلَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ فِي الطَّعَامِ شَيْئًا مَغْصُوبًا بِعَيْنِهِ يُبَاحُ أَكْلُهُ انْتَهَى) وَفِي مِفْتَاحِ الْعُلُومِ: إنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَالِهِ حَلَالٌ فَهُوَ حَرَامٌ مَحْضٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَفِيهِ خِلَافٌ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْحَرَامُ فِيهِ غَالِبٌ فَلَا يَجُوزُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ مَا لَا أَتَيَقَّنُ بِحُرْمَتِهِ فَلِي أَنْ آخُذَهُ وَالْمُخْتَارُ إنْ كَانَ الْغَالِبُ حَرَامًا فَحَرَامٌ، وَإِنْ حَلَالًا فَمَوْضِعُ تَوَقُّفِنَا، وَاحْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ بِأَخْذِ بَعْضٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ مَرْوَانَ وَيَزِيدَ، وَمِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَمِنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ كَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ مِنْ الرَّشِيدِ أَلْفَ دِينَارٍ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَخَذَ مَالِكٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ أَمْوَالًا جَمَّةً وَكَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يَقْبَلَانِ جَوَائِزَ مُعَاوِيَةَ وَأَمَّا امْتِنَاعُ آخَرِينَ فَيَدُلُّ عَلَى الْوَرَعِ دُونَ الْحُرْمَةِ
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْآخِذِينَ أَكْثَرُ مِنْ الْمُمْتَنِعِينَ فَإِنْ وُجِّهَ الرَّدُّ بِالْوَرَعِ فَكَذَا الْأَخْذُ يُوَجَّهُ بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ إذْ الِاحْتِمَالَاتُ أَرْبَعَةٌ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَأْخُذَ شَيْئًا وَهُوَ أَشَدُّ الْوَرَعِ
الثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَ مِمَّا عَلِمَ حِلَّهُ وَهُوَ مَحْمَلُ مَا أَخَذَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْخُذَ لِيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمُسْتَحَقِّينَ فَإِنَّهُ مَالٌ لَا يَتَعَيَّنُ مَالِكُهُ، وَالسُّلْطَانُ لَا يَصْرِفُهُ فِي مَحَلِّهِ فَأَخْذُهُ وَتَفْرِيقُهُ أَوْلَى، وَهَذَا مَحْمَلُ مَا أَخَذَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ
الرَّابِعُ: أَنْ يَأْخُذَ مِمَّنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَلَالٌ وَيُنْفِقُ كَمَا فِي أَكْثَرِ خُلَفَاءِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه خُذْ مَا أَعْطَاك السُّلْطَانُ فَإِنَّ مَا تَأْخُذُهُ مِنْ الْحَلَالِ أَكْثَرُ وَأَمَّا مَالُ سَلَاطِينِ زَمَانِنَا فَإِمَّا حَرَامٌ أَوْ أَكْثَرُ وَلَيْسَ فِي عَصْرِ السَّلَفِ إذْلَالٌ وَسُؤَالٌ وَلَا هُمْ يَسْكُتُونَ عَنْ الْحَقِّ لِأَجْلِ عَطَائِهِمْ، وَفِي زَمَانِنَا عَلَى الْعَكْسِ فَيُؤَدِّي الْقَبُولُ إلَى الْمَعْصِيَةِ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ (وَهَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ وَزَادَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ) وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ إلَّا بِمِثْلِهِ وَلَمْ يُوجَدْ هَا هُنَا إلَّا غَلَبَةُ الظَّنِّ فَلَمْ يَجِبْ الِاحْتِرَازُ بَلْ يُسْتَحَبُّ، وَفِي الْخَانِيَّةِ قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِ الْوَالِي لِيَكُونَ تَغَيُّرًا عَلَى الْغَاصِبِ، وَسُئِلَ عَنْ الْأَكْلِ مِنْ طَعَامِ السُّلْطَانِ وَالظَّلَمَةِ وَأَخْذُ الْجَائِزَاتِ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّى عِنْدَ الْأَخْذِ وَالْأَكْلِ فَإِنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ حَلَالٌ يَأْخُذُ وَيَتَنَاوَلُ وَإِلَّا فَلَا، وَعَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْحَكِيمِ أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ يَأْخُذُ جَائِزَةَ السُّلْطَانِ، وَكَانَ يَسْتَقْرِضُ جَمِيعَ حَوَائِجِهِ، وَمَا يَأْخُذُ مِنْ الْجَائِزَةِ كَانَ يَقْتَضِي بِهَا دَيْنَهُ
وَالْحِيلَةُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا ثُمَّ يَنْقُدَ ثَمَنَهُ مِنْ أَيِّ مَالٍ أَحَبَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله عَنْ الْحِيلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا فَأَجَابَنِي بِمِثْلِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّ الْمُبْتَلَى بِطَعَامِ السُّلْطَانِ أَوْ الظَّلَمَةِ يَتَحَرَّى إنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ حِلُّهُ قَبِلَهُ وَإِلَّا فَلَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ» الْحَدِيثَ، وَجَوَابُ الْإِمَامِ فِيمَنْ بِهِ وَرَعٌ وَصَفَاءُ قَلْبٍ يَنْظُرُ
بِنُورِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَيُدْرِكُ بِالْفِرَاسَةِ قَالَ: مَا أَكَلْت طَعَامًا حَرَامًا قَطُّ فَإِنَّهُ مَا قُدِّمَ إلَيَّ إلَّا، وَقَدْ شَهِدْت بِحِلِّهِ (وَفِي بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَخْذِ الْجَائِزَةِ مِنْ السُّلْطَانِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مِنْ الْحَرَامِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ) مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مِنْ الْحَلَالِ لِكَوْنِ مَا فِي يَدِهِ حَرَامًا فِي الْعَادَةِ (أَمَّا مَنْ أَجَازَهُ فَقَدْ ذَهَبَ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ إنَّ السُّلْطَانَ) الْجَائِرَ (يُصِيبُ مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَمَا أَعْطَاك فَخُذْ فَإِنَّمَا يُعْطِي مِنْ الْحَلَالِ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْخَلْطِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (وَرَوَى عُمَرُ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَلْيَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى» فِي الْحَاشِيَةِ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ شَيْئًا نَكِرَةٌ تَعُمُّ جَائِزَةَ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ لَكِنْ فِيهِ ضَعْفٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي هُوَ مُتَيَقِّنُ الْحُرْمَةِ مُسْتَثْنًى مِنْهُ فَإِذَا خَصَّ الْبَعْضَ يَكُونُ ظَنِّيَّ الدَّلَالَةِ فِي الْبَاقِي انْتَهَى
لَا يَخْفَى أَنَّ النَّكِرَةَ فِي الْإِثْبَاتِ لَيْسَ لَهَا عُمُومٌ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْمُخَصِّصَ هُوَ الْعَقْلُ كَتَخْصِيصِ الْعَقْلِ الصِّبْيَانَ وَالْمَجَانِينَ مِنْ خِطَابَاتِ الشَّرْعِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ مِنْ قَبِيلِ مَعْلُومِيَّةِ الْقَدْرِ الْمُخْرَجِ فَحِينَئِذٍ قَطْعِيٌّ فِي الْبَاقِي وَلَوْ سُلِّمَ فَالْمَطْلَبُ ظَنِّيٌّ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ (وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بَأْسًا بِالْأَخْذِ مِنْ الْأُمَرَاءِ) مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ الْحُرْمَةَ (وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت هَدَايَا الْمُخْتَارِ) هُوَ مَلِكٌ مَشْهُورٌ بِالظُّلْمِ وَالْجَوْرِ فِي زَمَانِ وِلَايَتِهِ حَتَّى ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْمُصَنِّفِ لَكِنْ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ بِمُلَاحَظَةِ مَا سَبَقَ مِنْ التَّفْصِيلِ فِي الْأَخْذِ (تَأْتِي إلَى ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَيَقْبَلَانِهَا وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ هَدَايَا الْأُمَرَاءِ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ أَنَّ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ خَرَجَ إلَى زُهَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيِّ وَكَانَ) زُهَيْرٌ (عَامِلًا عَلَى حُلْوَانٍ) حَالَ كَوْنِهِ (يَطْلُبُ جَائِرَتَهُ) أَيْ حَقَّهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ (هُوَ وَأَبُو ذَرٍّ الْهَمْدَانِيُّ قَالَ مُحَمَّدٌ وَبِهِ) بِالْجَوَازِ (نَأْخُذُ مَا لَمْ نَعْرِفْ شَيْئًا مِنْ عَطَائِهِ حَرَامًا بِعَيْنِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ) لَا فِعْلُهُ وَعَمَلُهُ؛ لِأَنَّهُ يُفْتِي، وَلَا يَعْمَلُ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَأَفْتَيَا بِالْجَوَازِ، وَأَخَذَا مِنْهُ (انْتَهَى)
(وَهَكَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ وَزَادَ) فِيهِ (وَأَصْحَابُهُ بَعْدَ) ذِكْرِ (أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَعَلَّك) لَمَّا ادَّعَى الْمُصَنِّفُ عَدَمَ إمْكَانِ الْوَرَعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْجَمِيعِ وَأَثْبَتَهُ بِبُرْهَانٍ إنِّيٍّ أَرَادَ إثْبَاتَهُ بِبُرْهَانٍ لَمِّيٍّ فَقَالَ (وَلَعَلَّك يَخْتَلِجُ
فِي قَلْبِك مَا سَبَبُ امْتِنَاعِ الْوَرَعِ عَنْ الشُّبُهَاتِ، وَالْأَخْذِ بِالْقَوْلِ الْأَحْوَطِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَنَقُولُ: سَبَبُهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ الْأَوَّلُ غَلَبَةُ الْجَهْلِ عَلَى التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ وَالْأُجَرَاءِ وَالشُّرَكَاءِ فِي الْأَصْلِ فَقَطْ) أَيْ رَأْسِ الْمَالِ (أَوْ الْغَلَّةِ) أَيْ الْمُضَارَبَةِ مَثَلًا (فَلَا يُرَاعُونَ شَرَائِطَ الشَّرْعِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ فَتَفْسُدُ أَوْ تَبْطُلُ أَوْ تُكْرَهُ فَيَكُونُ مَسْكُوبُهُمْ حَرَامًا) فِي الْبَاطِلِ (أَوْ خَبِيثًا) فِي الْفَاسِدِ وَالْمَكْرُوهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ خُبْثٍ فِيهِ بَحْثٌ مِيزَانِيٌّ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّ عُمُومَ الْأَشْخَاصِ فِي عُمُومِ الْأَزْمَانِ بِعُمُومِ التِّجَارَاتِ يَعْنِي الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ فَظَاهِرٌ أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ، وَأَنَّهُ سُوءُ ظَنٍّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَكُلُّنَا مَأْمُورُونَ بِحُسْنِ الظَّنِّ، وَإِنْ أُرِيدَ الْبَعْضُ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِالِامْتِنَاعِ بَلْ الْجَوَازَ بَلْ الْوُقُوعَ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضٍ، وَأَنْتَ لَوْ أَنْصَفْتَ وَجَرَّبْتَ لَوَجَدْت كَثِيرًا عَالِمًا بِأَحْكَامِ التِّجَارَاتِ، وَعَامِلًا بِهِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْأَصْلَ إذَا كَانَ يَقِينِيًّا فَلَا يُغَيِّرُهُ إلَّا يَقِينٌ مِثْلُهُ فَتَأَمَّلْ.
(وَالثَّانِي غَلَبَةُ الظُّلْمِ مِنْ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالتَّزْوِيرِ وَنَحْوِهَا) كَالرِّبَا لَا يَخْفَى أَنَّ فِيهِ النَّظَرَ السَّابِقَ.
(الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ: أَنَّ قِوَامَ الْبَدَنِ وَانْتِظَامَ الْمَعَاشِ بِالنُّقُودِ وَالْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ) مِنْ الْفَوَاكِهِ (وَالْغَالِبُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ الدَّرَاهِمُ، وَقَدْ صَغَّرُوهَا حَتَّى لَا يَبْلُغَ أَرْبَعَةٌ مِنْهَا وَزْنَ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ شَرْعِيٍّ وَالطَّامِعُونَ) مِنْ الطَّمَعِ (مِنْ أَخِسَّاءَ) كَصَحِيحٍ وَأَصِحَّاءَ (الْفَسَقَةِ وَالْكَفَرَةِ يَقْطَعُونَهَا حَتَّى صَارَ الْمَقْطُوعُ فِي الدَّرَاهِمِ غَالِبًا عَلَى غَيْرِهِ وَجَعَلُوهَا) أَيْ الدَّرَاهِمَ (مِنْ الْمَعْدُودَاتِ فِي التَّبَايُعِ وَالِاسْتِقْرَاضِ) وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِوَزْنِهَا قَلَّ أَوْ جَلَّ (وَهَجَرُوا وَزْنَهَا) الْمُعْتَدَّ بِهِ فِي أَصْلِ الشَّرْعِ كَمَا قَالَ (وَالْفِضَّةُ وَزْنِيَّةٌ أَبَدًا) كَالذَّهَبِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ (لِنَصِّ الشَّارِعِ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى وَزْنِيَّتِهَا (فَلَا يَتَبَدَّلُ بِالْعُرْفِ) إذْ الْعُرْفُ لَا يُغَيِّرُ مَا عَيَّنَهُ الشَّارِعُ كَمَا قَالُوا: الرَّأْيُ فِي مَعْرِضِ النَّصِّ غَيْرُ صَحِيحٍ لِاسْتِلْزَامِ نَسْخِ النَّصِّ بِالْعَادَةِ فَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ مُقَيَّدٌ بِمَا لَمْ يَقَعْ نَصٌّ مِنْ الشَّارِعِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ بِتَقْدِيمِ الْعُرْفِ عَلَى الشَّرْعِ فِي الْأَيْمَانِ مَثَلًا فَمِنْ قَبِيلِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمَجَازِيِّ بِقَرِينَةِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ (إذْ شَرْطُ اعْتِبَارِهِ) أَيْ الْعُرْفِ (عَدَمُ النَّصِّ) وَهَا هُنَا مَوْجُودٌ
فَإِنْ قِيلَ: اعْتِبَارُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ النَّصِّ بَلْ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ
قُلْت: قَالَ فِي الْأَشْبَاهُ أَيْضًا عَنْ الْعَلَاءِ: لَمْ أَجِدْ هَذَا الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ أَصْلًا، وَلَا بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ بَعْدَ طُولِ الْبَحْثِ وَكَثْرَةِ الْكَشْفِ وَالسُّؤَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مَوْقُوفًا عَلَيْهِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ الدَّرَاهِمِ وَزْنِيَّةً أَبَدًا (مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَرِوَايَةٌ ظَاهِرَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (اعْتِبَارُ الْعُرْفِ فَقَطْ مُطْلَقًا) وُجِدَ فِي خِلَافِهِ نَصٌّ أَوْ لَا بِشَرْطِ كَوْنِ الْعُرْفِ مَبْدَأً وَسَبَبًا لِنَصِّ الشَّارِعِ بِالْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ
عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيمُ الْعُرْفِ عَلَيْهِ مِنْ الْعَاقِلِ فَكَيْفَ مِنْ أَبِي يُوسُفَ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ لَا يَخْفَى بِنَاءً عَلَى هَذَا الشَّرْطِ كَوْنُهُ فِي خِلَافِ النَّصِّ رَسْمًا مُجَرَّدًا؛ إذْ مَرْجِعُهُ نَصٌّ أَيْضًا قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ فِي قَوْلِهِ الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ عَنْ إجَازَةِ الظَّهِيرِيَّةِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعُرْفُ فِي كَوْنِهِ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا، وَأَمَّا الْمَنْصُوصُ عَلَى كَيْلِهِ أَوْ وَزْنِهِ فَلَا اعْتِبَارَ بِالْعُرْفِ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ثُمَّ قَالَ - بُعَيْدُ مَسْأَلَةٍ -: وَهَذَا ضَعِيفٌ وَبَعِيدٌ؛ لِأَنَّ التَّعَامُلَ بِخِلَافِ نَصٍّ لَا يُعْتَبَرُ (فَإِذَا كَانَتْ) الْفِضَّةُ (وَزْنِيَّةً أَبَدًا) وَافَقَ الْعُرْفُ أَوْ خَالَفَ (وَيَلْزَمُ بَيَانُ وَزْنِهَا فِي التَّبَايُعِ وَالِاسْتِقْرَاضِ) لَكِنْ لَوْ كَانَ مَوْزُونًا عِنْدَ ضَرْبِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ كَمَا فِي زَمَانِنَا فَالظَّاهِرُ كِفَايَةُ الْعَدَدِ الْمَحْضِ لَا سِيَّمَا، وَقَدْ انْضَمَّ إلَيْهِ عُمُومُ الْبَلْوَى (لِأَنَّ بَيَانَ مِقْدَارِ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُشَارًا إلَيْهِ) كَبِعْتُ هَذَا التَّمْرَ (شَرْطُ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ) كَالْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الثَّمَنِ مُفْسِدَةٌ لِلْبَيْعِ (وَمِقْدَارُ الْوَزْنِيِّ لَا يُعْلَمُ بِالْعَدَدِ كَالْعَكْسِ) أَيْ كَمَا أَنَّ مِقْدَارَ الْعَدَدِيِّ لَا يُعْلَمُ بِالْوَزْنِ، وَلَوْ كَانَ أُفْرِدَ الْمَعْدُودُ عَلَى الْوَزْنِ عِنْدَ الضَّرْبِ وَالصَّوْغِ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا فِيهِ فَيَنْبَغِي الْجَوَازُ سِيَّمَا فِيمَا عَمَّتْ فِيهِ الْبَلْوَى الْمُقْتَضِيَةُ فَسَادَ بُيُوعَاتِ الْعَوَامّ وَالْخَوَاصِّ وَخُبْثَ تِجَارَاتِهِمْ فَافْهَمْ (فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ وَزْنَهُ يَفْسُدُ الْبَيْعُ وَالِاسْتِقْرَاضُ وَالْإِجَارَةُ وَنَحْوُهَا وَلَا مُخَلِّصَ وَلَا حِيلَةَ فِي هَذَا إلَّا التَّمَسُّكُ بِالرِّوَايَةِ الضَّعِيفَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله) وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالْأَقْوَالِ الصَّحِيحَةِ لَا سِيَّمَا بِالْإِجْمَاعِ اللَّازِمِ بِمَعِيَّةِ الرِّوَايَةِ الظَّاهِرَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله مَعَهُمَا وَإِذَا عَرَفْت مَا سَبَقَ آنِفًا فَاعْرِفْ أَيْضًا أَنَّهُ وَقَعَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ عَنْ الْبَحْرِ الرَّائِقِ وَعَنْ الثَّانِي اعْتِبَارُ الْعُرْفِ مُطْلَقًا وَرَجَّحَهُ الْكَمَالُ وَخَرَّجَ عَلَيْهِ سَعْدِيٌّ أَفَنْدِي اسْتِقْرَاضَ الدَّرَاهِمِ عَدَدًا وَبَيْعَ الدَّقِيقِ وَزْنًا فِي زَمَانِنَا، وَفِي الْكَافِي الْفَتْوَى عَلَى عَادَةِ النَّاسِ ثُمَّ قَالَ أَقَرَّهُ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي مُصَنِّفَ مَتْنِ الدَّارِيِّ التَّنْوِيرِ فَعَلَى هَذَا لَوْ فُرِضَ كَوْنُهُ ضَعِيفًا مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ فَرَاجِحٌ فِي الْعَمَلِ وَالْمُفْتَى بِهِ (وَأَمْرُ الْأَرَاضِيِ) الَّتِي تَتَحَصَّلُ مِنْهَا الْحُبُوبُ فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الرَّابِعُ الْمُشَارُ إلَيْهِ فِيمَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْحُبُوبُ ظَاهِرُهُ الِاسْتِغْرَاقُ لِعَدَمِ الْعَهْدِ لَا يَخْفَى أَنَّ مِنْ الْأَرَاضِيِ (فِي زَمَانِنَا) الْعُشْرِيَّةَ وَالْخَرَاجِيَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا كَثِيرًا فِي دِيَارِنَا، وَلَوْ أُرِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: فِي زَمَانِنَا فِي دِيَارِنَا فَبَعْدَ التَّسْلِيمِ لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ؛ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ سَوْقِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْأَمْكِنَةِ، وَقَدْ يُوجَدُ فِي دِيَارِ الرُّومِ وَهِيَ دِيَارُ الْمُصَنِّفِ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ أَوْ الْخَرَاجِيَّةُ الْمُنْتَقِلَةُ إلَى الْوَرَثَةِ مُطْلَقًا وَيَجْرِي عَلَيْهِ تَمَامُ أَحْكَامِ الْمِلْكِ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ اللَّامِ الْجِنْسُ بِدَلَالَةٍ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَحْذُورِ
(مُشَوَّشٌ جِدًّا إذْ أَصْحَابُهَا يَتَصَرَّفُونَ) حَاصِلُهُ أَنَّ تِلْكَ الْأَرَاضِيَ إمَّا مَمْلُوكَةٌ لِمُتَصَرِّفِيهَا أَوْ لِبَيْتِ الْمَالِ، الْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَالثَّانِي بَاطِلٌ فَالتَّشْوِيشُ فِيهَا ثَابِتٌ كَمَا سَتَعْرِفُهُ.
(فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ مِنْ الْبَيْعِ) الشَّائِعِ فِي دِيَارِنَا وَالْوَاقِعِ فِي الْقَوَانِينِ السُّلْطَانِيَّةِ هُوَ تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ لَا الْبَيْعِ بَلْ صَرَّحَ فِي مَعْرُوضَاتِ أَبِي السُّعُودِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهَا التَّصَرُّفُ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ الْوَدِيعَةِ وَالْإِرْثِ (وَالْإِجَارَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِهَا) إذْ أَمْثَالُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا تَجْرِي فِي غَيْرِ الْمِلْكِ (وَيُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا مِنْ الْمُوَظَّفَةِ) بَيَانٌ لِلْخَرَاجِ وَهُوَ الَّذِي سَمَّوْهُ رَسْمَ زَمِينٍ، وَالْمُقَاسَمَةُ يُقَالُ لَهَا فِي زَمَانِنَا الْعُشْرُ (وَالْمُقَاسَمَةُ) مَا يَكُونُ الْوَاجِبُ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ الْخَارِجِ كَالرُّبُعِ وَالْخُمُسِ، وَهَذَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ، وَالْمُوَظَّفُ مَا يَكُونُ الْوَاجِبُ شَيْئًا مُعَيَّنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُجَرَّدِ تَمَكُّنِ الزِّرَاعَةِ (إلَى الْمُقَاتِلَةِ) أَيْ الْغُزَاةِ مُتَعَلِّقٌ بِ يُؤَدُّونَ (أَوْ) لِطَائِفَةٍ (غَيْرِهَا) مِنْ الْمَصَارِيفِ غَالِبًا (مِمَّنْ عَيَّنَهُ السُّلْطَانُ) وَكُلُّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ تَصَرُّفُ الْمُلَّاكِ فَيَقْتَضِي الْمِلْكِيَّةَ (إلَّا أَنَّهُمْ إذَا بَاعُوا أَخَذَ بَعْضَ الثَّمَنِ مَنْ عَيَّنَهُ السُّلْطَانُ) .
وَجَمِيعُ هَذِهِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ يَقْتَضِي عَدَمَهَا فَيُشَوِّشُ (لِأَخْذِ الْخَرَاجِ) هُوَ مَنْ سَمَّوْهُ " بِالسَّبَاهِي " غَالِبًا وَسَمَّوْا مَا أَخَذَهُ حَقَّ الْقَرَارِ (فَإِذَا مَاتُوا) أَيْ أَصْحَابُ الْأَرَاضِي (فَإِنْ تَرَكُوا أَوْلَادًا ذُكُورًا يَرِثُونَهَا فَقَطْ دُونَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ) وَمُقْتَضَى الْمِلْكِ هُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ لَكِنْ يَقُولُونَ إنَّهُ انْتِقَالٌ عَادِيٌّ لَا إرْثِيٌّ، وَفِي قَوْلِهِ فَإِذَا مَاتُوا بِصِيغَةِ الذُّكُورِ إشَارَةٌ إلَى عَدَمِ ذَلِكَ عِنْدَ فَوْتِ الْإِنَاثِ مِنْ الْمُتَصَرِّفَاتِ (وَلَا يَقْضِي مِنْهَا) أَيْ مِنْ ثَمَنِ تِلْكَ الْأَرَاضِي (دُيُونَهُ وَلَا تَنْفُذُ وَصَايَاهُ وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكُوا أَوْلَادًا ذُكُورًا بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ أَوْلَادٌ أَصْلًا أَوْ يَكُونَ إنَاثٌ فَقَطْ (فَيَبِيعُهَا مَنْ عَيَّنَهُ السُّلْطَانُ) الْغُزَاةَ مَثَلًا لَكِنْ لَا بِتَمَامِ الْقِيمَةِ، وَلَا لِمَنْ شَاءَ بَلْ لِأَوْلَادِهِ الْإِنَاثِ ثُمَّ لِلْإِخْوَةِ ثُمَّ لِلْأَخَوَاتِ ثُمَّ وَثُمَّ عَلَى مَا رَتَّبُوا فِي قَوَانِينِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَرْدٌ مِنْ جِنْسِ مَنْ سَمَّوْهُ بِأَرْبَابِ الطَّابُو فَيَبِيعُونَ بِتَمَامِ الْقِيمَةِ لِمَنْ شَاءُوا (فَإِذَا اعْتَبَرْنَا الْيَدَ.
وَقُلْنَا: إنَّ الْأَرْضَ مِلْكٌ لِذِي الْيَدِ) ؛ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ (يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِيرَاثًا لِكُلِّ الْوَرَثَةِ) مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ إلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ (بَعْدَ أَنْ يُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ وَيُنَفَّذَ وَصَايَاهُ فَحِرْمَانُ مَا عَدَا الْأَوْلَادَ الذُّكُورَ، وَعَدَمُ الْقَضَاءِ وَالتَّنْفِيذِ ظُلْمٌ) إذْ الْفَرْضُ عَلَى تَقْدِيرِ الْمِلْكِ (وَتَصَرُّفُهُمْ) مُبْتَدَأٌ وَبَيَانُ كَوْنِهِ ظُلْمًا أَيْ تَصَرُّفُ الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ (فِيهَا) فِي الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ (وَتَصَرُّفُ مَنْ عَيَّنَهُ السُّلْطَانُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَرَثَةِ أَوْلَادٌ ذُكُورٌ تَصَرُّفٌ) خَبَرُهُ (فِي مِلْكِ الْغَيْرِ) إذْ الْمِلْكُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالذُّكُورِ فِي الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ لِمَنْ عَيَّنَهُ السُّلْطَانُ عَلَاقَةٌ فِي الثَّانِي (فَيَكُونُ الْحَاصِلُ مِنْهَا خَبِيثًا) لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَيَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى خَبَاثَتِهِ مَا (قَالَ فِي التتارخانية رَجُلٌ غَصَبَ أَرْضًا فَأَجَّرَهَا وَأَخَذَ غَلَّتَهَا أَوْ زَرَعَ الْأَرْضَ كِرَاءً) مِنْ الْحَبَّةِ (فَخَرَجَ مِنْهُ
ثَلَاثَةُ أَكْرَارٍ يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ) أَعْنِي (الْكُرَّ وَيَتَصَدَّقُ بِالْغَلَّةِ) فِي صُورَةِ الْإِجَارَةِ (وَالْكُرَّيْنِ) فِي صُورَةِ الزَّرْعِ (وَيَضْمَنُ النُّقْصَانَ) مِنْ الزِّرَاعَةِ لِرَبِّ الْأَرْضِ إنْ نَقَصَ (وَهَذَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا انْتَهَى) فَلَوْ فُرِضَ كَوْنُ تِلْكَ الْأَرَاضِي مِلْكًا لِمُتَصَرِّفِيهِمْ، وَمَنَعَ غَيْرَ الذَّكَرِ مِنْ الْأَوْلَادِ، وَمِنْ مُطْلَقِ الْوَرَثَةِ فَيَكُونُ غَصْبًا.
وَحُكْمُ الْغَصْبِ مَا سَمِعْت مِنْ التتارخانية مِنْ الْخَبَاثَةِ فِي الْمَحْصُولِ وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَيَكُونُ أَخْذُ بَعْضِ الثَّمَنِ) عِنْدَ الْبَيْعِ (أَوْ كُلِّهِ) عِنْدَ مَوْتِ الْمُتَصَرِّفِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَكَرٌ (فِي الْبَيْعِ حَرَامًا لِمَنْ عَيَّنَهُ السُّلْطَانُ) يَعْنِي إذَا بَاعَ الْأَرَاضِيَ صَاحِبُهَا أَوْ مَاتَ وَتَرَكَ وَرَثَةً لَيْسَ فِيهِمْ ذُكُورٌ وَكَذَا بَيْعُ الذُّكُورِ أَيْضًا فِي حَقِّ حِصَّةِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْوَرَثَةِ فَتَأَمَّلْ (وَبِمُرُورِ الْأَزْمَانِ) وَتَدَاوُلِ السِّنِينَ (تَخْرُجُ الْأَرَاضِي أَوْ أَكْثَرُهَا عَنْ مِلْكِ ذِي الْيَدِ بِالْكُلِّيَّةِ) لِكَوْنِ الْمَالِكِ الْأَصْلِيِّ نَسْيًا مَنْسِيًّا (وَفِيهِ) أَيْ فِي اعْتِبَارِ ذِي الْيَدِ (فَسَادٌ عَظِيمٌ) وَقِيلَ إلَى خُرُوجِ الْأَرْضِ مِنْ مِلْكِ ذِي الْيَدِ الْمَدْلُولِ لَا بِاقْتِضَاءِ إذْنٍ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ مُخَالَفَةُ الشَّرْعِ مِنْ وُجُوهٍ: حِرْمَانُ مَا عَدَا الذُّكُورَ، وَعَدَمُ قَضَاءِ الدُّيُونِ وَالتَّنْفِيذُ وَالتَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَأَخْذُ بَعْضِ الثَّمَنِ أَوْ كُلِّهِ فِي حَالِ الْبَيْعِ لِمَنْ عَيَّنَهُ السُّلْطَانُ وَكَذَا يَلْزَمُ الضَّرَرُ لِعَامَّةِ النَّاسِ لَا كُلِّهِمْ خَبِيثًا عَلَى الدَّوَامِ (وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْأَرَاضِيَ) كَأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَقُلْنَا إنَّ الْأَرَاضِيَ مِلْكٌ إلَى آخِرِهِ (لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِأَصْحَابِهَا، وَرَقَبَتُهَا لِبَيْتِ الْمَالِ؛ إذْ الْمَعْهُودُ فِي زَمَانِنَا، وَمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ) مِنْ الْأَزْمِنَةِ (مِمَّا يَعْرِفُهُ آبَاؤُنَا وَأَجْدَادُنَا أَنَّ السُّلْطَانَ إذَا فَتَحَ بَلْدَةً لَا يُقَسِّمُ أَرَاضِيهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَهَذَا جَائِزٌ؛ إذْ الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِسْمَةِ) لِلْغَانِمِينَ.
(وَ) بَيْنَ (الْإِبْقَاءِ) مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ (لِلْمُسْلِمِينَ) يَنْتَفِعُونَ بِغَلَّتِهَا (إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) فِي التتارخانية عَنْ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ إنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَسَّمَ الْكُلَّ وَتَرَكَ الْأَرْضِينَ وَجَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عَلَى الْمُقَاتِلَةِ، وَإِنْ شَاءَ نَقَلَ إلَيْهَا قَوْمًا آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَجَعَلَهَا خَرَاجِيَّةً مِنْ خَرَاجِ مُقَاسَمَةٍ أَوْ مُوَظَّفَةٍ لِيَصْرِفَ خَرَاجَهَا إلَى الْمُقَاتِلَةِ انْتَهَى.
(بِوَضْعِ الْخَرَاجِ) عَلَيْهَا الْمُوَظَّفَةِ أَوَالْمُقَاسَمَةِ عَلَى رِقَابِهَا، وَعَنْ قَاضِي خَانْ أَيْضًا الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَرَكَ الْأَرَاضِيَ فِي أَيْدِيهِمْ عِنْدَنَا، وَيَضَعُ الْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيهِمْ وَالْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَتَمَامُهُ فِيهَا (وَيَكُونُ تَصَرُّفُ ذِي الْيَدِ)
عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ (فِيهَا بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ) اللَّذَيْنِ أُشِيرَ إلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ (قَالَ فِي التتارخانية السُّلْطَانُ إذَا دَفَعَ أَرَاضِيَ لَا مَالِكَ لَهَا) بِأَنْ لَا تُمْلَكَ لِأَحَدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ بِطَرِيقِ الْخَرَاجِيَّةِ أَوْ الْعُشْرِيَّةِ (وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى أَرَاضِيَ الْمَمْلَكَةِ) وَالْأَرَاضِيَ الْأَمِيرِيَّةُ لِتَعَلُّقِ أُمُورِهَا بِالْأَمِيرِ أَوْ الْأَرْضَ الْمِيرِيَّةَ فَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ (إلَى قَوْمٍ) الظَّاهِرُ دُونَ الْمُقَاتِلَةِ وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ خَرَاجِيَّةً أَوْ عُشْرِيَّةً (لِيُعْطُوا الْخَرَاجَ جَازَ) مُوَظَّفًا كَمَا سَمَّوْهُ فِي دِيَارِنَا بِرَسْمِ زَمِينٍ أَوْ رَسْمِ جَفَّتْ أَوْ مُقَاسَمَةً وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْعُشْرِ سَوَاءٌ كَانَ ثُمُنًا كَمَا فِي بَعْضِ الدِّيَارِ أَوْ عُشْرًا كَمَا فِي أُخْرَى أَوْ نِصْفًا كَمَا فِي بَعْضِ الْأَرَاضِي (وَطَرِيقُ الْجَوَازِ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ إمَّا إقَامَتُهُمْ) أَيْ لِقَوْمِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِمْ (مَقَامَ الْمُلَّاكِ فِي الزِّرَاعَةِ، وَإِعْطَاءُ الْخَرَاجِ) إلَى الْمَصَارِفِ كَالْمُقَاتِلَةِ لَعَلَّ الْكَلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ، أَوْ يُرَادُ مِنْ الْخَرَاجِ مَا يَعُمُّ الْعُشْرَ، وَإِلَّا فَالْإِقَامَةُ مَقَامَ الْمِلْكِ لَا تُوجِبُ كَوْنَ الْمِلْكِ مُخْتَصًّا بِالْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ بَلْ الْعُشْرِيَّةُ كَذَلِكَ لَكِنَّ ظَاهِرَ عِبَارَتِهِ كَمَا تَرَى، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِتَصْرِيحِ أَبِي السُّعُودِ مِنْ أَنَّ رَقَبَةَ أَرْضِ الْمَمْلَكَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ تَصَرُّفُهَا مُفَوَّضٌ إلَى الرَّعَايَا يُعْطُونَ خَرَاجَهَا مُوَظَّفَهَا عَلَى رَسْمِ جَفَّتْ وَخَرَاجَ مُقَاسَمَتِهَا بِاسْمِ الْعُشْرِ وَأَشَارَ إلَى ثَانِي الشَّيْئَيْنِ بِقَوْلِهِ:(أَوْ الْإِجَارَةُ) فَعَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إمَّا إقَامَتُهُمْ فَالْمُؤَجِّرُ هُوَ السُّلْطَانُ أَوْ وُكَلَاؤُهُ، وَالْأُجْرَةُ (بِقَدْرِ الْخَرَاجِ) أَيْ مَحْصُولِ الْأَرْضِ أَيْ عَلَى طَاقَةِ الْأَرْضِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ بَيَانَ الْمُدَّةِ شَرْطٌ فِي الْإِجَارَةِ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَاللَّازِمُ فِي الْإِجَازَةِ الْفَاسِدَةِ هُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ إطْلَاقُ مُطْلَقِ الْجَوَازِ.
وَأَيْضًا يَلْزَمُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ بِمُجَرَّدِ التَّمَكُّنِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ الْمَنْفَعَةَ بَلْ إنْ زَرَعَ فَأَصَابَتْ الزَّرْعَ آفَةٌ
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا، فَأَصَابَتْ الزَّرْعَ آفَةٌ فَهَلَكَ، أَوْ غَرِقَتْ الْأَرْضُ، وَلَمْ تُنْبِتْ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ تَامًّا ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ قَبَضَ الْأَرْضَ، وَلَمْ يَزْرَعْهَا حَتَّى مَضَتْ السَّنَةُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَمَامُ الْأَجْرِ، وَالشَّائِعُ فِي زَمَانِنَا عَدَمُ الْأَجْرِ عِنْدَ عَدَمِ الزَّرْعِ وَلَوْ صَلَحَتْ الْأَرْضُ لِلزِّرَاعَةِ نَعَمْ يَأْخُذُونَ رَسْمَ الزَّمِينِ مُطْلَقًا (وَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ خَرَاجًا فِي حَقِّ الْإِمَامِ أُجْرَةً فِي حَقِّهِمْ انْتَهَى) فَيَصْرِفُهُ مَصْرِفَ الْخَرَاجِ فَلَا يُصْرَفُ إلَى مَا لَا يَجُوزُ صَرْفُ الْخَرَاجِ إلَيْهِ فَمَا فِي بَعْضِ الرَّسَائِلِ عَنْ أَبِي السُّعُودِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ جَوَازِ أَيِّ مَحَلٍّ أَرَادَ فَمَحَلُّ خَفَاءٍ (فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ) مِنْ إقَامَةِ الْمُلَّاكِ وَالْإِجَارَةِ (لَا يَجْرِي فِيهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَالشُّفْعَةُ وَالْوَقْفُ وَالْإِرْثُ وَنَحْوُهَا) مِنْ الرَّهْنِ الْوَدِيعَةِ وَالْإِعَارَةِ (أَمَّا عَلَى) الْوَجْهِ (الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ إقَامَتَهُمْ مَقَامَ الْمُلَّاكِ لِضَرُورَةِ صِيَانَةِ حَقِّ الْمُقَاتِلَةِ عَنْ الضَّيَاعِ أَعْنِي الْخَرَاجَ) تَفْسِيرٌ لِلْحَقِّ (فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا) ؛ إذْ الضَّرُورَةُ تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا يَرِدُ عَلَيْهِ إرْثُ الذُّكُورِ إلَّا أَنْ يُدَّعَى: الْمَانِعُ مِنْ الْإِنَاثِ عَدَمُ اقْتِدَارِهِنَّ عَلَى التَّصَرُّفِ بِأَنْفُسِهِنَّ فَفِيهِ مَا فِيهِ فَتَأَمَّلْ لَكِنْ إذَا قِيلَ أَمَّا الْمُقِيمُ أَيْ السُّلْطَانُ إذَا أَقَامَ هَكَذَا يَعْنِي بِإِقَامَةِ الْآبَاءِ ابْتِدَاءً وَالْأَوْلَادِ الذُّكُورِ بَعْدَ انْتِقَالِهِمْ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ لَكِنْ يَرِدُ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ تَجُوزَ إقَامَتُهُمْ فِي حَقِّ جَمِيعِ مَا ذَكَرَ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَظَاهِرُ سَوْقِهِ عَدَمُ جَوَازِ ذَلِكَ لِلسُّلْطَانِ لَعَلَّ الْحَقَّ جَوَازُ كُلِّ ذَلِكَ لِلسُّلْطَانِ إنْ رَأَى ذَلِكَ لِمَا فِي الْفَتَاوَى الزَّيْنِيَّةِ عَنْ الزَّيْلَعِيِّ أَنَّ لِلْإِمَامِ بَيْعَ عَقَارِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ مُطْلَقًا وَعَلَى الْمُفْتَى بِهِ لِحَاجَةٍ أَوْ
مَصْلَحَةٍ
ثُمَّ ظَاهِرُ مَا فِي الْخُلَاصَةِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ مُطْلَقًا، وَصَرَّحَ الزَّيْلَعِيُّ بِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَامَّةً، وَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ
فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَالِاعْتِيَاضُ عَنْ الْمُشْتَرَكِ الْعَامِّ جَائِزٌ مِنْ الْإِمَامِ؛ وَلِهَذَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ صَحَّ بَيْعُهُ انْتَهَى
فَقَوْلُهُ شَيْئًا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ الْمَنْقُولَ وَغَيْرَهُ كَالْعَقَارِ وَالدُّورِ وَالْأَرَاضِي لِحَاجَةٍ أَوْ لَا انْتَهَى كَلَامُ الزَّيْنِيَّةِ مُلَخَّصًا، وَكَذَا فِي الْأَشْبَاهِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا الْأَرَاضِي الَّتِي بَاعَهَا السُّلْطَانُ وَحُكِمَ بِصِحَّةِ بَيْعِهَا ثُمَّ وَقَفَهَا الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ شَرَائِطِهِ ثُمَّ قَالَ عَنْ ابْنِ الْهُمَامِ: لِلْإِمَامِ الْبَيْعُ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ، وَتَمَامُهُ فِيهِمَا (وَأَمَّا الثَّانِي فَظَاهِرٌ) إذْ بَيْعُ الْمُسْتَأْجَرِ وَهِبَتُهُ وَنَحْوُهُمَا لَا يَجُوزُ؛ إذْ لَا مِلْكَ لَهُمْ حَتَّى يَتَصَرَّفُوا فِيهِ (فَيَكُونُ بَيْعُ ذِي الْيَدِ بَاطِلًا، وَثَمَنُهَا حَرَامًا وَرِشْوَةً) وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ قَاعِدَةُ الْفِقْهِ أَنْ يَكُونَ بَيْعًا فُضُولِيًّا مَوْقُوفًا فَلَا يَكُونُ الثَّمَنُ رِشْوَةً بَلْ مِلْكًا لِبَيْتِ الْمَالِ إنْ فُرِضَ التَّجْوِيزُ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ وَالْإِيرَادُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَتَبْقَى الْأَرْضُ كَمَا كَانَتْ لَكِنْ فِي مَعْرُوضَاتِ أَبِي السُّعُودِ لَا يَجْرِي فِيهَا بَيْعٌ وَلَا شِرَاءٌ، وَإِعْطَاءُ الْقُضَاةِ حُجَّةَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بَاطِلٌ مَحْضٌ فَلَوْ وَقَعَ مِثْلُهُ يُقَالُ: فَوَّضَ مُتَصَرِّفُهَا فُلَانٌ إلَى فُلَانٍ بِمُقَابَلَةِ دَرَاهِمِ كَذَا بِإِذْنِ صَاحِبِ الْأَرْضِ أَيْ الْمُقَاتِلَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالسَّبَاهِي، وَنُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ فَرَاغَ حَقِّ التَّصَرُّفِ بِمُقَابَلَةِ شَيْءٍ ثُمَّ إذْنُ " السَّبَاهِيُ " لَيْسَ أَمْرًا مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ
وَعَنْهُ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَخْذُ شَيْءٍ لِحَقِّ التَّصَرُّفِ ثُمَّ أَعْطَاهُ السَّبَاهِيُ بِالطَّابُو لَيْسَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ، وَمَا أَخَذَهُ أُجْرَةً مُعَجَّلَةً لِلْأَرْضِ فَلَا لَكِنْ لَا يُعْلَمُ وَجْهُ عَدَمِ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ فِي أَخْذِ الْمُتَصَرِّفِ السَّابِقِ شَيْئًا فِي مُقَابَلَةِ فَرَاغِ التَّصَرُّفِ بَلْ اللَّائِحُ مِنْ قَوَانِينِ الشَّرْعِ كَوْنُهُ رِشْوَةً
وَنُقِلَ عَنْ فَتَاوَى ابْنِ كَمَالٍ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَاحِدٌ مِنْ صَاحِبِ التَّيْمَارِ وَالْمُتَصَرِّفِ السَّابِقِ لِشَيْءٍ مِنْ رَقَبَةِ الْأَرْضِ فَلَا يَمْلِكَانِ نَحْوَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَقْفِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ الْإِعَارَةُ لَكِنَّ قَوْلَهُ وَالْإِعَارَةُ مَحَلُّ بَيَانٍ كَمَا فُهِمَ مِمَّا سَبَقَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بِحَسَبِ الْقَانُونِ فَجَائِزٌ الْبَيْعُ وَالْإِرْثُ لِأَوْلَادِهِ الذُّكُورِ، وَهُوَ أَيْضًا كَمَا تَرَى وَفِي رِسَالَةٍ مَنْسُوبَةٍ إلَى الْمُفْتِي الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ بَهَائِيٍّ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ تَقْسِيمُ أَرَاضِي الْمَمْلَكَةِ بِطَرِيقَتَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَرَاضِيَ لَا مَالِكَ لَهَا فَيُعْطِيَهَا الْإِمَامُ لِرَجُلٍ لِيَقُومَ عَلَيْهَا كَالْمَالِكِ وَيُعْطِيَ الْخَرَاجَ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمَالِكَ إنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْخَرَاجِ وَالزِّرَاعَةِ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ مَا مَلَّكَهُ، وَإِنَّمَا أَقَامَهُ مَقَامَ الْمَالِكِ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ لَكِنْ يَأْخُذُ الْخَرَاجَ مِنْ نَصِيبِ الدَّهْقَانِيَّةِ، وَكَذَا الْإِمَامُ يُؤَاجِرُهَا، وَيَأْخُذُ الْخَرَاجَ مِنْ الْأُجْرَةِ ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ بَاعَ وَأَعْطَى الثَّمَنَ لِلْمَالِكِ، وَأَخَذَ الْخَرَاجَ مِنْ الْمُشْتَرِي جَازَ قِيلَ: جَوَازُ الْبَيْعِ قَوْلُهُمَا وَقِيلَ قَوْلُهُ انْتَهَى
قَوْلُهُ: وَلَوْ بَاعَ إلَخْ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى تَصْحِيحِ النَّقْلِ لِمَا فِي بُيُوعِ الصُّرَّةِ عَنْ الْمِنَحِ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَرَاضِي الْأَمِيرِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا عُوَارٌ فِي أَيْدِي الرَّعَايَا، وَلَا تَصِيرُ مِلْكًا لِأَحَدٍ إلَّا إذَا مَلَّكَهَا الْإِمَامُ إلَيْهِ، وَلِمَا فِيهِ أَيْضًا عَنْ خِزَانَةِ الْفَتَاوَى: لَوْ بَاعَ الْإِمَامُ هَذِهِ الْأَرَاضِيَ جَازَ، وَإِنْ أَجَّرَهَا جَازَ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ الْبَيْعَ إلَى آخِرِهِ فَتَأَمَّلْ فِيهِ وَبَعْدَ اللَّتَيَّا وَاَلَّتِي أَنَّ مَا اُعْتِيدَ فِي زَمَانِنَا وَجَرَى عَلَيْهِ قَوَانِينُ سَلَاطِينِنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ بَلْ تَفْوِيضُ تَصَرُّفٍ وَفَرَاغَةٍ فَلَا يَرِدُ إشْكَالُ الْمُصَنِّفِ لَكِنْ يَرْجِعُ الْكَلَامُ إلَى أَنَّ مَا أَخَذَهُ الْمُتَصَرِّفُ السَّابِقُ مِنْ الَّذِي فَرَغَ إلَيْهِ شَيْءٌ بَلْ مَا أَخَذَهُ السَّبَاهِيُ أَيْضًا شَيْءٌ لَا يَخْلُو عَنْ كَوْنِهِ رِشْوَةً كَمَا أُشِيرَ، وَلَا يُفِيدُ تَسْمِيَتُهُ بِالْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ؛ إذْ الْمُسْتَأْجِرُ الثَّانِي لَا يُعَطِّلُهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ كَالْأَوَّلِ، وَلَمْ أَقِفْ بَعْدَ تَتَبُّعِ كَثِيرٍ عَلَى رِوَايَةٍ صَرِيحَةٍ، وَلَا بَعْدَ تَأَمُّلٍ عَلَى دِرَايَةٍ صَحِيحَةٍ عَلَى وَجْهٍ شَرْعِيٍّ، وَقَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى، وَقِوَامُ الْوُجُودِ، وَبَقَاءُ الْعَالَمِ مُحْتَاجٌ ضَرُورِيٌّ إلَى الْأَرَاضِي وَالْعُشْرِ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - يُرِيدُ بِهِمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمْ الْعُسْرَ فَلَا جَرَمَ إمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذِهِ الرِّشْوَةَ جَائِزٌ كَمَا فِي صُوَرِهَا الْجَائِزَةِ لِلضَّرُورَةِ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ جُوِّزَ مِنْ السُّلْطَانِ أَخْذُ شَيْءٍ فِي بَدَلِ الْفَرَاغِ
لِمَصْلَحَةٍ
وَتَصَرُّفُهُ فِيمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلرَّعَايَا جَائِزٌ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ: تَصَرُّفُ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ
بِالْمَصْلَحَةِ
وَيَدَّعِي عَدَمَ مُخَالَفَتِهِ لِلشَّرْعِ سِيَّمَا فِي حَقِّ تِلْكَ الْأَرَاضِي بِمَا نُقِلَ عَنْ الزَّيْنِيَّةِ قَرِيبًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِلْعَطَاءِ بِإِثْبَاتِ الْإِمَامِ فِيمَنْ لَهُ إعْطَاءٌ فِي الدِّيوَانِ هَذَا مَبْلَغُ فَهْمِي وَالْعِلْمُ
عِنْدَ اللَّهِ
(وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ تِلْكَ الْأَرَاضِي لِبَيْتِ الْمَالِ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ لِأَصْحَابِهَا (أَصْلَحُ الِاحْتِمَالَيْنِ) أَحَدُهُمَا هَذَا وَثَانِيهَا كَوْنُهَا لِأَصْحَابِهَا لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ وُجُودُ أَصْلِ الصَّلَاحِ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا عَلَى قَاعِدَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ وَلَيْسَ لَهُ وَجْهُ صَلَاحٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ إلَّا أَنْ يُدَّعَى كَوْنُهُ بِمَعْنَى أَصْلِ الْفِعْلِ أَوْ يُقَالُ: إنَّ قَوْلَهُ هَذَا إشَارَةٌ إلَى طَرِيقِ الْإِجَارَةِ فَحِينَئِذٍ الِاحْتِمَالُ الْآخَرُ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ مِنْ الْمَذْكُورَيْنِ فِي التتارخانية لَكِنْ يَرِدُ حِينَئِذٍ أَنَّ قَوْلَهُ (وَأَقَلُّ مُخَالَفَةٍ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ) يَقْتَضِي أَنَّ أَوَّلَ الِاحْتِمَالَيْنِ أَبْعَدُ أَوْ بَعِيدٌ مِنْ الشَّرْعِ، وَفِي ثَانِيهِمَا قَلِيلُ مُخَالَفَةٍ لِلشَّرْعِ، وَالْحُكْمُ سِيَّمَا مِنْ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَا فِي كُتُبِ الشَّرْعِ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ لَيْسَ فِي طَوْرِ الصِّنَافِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ (وَضِرَرًا لِلنَّاسِ) يُلَائِمُ الْأَوَّلَ (فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ مَفْسَدَتَانِ رُوعِيَ أَعْظَمُهُمَا ضَرَرًا بِارْتِكَابِ أَخَفِّهِمَا لِمَا فِي الْأَشْبَاهِ عَنْ الزَّيْلَعِيِّ أَنَّ مَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ، وَهُمَا مُتَسَاوِيَتَانِ يَأْخُذُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَإِنْ اخْتَلَفَا يَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْحَرَامِ لَا تَجُوزُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ ارْتِكَابِ الضَّرَرِ الْجُزْئِيِّ لِلْوَصْلَةِ إلَى النَّفْعِ الْكُلِّيِّ (فَيَكُونُ انْتِقَالُهَا لِلْأَوْلَادِ الذُّكُورِ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ أَيْضًا) الْمَذْكُورَيْنِ فِي التتارخانية نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ الْإِنَاثُ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْهَا بِأَحَدِهِمَا انْتَهَى
الظَّاهِرُ مُرَادُهُ لَمْ يَجْعَلْهُ السُّلْطَانُ مُنْتَقِلًا إلَى الْإِنَاثِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ قَوَانِينَ السُّلْطَانِ عَلَى إعْطَائِهِنَّ بِمَا سُمُّوا بِالطَّابُو ثُمَّ لِلْأَخِ ثُمَّ لِلْأُخْتِ ثُمَّ لِلْأَبِ ثُمَّ لِلْأُمِّ ثُمَّ لِلشَّرِيكِ ثُمَّ لِلْوَرَثَةِ الَّذِينَ لَهُمْ أَشْجَارٌ إرْثِيَّةٌ عَلَى تِلْكَ الْأَرَاضِي ثُمَّ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ إنْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ ثُمَّ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُخَيَّرٌ (لَا بِالْإِرْثِ) ؛ وَلِهَذَا سَمَّوْا بِالِانْتِقَالِ الْعَادِيِّ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَسْمِيَةِ الْإِرْثِ فَمَجَازٌ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ سَوْقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ أَرَاضِيَ زَمَانِنَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي التتارخانية فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا تَشْوِيشٌ وَقَدْ حُكِمَ بِأَنَّهَا مُشَوَّشَةٌ فَلَا تَقْرِيبَ نَعَمْ يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَقَلُّ مُخَالَفَةٍ لَكِنْ قَدْ عَرَفْت مَا فِيهِ آنِفًا فَتَأَمَّلْ نَعَمْ فِي الصُّرَّةِ عَنْ التَّجْرِيدِ: لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُسَمِّيَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا، وَأَيْضًا إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ قَفِيزِ الطَّحَّانِ لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ فِي نَظَرِ الْمُصَنِّفِ مَعَ أَنَّ فِيهِ تَأَمُّلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا جَعْلُ بَيْعِهَا إجَارَةً فَاسِدَةً) لِعَدَمِ بَيَانِ الْمُدَّةِ (لِيَحِلَّ مِقْدَارُ أَجْرِ الْمِثْلِ لِلْبَائِعِ) وَإِنْ حَرُمَ زِيَادَتُهُ مِنْهُ (فَفَاسِدٌ جِدًّا لَا وَجْهَ لَهُ أَصْلًا) قِيلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ هَذَا رَدٌّ لِأَبِي السُّعُودِ؛ إذْ هُوَ الْجَاعِلُ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَإِفْتَائِهِ بِأَنَّ الْأَرَاضِيَ بِأَيْدِي أَصْحَابِهِمْ عَارِيَّةٌ فَبَيْعُهُمْ بَاطِلٌ، وَالثَّمَنُ حَرَامٌ اهـ لَكِنَّ الْوَاقِعَ فِي مَعْرُوضَاتِهِ رَقَبَةُ تِلْكَ الْأَرَاضِي لِبَيْتِ الْمَالِ أُعْطِيت لِلرَّعَايَا عَلَى أُسْلُوبِ الْإِجَارَةِ، وَفِي مَحَلٍّ آخَرَ عَنْ أَبِي السُّعُودِ رَقَبَتُهَا لِبَيْتِ الْمَالِ فُوِّضَ تَصَرُّفُهَا إلَى الرَّعَايَا إلَى آخِرِهِ، وَفِي مَقَامٍ آخَرَ أَيْضًا عَنْهُ فُوِّضَ تَصَرُّفُهَا لِمُتَصَرِّفِيهَا لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ وَقَفَ عَلَى رِوَايَةٍ كَذَلِكَ أَيْضًا.
(أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ فِي الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ) لِلْفَتْوَى لَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الْخُلَاصَةِ اخْتِيَارُ جَانِبِ جَوَازِهِ حَيْثُ قَالَ: وَفِي الْمُحِيطِ لَوْ قَالَ بِعْتُك مَنَافِعَ الدَّارِ شَهْرًا بِكَذَا ذَكَرَ فِي الْعُيُونِ أَنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ ثُمَّ قَالَ لِغَيْرِهِ: بِعْتُك نَفْسِي شَهْرًا بِكَذَا لِعَمَلِ كَذَا فَهُوَ إجَارَةٌ ثُمَّ قَالَ: وَعَنْ الْكَرْخِيِّ الْإِجَارَةُ لَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ثُمَّ رَجَعَ.
وَقَالَ: تَنْعَقِدُ (خُصُوصًا إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّوْقِيتُ) لَا يَخْفَى عَدَمُ التَّوْقِيتِ إنَّمَا يَضُرُّ لِصَحِيحِ الْإِجَارَةِ لَا لِفَاسِدِهَا بَلْ يَجُوزُ جَعْلُهُ إجَارَةً لِعَدَمِ التَّوْقِيتِ وَأَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْوُرُودِ لِمَا اخْتَارَهُ فِيمَا نُقِلَ عَنْ التتارخانية
(قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ: وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ) إذَا وُجِدَ التَّوْقِيتُ هَذَا دَلِيلُ الْأَوَّلِ نَعَمْ يُقَدَّمُ مَا فِي قَاضِي خَانْ فِي الْوَثَاقَةِ عَلَى الْخُلَاصَةِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا فِي قَاضِي خَانْ أَيْضًا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِجَارَةِ قَالَ لِغَيْرِهِ: اشْتَرَيْتُ مِنْك خِدْمَةَ عَبْدِك شَهْرًا بِكَذَا كَانَتْ إجَارَةً فَاسِدَةً فَافْهَمْ
(وَفِي الْعَتَّابِيَّةِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ إنْ وُجِدَ التَّوْقِيتُ) ظَاهِرُهُ فِي الصَّحِيحَةِ كَمَا عَرَفْت آنِفًا (وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْإِقَامَةَ مَقَامُ الْمُلَّاكِ) كَمَا فِي الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ فِي الْمَنْقُولِ مِنْ التتارخانية (لَيْسَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ بَلْ لِضَرُورَةِ) صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُقَاتِلَةِ، وَهَذِهِ تَرْتَفِعُ بِالْإِقَامَةِ فِي حَقِّ الزَّرْعِ وَإِعْطَاءِ الْخَرَاجِ فَقَطْ فَلَا تَتَعَدَّى إلَى الْبَيْعِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ (فَلَا يَمْلِكُ ذُو الْيَدِ الْإِجَارَةَ فِي الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْإِجَازَةُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ تِلْكَ الْإِقَامَةِ؛ إذْ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ إلَّا بِلَوَازِمِهِ وَضَرُورِيَّاتِهِ بَلْ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى الثَّانِي عِنْدَ سَلْبِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ فَالْإِقَامَةُ الْمَذْكُورَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا فِي ضِمْنِ الْإِجَارَةِ فَتَدَبَّرْ.
(وَكَذَا فِي) الطَّرِيقِ (الثَّانِي لِوَجْهَيْنِ) ، وَفِي طَرِيقِ الْإِجَارَةِ (الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْخَرَاجُ أُجْرَةً فِي حَقِّ ذِي الْيَدِ لِضَرُورَةِ عَدَمِ تَحْقِيقِ حَقِيقَتِهِ) أَيْ الْخَرَاجِ (وَمَعْنَاهُ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ (هَا هُنَا؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْخَرَاجَ (مَئُونَةُ الْأَرْضِ، وَالْمَئُونَةُ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْمَالِكِ) وَذُو الْيَدِ لَيْسَ بِمَالِكٍ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهَا لِبَيْتِ الْمَالِ (فَجَعْلُهُ) أَيْ الْخَرَاجَ (أُجْرَةً فِي حَقِّ ذِي الْيَدِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ فَقَطْ) لَا مُطْلَقًا.
أَقُولُ: الْمَفْهُومُ مِنْ السَّوْقِ الْجَوَازُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَفْظِ الْبَيْعِ عَلَى إرَادَةِ الْإِجَارَةِ مَجَازًا، وَلَا مَانِعَ فِي كَوْنِهِ مِنْ حُقُوقِ ذِي الْيَدِ أَيْضًا (وَلِهَذَا سَقَطَ وُجُوبُ بَيَانِ قَدْرِ الْأُجْرَةِ وَجَازَ مَعَ جَهَالَتِهَا فِي خَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ) دُونَ خَرَاجِ الْمُوَظَّفِ فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ، وَأَمَّا نَحْوَ الْعُشْرِ أَوْ الثُّمُنِ مِمَّا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ لِكَوْنِهِ جُزْءًا شَائِعًا فَالْجَوَازُ مَعَ عَدَمِ مَعْلُومِيَّةِ الْأُجْرَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ لَيْسَتْ بِمُعْتَبَرَةٍ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ لَا يَخْفَى أَنَّهُ خَرَّجَ بِهِ الْجَوَابَ عَنْ بَعْضِ إشْكَالٍ فِيمَا سَبَقَ فَالْأَوْلَى أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى ذَلِكَ هُنَالِكَ لَكِنْ يَجُوزُ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسَبَبِ فَسَادِ الْإِجَارَةِ.
(فَهُوَ) أَيْ مَا أَخَذَهُ مِنْ ذِي الْيَدِ هُنَا (فِي الْحَقِيقَةِ خَرَاجٌ) وَلَيْسَ بِإِجَارَةٍ (وَلِذَا) لِكَوْنِهِ خَرَاجًا فِي الْحَقِيقَةِ (لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَّا إلَى مَصَارِفِ الْخَرَاجِ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ مِنْ آثَارِ كَوْنِهِ خَرَاجًا فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَلَا يُنَافِي كَوْنَهُ إجَارَةً فِي حَقِّ ذِي الْيَدِ لَا سِيَّمَا أَنَّ أَصْلَ الْأَرْضِ لِبَيْتِ الْمَالِ فَلَوْ كَانَ إجَارَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يُنَافِي اخْتِصَاصَ الْمَصْرِفِ بِمَا ذُكِرَ (فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أُجْرَةً حَقِيقَةً، وَمِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَجُوزُ لِصَاحِبِهَا) أَيْ الْأَرَاضِي (إجَارَتُهَا) لِغَيْرِهِ قِيلَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ إجَارَةَ الْمُسْتَأْجَرِ إنَّمَا تَجُوزُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا تَجُوزُ، وَإِلَّا فَإِنَّ إجَارَةَ الْمُسْتَأْجَرِ إنْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا تَجُوزُ اتِّفَاقًا، وَقِيلَ: تَجُوزُ فِي الْعَقَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَجَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَصْلَحُ الِاحْتِمَالَيْنِ كَيْفَ وَأَنَّ ذَلِكَ فِي كُلِّ الْبِلَادِ عَلَى تَدَاوُلِ الْأَيَادِي فَلَوْ مَنَعَ بِهَذَا فَكَيْفَ سَبِيلُ الْأَصْلَحِيَّةِ وَالْأَقْرَبِيَّةِ فَهَذَا مُشْتَرِكُ الْوُرُودِ.
(وَالثَّانِي أَنَّ الْخَرَاجَ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُتَصَرِّفِ فَإِذَا كَانَ شِرَاؤُهُ اسْتِئْجَارًا، وَثَمَنُهُ أُجْرَةً مُعَجَّلَةً لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْخَرَاجَ أُجْرَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَصَرِّفِ) وَهُوَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ (بَلْ يَجِبُ حِينَئِذٍ أَنْ
يَجِبَ الْخَرَاجُ عَلَى الْبَائِعِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ) ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي مَعَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُتَصَرِّفِ وَيَكُونُ مَا أَخَذَهُ لَهُ وَإِنْ أَخَذَ بَعْضَهُ مَنْ عَيَّنَهُ السُّلْطَانُ، وَفِي قَاضِي خَانْ وَإِنْ آجَرَ أَرْضَهُ الْخَرَاجِيَّةَ كَانَ الْخَرَاجُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ خَرَاجٌ فَلَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْهُ، وَجَعْلُهُ أُجْرَةً لَا يَخْفَى أَنَّ جِنْسَ هَذَا لَا يَخْلُو عَنْ مَرْضِيِّ الْمُصَنِّفِ فَافْهَمْ وَقَدْ قِيلَ هَذَا عَلَى إقَامَةِ ذِي الْيَدِ الَّذِي هُوَ الْبَائِعُ مَقَامَ الْمُلَّاكِ عَلَى فَرْضِ مَنْعِ كَوْنِ هَذَا الِاعْتِبَارِ لِلضَّرُورَةِ تَسْلِيمًا لِلْخَصْمِ وَمُجَارَاةً لَهُ ظَاهِرًا.
وَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ ذِي الْيَدِ أَعْنِي الْبَائِعَ مُسْتَأْجِرًا كَمَا بَنَى عَلَيْهِ كَلَامَهُ فَفِيهِ تَأَمُّلٌ انْتَهَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ كَمَا أُشِيرَ أَنَّ لِلسُّلْطَانِ تَصَرُّفًا فِي الْأَرَاضِي فَيَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ لِمَنْ عَيَّنَهُ بِالْإِيجَارِ فَالْبَائِعُ الْمُؤَجِّرُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ رَبُّ الْأَرْضِ بِدُونِ إذْنِهِ لَا رَبُّ الْأَرْضِ بَلْ فِي الصُّورَةِ وَالرَّسْمِ فَقَطْ (وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ الْبَائِعَ أَوْ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يَمُوتُ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ فَتَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ) بِالْمَوْتِ (فَيَجِبُ رَدُّ الْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ لَهُ) لِانْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: إنَّ مُرَادِيَ مِنْ الْإِجَارَةِ هُوَ بِالنَّظَرِ إلَى مَا أَشَرْت إلَيْهِ مِمَّا هُوَ بِالنَّظَرِ إلَى ذِي الْيَدِ فَمَا هُوَ جَوَابُكُمْ فَهُوَ جَوَابُنَا وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ فَسْخَ الْإِجَارَةِ إنَّمَا هُوَ فِي صُورَةِ عَدَمِ وَلَدٍ ذَكَرٍ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْوَلَدُ قَائِمًا مَقَامَ الْأَبِ (فَالْحَقُّ أَنَّ بَيْعَهَا بَاطِلٌ) ظَاهِرُهُ تَفْرِيعٌ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ جَعَلَ بَيْعَهَا إجَارَةً فَاسِدَةً، وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إنْ ادَّعَى الْجَاعِلُ بَيْعًا حَقِيقِيًّا، وَقَدْ جَعَلَهُ إجَارَةً، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِلَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الذَّاتِ أَصْلًا، وَهَا هُنَا بَيْعُ تِلْكَ الْأَرَاضِي جَائِزٌ لِلسُّلْطَانِ إمَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا هُوَ عِنْدَ بَعْضٍ، أَوْ مُطْلَقًا
لِمَصْلَحَةٍ
كَمَا هُوَ عِنْدَ بَعْضٍ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ كَيْفَ، وَمِنْ جِنْسِهَا الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ وَالْخَرَاجِيَّةُ وَهُمَا يَقْبَلَانِ الْبَيْعَ فَالْمَانِعُ فِي تِلْكَ الْأَرَاضِي إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْوَصْفِ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَبَيْعُهُ فَاسِدٌ لَا بَاطِلٌ، وَلَوْ أُرِيدَ مِنْ الْبُطْلَانِ الْفَسَادُ فَأَيْضًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَالْحَقُّ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ قَبْلُ مِنْ أَنَّهُ بَيْعٌ فُضُولِيٌّ غَيْرُ مَحُوزٍ مَالِكُهُ فَيَكُونُ غَصْبًا فَتَأَمَّلْ فِيهِ (وَالْمَأْخُوذُ رِشْوَةٌ يَجِبُ رَدُّهَا إلَى مُعْطِيهَا) قَدْ عَرَفْت فِيمَا قَبْلُ مَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى، وَشِدَّةِ ضَرُورَةِ احْتِيَاجِ قِوَامِ الْبَدَنِ وَبَقَاءِ الْوُجُودِ (فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا) فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ: غَلَبَةُ الْجَهْلِ وَغَلَبَةُ الظُّلْمِ وَتَصْغِيرُ النُّقُودِ وَتَشَوُّشُ الْأَرَاضِي الَّتِي تُسْتَخْرَجُ مِنْهَا الْحُبُوبُ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْبَدَنِ.
(فَالْأَخْذُ بِالْقَوْلِ الْأَحْوَطِ) الْمُشَارِ إلَيْهِ فِيمَا قَبْلُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَالْأَخْذُ بِالْأَحْوَطِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْ هُوَ مَا اخْتَارَهُ أَبُو اللَّيْثِ مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِ الرَّجُلِ حَلَالًا جَازَ قَبُولُ هَدِيَّتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ، وَإِلَّا فَلَا كَذَا قِيلَ (فَضْلًا عَنْ الْوَرَعِ عَنْ الشُّبُهَاتِ) فَالْوَرَعُ هُنَا فَوْقَ الْأَحْوَطِ (يَسْتَدْعِي) خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: فَالْأَخْذُ (أَنْ لَا يُعَامَلَ مَعَ النَّاسِ) لِلْأَسْبَابِ الْأَرْبَعَةِ الْمُشَارِ إلَيْهَا آنِفًا الْمُفَصَّلَةِ قَبْلُ (لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْحَرَامِ بِالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ لَا يَجُوزُ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا) الظَّاهِرُ أَنَّ الْكَافَ لِلْقِرَانِ؛ إذْ لَا يُعْلَمُ تَفَاوُتُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ عَنْ الْآخَرِ (وَلَا يَصِيرَ) أَيْ الْحَرَامُ (بِهَا) بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ (حَلَالًا، وَالْخَبِيثُ يَجِبُ عَلَى مَالِكِهِ تَصَدُّقُهُ فَيَأْثَمُ) مَالِكُهُ الصُّورِيُّ (بِغَيْرِهِ) التَّصْدِيقِ أَوْ الرَّدِّ إلَى صَاحِبِهِ (مِنْ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَخْذُهُ) أَخْذُ الْخَبِيثِ (بِشِرَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ إلَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ) وَلَمْ يَكُنْ مِمَّا يُعْلَمُ صَاحِبُهُ.
(وَ) الْحَالُ (هُوَ فَقِيرٌ) أَهْلٌ لِلصَّدَقَةِ لَكِنَّ ظَاهِرَ مَا ذَكَرَ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ وَاللَّازِمُ مِنْهَا هُوَ الِاحْتِمَالُ وَالظَّنُّ وَمَا يَقْتَضِي هُوَ الْجَزْمُ وَالْيَقِينُ
لَكِنَّ طَرِيقَ الْمُصَنِّفِ هُوَ التَّقْوَى (فَيَلْزَمُ الْعُزْلَةُ عَنْ النَّاسِ) ؛ لِأَنَّك قَدْ عَرَفْت أَنَّهُ {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء: 114] فَالْمُعَامَلَاتُ وَالْأَكْلُ وَاللُّبْسُ لَا تَخْلُصُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ (وَسُكْنَى الْمَغَارَاتِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَرَتْعُ) أَكْلُ (الْكَلَأِ) الْعُشْبِ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا (وَالْعُشْبِ) الرَّطْبِ (وَلُبْسُهُمَا) وَأَمَّا نَحْوَ أَنْ يَزْرَعَ مِنْ أَرْضِهِ الْمَوْرُوثَةِ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ حَبًّا وَقُطْنًا وَنَحْوَهُ فَبَعْدَ تَسْلِيمِ إمْكَانِهِ نَادِرٌ وَمُتَعَسِّرٌ أَيْضًا وَلَيْسَ النَّادِرُ وَالْمُتَعَسِّرُ مَدَارًا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ.
(وَ) الْحَالُ (الْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ) مُحْتَاجٌ إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ طَبْعُهُ يَقْتَضِي اجْتِمَاعَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ فِي أَمْرِ مَعَاشِهِمْ لِاحْتِيَاجِ كَسْبِ الْآخَرِ (بِالطَّبْعِ) لِأَسْبَابِ الْمَعَاشِ وَقِوَامِ الْبَدَنِ؛ إذْ جِبِلَّةُ الْإِنْسَانِ تُوجِبُ الِاجْتِمَاعَ مَعَ بَنِي نَوْعِهِ؛ إذْ لَا يَعِيشُ بِمُجَرَّدِ كَسْبِهِ بِلَا انْضِمَامِ كَسْبِ الْآخَرِ (وَفِي هَذَا) الْمَذْكُورِ مِنْ الْعُزْلَةِ وَالرَّتْعِ وَاللُّبْسِ (حَرَجٌ عَظِيمٌ وَتَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ عَادَةً) الظَّاهِرُ عَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ (وَكِلَاهُمَا) الْحَرَجُ وَالتَّكْلِيفُ (مُنْتَفِيَانِ بِالنَّصِّ) مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وَ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ مَعَ أَقْسَامِهِ.
(فَتَعَيَّنَ الْأَخْذُ لَا مَحَالَةَ فِي هَذَا الزَّمَانِ) سِيَّمَا فِي هَذِهِ الدِّيَارِ لِمَا سَبَقَ (بِمَا قَالَ) مُتَعَلِّقٌ بِالْأَخْذِ (مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ الْمَشَايِخِ.
وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ) الظَّاهِرُ هُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فَتَأَمَّلْ (مِنْ جَوَازِ أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ وَرِضَاهُ) بِالتَّبَايُعِ أَوْ الِاتِّهَابِ أَوْ التَّصَدُّقِ أَوْ الْوَصِيَّةِ أَوْ نَحْوِهَا (بِعِوَضٍ وَبِلَا عِوَضٍ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ بِعَيْنِهِ حَرَامٌ) الظَّاهِرُ الْعِلْمُ بِمَعْنَى غَلَبَةِ الظَّنِّ لِمَا عَرَفْت سَابِقًا وَأَنَّهُ طَرِيقُ الْفَتْوَى؛ إذْ فِي التَّقْوَى يَجِبُ التَّحَفُّظُ عَنْ الشُّبُهَاتِ فَافْهَمْ.
(تَمَسُّكًا بِأُصُولٍ مُقَرَّرَةٍ فِي الشَّرْعِ مِنْ أَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ) حَتَّى تَجُوزَ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ بِالتَّصَرُّفِ مَعَ سَبْقِ الْخَاطِرِ، وَإِلَّا فَلَا (وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ وَأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْ مِثْلِ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ؛ إذْ مَا ذَكَرَهُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ غَلَبَةِ ظَنٍّ وَقَدْ عَرَفْت فِيمَا مَرَّ وَهُنَا أَنَّ الْغَلَبَةَ كَافِيَةٌ فِي الْعُدُولِ عَنْ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ
(وَأَنَّ الْأَثْمَانَ النُّقُودَ) غَالِبًا أَوْ؛ لِأَنَّ النُّقُودَ مُخْتَصَّةٌ بِالثَّمَنِيَّةِ ذُكِرَ عَنْ الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْأَمْوَالَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ثَمَنٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ صَحِبَهَا حَرْفُ الْبَاءِ أَوْ لَا كَانَ مُقَابِلُهَا مِنْ جِنْسِهَا أَوْ لَا، وَنَوْعٌ مَبِيعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهُوَ مَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْعُرُوضِ وَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالْمَمَالِيكِ، وَنَوْعٌ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا فِي الْعَقْدِ كَانَ مَبِيعًا، وَإِلَّا فَإِنْ صَحِبَهُ حَرْفُ الْبَاءِ، أَوْ قَابَلَهُ مَبِيعٌ فَهُوَ ثَمَنٌ (لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ لَا سِيَّمَا الصَّحِيحَيْنِ) مِنْهُمَا وَجْهُ التَّرَقِّي
يُفْهَمُ مِمَّا فِي الْأَشْبَاهِ النَّقْدُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ، وَفِي تَعْيِينِهِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ رِوَايَتَانِ إلَى آخِرِهِ فَلَوْ عَيَّنَ الْعَاقِدَانِ دِرْهَمًا مَثَلًا ثُمَّ أَرَادَ الْمُشْتَرِي تَبْدِيلَهُ بِدِرْهَمٍ آخَرَ جَازَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَعَنْ الْعِمَادِيَّةِ أَنَّهُمَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ الْأَصْلِ وَلَا يَتَعَيَّنَانِ فِيمَا يُنْتَقَضُ بَعْدَ الصِّحَّةِ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ: وَالصَّحِيحِ تَعَيُّنُهُ فِي الصَّرْفِ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ ثُمَّ قَالَ: وَيَتَعَيَّنُ فِي الْأَمَانَاتِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْغَصْبِ ثُمَّ قَالَ عَنْ الْعِنَايَةِ: إنَّ عَدَمَ تَعْيِينِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ لَا غَيْرَ فَإِنَّهُمَا يَتَعَيَّنَانِ جِنْسًا وَقَدْرًا وَوَصْفًا بِالِاتِّفَاقِ فَفِي إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ مُسَامَحَةٌ فَافْهَمْ (بَلْ الثَّمَنُ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ) حِينَ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ (لَوْ حَالًّا وَمُنَجَّزًا) فَالْمُؤَجَّلُ بِالْأَوْلَى (بِخِلَافِ الْمَبِيعِ) فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ بَعْدَ الْعَقْدِ حَتَّى لَا يَجُوزَ اسْتِبْدَالُهُ بِآخَرَ وَإِقَامَتُهُ مَقَامَهُ إلَّا بِالْفَسْخِ وَتَكَرُّرِ الْعَقْدِ (وَ) تَعْيِينِ الْأَخْذِ (بِمَا قَالَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِكَوْنِ الْفَتْوَى عَلَيْهِ فِي زَمَانِنَا) مِنْ (أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِحَرَامٍ بِعَيْنِهِ) حَرَامٌ مُعَيَّنٌ كَثَمَنِ الْمَغْصُوبِ (حَلَالٌ طَيِّبٌ إلَّا أَنْ يُشَارَ إلَيْهِ حِينَ الْعَقْدِ وَيُسَلَّمَ فَيَكُونَ) الْمَبِيعُ (مِلْكًا خَبِيثًا) وَعَنْ الْخَانِيَّةِ رَجُلٌ اشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ طَعَامًا إنْ لَمْ يُضِفْ الشِّرَاءَ إلَى الْغَصْبِ، وَلَكِنَّهُ نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْهَا حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ وَيُؤَكِّلُ غَيْرَهُ وَإِنْ أَضَافَ وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْهَا يُكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيُؤَكِّلَ غَيْرَهُ، وَلَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمِ الْوَدِيعَةِ عِنْدَهُ وَرَبِحَ فِيهَا قَالَ نُصَيْرٌ: إنْ أَضَافَ الشِّرَاءَ إلَى الْوَدِيعَةِ وَدَفَعَ الثَّمَنَ مِنْ الْوَدِيعَةِ يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ، وَإِنْ لَمْ يُضِفْ الشِّرَاءَ إلَى الْوَدِيعَةِ أَوْ نَقَدَ غَيْرَهَا لَا يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ انْتَهَى
وَفِي الْكَافِي: لَا يَتَنَاوَلُ بِكُلِّ حَالٍ مِنْ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الضَّمَانِ وَبَعْدَ الضَّمَانِ لَا يَطِيبُ الرِّبْحُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ (وَ) تَعَيَّنَ أَيْضًا الْأَخْذُ (بِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله مِنْ أَنَّ الْخَلْطَ الرَّافِعَ لِلتَّمْيِيزِ) بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ، وَقِيلَ: أَوْ يَتَعَسَّرُ (اسْتِهْلَاكٌ مُوجِبٌ لِلتَّمَلُّكِ وَالضَّمَانِ) فَإِنَّهُ بِالْإِهْلَاكِ يُتَمَلَّكُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ كَذَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو اللَّيْثِ فَلَوْ مَاتَ عَامِلٌ مِنْ عُمَّالِ السُّلْطَانِ وَأَوْصَى أَنْ تُعْطَى الْحِنْطَةُ لِلْفُقَرَاءِ إنْ مُخْتَلَطًا بِمَالِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ لِلْفَقِيرِ أَخْذُهُ بَلْ يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ إنْ مَعْلُومًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْفَقِيرُ أَنَّهُ مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ فَحَلَالٌ إلَى أَنْ تَتَبَيَّنَ حُرْمَتُهُ وَعِنْدَهُمَا فِي صُورَةِ الِاخْتِلَاطِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي اللَّيْثِ: يَحِلُّ لِلْفَقِيرِ فِي صُورَةِ الْخَلْطِ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مَعْلُومًا لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُبْقِيَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ يَفِي حَقَّ الْخُصَمَاءِ كَمَا فِي قَاضِي خَانْ (وَ) الْأَخْذُ أَيْضًا (بِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ سَبَبَ الطِّيبِ) هُوَ (وُجُوبُ الضَّمَانِ لَا أَدَاؤُهُ) لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الطِّيبِ هُنَا هُوَ الْحِلُّ عِنْدَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا سَبَقَ، وَفِي رِوَايَةٍ سَبَبُهُ أَدَاءُ الضَّمَانِ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمَغْصُوبِ بِلَا حِلِّ الِانْتِفَاعِ بِهِ قَبْلَ أَدَاءِ بَدَلِهِ أَوْ إبْرَائِهِ أَوْ تَضْمِينِ الْقَاضِي وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ الْحِلُّ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَبَتَ بِكَسْبِهِ، وَالْمِلْكُ مُجَوِّزٌ لِلتَّصَرُّفِ بِلَا تَوَقُّفٍ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ؛ وَلِذَا لَوْ وَهَبَهُ أَوْ بَاعَهُ صَحَّ، جه الِاسْتِحْسَانِ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِيَّةِ مِنْ الْأَثَرِ (نَعَمْ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ) قِيلَ اسْتِدْرَاكٌ مِمَّا يُتَوَهَّمُ مِنْ مَفْهُومِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنَّ التَّمَتُّعَ مِنْ الشُّبُهَاتِ مُمْتَنِعٌ، وَقَدْ كَانَ فِيمَا ذَكَرْتَ سَعَةٌ فَدَفَعَ هَذَا التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ نَعَمْ إلَى آخِرِهِ (لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ فَالْأَوْلَى وَالْأَحْوَطُ الِاحْتِرَازُ عَنْ بَعْضِ الشُّبُهَاتِ) لَعَلَّهُ مَا يَكُونُ قَوِيًّا، وَإِلَّا فَالْبَعْضُ الْمُطْلَقُ لَا يُمْكِنُ احْتِرَازُهُ كَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ