الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سَكَتَ السَّائِلُ عَنْ التَّنْطِيعِ لَمْ يَزِدْ الْمُفْتِي عَلَى جَوَابِهِ بِالْجَوَازِ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فَمَنْ سَدَّ بَابَ الْمَسَائِلِ حَتَّى فَاتَهُ مَعْرِفَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَكْثُرُ وُقُوعُهَا قَلَّ فَهْمُهُ وَعِلْمُهُ وَمَنْ تَوَسَّعَ فِي تَفْرِيعِ الْمَسَائِلِ وَتَوْلِيدِهَا سِيَّمَا فِيمَا يَقِلُّ وُقُوعُهَا أَوْ يَنْدُرُ فَإِنَّهُ يُذَمُّ فِعْلُهُ كَذَا فِي الْفَيْضِ (ت عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا» يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ فِيهَا أَوْ فِي الدُّنْيَا «الثَّرْثَارُونَ» مُكْثِرُو الْكَلَامِ خَطَأً أَوْ صَوَابًا حَقًّا أَوْ بَاطِلًا بِحَيْثُ لَا يُمَيِّزُ الْجَيِّدَ مِنْ الرَّدِيءِ وَيَتَكَلَّفُ رِيَاءً وَعُجْبًا «الْمُتَفَيْهِقُونَ» مِنْ الْفَهَقِ وَهُوَ الِامْتِلَاءُ يُقَالُ فَهِقَ الْحَوْضَ فَهَقًا وَأَفْهَقَتْهُ إذَا مَلَأَتْهُ أَيْ الْمُتَوَسِّعُونَ فِي الْكَلَامِ وَقِيلَ هُمْ الَّذِينَ يَنْطِقُونَ مِنْ قَعْرِ الْفَمِ بِالتَّكَبُّرِ وَالرُّعُونَةِ «الْمُتَشَدِّقُونَ فِي الْكَلَامِ» التَّشَدُّقُ هُوَ لَيُّ شِدْقِهِ أَيْ جَانِبِ فَمِهِ لِلتَّفَصُّحِ وَالْكُلُّ رَاجِعٌ إلَى مَعْنَى التَّكَلُّفِ فِي الْكَلَامِ لِيُمِيلَ إلَيْهِ قُلُوبَ النَّاسِ وَأَسْمَاعَهُمْ لَعَلَّ إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ تَرْوِيجَ أَمْرٍ دِينِيٍّ كَمَا عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لَا يَكُونُ مَذْمُومًا.
[الْخَامِسُ الْكَلَامُ فِيمَا لَا يَعْنِي]
(وَالْخَامِسُ الْكَلَامُ فِيمَا لَا يَعْنِي) أَيْ لَا يُهِمُّهُ وَلَا يُفِيدُهُ وَلَا يُثَابُ لَهُ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَفِيهِ تَضْيِيعُ الْوَقْتِ وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ وَوَهَنُ الْبَدَنِ وَتَأْخِيرُ الرِّزْقِ وَإِيذَاءُ الْحَفَظَةِ وَإِرْسَالُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّغْوِ إلَيْهِ تَعَالَى وَقِرَاءَتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَالْحَبْسُ عَنْ الْجَنَّةِ وَالْحِسَابُ وَاللَّوْمُ وَالتَّعْيِيرُ وَإِيقَاعُ الْحُجَّةِ وَالْحَيَاءُ مِنْهُ تَعَالَى كَمَا نُقِلَ عَنْ عَيْنِ الْعِلْمِ
اعْلَمْ أَنَّ أَحْسَنَ أَحْوَالِك أَنْ تَحْفَظَ أَلْفَاظَك عَنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ وَتَتَكَلَّمَ بِمَا هُوَ مُبَاحٌ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَيْك وَلَا عَلَى مُسْلِمٍ أَصْلًا إلَّا أَنَّك تَتَكَلَّمُ بِمَا أَنْتَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ وَلَا حَاجَةَ بِك إلَيْهِ فَإِنَّك بِهِ مُضَيِّعٌ زَمَانَك وَمُحَاسَبٌ عَلَى عَمَلِ لِسَانِك وَمُسْتَبْدِلٌ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ لِأَنَّك لَوْ صَرَفْت الْكَلَامَ إلَى الْفِكْرِ وَالذِّكْرِ رُبَّمَا يُفْتَحُ لَك مِنْ نَفَحَاتِ رَحْمَتِهِ عِنْدَ الْفِكْرَةِ مَا يَعْظُمُ جَدْوَاهُ وَلَوْ هَلَّلْت لَهُ تَعَالَى أَوْ سَبَّحْته وَذَكَرْته لَكَانَ خَيْرًا لَك فَكَمْ مِنْ كَلِمَةٍ يُبْنَى بِهَا قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْ قَدَرَ أَنْ يَأْخُذَ كَنْزًا مِنْ الْكُنُوزِ فَأَخَذَ بَدَلَهُ مَدَرَةً لَا يَنْتَفِعُ بِهَا كَانَ خَاسِرًا خُسْرَانًا مُبِينًا وَهَذَا مِثَالُ مَنْ تَرَكَ ذِكْرَ اللَّهِ وَاشْتَغَلَ بِمُبَاحٍ لَا يَعْنِيهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَأْثَمُ فَقَدْ خَسِرَ حَيْثُ فَاتَهُ الرِّبْحُ الْعَظِيمُ بِذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ صَمْتُهُ إلَّا فِكْرًا وَلَا نَظَرُهُ إلَّا عِبَرًا وَلَا نُطْقُهُ إلَّا ذِكْرًا هَكَذَا قَالَ عليه الصلاة والسلام رَأْسُ مَالِ الْعَبْدِ أَوْقَاتُهُ وَمَهْمَا صَرَفَهَا إلَى مَا لَا يَعْنِيهِ وَلَمْ يَدَّخِرْ بِهَا ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ ضَيَّعَ رَأْسَ مَالِهِ (مِثْلَ حِكَايَةِ أَسْفَارِك وَمَا رَأَيْت فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَأَنْهَارٍ وَأَطْعِمَةٍ وَثِيَابٍ) وَحَدُّهُ أَنَّ مُتَكَلِّمَهُ مَا لَوْ سَكَتَ عَنْهُ لَمْ يَأْثَمْ وَلَمْ يَتَضَرَّرْ.
وَأَمَّا فُضُولُ الْكَلَامِ وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ فَيَأْتِيَ وَأَمَّا حِكَايَاتُ نَحْوِ أَحْوَالِ النِّسَاءِ وَمَجَالِسِ الْخَمْرِ وَمَقَامَاتِ الْفُسَّاقِ وَتَنَعُّمِ الْأَغْنِيَاءِ وَتَجَبُّرِ الْمُلُوكِ وَأَحْوَالِهِمْ فَحَرَامٌ وَمَا لَا يَعْنِي مَكْرُوهٌ لِعَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ خَوْضِ الْبَاطِلِ مِثْلَ حِكَايَاتِ الْبِدَعِ وَالْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ وَمُحَارَبَاتِ الصَّحَابَةِ عَلَى وَجْهٍ يُوهِمُ الطَّعْنَ فِي بَعْضِهِمْ (وَمِنْهُ) مِمَّا لَا يَعْنِي (السُّؤَالُ عَمَّا لَا يَهُمُّ) فَأَنْتَ بِالسُّؤَالِ مُضَيِّعٌ وَقْتَك وَقَدْ أَلْجَأْت صَاحِبَك أَيْضًا بِالْجَوَابِ إلَى التَّضْيِيعِ (وَهَذَا إذَا خَلَا عَنْ الْكَذِبِ وَالْغَيْبَةِ وَالرِّيَاءِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ لَا يَحْرُمُ) لَكِنَّ أَكْثَرَ الْأَسْئِلَةِ لَا يَخْلُو عَنْهَا فَإِنَّك تَسْأَلُ مَثَلًا عَنْ عِبَادَتِهِ فَتَقُولُ هَلْ أَنْتَ صَائِمٌ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ فَيَدْخُلُ فِيهِ الرِّيَاءُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ سَقَطَتْ عِبَادَتُهُ عَنْ دِيوَانِ السِّرِّ وَعِبَادَةُ السِّرِّ تُفَضَّلُ عَلَى عِبَادَةِ الْجَهْرِ بِدَرَجَاتٍ وَإِنْ قَالَ لَا كَانَ كَاذِبًا وَإِنْ سَكَتَ كَانَ مُسْتَحْقِرًا إيَّاكَ وَتَأَذَّيْت بِهِ وَإِنْ احْتَالَ بِمُدَافَعَةِ الْجَوَابِ افْتَقَرَ إلَى جُهْدٍ وَتَعَبٍ فِيهِ فَقَدْ عَرَّضْته بِالسُّؤَالِ
إمَّا لِلرِّيَاءِ أَوْ الْكَذِبِ أَوْ الِاسْتِحْقَارِ أَوْ الِافْتِقَارِ أَوْ التَّعَبِ فِي حِيلَةِ الْجَوَابِ وَكَذَلِكَ السُّؤَالُ عَنْ سَائِرِ عِبَادَاتِهِ وَمَعَاصِيهِ وَعَنْ كُلِّ مَا يُخْفِي وَيَسْتَحْيِي مِنْهُ (بَلْ قَدْ يُسْتَحَبُّ إذَا قَارَنَهُ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ مِثْلُ دَفْعِ التُّهْمَةِ بِالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ) هُوَ النَّظَرُ لِلنَّفْسِ بِعَيْنِ الْكَمَالِ (بِعَدَمِ التَّكَلُّمِ وَاحْتِقَارِ مَنْ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ دَفْعِ الْمَهَابَةِ وَالْحَيَاءِ) عَمَّنْ جَاءَ لِحَاجَةٍ يَطْلُبُهَا مِنْهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّكَلُّمِ مَعَهُ هَيْبَةً مِنْهُ أَوْ حَيَاءً (حَتَّى يَتَكَلَّمَ صَاحِبُهُ تَمَامَ مُرَادِهِ) هَذَا إنْ كَانَ الطَّالِبُ مِنْ الْحُقَرَاءِ أَوْ صَاحِبَ حَيَاءٍ وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ مِنْ أَهْلِ الْمَهَابَةِ وَالِاحْتِرَامِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (مِنْ الِاسْتِفْتَاءِ وَغَيْرِهِ) مِنْ الْمُرَافَعَةِ أَوْ التَّظَلُّمِ وَالشِّكَايَةِ مِنْ الْمُتَغَلِّبَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوُلَاةِ وَالْأُمَرَاءِ (أَوْ دَفْعِ الْحُزْنِ عَنْ الْمَحْزُونِ) كَمَنْ وَقَعَ فِي مُصَادَرَةِ الظَّالِمِ وَحَبْسِهِ.
فَقَوْلُهُ (وَالْمُصَابِ) بِمُصِيبَةٍ مَا كَمَنْ مَاتَ أَبْنَاؤُهُ أَوْ وَالِدَاهُ كَعَطْفِ تَفْسِيرٍ لَهُ (أَوْ تَسْلِيَةِ النِّسَاءِ) الْمُفَارِقَاتِ لِأَهَالِيِهِنَّ وَالْمَحْبُوسَاتِ فِي الْبُيُوتِ وَالْمُتَوَحِّشَات بِالْوَحْدَةِ وَالْعُزْلَةِ وَالْمُفَارِقَةِ (وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَهُنَّ) فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْمُؤَانَسَةَ وَالْأُلْفَةَ وَالصَّمْتَ رُبَّمَا يُوقِعُ الْوَحْشَةَ وَالْبُرُودَةَ قِيلَ هُنَا كَمَا فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ «أُمِّ زَرْعٍ وَقَصَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ زَوْجَاتِهِ» وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمَشَارِقِ انْتَهَى.
(أَوْ التَّلَطُّفِ بِالصِّبْيَانِ أَوْ لِعَدَمِ إدْرَاكِ أَلَمِ السَّفَرِ أَوْ الْعَمَلِ) مِنْ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ (أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ) مِنْ الدَّوَاعِي (وَكَذَا) كَاسْتِحْبَابِ مَا ذَكَرْنَا (يُسْتَحَبُّ الْمِزَاحُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ) بِشَرْطِهِ الْمُتَقَدِّمِ (نَعَمْ بِهَذِهِ النِّيَّاتِ) الصَّالِحَةِ مِنْ قَبِيلِ الْمَاهِيَّةِ بِشَرْطِ الشَّيْءِ (يَخْرُجُ عَنْ حَدِّ مَا لَا يَعْنِي) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُثَابٌ (فَكُلُّ مَا لَا يَعْنِي يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ) كَأَنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ بِهَذَا التَّقْرِيرِ هَذَا الْمِزَاحُ لَيْسَ مَا لَا يَعْنِي لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ وَمَا لَا يَعْنِي يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ فَهَذَا الْمِزَاحُ لَيْسَ مَا لَا يَعْنِي وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ يَخْرُجُ عَنْ حَدٍّ إلَى آخِرِهِ (ت عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ» كَلِمَةُ مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَوْ بَيَانِيَّةٌ آثَرَ الْإِسْلَامَ عَلَى الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ إنَّمَا يَتَعَاقَبَانِ عَلَيْهَا وَزَادَ حُسْنِ إيمَاءً إلَى أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ بِصُوَرِ الْأَعْمَالِ فِعْلًا وَتَرْكًا إلَّا إنْ اتَّصَفَ بِالْحُسْنِ بِأَنْ تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ مُكَمِّلَاتِهَا فَضْلًا عَنْ الْمُصَحِّحَاتِ وَجَعَلَ تَرْكَ مَا لَا يَعْنِي مِنْ الْحُسْنِ مُبَالَغَةً «تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنْ عَنَاهُ الْأَمْرُ إذَا تَعَلَّقَتْ عِنَايَتُهُ بِهِ وَكَانَ مِنْ قَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ وَفِي إفْهَامِهِ أَنَّ مِنْ قَبِيحِ الْإِسْلَامِ أَخْذُهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ وَاَلَّذِي لَا يَعْنِي هُوَ الْفُضُولُ كُلُّهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَاَلَّذِي يَعْنِي الْمَرْءَ مِنْ الْأُمُورِ مَا تَعَلَّقَ بِضَرُورَةِ حَيَاتِهِ فِي مَعَاشِهِ مِمَّا يُشْبِعُهُ وَيَرْوِيهِ وَيَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَيُعِفُّ فَرْجَهُ وَنَحْوَهُ مِمَّا لَا يَدْفَعُ الضَّرُورَةَ دُونَ مَا فِيهِ تَلَذُّذٌ وَتَنَعُّمٌ، وَسَلَامَتِهِ فِي مَعَادِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِحْسَانُ وَبِذَلِكَ يَسْلَمُ عَنْ سَائِرِ الْآفَاتِ وَالشُّرُورِ وَالْمُخَاصَمَاتِ وَذَلِكَ أَنَّ حُسْنَ إسْلَامِ فِي رُسُوخِ حَقِيقَةِ تَقْوَاهُ وَمُجَانَبَةِ هَوَاهُ وَمُعَافَاةِ مَنْ عَدَاهُ وَمَا عَدَاهُ ضَيَاعٌ لِلْوَقْتِ النَّفِيسِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَوَّضَ فَائِتُهُ فِيمَا لَمْ يُخْلَقْ لِأَجْلِهِ فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى اسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ مِنْ رَبِّهِ فَقَدْ حَسُنَ إسْلَامُهُ قَالَ بَعْضُهُمْ تَعَلُّمُ مَا لَا يَهُمُّهُ مِنْ الْعُلُومِ مِمَّا لَا يَعْنِي كَمَنْ يَشْتَغِلُ بِعِلْمِ الْجَدَلِ مَثَلًا وَيَقُولُ نِيَّتِي نَفْعُ النَّاسِ وَلَوْ كَانَ صَادِقًا لَاشْتَغَلَ بِمَا يُصْلِحُ نَفْسَهُ وَقَلْبَهُ مِنْ إخْرَاجِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ قَالُوا هَذَا الْحَدِيثُ رُبُعُ الْإِسْلَامِ وَقِيلَ نِصْفُهُ وَقِيلَ كُلُّهُ كَذَا فِي الْفَيْضِ لَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا التَّخْرِيجِ وَقَعَ فِي الْجَامِعِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
(ت عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ «تُوُفِّيَ رَجُلٌ فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْمَعُ أَبْشِرْ» أَيُّهَا الْمَيِّتُ «بِالْجَنَّةِ» كَأَنَّهُ لِمَا رَأَى مِنْ حُسْنِ عَمَلِهِ «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُدْرِيك» أَيْ مَا يَجْعَلُك دَارِيًا وَعَالِمًا «لَعَلَّهُ تَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْنِيهِ» لَا يَنْفَعُهُ «أَوْ بَخِلَ بِمَا لَا يُغْنِيهِ» أَيْ بِكَلَامٍ لَا يُنْقِصُهُ بَدَنًا وَعَرَضًا وَمَالًا فَإِنَّ التَّكَلُّمَ فِي الْخَيْرِ وَفِعْلِهِ لَا يُنْقِصُ مِنْ لِسَانِهِ شَيْئًا وَلَا مِنْ غَيْرِهِ أَيْضًا بِأَنْ يُعِينَهُمْ بِيَدِهِ وَيَمْشِي بِرِجْلِهِ فِي حَاجَتِهِمْ
(دُنْيَا يَعْلَى عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «اسْتَشْهَدَ رَجُلٌ مِنَّا يَوْمَ أُحُدٍ فَوُجِدَ عَلَى بَطْنِهِ صَخْرَةٌ مَرْبُوطَةٌ مِنْ الْجُوعِ» كَمَا هُوَ عَادَةُ الصَّحَابَةِ بَلْ فَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام كَثِيرًا كَمَا سَبَقَ «فَمَسَحَتْ أُمُّهُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَتْ هَنِيئًا لَك يَا بُنَيَّ» وَفِي رِوَايَةٍ هَنِيئًا لَك الْجَنَّةُ وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ وَصَلْت عَيْشًا طَيِّبًا فِي الْجَنَّةِ «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُدْرِيك» يَعْنِي: كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا يَكُونُ لَك أَنْ تَحْكُمِي بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَأْمُونٍ مِنْ مَوَانِعِهَا «لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ وَيَمْنَعُ مَا لَا يَضُرُّهُ» قِيلَ إنْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْلَمُ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ فَلَا يُنَاسِبُ التَّعْبِيرَ بِلَعَلَّ وَإِلَّا فَسُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ قُلْت يَجُوزُ عِلْمُهُ ذَلِكَ وَتَعْبِيرُهُ بِلَعَلَّ لِئَلَّا يَزِيدَ حُزْنُ أَهْلِ الْمَيِّتِ أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَانِعِ الْجَنَّةِ قَطْعًا أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْحُكْمِ بِالْأَعَمِّ وَالْأَغْلَبِ فَافْهَمْ وَيَشْكُلُ أَنَّهُ مُتَبَادَرٌ فِي الْإِنْشَاءِ فَمَا وَجْهُ حَمْلِهِ عَلَى الْأَخْبَارِ ثُمَّ مَنَعَ ذَلِكَ لَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِمَ مِنْ صَنِيعِهَا الْإِخْبَارَ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَرِينَةِ الْمَقَامِ ثُمَّ الْإِشْكَالُ أَنَّ الْمَفْرُوضَ كَوْنُ مَا لَا يَعْنِي مِمَّا لَا يَضُرُّ فَكَيْفَ يَمْنَعُ الْجَنَّةَ أَشَارَ إلَى دَفْعِهِ بِقَوْلِهِ (وَوَجْهُهُ) وَجْهُ مَنْعِ الْبِشَارَةِ وَالتَّهْنِئَةِ (أَنَّ الْبِشَارَةَ) فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ (وَالتَّهْنِئَةَ) فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي (الْكَامِلَتَيْنِ لِمَنْ لَا يُحَاسَبُ أَصْلًا) لَعَلَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْحِسَابِ فِي الْمُبَاحِ وَهُوَ مُخْتَلِفٌ (إذْ الْحِسَابُ نَوْعُ عَذَابٍ) يَشْكُلُ عَلَى الْقَوْلِ بِكَوْنِ الْحِسَابِ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ حِسَابَهُمْ حِسَابُ عَرْضٍ لَا مُنَاقَشَةٍ وَهَذَا الْحِسَابُ حِسَابُ مُنَاقَشَةٍ يَجْعَلُ الْقَضِيَّةَ جُزْئِيَّةً
تَفْصِيلُهُ إنْ أُرِيدَ مِنْ الْحِسَابِ الْمُطْلَقُ الْكُلِّيُّ فَيَرِدُ الْإِشْكَالُ وَإِلَّا فَالْقَضِيَّةُ جُزْئِيَّةٌ فَلَا تَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ إذْ حَاصِلُ الْمَقَامِ أَنْ مَا لَا يَعْنِي حِسَابٌ أَيْ لَهُ حِسَابٌ وَالْحِسَابُ نَوْعُ عَذَابٍ فَيَرِدُ بِالتَّرْدِيدِ عَلَى الْكُبْرَى وَأَيْضًا إنْ أُرِيدَ مِنْ الْحِسَابِ الْمُنَاقَشَةُ فَلَا نُسَلِّمُ الصُّغْرَى لِأَنَّهَا مِمَّا يَلْزَمُ بَيَانُهَا وَإِنْ الْعَرْضَ فَلَا نُسَلِّمُ الْكُبْرَى فَتَأَمَّلْ وَأَيْضًا الْمَطْلُوبُ ظَنِّيٌّ إذْ الْمَقَامُ خَطَابِيٌّ فَيَكْفِي أَكْثَرِيَّةُ الْكُبْرَى وَظَنِّيَّتُهُ (وَمَنْ تَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْنِيهِ يُحَاسَبُ وَيُسْأَلُ) قِيلَ ظَاهِرُهُ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لَعَلَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ مِنْ أَنَّهُ يَكْتُبُ الْمَلَكُ مَا لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ خِلَافًا لِمَنْ يَقُولُ لَا يَكْتُبُهُ (شَيْخٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكْثَرُ