الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة
هذا الجزء من تاريخ الأدب العربى خاص بالأندلس فى عصر الدول والإمارات ويشتمل على خمسة فصول، أولها يتناول تاريخها السياسى منذ فتح العرب لديارها سنة 92 هـ/711 م إلى خروجهم منها سنة 897 هـ/1492 م مع عرض لتكوين مجتمعها وظواهره وما تسرّب إليه من تشيع وسرى فيه من زهد وتصوف. ويوضح الفصل كيف أن أسس الحضارة الأندلسية تكاملت منذ عهد الأمير الأموى عبد الرحمن الأوسط (206 هـ/822 م-238 هـ/852 م) وكانت قد استقرت منها ثلاثة أسس قبله، هى أسس الدين الحنيف والعربية والعلوم بشعبها اللغوية والدينية، وضمّ عبد الرحمن الأوسط إلى هذه الشعب شعبة علوم الأوائل من الرياضيات وغير الرياضيات، وأرسى فى تلك الحضارة قواعدها المادية عن طريقين: طريق زاوله بنفسه، إذ شغف باقتناء أدوات الترف والتحف المشرقية، وجاراه الأندلسيون فى هذا الشغف، وطريق زاوله مغنيه زرياب تلميذ إسحق الموصلى الوافد على قرطبة فى أول عهد عبد الرحمن إذ سنّ للمجتمع الأندلسى سننّا ظلت راسخة فيه، سننّا عمت المأكل والملبس وما يتصل بهما من هيئة الأندلسيين رجالا ونساء وما يتخذون من صور التزين. وأرسى عبد الرحمن قواعد الحكم متخذا له مجلس وزراء يدير شئون الدولة ومصالح الرعية على نحو ما نعرف الآن من مجالس الوزراء فى الأمم المتحضرة. وقد استطاع زرياب إرساء أسس فنية قويمة لنهضة موسيقية رائعة كان لها-فيما بعد-تأثير واسع فى الموسيقى الإسبانية والأوربية.
وحظيت المرأة فى هذا المجتمع الأندلسى بمكانة رفيعة لم تحظ بها أختها المشرقية.
ويوضح الفصل الثانى كيف أن إيبيريا-قبل الفتح العربى-لم يكن لها دور حضارى بارز فى الحضارة العالمية، والعرب هم الذين أتاحوا لها-حين استوطنوها-أن تنهض بدور عظيم فى هذا المضمار، ويعرض الفصل نشوء الحركة العلمية الأندلسية
وتطورها على مر العصور العربية هناك وإسهام المرأة الأندلسية فيها وما أضافه علماء الأندلس فى مختلف العلوم الرياضية وغير الرياضية من مثل البطروجى وهو- لاكبلر (kepler) الألمانى-الأب الحقيقى لعلم الفلك الحديث، ومثله الزهراوى فى الجراحة العالمية وعبد الملك بن زهر فى الطب الإكلينيكى وابن البيطار فى الصيدلة.
وناهيك بازدهار الفلسفة فى الأندلس وتلمذة الغربيين لفلاسفتها وخاصة ابن رشد الذى ظل يدرس قرونا متعاقبة فى جامعاتهم منذ القرن الرابع عشر الميلادى، وكان أثره العميق فى الفكر الأوربى حاسما، وخاصة فى حركة التحرر والإصلاح الدينى.
وأوضح الحديث عن النشاط اللغوى بالأندلس اكتشاف ابن حزم وابن سيده لعلم فقه اللغة المقارن بين اللغات السامية قبل اكتشاف الغربيين لهذا العلم بقرون عديدة.
وتبيّن فى الفصل ما لعلماء مصر من أستاذية لغير عالم أندلسى فى اللغة والنحو والتاريخ والقراءات وحمل الأندلسيين فيها لقراءة ورش المصرى، وحملهم لفتاوى عبد الرحمن بن القاسم ونظرائه المصريين فى الفقه. وأشار الحديث فى الفصل إلى التقاء المبدأين الأساسيين فى فلسفة ديكارت بأفكار المعتزلة والمتكلمين، وهما مبدأ الشك فى حقائق الأشياء حتى يتضح وجه اليقين، ومبدأ أنا أفكر فأنا موجود، مما يقتضى وجود الخالق رب العالمين.
والفصل الثالث يعرض نشاط الشعر والشعراء، ويستهل بالحديث عن تعرب سكان الأندلس جميعا: من أسلم منهم وأبنائهم المولدين ومن ظل على دينه المسيحى ولم يدخل فى الإسلام. وتدل على تعرب المسيحيين هناك أقوى دلالة صرخة القس ألبر والمشهورة التى يتحسّر فيها على إهمال الشبان المسيحيين فى إيبيريا للغة آبائهم اللاتينية الدارجة وازدرائهم لما ألّف فيها من كتابات مسيحية، بينما يقبلون فى شغف على تعلم العربية واتخاذها أداة للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم نثرا وشعرا. ويؤكد بالنثيا فى كتابه تاريخ الفكر الأندلسى تلك الصيحة ويدعم دلالتها بوثائق كنسية لاتينية تحمل قصائد عربية وأيضا بكتابات لاتينية لنصارى الإسبان-حتى بعد خروج العرب من الجزيرة-على هوامشها شروح وتعليقات باللغة العربية. وفى ذلك ما يؤكد-بوضوح-خطأ نظرية المستشرق الإسبانى ريبيرا المفضية إلى أن عرب الأندلس كانوا يستخدمون اللاتينية الدارجة لغة خطاب فى حياتهم اليومية، وهم إنما كانوا يستخدمون فى تلك الحياة عامية عربية أندلسية، وزعم ريبيرا-خطأ-أن الأزجال الأندلسية نظمت باللاتينية الدارجة
وهى إنما نظمت بعامية عربية أندلسية أتاحت لها أن تروى فى المشرق وتتداول به وتحاكى فيه، وقد كتب فيها علماء اللغة الأندلسيون-مثل الزبيدى-كتبا مختلفة. وامتازت الأندلس بكثرة الشعراء فيها كثرة مفرطة، ويدل على ذلك وفرة ما وضع فيهم هناك من كتب، وخاصة كتاب الذخيرة لابن بسام بمجلداته المقصورة على عصر أمراء الطوائف، وقد ترجم لأكثر من مائة شاعر أندلسى فى هذا العصر القصير الذى لا يكاد يتجاوز ثمانين عاما، فما بالنا بمن وراءهم من الشعراء فى قرون الأندلس الثمانية. ومن يرجع إلى كتاب نفح الطيب يجد المقرى يترجم فيه لعشرين شاعرة كن مشهورات، ووراءهن كثيرات لم تكن لهن شهرتهن. ونفذت الأندلس فى أثناء هذا النشاط الشعرىّ الجمّ إلى ابتكار فن شعرى جديد هو فن الموشحات، وذهب غير مستشرق إسبانى إلى أن هذا الفن نشأ فى الأندلس من المزج بين الشعر العربى وبعض الأغانى الرومانثية فى اللاتينية الإسبانية الدارجة، وليس فى أيديهم أغنية رومانثية واحدة يستطيعون أن يثبتوا بها دعواهم فى هذا المزج المزعوم. والصحيح أن الموشحات صورة أندلسية حديثة تطورت عن المسمّطات المشرقية المعروفة فى الشعر العربى، وهى تتألف من أدوار، وكل دور فيها يختم بشطر تغاير قافيته قوافى الشطور السابقة له فى الدور بينما تتحد مع قوافى جميع الشطور الأخيرة فى الأدوار المختلفة، وكل ما بين المسمطات والموشحات من خلاف أن الشطر الأخير المتحد القافية فى أدوار المسمطات تعدّد فى الموشحات مما يقطع-دون أدنى ريب-بأنها تطورت تطورّا طبيعيّا عن المسمطات. ويؤكد ذلك أن من أنشأوها وطوّروها فى الأندلس كانوا من أصول عربية خالصة فقد أنشأها عربى فى أواخر القرن الثالث الهجرى هو مقدم بن معافى، وطوّرها فى القرن الرابع الهجرى وأوائل الخامس عربيان هما يوسف بن هرون الرمادى الكندى وعبادة بن ماء السماء الخزرجى الأنصارى. وألمّ هذا الفصل الثالث بكبار الوشاحين وترجم لنفر منهم، كما ألمّ بالأزجال التى نظمت بالعامية على غرار الموشحات مع الترجمة لناظمها الأندلسى المشهور: ابن قزمان.
واستعرض الفصل-بعد ذلك-روائع شعراء المديح فى الأندلس على مر العصور مع الترجمة لسبعة من أعلامهم، وبالمثل استعرض روائع شعر الفخر مع الترجمة لثلاثة منهم وروائع شعراء الهجاء مع الترجمة لأربعة من كبار الهجائين، كما استعرض روائع أصحاب الشعر التعليمى مع الترجمة لعلمين من أعلامهم.
وعرض الفصل الرابع روائع الأغراض فى بقية الشعر الأندلسى مع الترجمة لبعض شعراء الأندلس المبدعين، وأول غرض عرضه الغزل، وفيه تتفوق الأندلس-فى رأينا-
على جميع البلدان العربية بما بثّت فيه من لوعات وجد لحب عذرى عفيف ظلت جذوتها تتقد وتتوهج فى أشعار الغزلين الأندلسيين قرونا متوالية، وبلغ من توهج تلك اللوعات أن امتد شررها الساطع إلى الأدبين الإسبانى والفرنسى وبالتالى إلى الآداب الأوربية، ويتضح هذا الشرر-بقوة-عند الإسبان فى قصة دون كيشوت لسرفانتس (1547 - 1616 م) وكأنها قصة محب عذرى عربى فتن بمحبوبته حتى جنّ أو كاد يجنّ، وسرفانتس فى سطورها الأولى ينسبها إلى عربى حدّثه بها، مما يؤكد أنه استلهم فيها أقاصيص الحب العذرى عند الأندلسيين، ونمضى معه فى القصة فنرى الحب العنيف يخرجه دائما عن طوره إذ يعيش هائما على وجهه والجنون يصيبه أحيانا وكلما أفاق منه تغنى بحبه مفتونا بصاحبته مثله الأعلى فى الجمال البارع. ويعم شرر هذا الحب عند شعراء التروبادور الفرنسيين فى القرن الثانى عشر الميلادى. إذ نراهم مفتونين بمحبوباتهم فتنة تدفعهم إلى التذلل لها وتمجيدها لما تستشعره من عفة وجمال مثل قرينتها الأندلسية.
ومما أثّر به الغزل الأندلسى العفيف فى هؤلاء الشعراء ترداد ذكرهم للوشاة والرقباء، وأيضا ظهور القافية فى أشعارهم لأول مرة فى الشعر الأوربى. وللمرأة الأندلسية فى هذا الغزل العفيف الملتاع مشاركة واضحة، وتغزلت أحيانا فى أختها الأندلسية الفاتنة، وكانت لبعضهن ندوات يؤمها بعض الشعراء ورجال الأدب والفكر. وعكس غير شاعر عواطفه فى عناصر الطبيعة من حوله، مدوّنا فى شعره بدقة مشاعره وروعة تصاويره.
وتحوّل الفصل من الغزل إلى الطبيعة والخمر، وينوّه البحث دائما بتفوق الأندلس على البلدان العربية فى شعر الطبيعة، لما كان يتملّى به الشاعر من جمال هذا الفردوس بجناته ورياضه وأزهاره ورياحينه وأنهاره وما يجرى فيها أو يتهادى من زوارق تزدان بالشموع ليلا، وكأن أهل الأندلس كانوا فى عرس دائم ليلا ونهارا. وقد تغنى الشعراء الأندلسيون بجمال هذا الفردوس الأرضى وما يسكب فى النفوس من سحر يروع القلوب والألباب على نحو ما هو معروف عن ابن خفاجة، وتفجؤنا عنده وعند أضرابه من شعراء الطبيعة-بل عند جميع شعراء الأندلس فى كل الأغراض الشعرية-صور فى منتهى الروعة.
وعرض الفصل-بعد ذلك-رثاء الأفراد وما لشعراء الأندلس من فرائد فى التفجع على الأبناء والزوجات والأصدقاء، ويبلغ التأثر بالقارئ منتهاه فى مراثيهم للشهداء الأبرار فى حروب أعدائهم من حملة الصليب الشماليين، ومن أروعها مرثية لابن الزقاق بكى فيها شابّا استشهد فى عنفوان شبابه بعد أن أبلى فى حرب أعداء دينه بلاء عظيما،
ولا تقل عنها روعة موشحة على بن حزمون فى بكاء بطل بلنسية أبى الحملات قائد الأعنة حين استشهد فى معركة ضارية مع حملة الصليب بعد أن مزّق كثيرين منهم تمزيقا.
ويتميز ابن وهبون فى مراثيه بتأملات عميقة فى حقائق الموت والحياة. وبجانب مراثى الأفراد مراث للدول الأندلسية حين تغرب شمسها وتدور عليها الدوائر مثل مراثى ابن اللبانة لدولة المعتمد بن عباد حين استولى يوسف بن تاشفين على إمارته بإشبيلية ونفاه إلى أغمات بالمغرب، ولابن عبدون مرثية طويلة لدولة المتوكل بن الأفطس أمير بطليوس حين فتك به المرابطون على أبواب مدينته، وفيها يسوق ابن عبدون الأمثال من الملوك الغابرة والدول الداثرة وكل ما على الأرض من حيوان كاسر وطير جارح فإن كل ذلك إلى فناء. وأنشد الفصل خواطر شتى فى الزهد وخاصة لأبى إسحق الإلبيرى كما أنشد خوالج وجدانية متنوعة فى التصوف الفلسفى الإسلامى عند ابن عربى وغيره.
وتكاثرت المدائح النبوية على لسان كثيرين مثل ابن جابر الأندلسى. ومنذ سقوط طليطلة فى حجر حملة الصليب يستصرخ أهل الأندلس المغاربة والعرب لرد عدوانهم، ويكثر هذا الاستصراخ منذ القرن السابع الهجرى حين أخذت تسقط المدن الكبرى:
قرطبة وأخواتها فى حجور النصارى الشماليين على نحو ما هو معروف من استصراخ ابن الأبار وأبى البقاء الرّندى.
والفصل الخامس خاص بالنثر وكتّابه، ويبتدئ بعرض روائع الأندلسيين فى الرسائل الديوانية مع الترجمة لأهم كتابها الرسميين، وجعلهم جهادهم الدائب للنصارى الشماليين ونزالهم الضّارى لهم يكثرون فى تلك الرسائل من تصوير مواقعهم معهم والتحول بتلك الرسائل أحيانا إلى ما يشبه منشورات حربية تستثير حمية أهل الأندلس والمغرب لسحق أعداء الدين الحنيف سحقا لا يبقى منهم ولا يذر، ومن أروع تلك الرسائل المنشور الذى وجهه أبو محمد بن عبد البر إلى أهل الأندلس لحمل السلاح والأخذ بثأر مدينة «بربشتر» حين نكّل بها النورمانديون ونصارى الشمال على حين غفلة من أهلها سنة 456 هـ وتوالت مثل هذه الصيحات، ومزّق المغيرون شر ممزق. ولابن القصيرة رسالة ديوانية بديعة يصور فيها انتصار ابن تاشفين والأندلسيين فى موقعة الزلاقة وقد بلغ من كثرة قتلى النصارى فيها أن كان الناس يصنعون من رءوسهم صوامع يؤذنون عليها.
ولابن أبى الخصال منشور حربى ملتهب للحض على خوض معركة حامية الوطيس، ولابن الخطيب تصوير حماسى لمنازلة أمير غرناطة الغنى بالله النصارى فى جيّان. وحرىّ بالعرب فى كل عصر أن يرفعوا هذه الرسائل الديوانية الأندلسية وما يماثلها شعارات
لمجدهم الحربى على توالى العصور. وتلى الرسائل الديوانية فى الفصل الرسائل الشخصية مع الترجمة لأهم كتابها النابهين وقد استطاعوا أن يتحولوا بها من باب المناسبات وما يتصل به من مثل التهنئة والعتاب والاعتذار والاستعطاف والاستمناح إلى لوحات أدبية لوصف البطولة الحربية فى جهاد النصارى. وأكثروا من وصف الطبيعة على نحو ما نجد عند ابن خفاجة فى وصف نزهة، وأبى القاسم بن الجد فى وصف مطر بعد جدب شديد، واين أبى الخصال فى وصف ليلة قاسية البرد. وعقدوا فى بعض رسائلهم مناظرات رائعة بين الأزهار والرياحين، عقدها ابن برد وحبيب وأبو عمر الباجى وابن حسداى وحوّل الفقيه ابن سراج رسالة له فى الشفاعة لشخص يسمى الزّريزير إلى دعابة مرحة أودعها كل ما يميز طائر الزّرزور مما يتصل بريشه وأجنحته وهيئته وأفراخه وأعشاشه، وطارت الرسالة فى الأندلس وحاكاها كثير من الكتاب أمثال أبى القاسم بن الجد وأبى بكر عبد العزيز بن القبطورنه. وبذلك كله استحالت الرسائل الشخصية فى الأندلس على أيدى كتابها المجلّين-فى بعض جوانبها-إلى لوحات أدبية بارعة.
وتتميز الأندلس بكثرة الرسائل الأدبية الخالصة، ويعرض الفصل طائفة طريفة منها فى مقدمتها رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد، مع إثبات أن لا علاقة لها برسالة الغفران لأبى العلاء وأن ابن شهيد استوحاها من إحدى مقامات بديع الزمان، ومع بيان أن ابن شهيد استطاع بها أن يبتكر قصة رائعة يدور الحوار بها فيما وراء الطبيعة فى عالم الجن وأن يضمنها نظرات نقدية وغير قليل من الفكاهة المستملحة. ويلمّ الفصل برسائل ابن برد الأدبية فى المناظرة بين السيف والقلم وفى وصف بخيل صاحب نخلة شحيح منتهى الشح، وتصوير صديق له يدافع بحرارة عن تفضيله لأهب الشاء-أو بعبارة أخرى جلود المعز-على البسط صيفا وشتاء، وقد استوحاها من رسالة سهل بن هرون فى فاتحة كتاب البخلاء للجاحظ وبيانه لفضل البخل وشحّ النفس على الجود والكرم. وتحدّث الفصل عن رسالتى ابن زيدون الهزلية والجدية، وأولاهما فى السخرية-على لسان ولادة مهوى فؤاده-بغريمه فى حبها: ابن عبدوس، وثانيتهما فى استعطاف أبى الحزم جهور حين زجّ به فى غياهب السجون، وهما أثران أدبيان بارعان. ويلمّ الفصل برسالة ابن غرسية الذميمة فى الشعوبية والردود المفحمة عليها، كما يلمّ بالرسائل النبوية التى ضمّنها كبار الكتاب من أمثال ابن الجنّان شوقا حارّا إلى زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب الشفاعة. وتكاثرت المواعظ على نحو ما هو معروف عن منذر بن سعيد وأبى بكر الطرطوشى.
ويعرض الفصل أعمالا نثرية متنوعة لكتاب الأندلس المبدعين، وفى مقدمتهم ابن حزم
وكتابه «طوق الحمامة» والكتاب دراسة تحليلية نفسية بديعة للحب العذرى العفيف وتجارب ابن حزم فيه وتجارب معاصريه فى غير مواربة بل فى صراحة مستحبّة، صراحة تسمو فيها العاطفة الإنسانية الخالدة، عاطفة الحب، وترتفع عن صغائر الغريزة النوعية.
والكتاب ترجم من قديم إلى اللاتينية وتأثر به دانتى فى كتابه «الحياة المتجددة» وبالمثل تأثر به بعض شعراء الإسبان.
ومن الأعمال النثرية الأندلسية الرائعة كتاب المقتبس لابن حيان فى تاريخ الدولة الأموية بالأندلس، وهو نموذج فريد فى كتابة التاريخ كتابة تحليلية بصيرة لا مثيل لها عند العرب قبله ولا بعده، وعلى شاكلته كتاب الذخيرة لابن بسام فى كتابة التراجم الأدبية لعصره كتابة تاريخية تحليلية نقدية بارعة. ومن الطّرف النثرية الأندلسية مذكرات الأمير عبد الله ابن بلقّين آخر أمراء غرناطة من بنى زيرى، وفيها يتحدث عن إمارة أسرته بتلك المدينة، وكذلك عن إمارته قبل نفى يوسف بن تاشفين له إلى المغرب، وهو حديث صريح كل الصراحة حتى لتصبح تلك المذكرات شبيهة بكتب الاعترافات عند الغربيين.
ومن أروع الأعمال النثرية الأندلسية، بل العربية عامة، قصة حى بن يقظان لابن طفيل الوادى آشى القيسى وهى قصة رمزية، أراد بها ابن طفيل التوفيق بين الفلسفة والدين، وقد أدارها على طفل نشأ فى جزيرة مهجورة نما فيها وحده ونما معه عقله، حتى أدرك حقائق الأشياء على نحو ما يدركها الفلاسفة، واستنبط أن للكون خالقا وشعر بحاجته إلى الاتحاد به، وما زال يحاول ذلك حتى تحقق له هذا الاتحاد. وابن طفيل بذلك يثبت أن التأمل الفكرى المحض، كالإيمان الحقيقى الصادق عن طريق الأنبياء، يؤدى مثله إلى الاتصال بالله والاتحاد به، وإذن فلا تعارض ولا تنافر بين الفلسفة والدين.
وتصادف أن عثر غرسية غوميس فى مخطوطة موريسكيه بمكتبة الإسكوريال فى مدريد كتبت فى القرن السادس عشر على قصة تسمى قصة الصنم والملك وابنته تتشابه فى إطارها الخارجى مع قصة ابن طفيل التى كتبها فى القرن الثانى عشر، وبدلا من أن يستنتج أن مؤلف هذه القصة الموريسكية اطلع على قصة حى بن يقطان أو استلهمها إما فى أصلها العربى وإما فى ترجمة لاتينية أو قشتالية قديمة زعم العكس وأن ابن طفيل هو الذى استلهم هذه القصة أو أصلها القديم الذى كان شائعا فى زمنه، وهكذا بنى زعمه على مقدمات وهمية. وتنبه جوتييه فى مقدمة ترجمته الثانية لقصة حى بن يقظان لما وقع فيه غرسية من خطأ. وبالمثل أخطأ بالنثيا فى توهمه تأثر ابن طفيل بالمسيحية فى القصة وأن يقظان فيها رمز الله وبالتالى «حىّ» رمز المسيح ابن الله، والقصة تكتظ بالآيات
والتعبيرات القرآنية والروح الصوفية الإسلامية. وهى بحق عمل فريد أصيل لابن طفيل لا سابقة له فى الآداب العالمية، وقد تأثر به الأدب الإسبانى كما يتضح فى قصة الصنم والملك وابنته الموريسكية التى ذكرها غرسية وأيضا فى قصة الناقد (الكريتيكون) الإسبانية لجراثيان المنشورة فى منتصف القرن السابع عشر والتى يقول منندث بيلايو عنها إنها تتطابق مع قصة حى بن يقظان تطابقا واضحا. وقد كتب على هداها فى سنة 1709 الكاتب الإنجليزى دانييل ديفو قصته المعروفة:«روبنسن كروزو» .
وتحدث الفصل بعد ذلك عن فن المقامات بالأندلس والتحامه بمقامات الحريرى المعتمدة على الكدية أو الشحاذة، مع عرض المقامات اللزومية للسرقسطى وخصائصها فى الأسلوب والمضمون، ومع بيان تأثير هذا الفن فى الأدب الاسبانى خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر للميلاد، إذ نشأ عند الاسبان-على هداه-ما سمّى بالقصص البيكارسية أو قصص الشطارة والشطار، وبطلها «البيكارو» يعيش-كبطل المقامات- على التسول والشحاذة مستخدما لذلك حيلا وخدعا شتى.
وألمّ الفصل برحلات الأندلسيين مبينا أنها تعددت عندهم بسبب أدائهم لفريضة الحج سنويا، وللإمام بمراكز الثقافة فى المشرق، وللسفارة الخارجية إلى ممالك النصارى الشمالية، وللسفارة الداخلية إلى الإمارات الأندلسية، ولزيارة ماوراء البلدان العربية فى آسيا وشرقى أوربا، ولمرافقة أمراء غرناطة فى عهد الأندلس الأخير فى رحلاتهم وكذلك فى مرافقة بعض سلاطين المغرب فى رحلاتهم. ومن أطرف رحلات الأندلسيين رحلة ابن جبير المتميزة بحسن العرض وجمال الأسلوب المرسل العذب.
وهذه الدراسة المستفيضة لتاريخ الأدب العربى فى الأندلس أثناء ثمانية قرون طوال جعلتنى أرجع إلى كل ما استطعت الاطلاع عليه من المصادر والمراجع الأندلسية المتصلة بكتب التاريخ والتراجم وكتب علوم الأوائل والعلوم اللغوية والدينية وكتب الشعر ودواوينه وكتب النثر وأعمال كتّابه، كما رجعت إلى طائفة من كتب المستشرقين والباحثين محاولا-بقدر ما أستطيع-أن أرسم هذه الصورة المستوعبة لأدب الأندلس مع تصحيح الأحكام المخطئة التى من شأنها الغضّ من مكانته الرفيعة ومن المدى الخطير الذى أثّر به فى الأدب الإسبانى والآداب الأوربية. والله-وحده-ولى الهدى والتوفيق.
القاهرة فى أول مايو سنة 1989 م.
شوقى ضيف