الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كثير من الأحيان بسرعة التدفق والانسياب، حتى لتصبح روائعها وكأنها يمّ من الأنغام تغرق الأذن فى خضمّه. وليس بصحيح ما زعمه بعض المستشرقين الإسبان من أنها وضعت فى نشأتها-وظلت توضع أحيانا-على أسس إيقاع لأنغام أغنيات باللغة الإسبانية أو الرومانثية الدارجة، ليس ذلك بصحيح، إذ هو وهم تبادر إليهم-كما أسلفنا-من كلمة ابن بسام: إن أكثرها على الأعاريض المهملة غير المستعملة، وهو إنما يقصد أعاريض الشعر العربى المهملة التى حاول بعض العباسيين أن ينظم فيها أشعاره أو بعض أشعاره، ثم جاء الأندلسيون من أصحاب الموشحات بعدهم فنظروا فى دوائر الخليل وتحريكه فيها للتفاعيل بالزيادة والنقص، فاستغلوا ذلك فى موشحاتهم أحيانا بزيادة سبب فى بعض التفاعيل أو نقصه مع اطراد ذلك فى الموشحة، بحيث تدخل بدقة فى أعاريض الشعر العربى وإيقاعه، فضلا عن أن كثيرا منها-إن لم تكن كثرتها- صيغت كما رأينا عند كبار الوشاحين من نفس أعاريض الشعر العربى وأوزانه المستعملة من قديم.
(ب) الأزجال
الأزجال جمع زجل (1)، وهو فى اللغة التطريب، وقد سمى به الأندلسيون الفن الشعرى العامى المقابل للموشحة. وفى اسمه الذى اختاره الأندلسيون ما يدل على أنه نشأ للتغنى به فى الطرقات والأسواق والمحافل العامة، وظل ذلك شأنهم على توالى الزمن، ونرى ابن قزمان يصرح بذلك فى بعض أزجاله (2)، ونلتقى بعده بابن عبد الرءوف ورسالته فى الحسبة، ونراه يقول إنه ينبغى أن يمنع الذين يمشون فى الأسواق بالأزجال إلا أن تكون نفيرا للجهاد أو تهليلا لحج بيت الله الحرام والسفر إلى الحجاز (3). وحين رأى المستشرق الإسبانى «ريبيرا» أن صورتها لا تختلف فى شئ عن صورة الموشحة من حيث الأقفال والأغصان قرنها بها فى نشأتها منذ أواخر القرن الثالث الهجرى قائلا إنه نشأ حينئذ طراز شعرى شعبى تمتزج فيه مؤثرات غربية وشرقية متخذا صورتين هما
(1) راجع فى هذا الموضوع كتاب الرجل فى الأندلس للدكتور عبد العزيز الأهوانى (نشر معهد الدراسات العربية العالية فى الجامعة العربية) وكتاب تاريخ الأدب الأندلسى: عصر الطوائف والمرابطين للدكتور إحسان عباس ص 252 وما بعدها.
(2)
انظر الزجل رقم 61 فى ديوانه.
(3)
راجع رسالة الحسبة لابن عبد الرءوف فى ثلاث رسائل نشر بروقنسال.
الموشحة الفصيحة والزجل السوقى الدارج (1)، ويبسط غرسية غوميس فكرته قائلا إنه «قدّم براهين جلية على وجود لغة رومانثية كان يتكلمها أهل الأندلس وهى اللغة التى كتب بها ابن قزمان شاعر القرن الثانى عشر الميلادى أزجاله. . وكانت اللغة الدارجة الجارية على الألسن فى قرطبة» (2). والشعبتان جميعا كما يراهما ريبيرا تحتاجان إلى مراجعة، إذ ينقصهما البرهان اليقينى، أما أنه كانت تشيع فى الأندلس لغة دارجة رومانثية كتبت بها الأزجال فإن الأزجال نفسها تنقضها لأنها كانت مكتوبة بلغة عامية عربية لا رومانثية بدليل أن أبواب البلدان العربية جميعا فتحت لها وتناشدها الناس فيها، وأكبّوا على روايتها ودراستها، حتى ليقول ابن سعيد إنه رأى أزجال ابن قزمان إمام الزجل الأندلسى مدونة ببغداد أكثر مما رآها مدونة بحواضر المغرب (3). ومن الطريف أن نعرف أن الأندلسيين لم يكتبوا فيها بحثا ولا دراسة، وأن أول من بحثها ودرسها وحاول أن يعرض شيئا من تاريخها وخصائصها العروضية واللغوية بغدادى هو صفى الدين الحلى المتوفى سنة 750 فى كتابه «العاطل الحالى والمرخّص الغالى» ولو أنها كانت منظومة بلغة رومانثية أو لاتينية كانت دارجة فى الأندلس ما استطاع فهمها ولا درسها دراسة علمية قيمة على نحو ما نقرأ فى كتابه السالف، الذى لا أبالغ إذا قلت إن أحدا لا يستطيع أن يدرس الأزجال الأندلسية دراسة علمية بصيرة دون الاعتماد عليه. ولم يبن دراسته للزجل على دراسة ديوان ابن قزمان وحده بل لقد استعرض معه طائفة من دواوين الزجالين الذين جاءوا بعده حتى القرن السابع مما يدل-بوضوح-على أنها كانت متداولة جميعا فى المشرق وأنها كانت منظومة بعامية عربية لا لاتينية دارجة أو رومانثية، ولا ننكر أنه تتخلل بعض الأزجال وخاصة عند ابن قزمان بعض ألفاظ رومانثية بحكم أنها دخلت العامية الأندلسية، بالضبط كما حدث لمثيلات لها فى لغات الشعوب التى فتحها العرب والتى استحدثت فيها عاميات مختلفة، ولكن ذلك لا يخرجها جميعا-كما لا يخرج العامية الأندلسية-من عالم العاميات العربية.
وبالمثل الشعبة الثانية من رأى «ريبيرا» ، وهى أن الزجل نشأ مع الموشحة منذ أواخر القرن الثالث الهجرى فى حاجة أيضا إلى مراجعة، إذ لا تذكر المراجع الأندلسية أى شئ عن زجل أو أحد الزجالين قبل القرن السادس الهجرى، مما يمنعنا علميا أن ننسب نشأة الزجل إلى القرن الخامس فضلا عن القرن الرابع وما قبله. ونفس ابن قزمان
(1) انظر بالنثيا ص 142.
(2)
دراسات أندلسية للدكتور الطاهر مكى ص 186.
(3)
المقتطف ص 263.
المتوفى فى منتصف القرن السادس يحدثنا فى مقدمة ديوانه بأن الزجالين الذين عاشوا فى زمنه أو قبله بقليل لم تستقر عندهم القاعدة الأساسية للزجل، وهى أن يكون بلغة عامية تخلو من الإعراب ومن التفاصح بالألفاظ العربية الجزلة، ويقول إن أول من اتخذ هذه القاعدة أساسا للزجل أخطل بن نماره وحده دون غيره ممن سبقوه فإن ألفاظ أزجاله ملحونة وسلسة. ويدل على أن أصول الزجل وقواعده لم تكن قد وضعت نهائيا قبل ابن قزمان، أنه عاد يأخذ على ابن نمارة تفاصحه ببعض الألفاظ التى لا تجرى فى العامية الأندلسية، وحمل بسبب ذلك على زجال يسمى يخلف بن راشد حملة عنيفة. وهذا يؤكد أن نشأة الزجل متأخرة وأنه لم يأخذ مقوماته وخصائصه الكاملة إلا على يد ابن قزمان، ويشهد بذلك ابن سعيد إذ يقول إن الأزجال قيلت بالأندلس قبل ابن قزمان ولكن لم تظهر حلاها، ولا انسكبت معانيها، ولا اشتهرت رشاقتها إلا فى زمانه (1)». ويجزم ابن خلدون بأنها ظهرت متأخرة محاكاة للموشحة، يقول:«لما شاع فن التوشيح فى أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله ونظموا فى طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعرابا، واستحدثوا فنا سموه بالزجل» (2).
ومعنى ذلك أن تصور «ريبيرا» ومن تابعه مثل غرسيه غوميس أن الزجل نشأ مبكرا مع الموشحة وأنه نظم بلغة رومانثية دارجة كانت تشيع على ألسنة أهل الأندلس تصور مخطئ أشد الخطأ، فقد نظم بلغة عامية عربية لا لاتينية دارجة، أو رومانثية، ونظم محاكاة للموشحة بعد أن شاعت وذاعت وازدهرت فى عصر الطوائف وما بعده كما يقول ابن خلدون. وسنخص ابن قزمان بكلمة. وينبغى أن نعرف أن الزجل مثل الموشحة يكثر فيه الغزل ووصف المتاع بالخمر ووصف الطبيعة والإعجاب بجمالها الفاتن والمديح والهجاء والرثاء وجميع أغراض الشعر العربى، وكان كثير منه ينشد فى الحثّ على جهاد النصارى وفى المناسبات الدينية. وأكبر زجّال فى الجيل التالى لابن قزمان هو أحمد بن الحاج المشهور باسم مدغلّيس (3)، وهو من أهل المريّة، وله أزجال كثيرة فى مديح الأمراء والقواد، ويقول ابن سعيد إن أزجاله مطبوعة إلى نهاية، ويقول المقرى فى نفح
(1) المقتطف ص 263.
(2)
مقدمة ابن خلدون (تحقيق د. على عبد الواحد وافى) ص 1350.
(3)
انظر فى مدغليس المغرب 1/ 214 وتعليقنا على ترجمته فى الهامش.
الطيب: كان أهل الأندلس يقولون: ابن قزمان فى الزجالين بمنزلة المتنبى فى الشعراء ومدغليس بمنزلة أبى تمام بالنظر إلى الانطباع والصناعة، فابن قزمان ملتفت للمعنى ومدغليس ملتفت للفظ، وكان أديبا معربا لكلامه مثل ابن قزمان (يريد أنهما كانا ينظمان الشعر الفصيح) ولكنه لما رأى نفسه فى الزجل أنجب اقتصر عليه» (1) وكان ديوانه يروى فى المشرق وحصل صفى الدين الحلى على مخطوطة منه، وأدار عليه وعلى ابن قزمان أكثر ملاحظاته على عروض الزجل الأندلسى وخصائصه اللغوية، وذكر له كما أسلفنا-ثلاث عشرة قصيدة عامية على أوزان الشعر العربى، وذكر له قطعا من أزجاله وأروعها الزجل الذى أنشده له ابن سعيد، وفيه يقول:(2)
ثلاث آشيا فالبساتين
…
لس تجد فى كلّ موضع
النّسيم والخضره والطّير
…
شم واتنزّه وإسمع
ورذاذا دقّ ينزل
…
وشعاع الشمس يضرب
فترى الواحد يفضّض
…
وترى الآخر يذهّب
والنبات يشرب ويسكر
…
والغصون ترقص وتطرب
ويشيد فى نهاية الزجل بغناء أم الحسن. والزجل مفعم بالسلاسة والعذوبة والتصاوير الرائعة الملحنة على أنغام وزن الرمل المرقص المطرب، وكأنما تحمل إلينا الألفاظ أنفاس البستان وأريج رياحينه. ومع أن مدغليس لم يوحّد القوافى بين الأجزاء الأولى المتقابلة فى قوافل هذا الزجل وأغصانه واكتفى باتحادها فى الأجزاء الثانية أسوة بابن قزمان فى بعض أزجاله يموج زجله بجرس يلذ الأذن ويمتع النفس لدقته فى اصطفاء ألفاظه وحسن ذوقه فى انتخابها حتى لكأننا نستمع فيها إلى لحن موسيقى. وربما كان هو أول من ابتكر صياغة القصائد بالعامية التى أسلفنا الحديث عنها، وكأنما رأى أن يقيس القصيدة على الموشحة، فكما صاغوا الزجل قياسا على الموشحة صاغ القصائد العامية قياسا على قصائد الفصحى بنفس أعاريضها المستعملة عند العرب-كما مرّ بنا-من مديد وخفيف وغير ذلك. ومن كبار الزجالين بعده أبو الحسن على بن محمد الشاطبى، وقد أنشد له صاحب العاطل الحالى قطعة من زجل يبدو أنه كان من أزجال الاستنفار للجهاد وأنه قاله عقب انتصار، يقول فيه واصفا حال العدو (3):
(1) النفح 3/ 385.
(2)
المغرب 2/ 220.
(3)
انظر العاطل الحالى ص 34 و 80.
كلما را السيوف إليه تنجرد
…
صاح ويشكو وثمّ لم يرتفد (1)
ينبح الكلب إذ يرى الأسد
…
والأسد لس يهزّو ذاك النّباح
ورجاعت عليه جنود ووبال
…
ومال النّحس ما عو كف ما مال
لم تنجيّه وصيّة الكردنال
…
ول فادت نصيحة النّصّاح
وواضح أن الزجل من وزن الخفيف. ويذكر ابن سعيد فى المغرب طائفة من الزجالين وطرائفهم الزجلية، وقد نقل كثيرين منهم عن كتاب ملح الزجالين لابن الدباغ المالقى، ومنهم زجّالو إشبيلية: أبو عمرو الزاهر وأبو بكر الحصار وأبو عبد الله بن خاطب وأبو بكر بن صارم ومنهم ابن (2) ناجية اللورقى. وقد أضاف ابن سعيد إليهم طائفة من زجالى القرن السابع أمثال البلاّرج القرمونى ويحيى بن عبد الله بن البحبضة. وترجم لابن الدباغ (3) المذكور آنفا وقال إنه لقيه بمالقة وإنه إمام فى الهجو على طريقة الزجل، وذكر له بعض أزجاله. ونشعر أن الزجل-مثل الموشحة-انتهى عصر ازدهاره بانتهاء عصر الموحدين لولا ما أتيح له من حيوية وروحانية بعد ذلك على لسان المتصوفة من أمثال الششترى المتوفى بدمياط سنة 668 للهجرة. ومن الزجالين المهمين ابن عمير، وقد أنشد له صاحب العاطل من زجل قوله (4):
يا حبيب قلبى تعطّف
…
بعض هذا الهجر يكفا
فدموع عينى ما ترقا
…
ولهيب قلبى ما يطفا
والزجل من وزن الرمل، ويقول ابن خلدون إنه نزل بمدينة فاس فى المغرب ونظم لهم نوعا من الشعر الملحون فى أعاريض مزدوجة فأولعوا بالنظم فيه وسموه عروض (5) البلد. ويذكر ابن خلدون من الزجالين فى عصره ابن الخطيب (المتوفى سنة 776 للهجرة) وكان يعاصره إمام فى الزجل هو محمد بن عبد العظيم من أهل وادى آش، وينشد له ابن خلدون قطعة من زجل عارض به زجلا لمدغليس استهله بقوله:
حلّ المجون يا أهل الشطارا
…
مذ حلّت الشمس بالحمل
وجدير بنا أن نقف قليلا عند ابن قزمان إمام الزجل الأندلسى ونتحدث عن بعض أزجاله.
(1) يرتفد: يريد أنه لم يدعم بمدد من قومه.
(2)
انظر فى هؤلاء الزجالين فهرس المغرب.
(3)
المغرب 1/ 438.
(4)
العاطل الحالى ص 56.
(5)
المقدمة ص 1357.