الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن (1) عمار
هو أبو بكر محمد بن عمار من قرية من قرى مدينة شلب يقال لها شنّبوس، ومر بنا ما ذكره ياقوت عن شلب وأن نظم الشعر كان يشيع على كل لسان بها، حتى لو طلب أحد إلى فلاح بها خلف محراثه قرض شئ من الشعر قرضه له توا فى أى معنى يطلبه منه، فكان طبيعيا أن تهدى إلى الأندلس شاعرا فذا من شعرائها، وكأنما اختار القدر لها محمد
ابن عمار
الذى نشأ بشلب طفلا لأسرة متواضعة، وتعلم فيها العربية والأدب على شيوخ متعددين منهم أبو الحجاج يوسف بن عيسى الأعلم، ثم رحل إلى قرطبة فأكمل فيها تأدبه، واستيقظت ملكته الشعرية على شئ غير قليل من ضنك العيش وبؤسه، مما جعل ابن بسام يقول عنه إنه «أحد من امترى (2) أخلاف الحرمان، وقاسى شدائد الزمان، وبات بين الدكة والدكان واستحلس (3) دهليز فلان وأبى فلان» . ولم يكن له شئ يتكسب به سوى شعره، فطاف به فى بعض مدن الأندلس مسترفدا، لا يبالى ممن أخذ ولا من مدح من سيد أو سوقة. وحدث أن عاد إلى شلب من بعض سفراته على دابة لا يجد علفها، فنظم مديحا فى رجل من أهل السوق ظنا منه أنه يعطيه النوال الوفر، وإذا هو يسرّ إلى غلامه بكلام، فأتاه بمخلاة شعير، وفكّر فى دابته وحاجتها إلى العلف، فاحتمل الغضاضة. ومضى يتقلب فى بلاد الأندلس للمديح والاستجداء إلى أن وفد على المعتضد (433 - 461 هـ.) أمير إشبيلية ومدحه بقصيدته الفريدة:
أدر الزّجاجة فالنسيم قد انبرى
…
والنّجم قد صرف العنان عن السّرى (4)
واستحسنها المعتضد وأمر له بمال وثياب ومركب وأن يكتب فى ديوان الشعراء، وتعرف حينئذ على ابنه وولى عهده المعتمد، وتوثقت عرى المودة بينهما حتى أصبح المعتمد لا يستغنى عنه ساعة من ليل أو نهار. وولى المعتمد على مدينة شلب من قبل أبيه فاتخذ ابن عمار وزيره فى تلك الولاية وساءت السمعة عنهما لعكوفهما على الخمر والغناء، فأمر
(1) انظر فى ترجمة ابن عمار وأشعاره الذخيرة 2/ 368 وما بعدها والقلائد 83 والحلة السيراء (طبع القاهرة) 2/ 131 والمغرب 1/ 389 والمطرب ص 169 والمعجب للمراكشى (طبع القاهرة) ص 169 وأعمال الأعلام لابن الخطيب 160 والخريدة 2/ 71 وبغية الملتمس رقم 227 وابن خلكان 4/ 425 ونفح الطيب للمقرى (انظر الفهارس).
(2)
امترى: حلب. الأخلاف: الضرع.
(3)
استحلس: لزم. الدهليز: المدخل بين الباب والدار.
(4)
السرى: المسير ليلا.
المعتضد بالتفريق بينهما وخروج ابن عمار عن بلده، فمضى يطوف بأمراء الطوائف، ففترة عند المعتصم بن صمادح أمير المريّة وفترة عند أبى عبد الرحمن بن طاهر أمير مرسية، وفترات أخرى عند غيرهما، إلى أن توفى المعتضد فاستدعاه المعتمد وقرّبه حتى أصبح أقرب إليه من حبل الوريد، وسأل المعتمد ولاية شلب: بلده ومنشئه، فأجابه إلى أن اشتد شوقه إليه، فاستدعاه منها واتخذه وزيره ومستشاره.
وطمح المعتمد إلى الاستيلاء على مرسية، وزيّن له ذلك ابن عمار، فأعدّ جيشا جرارا بقيادته وقيادة عبد الرحمن بن رشيق، وتكفل له ابن عمار بأخذها وإخراج ابن طاهر عنها، غير مراع له حرمة برّه القديم به كما أسلفنا. ونزل بالجيش على مرسية سنة 471 وأخذها وأخرج ابن طاهر عنها، وتمادى فى إنكاره للجميل إذ سوّلت له نفسه أن يستلبها من المعتمد وأن يعلن استقلاله بها، ودانت له هى وأعمالها، وجلس مجلس التهنئة للخواص والعوام واستقبل الشعراء يهنئونه ويمدحونه. واستعمل على الحصون خساس عبيده وأقطعهم الضياع وأقبل على اللهو والخمر والمتاع، وعبثا حاول المعتمد بن عباد أن يرده عن غيّه، وله معه مراجعات شعرية كثيرة، وبدلا من أن يطلب الصفح هجاه وهجا زوجته الرّميكيّة قرة عينيه بقصيدة طارت شهرتها فى الأندلس منها:
فيا عامر الخيل يا زيدها
…
منعت القرى وأبحت العيالا (1)
وأفحش فيها غاية الفحش ولم يفكر فى العواقب، وبينما كان سادرا فى خمره ولهوه أخذ عبد الرحمن بن رشيق يستبدل العبيد من ولاته ببنى إخوته وأخواته حتى صارت مرسية وأعمالها فى يده، حينئذ انتهز فرصة خروجه لرؤية حصن من حصونه، وأغلق أبواب مرسية فى وجهه. وعرف أن لا سبيل إلى دخولها فولّى وجهه نحو سرقسطة وأميرها المؤتمن بن المقتدر بن هود (474 - 478 هـ.) واستقبله على مضض منه لما فعل بالمعتمد ولىّ نعمته، وأرسل إليه قصيدة يستعطفه بها استهلها بقوله:
علىّ وإلا ما نواح الحمائم
…
وفىّ وإلا ما بكاء الغمائم
وأخذ يذكّره بأيامه معه ويسترحمه، لعله يرق له، ولكن ذنبه كان عظيما. ولم يلبث أن رغّب المؤتمن فى الاستيلاء على حصن شقورة شمالى مرسية من يد أميرها عتاد الدولة عبد الله بن سهل، فعرف عتاد الدولة كيف يخدعه ويودعه سجنه، وأرسل إلى المعتمد وغيره من الأمراء هل لأحد فيهم رغبة فى شراء هذا الخائن الآثم الكنود؟ فأرسل إليه
(1) القرى: طعام الضيوف.
المعتمد ابنه الراضى بمال وخيل، وتسلّمه من عتاد الدولة سنة 477 وحاول أن يستلين قلب الراضى ببعض شعره فلم يصغ إليه، ونظم فى طريقه إلى المعتمد قصيدة يستعطفه بها افتتحها بقوله:
سجاياك-إن عافيت-أندى وأسمح
…
وعذرك-إن عاقبت-أجلى وأوضح
ولم ينفعه عند المعتمد تذلله فيها وتضرعه، وكان بقرطبة، فكان يحضره كل ليلة راسفا فى قيوده ويوبخه على سوء فعله، وانحدر به إلى إشبيلية، وأودعه غياهب السجون إلى أن استثارته عليه زوجته الرميكية فأجهز عليه، ورثاه عبد الجليل بن وهبون ببيت مفرد هو قوله:
عجبا لمن أبكيه ملء مدامعى
…
وأقول: لا شلّت يمين القاتل
وبدون ريب كان ابن عمار انتهازيا وصوليا لا يرعى صداقة ولا عهدا، أما شعره ففى الذروة من شعر الأندلسيين وفيه يقول الفتح فى القلائد:«مقذف حصا القريض وجماره ومطلع شمسه وأقماره» ويقول ابن بسام: «شعره غرّب وشرّق، وأشأم فى نغم الحداة وعلى ألسنة الرواة وأعرق. . وهو يضرب فى أنواع الإبداع بأعلى السهام، ويأخذ من التوليد والاختراع بأوفر الأقسام» ويطيل فى الإشادة به، ويقول ابن الأبار فى ترجمته:«من بديع صنيعه إتلاف أشعاره المقولة فى الامتياح وقصائده المصوغة فى الانتجاع ومحو آثارها فما يوقف منها اليوم على شئ سوى أمداحه فى المعتضد وما لا اعتبار به لنزوله» ويتيمته-بحق-وفريدته مدحته الرائية فى المعتضد عباد التى ذكرنا مطلعها، وفيها يصف روضا كأنه حسناء تكتسى بوشى الزهر الأنيق، وتتقلّد بجوهر الندى النفيس، ويخرج إلى المديح فينشد:
عباد المخضرّ نائل كفّه
…
والجوّ قد لبس الرداء الأغبرا (1)
أندى على الأكباد من قطر النّدى
…
وألذّ فى الأجفان من سنة الكرى (2)
أيقنت أنى من ذراه بجنّة
…
لما سقانى من نداه الكوثرا (3)
فاح الثّرى متعطّرا بثنائه
…
حتى حسبنا كلّ ترب عنبرا
وما يزال ابن عمار يفجأ قارئ مدحته بهذه الصور والمعانى البديعة، ومما يفجأ قارئه به تصويره لإطاحة المعتضد بالملوك ودقّه لأعناق كماتهم وشجعانهم إذ يقول:
(1) الجو قد لبس الرداء الأغبر: كناية عن الجدب.
(2)
الكرى: النوم. سنة الكرى: الغفوة فى أوله.
(3)
ذراه: كنفه. الكوثر: نهر فى الجنة.