الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
نشاط الشعر والشعراء
1 - تعرب الأندلس-كثرة الشعراء
(أ) تعرب الأندلس
مرّ بنا أنه كان بالأندلس قبل الفتح العربى الإسلامى عناصر جنسية مختلفة، منها الأوربى من الغالة والبسك والجلالقة والإغريق والرومان والقاندال والقوط، ومنها الآسيوى من الفينيقيين والقرطاجنيين واليهود، ونزلها مع الفتح عرب من آسيا:
قحطانيون يمانيون وعدنانيون مضريون ونزلها معهم بربر كثيرون من أفريقيا وكانوا ينقسمون مثل العرب إلى قبيلين كبيرين: بتر وكانوا ينحازون إلى العرب العدنانيين، وبرانس وكانوا ينحازون إلى العرب القحطانيين، وجلب الحكام الأمويون إلى الأندلس كثيرين من الصقالبة، وبذلك كله كانت الأندلس مجمعا لعناصر جنسية شتى. وذكرنا- فيما أسلفنا من حديث-أن الرومان أدخلوا فيها المسيحية، وأن بعض أهلها شاركوا فى الأدب والفكر اللاتينيين ولكن لا فى موطنهم بالأندلس، وإنما فى روما نفسها حين نشأوا فيها أو هاجروا إليها. والأندلس بل جميع شبه جزيرة إيبيريا لم تستطع فى تاريخها القديم أن تضيف إلى تاريخ الحضارة الإنسانية شيئا ذا بال يذكر لها. ونزلتها منذ أوائل القرن الخامس للميلاد قبائل جرمانية متبربرة من القندال والقوط قضت-أو كادت-على ما كان بها من حضارة رومانية، وأنزلت بها ضروبا من العسف والظلم حتى كاد أهلها يستحيلون إلى ما يشبه الرقيق، سوى ما نشروا فى البلاد من الجهل، مما جعل الأندلس تلقى العرب والبربر الفاتحين بلهجة رومانسية عامية مجدبة من كل ما يتصل بالعلم والفكر والدين إلا ما كان من مجموعة القس إيزيدور الإشبيلى المتوفى سنة 636 للميلاد وقد أشرنا إليها فى الفصل الماضى وقلنا إنها تعرض صورة ساذجة للتاريخ والعلوم ولبعض تفسيرات للكتاب المقدس، كما قلنا إنها تمتلئ بأخطاء كثيرة، وتدل-بوضوح- على ما كان يعم الأندلس وإيبيريا عامة من جهالة مطبقة وتخلف شامل فى مضمار الدين
والفكر والعلوم مع ما كان يعمها من فقدان الحرية والعدل الذى لا تطيب حياة أى شعب بدونهما بل إنها تصبح نكرا وشرا خالصين مع ما كان يجثم عليها من الظلم والقهر البشع والبؤس التعس.
وكأنما كتب للأندلس-حينئذ-أن تتخلص من كل هذه الخطوب المدلهمة بنزول العرب فيها حاملين إلى أهلها تعاليم دينهم السمح فى معاملة أهل الكتاب من النصارى واليهود بمنتهى الرفق، بحيث تكفل لهم حريتهم الدينية فى عباداتهم وما يتخذون لها من كنائس وبيوت وشعائر دون أى تدخل، وبحيث يرفع عنهم ثقل الضرائب الفادحة التى فرضها عليهم القوط وأحالوا بها حياتهم إلى صور بغيضة من البؤس والظلم والهوان.
وكانت هذه المعاملة الإسلامية الكريمة التى حررت أهل الأندلس من جور القوط بعد أن كانوا مسترقين لهم استرقاقا قبيحا، والتى ملأت الأندلس بالعدل الذى يعطى لصاحب الحق حقه دون أى حيف، والذى يسوى بين الناس فى مواجهة الحياة بقسطاس مستقيم، سببا قويا فى أن يعتنق كثيرون من مسيحيىّ الأندلس الإسلام لما يرون فيه من مثل إنسانية رفيعة، ومن دين قويم لا تشوبه أى شائبة من فكرة التثليث المعقدة فى الدين المسيحى، مع ما يتيح لمعتنقه من سعادة فى دنياه وآخرته، وأيضا لأن من كان يعتنق الدين الحنيف منهم يصبح له جميع حقوق العربى الفاتح لدياره، فله كل ما للمسلمين الفاتحين من هذه الحقوق. وهيأ ذلك سريعا فى الأندلس لأن تدخل أفواج متلاحقة فى الإسلام وكانوا يسمون المسالمة، وسمّى أبناؤهم باسم المولدين. وينبغى أن نذكر أنه لم يحدث فى تاريخ العرب بالأندلس أن أكره أحد على الإسلام، فقد كانت الحرية الدينية مكفولة للنصارى واليهود إلى أقصى حد، وكان من أسلم من أهل الكتاب لا بد أن يعلن ذلك أمام قاض من قضاة المسلمين فى قرطبة وغيرها من البلدان، وأن يسجل إعلانه لذلك فى وثيقة يشهد عليها شاهدين، قائلا فيها إنه يعتنق الإسلام بعد أن وقف على شريعته «طائعا آمنا، غير فارّ من شئ ولا مكره، وأنه يحمد الله على أن هداه للإسلام شاكرا له نعمته على هدايته له» (1).
وطبيعى أن يقبل من أسلم من أهل الأندلس على تعلم العربية حتى يحسنوا أداء شعائر الإسلام وتلاوة كتابه التى تعدّ جزء لا يتجزأ من اعتناقه، وبالمثل دفعوا أبناءهم إلى هذا التعلم، ومعنى ذلك أن شطرا كبيرا من أهل الأندلس تعربوا تعربا كاملا: دينا ولغة،
(1) كتاب الوثائق والسجلات لابن العطار (طبع مدريد) ص 405 وما بعدها.
وقد بقى وراءهم شطر ظل على مسيحيته، وكان يتخذ لهجة لاتينية عامية أو رومانثية لغة فى تخاطبه اليومى، غير أنه شعر سريعا بما ذكرناه آنفا من أنها لغة مجدبة فقيرة، وخاصة حين يقرنها إلى العربية، إذ ليس لها تراث أدبى كتراث العربية، وأيضا ليس لها مثلها تراث ثقافى ولا حضارى، تستطيع أن تثبت به أمامها، فضلا عما لأهل العربية فى البلاد من عزة وقوة وسلطان وغلبة، ومعروف أن المغلوب دائما يحاول أن يحاكى الغالب، فما بالنا إذا ظل هذا الغالب يستعلى على مسيحيىّ الأندلس ويهودها ثقافيا وأدبيا وحضاريا لا قرنا ولا قرنين بل قرونا متعاقبة من القرن الثامن الميلادى حتى نهاية القرن الخامس عشر، وهم طوال هذه الحقب كانوا يقفون مشدوهين أمام هذا الفكر العربى الباهر فى العلم والأدب والفلسفة، ويصور ذلك «ترند» فى مقاله بتراث الإسلام قائلا:
«كانت قرطبة فى القرن العاشر الميلادى أكثر المدن الأوربية حضارة، وكانت فى ذلك الحين مثار إعجاب العالم، وبلغ من ارتفاع شأنها أن حكام ليون ونبارّه وبرشلونه كانوا يقصدون إليها كلما مسّتهم الحاجة إلى جراح أو مهندس معمارى أو مطرب كبير» (1). ومنذ أواسط القرن الحادى عشر تتحول طليطلة وبعض المدن الأندلسية التى استولت عليها الإمارات المسيحية الشمالية إلى مؤسسات (2) ترجمة ضخمة لكل ما هو عربى من علم وفلسفة وأدب، ويؤمّ طليطلة طلاب العلم من مختلف البلاد الأوربية: الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية فضلا عن البلاد الإسبانية يحمل كل منهم بمقدار طاقته وجهده أقباسا عربية إلى مدنه وبلدانه، وظل ذلك حتى القرن الخامس عشر للميلاد، وكانت هذه الأقباس من أكبر العوامل فى نهضة أوربا وخروجها من ظلام العصور الوسطى إلى أضواء العصر الحديث. وإنما قلت ذلك كله لأتخذ منه الدليل الساطع على أن من بقى من المسيحيين فى الأندلس على دينه تعرب-مثل زميله الذى اعتنق الدين الحنيف-بحكم ما كان للعربية والعرب من تفوق حضارى وثقافى، وأيضا بحكم ما كان لهم من شعر وأدب رفيع قصص وغير قصص، بينما كانت اللهجة الرومانسية الدارجة فى التخاطب «اليومى» للمسيحيين فى الأندلس وفى شمال إيبيريا فقيرة فقرا شديدا، بحيث لا نستطيع أن نجد مبررا كافيا لما ذهب إليه المستشرق الإسبانى ريبيرا فى نظريته (3) الجديدة المفضية إلى أن عرب الأندلس كانوا يستخدمون العربية الفصيحة لغة رسمية يتعلمونها فى
(1) تراث الإسلام (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص 17.
(2)
انظر فى ذلك تاريخ الفكر الأندلسى لبانثيا ص 536 وما بعدها وفى مواضع مختلفة.
(3)
راجع هذه النظرية فى بالنثيا ص 142 وما بعدها.
المدارس ويكتبون بها الوثائق وما إليها، وكانوا فى شئونهم اليومية وأحاديثهم فيما بينهم يستخدمون لهجة من اللاتينية الدارجة أو الرومانثية، ويقول: إن هذا الازدواج فى اللغة كان الأصل فى نشوء طراز شعرى مختلط تمتزج فيه مؤثرات غربية وشرقية. واتخذ هذا الطراز الجديد من الأدب الشعبى صورتين هما الزجل والموشحة وهما فن شعرى واحد، غير أن الزجل سوقى دارج والموشحة عربية فصيحة. وفى رأينا أن ريبيرا بالغ فى كل ذلك مبالغة أدته إلى نظريته المخطئة.
وقد يشهد لها أن يروى الخشنى عن بعض القضاة بقرطبة أنه كان يعرف اللاتينية الدارجة أو كما كانوا يسمونها العجمية، إذ ذكر عنه أن شخصا صاح عليه بالعجمية وهو منصرف من مجلس قضاء ليقف له، فقال لمن معه قولوا له بالعجمية إن القاضى قد أدركته الملالة والسآمة (1). وواضح أنه فهم مراده من صياحه بالعجمية، مما يدل على أنه كان يعرفها. وأوضح من ذلك فى الدلالة على معرفة بعض القضاة للاتينية الدارجة ما ذكره الخشنى من أن رجلا من شهود أحد القضاة يسمى ابن عمار كانت له بغلة هزيلة تلوك لجامها طوال النهار على باب المسجد، فتقدمت امرأة إلى هذا القاضى فى مجلسه بالمسجد، فقالت له بالعجمية: يا قاضى انظر لشقيّتك هذه (تقصد نفسها) فقال لها بالعجمية: - كما يقول الخشنى-لست أنت شقيتى إنما شقيتى بغلة ابن عمار التى تلوك لجامها على باب المسجد طوال النهار (2). وكان بين القائمين على الشهادة عند القضاة بقرطبة شيخ أعجمى اللسان مقبول الشهادة عندهم (3). وهذه الأخبار جميعا عند الخشنى لا تدل دلالة قاطعة على أنه كانت بقرطبة فضلا عن الأندلس لهجة لاتينية دارجة يستخدمها العرب فى لغة التخاطب لأنها أخبار فردية، وممكن أن يكون القاضيان السالفان رزقا لأمّين أعجميتين، فتلفّظ كل منهما الأعجمية عن أمه، أما اتخاذ القضاة لشاهد أعجمى اللسان فيدل على أنهم كانوا فى حاجة إليه وأنهم كانوا لا يعرفون اللاتينية الدارجة التى يلوكها بعض الأعاجم، فاحتاجوا إلى مترجم يترجم ما يقولون سواء أكانوا من أصحاب الدعاوى أو المتهمين، حتى يحكم القضاة فى قضاياهم عن حسن فقه بها ودقة فهم لها. وهو بذلك خبر ينقض ما يقال من أن لغة التخاطب فى قرطبة كانت لهجة لاتينية دارجة، إذ لم تكن كثرة القضاة بها تعرفها. ومما يدلل به أيضا أنصار نظرية ريبيرا أن بعض الألقاب
(1) قضاة قرطبة للخشنى (طبعة مصر) ص 96.
(2)
الخشنى ص 118.
(3)
الخشنى ص 84.
اللاتينية ظلت تلاحق بعض أعلام الأسر الإسبانية التى دخلت فى الإسلام، وهو شئ طبيعى أن يظل اللقب اللاتينى القديم ملحقا ببعض الأعلام لأنه رمز الأسرة، وقد يقولون: إننا نجده يلحق بعض أبناء العرب أنفسهم من الشعراء وغيرهم، من ذلك أن الشاعر مؤمن بن سعيد المتوفى سنة 267 لقّب زميله عبد الله بن بكر بن سابق الكلاعى الشاعر بلقب النّذل كما فى المقتبس لابن حيان (1)، وفى التكملة لابن الأبار أنه لقّبه بالقملة ولعلها تحريف لكلمة القنلة Canalla باللاتينية أى النذل (2)، وكأنما شاع عليه اللقب بالعربية واللاتينية. ويلقانا بعده شاعر يسمى محمد بن يحيى بن زكريا المتوفى سنة 302 وكان هجاء كبيرا قذر الثياب دائما، فلقبه بعض معاصريه انتقاما منه بلقب القلفاط، (3) و Calafate باللاتينية الدارجة دهّان السفن بالقار، نبزوه بذلك-كما يرى الدكتور مكى-لقذارة ثيابه. وكان سعيد بن عثمان المروانى شاعر المنصور بن أبى عامر فى أواخر القرن الرابع ينبز بلقب البلّينه Ballena (4) وهو باللاتينية الدارجة-كما قال ابن سعيد-الحوت لضخامته. ومثل هذا النبز بالألقاب العجمية لأبناء العرب فى قرطبة والأندلس كان محدودا إذ لا يتجاوز المعروف منه الواضح فى دلالته على النبز عدد أصابع اليدين إن لم يكن عدد أصابع اليد الواحدة، ولذلك لا نستطيع أن نتخذه دليلا على شيوع اللاتينية الدارجة فى تخاطب العرب بالأندلس.
وقد يقول أصحاب نظرية ريبيرا إن فى أيدينا برهانا قويا على صحتها هو ما ذكره ابن حزم فى كتابه «جمهرة أنساب العرب» عن قبيلة بلىّ بالأندلس، إذ قال:«دارهم فى الموضع المعروف باسمهم بشمالى قرطبة، وهم هنالك إلى اليوم (فى القرن الخامس الهجرى) على أنسابهم لا يحسنون الكلام باللاطينية لكن بالعربية فقط: نساؤهم ورجالهم» (5). ويقولون واضح من هذا النص لابن حزم أن قبيلة بلىّ وحدها فى الأندلس دون القبائل العربية الأخرى لم تكن تحسن الكلام باللاتينية الدارجة، بخلاف سواها من القبائل، إذ كانت تتكلم بها وتتخاطب فى لغتها اليومية. وابن حزم إنما تحدث عن بلىّ وحدها، دون أن ينسب بوضوح إلى غيرها من القبائل أنها كانت تحسن الأداء عما فى نفسها باللاتينية. ولعل مما يؤكد أنه كان وراءها قبائل بل مدن لا تتكلم إلا بالعربية على
(1) انظر المقتبس (تحقيق د. مكى طبع بيروت) ص 98 وقابل بالمغرب 1/ 113.
(2)
التكملة (طبع مدريد) رقم 1240 وراجع فى ذلك تعليق د. مكى فى المقتبس ص 504
(3)
راجع المغرب 1/ 111.
(4)
المغرب 1/ 197.
(5)
راجع جمهرة أنساب العرب لابن حزم (طبع دار المعارف) ص 443.
شاكلتها ما جاء عند ياقوت بالقرن السابع فى كتابه معجم البلدان عن أهل شلب إذ يقول: «قلّ أن ترى من أهلها من لا يقول شعرا ومن لا يعانى الأدب، ولو مررت بالفلاح فيها خلف محراثه، وسألته عن الشعر قرض من ساعته ما اقترحت عليه وأى معنى طلبت منه» (1). ويقول ابن الخطيب فى الإحاطة (2) إن أهل غرناطة-فى زمنه بالقرن الثامن الهجرى-ألسنتهم فصيحة عربية، يتخللها إعراب كثير. وفى الروض المعطار للحميرى المتوفى سنة 900:«مدينة شلب فى الجنوب الغربى للأندلس» ويقول: «إن سكانها وسكان قراها ظلوا يحافظون على اللغة العربية الفصيحة إلى عهود متأخرة» (3). وكأنما ظل يعيش فى الأندلس ببعض مدنها وديارها عرب لم يفارقوا لغتهم الفصيحة حتى عصور متأخرة، فكيف يذهب باحث إلى أن العرب-أو كثيرا منهم-هناك زايلت العربية أماكنها من ألسنتهم وعقولهم وقلوبهم وحلت محلها اللاتينية الدارجة فى تخاطبهم اليومى، بينما كانت الفصحى لغة السياسة والسلطان والحكم ولغة الدين والثقافة والفكر والأدب؟ !
ومما يدل على خطأ نظرية ريبيرا أيضا-من بعض الوجوه-صيحة ألبرو القرطبى المشهورة سنة 240 هـ/854 م وفيها يأسى لولع نصارى الإسبان بالأدب العربى ولغته العربية، فما بالنا بولع المسلمين من العرب والإسبان بهذه اللغة وأدبها الرائع، يقول، والحسرة تقطّع نياط قلبه:«إن إخوانى فى الدين يجدون لذة كبرى فى قراءة شعر العرب وحكاياتهم، ويقبلون على دراسة مذاهب أهل الدين والفلاسفة المسلمين، لا ليردّوا عليها وينقضوها، وإنما لكى يكتسبوا من ذلك أسلوبا عربيا جميلا صحيحا، وأين تجد الآن واحدا-من غير رجال الدين-يقرأ الشروح اللاتينية التى كتبت على الأناجيل المقدسة؟ ! ومن-سوى رجال الدين-يعكف على دراسة كتابات الحواريين وآثار الأنبياء والرسل؟ ! يا للحسرة! إن الموهوبين من شبان النصارى لا يعرفون اليوم إلا لغة العرب وآدابها، ويؤمنون بها ويقبلون عليها فى نهم، وهم ينفقون أموالا طائلة فى جمع كتبها، ويصرّحون فى كل مكان بأن هذه الآداب حقيقة بالإعجاب، فإذا حدثتهم عن الكتب النصرانية أجابوك فى ازدراء بأنها غير جديرة بأن يصرفوا إليها انتباههم. يا للألم! لقد أنسى النصارى حتى لغتهم، فلا تكاد تجد بين الألف منهم واحدا يستطيع أن يكتب إلى صاحب له كتابا سليما من الخطأ، فأما عن الكتابة بلغة العرب فإنك واجد فيهم عددا عظيما يجيدونها فى أسلوب منمق، بل هم ينظمون من الشعر العربى ما يفوق شعر العرب أنفسهم فنا وجمالا» (4).
(1) انظر مدية شلب فى معجم البلدان لياقوت.
(2)
الإحاطة (الطبعة الأولى) 1/ 135.
(3)
الروض المعطار للحميرى (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص 106.
(4)
راجع نص هذه الصيحة فى بالنثيا ص 485 وما بعدها.
وألبرو يصرخ-بأعلى صوته-إن شبان النصارى فى الأندلس لزمنه أصبحوا يشغفون شغفا شديدا بلغة العرب وآدابها الرائعة، حتى لقد نسوا لروعتها الباهرة لغتهم اللاتينية، فإذا هى تملك منهم الألسنة والقلوب وتسيطر على العقول والمشاعر والأحاسيس، وإذا هم يعكفون عليها قارئين متخذين منها أمثلتهم فى الكتابة المنمقة ونظم الأشعار البديعة. ويؤكد بالنثيا تلك الصيحة لألبرو قائلا:«إن كل ما ذكره حقيقى تؤيده تلك القصائد التى نجدها فى خاتمة مخطوط محفوظ فى المكتبة الأهلية بمدريد، وهو يضم مجموعة من القوانين الكنسية، وقراراتها مرتبة أبوابا على حسب موضوعاتها ومترجمة من اللاتينية إلى العربية بقلم قسّ يسمّى بنجنسيس، والكتاب مهدى إلى الأسقف عبد الملك، ونظمت عبارات الإهداء فى قصيدة شعرية عربية لا تفترق فى شئ عما ينظمه العرب المسلمون فى هذا المقام شكلا ومضمونا» . ويسوق بالنثيا أربعة أبيات بديعة من تلك القصيدة، ثم يقول:«والكثير من الكتب اللاتينية التى كتبها المستعربون (من نصارى الإسبان) تحمل هوامشها شروحا وتعليقات عربية. . وقد ظلوا يستخدمون العربية زمنا طويلا بعد زوال سلطان الإسلام من الجزيرة (فى طليطلة وغيرها من المدن الأندلسية الوسطى والغربية والشرقية) وظلوا يكتبون بلغة العرب وقائعهم ويتسمّون بأسماء عربية حتى أوائل القرن الرابع عشر، كما يتضح من الوثائق التى خلّفها لنا مستعربو طليطلة» (1).
ويشهد لبالنثيا وألبرو أن نجد بين الإسبان المسيحيين من بلغ من إتقانهم العربية أن عيّنوا كتابا فى دواوين الدولة الأموية منذ أواسط القرن الثالث الهجرى مثل قومس بن أنتنيان الذى مرّ ذكره فى الفصل الأول لعهد الأمير محمد بن عبد الرحمن. وإذا كان ألبرو يشهد بتعرب الإسبان المسيحيين بحيث أصبحوا يستحبّون العربية على لغتهم اللاتينية الدارجة فإن اليهود الذين كانوا يعيشون بإسبانيا منذ قرون طويلة تعرّبت-فى ظننا- كثرتهم حتى لنجد كتب التراجم الأدبية الأندلسية تترجم لنفر منهم بين كتاب الأندلس وشعرائها وموسيقييها ووشّاحيها، وقد ترجم ابن سعيد فى كتابه المغرب لسبعة منهم، هم:
إسماعيل بن يوسف بن النغريلّة وزير باديس بن حبوس فى غرناطة وكان سيئ السيرة، وكذلك لابنه يوسف وكانا شاعرين، ولمعاصرهما حسداى بن يوسف بن حسداى كاتب بنى هود بسرقسطة، وقد أقاله الله من دينه، فأسلم وحسن إسلامه، وكان أديبا مجيدا شعرا ونثرا، وله ترجمة طويلة فى كتاب الذخيرة وكان أبوه كاتبا عند بنى هود قبله، وعيّن
(1) انظر بالنثيا ص 486 وما بعدها.
عبد الرحمن الناصر جده حسداى كاتبا فى دواوينه. وممن ترجم لهم ابن سعيد بين شعراء المائة السادسة إلياس بن صدّود الطبيب وإسحق بن شمعون وكان يحسن الغناء والضرب على الآلات الموسيقية الأندلسية. وترجم ابن سعيد لشاعر يهودى طليطلى مستعرب هو إبراهيم بن الفخار رسول ألفونس إلى الأئمة فى دولة الموحدين. وترجم ابن سعيد فى القرن السابع أيضا لإبراهيم بن سهل الإسرائيلى الإشبيلى الذى آثر الإسلام دينا وعقيدة، وكان شاعرا نابها ووشاحا مجيدا. ومما يدل على اتساع التعرب بين يهود الأندلس أن نجد بين نسائهم شاعرات مجيدات مثل قسمونة بنت إسماعيل اليهودى وكان أبوها-كما يقول المقّرى-شاعرا واعتنى بتأديبها، وكانت تطارحه الشعر، وكان ربما نظم قسما من موشحة، فأتمتها هى بقسم آخر. ومما يؤكد أن الكثرة من يهود الأندلس تعربت تعربا كاملا أنه حين أخذ الإسبان والغربيون يطلبون ترجمة الثقافة العربية إلى الإسبانية الدارجة واللاتينية كان لهم فى ذلك دور ضخم، سوى ما تمثلوه من تلك الثقافة فى لغتهم العبرية، حتى ليقول بالنثيا:«نبعت ثقافة يهود إسبانيا من موارد الثقافة الإسلامية الأندلسية بصفة مباشرة» (1).
ولعل فى ذلك كله ما ينقض-بوضوح-نظرية ريبيرا المفضية إلى أن عرب الأندلس كانوا يستخدمون فى شئونهم اليومية وأحاديثهم فيما بينهم لهجة من اللاتينية الدارجة أو العجمية، لأن فى ذلك ما يخالف الحقائق الكبرى التى قدمناها. وأيضا فإنه لا يستطيع أحد أن يقول إن نصارى الإسبان فى الأندلس ويهودها لم يكونوا يستخدمون فى تخاطبهم اليومى العامية العربية الأندلسية، بينما سموا مستعربين وهو اسم لصق بهم طوال امتزاجهم بالعرب قرونا متوالية. وكل ما يستدل به ريبيرا على نظريته المخطئة ظهور طراز جديد من الأدب الشعبى فى الأندلس اتخذ صورتين هما الموشحة والزجل، ومعروف أن الموشحة سبقت فى نشأتها الزجل بأكثر من قرنين على الأقل وأنها كانت تنظم بالعربية الفصحى فى جمهورها، إلا ما قد يتظرف به ناظمها فى الحين بعد الحين من ذكر كلمات رومانسية فى نهايتها، على نحو ما سنوضح ذلك فيما بعد، ومعروف أيضا أن الزجل لا ينظم بلاتينية دارجة، إنما ينظم بعامية أندلسية تتراءى فيها أحيانا ألفاظ من اللغة اللاتينية الدارجة، وهى ليست عامية لاتينية، إنما هى عامية عربية، شأنها شأن العاميات التى نشأت فى جميع البلاد العربية من التقاء الفصحى فيها بلغات أهلها
(1) راجع دور اليهود فى ترجمة الثقافة الأندلسية عند بالنثيا ص 488 و 537.
الوطنية، وقد دخلتها فى كل بلد عربى بعض خصائص تلك اللغات فى النبر والتصريف، كما دخلتها ألفاظ منها كثيرة. وهو ما حدث فى الأندلس على نحو ما يتضح فى أزجالها، فهى منظومة بعربية عامية تتخللها من حين إلى حين ألفاظ من اللهجة الرومانثية التى كانت مستقرة فى الأندلس قبل الفتح العربى وظلت حية فيما وراءها من الإمارات المسيحية فى الشمال، وبالمثل فى الأندلس على ألسنة بعض النصارى والجوارى الإسبانيات والمسترقين من الإسبان فى الحروب، وانزلقت منها بعض ألفاظ فى الأزجال.
وبين أيدينا نصوص لا تكاد تحصى أو تستقصى من هذه الأزجال المنظومة بالعامية، وليس فيها أى نص مكتوب أو منظوم باللهجة الرومانثية الدارجة فى الأندلس، مما يؤكد أن نظرية ريبيرا المفضية إلى شيوع تلك اللهجة على ألسنة عرب الأندلس مخطئة وكل ما يمكن أن يقال أن بعض عرب الأندلس كانوا يعرفون تلك اللهجة أو يلمون بشئ منها بجانب الفصحى والعامية العربية الأندلسية المتداولة فى الألسنة. ولم يكتب الزجالون بتلك العامية أزجالهم وحدها، بل كتبوا معها أيضا قصائد نظموها على أوزان العروض العربى، على نحو ما يلقانا عند أبى عبد الله أحمد بن الحاج المعروف باسم مدغلّيس، وهو من شعراء القرن السادس الهجرى، إذ ذكر صفى الدين الحلى فى كتابه:«العاطل الحالى» أنه قرأ له فى ديوانه بجانب أزجاله ثلاث عشرة قصيدة عامية على أوزان الشعر العربى، وقد سمّى أوزان عشر قصائد منها، وهى أربع من وزن المديد، واثنتان من وزن الرمل، وأخريان من وزن الخفيف، وقصيدة من وزن المتقارب وأخرى من وزن مخلّع البسيط، وأنشد من كل قصيدة مجموعة غير قليلة من أبياتها العامية (1). ومن المؤكد أن الأزجال عند مدغليس وغيره كانت مثل هذه القصائد العامية تنظم على أوزان الشعر العربى كما سيتضح-فيما بعد-فى تعليقنا على ما ننشده من بعض الأزجال.
والأندلس-بذلك كله-لم يتداول أهلها من العرب فى ألسنتهم لهجة لاتينية دارجة كما توهم ريبيرا، إنما تداولوا فيها عامية عربية، كان يتداولها العامة بالأندلس فى تخاطبهم اليومى بالأسواق وغير الأسواق، واشترك معهم فيها أوساط المثقفين مع تمسكهم بالفصحى وآدابها الرفيعة، يستوى فى ذلك المسلمون والمسالمة، كما يستوى المسيحيون المستعربون ممن تحدث عنهم ألبرو آنفا. والشعب الأندلسى-فى هذا الصنيع-يلتقى
(1) راجع كتاب العاطل الحالى والمرخص الغالى لصفى الدين الحلى بتحقيق حسين نصار (نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة) ص 15 وما بعدها.
بجميع الشعوب الإسلامية فى البلدان العربية المختلفة، إذ كانت الأوساط الثقافية فيها جميعا تتمسك بالفصحى وتتمثل آدابها وتشارك فيها بما تنتج من شعر ونثر، وفى الوقت نفسه تتحدث هذه الأوساط بلغة عامية دارجة مثلها فى ذلك مثل العامة من حولها، وهى لغة أهمل فيها الإعراب، ودخلتها بعض خصائص وألفاظ من اللغات القديمة التى كانت سائدة فى تلك البلدان قبل أن ينزلها العرب ويستقروا فيها ويتخذوها أوطانا جديدة لهم.
وكما أن العامة بمختلف البلدان العربية بدّلت فى بعض ألفاظ العربية تبديلات مختلفة فى حركاتها وانزلقت من كلماتها السوقية والعامية بعض ألفاظ إلى كتابات الكتّاب وقصائد الشعراء مما جعل بعض اللغويين فى المشرق يؤلف كتبا فى لحن العامة، حتى يجتنبه الأدباء وينحّوه عن كتاباتهم وأشعارهم على نحو ما نعرف عند الكسائى البغدادى المتوفى سنة 189 للهجرة كذلك ألّف الزبيدى القرطبى الذى مرّ ذكره بين اللغويين الأندلسيين فى القرن الرابع الهجرى كتابا فى لحن العوام حتى ينبّه الكتّاب والشعراء إلى ما أفسدته العامة من ألفاظ العربية ودخل أحيانا فى كتاباتهم وأشعارهم حتى يتبيّنوه ويجتنبوه (1).
وإذن فقد كانت تشيع عامية عربية فى الأندلس على ألسنة العرب والمستعربين لا لاتينية دارجة أو رومانثية، كما ظن ريبيرا، وهى عامية كانت تهمل الإعراب وتفسد أحيانا النطق السليم لبعض ألفاظ العربية شأن العاميات التى نشأت فى البلدان العربية الأخرى، وقد كتب فيها-كما ذكرنا-العلماء اللغويون من أمثال الزبيدى كتبا، ونظم فيها زجالون أزجالا كثيرة، وأحيانا دواوين زجلية، وأضاف بعض الزجالين إلى أزجالهم قصائد عامية، وهو تراث عربى أندلسى عامى ضخم، وهو لا يقاس من حيث الضخامة إلى ما خلقت العربية هناك من تراث فصيح هائل ثقافى وأدبى وعلمى وفلسفى، بحيث نستطيع أن نقول بحق إن العرب أنشأوا فى الأندلس شعبا عربيا كبيرا ظل بها ثمانية قرون متعاقبة، وظل عربىّ اللغة فصيحة وعامية، وظل عربىّ الدين والحضارة كما ظل عربى الثقافة والعقل والفكر والشعور والوجدان.
(1) انظر مقدمة كتاب لحن العوام للزبيدى بتحقيق الدكتور رمضان عبد التواب (طبع مكتبة دا. العروبة بالقاهرة).