المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٨

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - التكوين الجغرافى والبشرى

- ‌2 - الفتح-عصر الولاة

- ‌(أ) الفتح

- ‌3 - الدولة الأموية

- ‌4 - أمراء الطوائف-المرابطون-الموحدون-بنو الأحمر فى غرناطة

- ‌(أ) أمراء الطوائف

- ‌(ب) المرابطون

- ‌(ج) الموحدون

- ‌5 - المجتمع

- ‌ الحضارة

- ‌الغناء

- ‌المرأة

- ‌6 - التشيع-الزهد والتصوف

- ‌(أ) التشيع

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-الفلسفة-علم الجغرافيا

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) الفلسفة

- ‌(ج) علم الجغرافيا

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب الأندلس-كثرة الشعراء

- ‌(أ) تعرب الأندلس

- ‌(ب) كثرة الشعراء

- ‌2 - الموشحات والأزجال

- ‌(أ) الموشحات

- ‌ ابن عبادة القزاز

- ‌ يحيى بن بقى

- ‌(ب) الأزجال

- ‌ابن قزمان

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ابن عبد ربه

- ‌ ابن عمار

- ‌ابن الحداد القيسى

- ‌الأعمى التّطيلى القيسى

- ‌الرّصافى محمد بن غالب

- ‌ابن زمرك

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌ عبد الملك بن هذيل

- ‌يوسف الثالث

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌ يحيى الغزال

- ‌السّميسر

- ‌اليكّىّ

- ‌5 - الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ حازم القرطاجنى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ابن خاتمة

- ‌2 - شعراء الطبيعة والخمر

- ‌ عبد الرحمن بن مقانا

- ‌ على بن حصن

- ‌ ابن خفاجة

- ‌ محمد بن سفر

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌ محمد بن سوار

- ‌ ابن وهبون

- ‌(ب) رثاء الدول

- ‌ المعتمد بن عباد

- ‌ابن اللبانة

- ‌ابن عبدون

- ‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ ابن العريف

- ‌ ابن عربى

- ‌الششترى

- ‌(ج) شعراء المدائح النبوية

- ‌5 - شعراء الاستنفار والاستصراخ

- ‌ ابن الأبار

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌1 - الرسائل الديوانية

- ‌ البزليانى

- ‌ابن أبى الخصال

- ‌ابن عميرة المخزومى

- ‌2 - الرسائل الشخصية

- ‌حبيب

- ‌ابن الدباغ

- ‌ سهل بن مالك

- ‌3 - الرسائل الأدبية

- ‌رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد

- ‌(أ) رسالة السيف والقلم

- ‌(ب) رسالة النخلة

- ‌(ج) رسالة أهب الشّاء

- ‌رسالتا ابن زيدون: الهزلية والجدية

- ‌رسالة ابن غرسية فى الشعوبية والردود عليها

- ‌رسائل نبوية ومواعظ

- ‌(أ) رسائل نبوية

- ‌ ابن الجنان

- ‌(ب) مواعظ

- ‌منذر بن سعيد البلّوطى

- ‌4 - أعمال نثرية

- ‌طوق الحمامة لابن حزم

- ‌كتابة التاريخ والتراجم الأدبية

- ‌(أ) المقتبس لابن حيان

- ‌(ب) الذخيرة لابن بسام

- ‌مذكرات عبد الله بن بلقّين

- ‌ قصة حى بن يقظان لابن طفيل

- ‌5 - المقامات والرحلات

- ‌(أ) المقامات

- ‌المقامات اللزومية للسّرقسطى

- ‌(ب) الرحلات

- ‌رحلة ابن جبير

- ‌خاتمة

الفصل: ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

إلى جدى وهزلى وتحدث عن موضوعات الشعر العربى ونوه بالشريف الرضى ومهيار وابن خفاجة، كما تحدث عن الأساليب الشعرية ونوه بابن المعتز والبحترى والمتنبى وأبى تمام وابن الضحاك وأبى سعيد المخزومى ويقول إن وظيفة الناقد صعبة وإنه تصعب المفاضلة بين الشعراء إلا إذا كانوا ممتازين ولكل منهم امتيازه وتفرده الواضح. وحازم يختتم النشاط النقدى فى الأندلس، فلم يظهر فيها بعده ناقد كبير.

‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

أخذ المؤدبون فى الأندلس يحفّظون الناشئة سورا من القرآن الكريم منذ استقر المسلمون هناك، ومرّ بنا أنه كان من أوائل هؤلاء المؤدبين الغازى بن قيس الذى كان يؤدب الناشئة قبل دخول عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس سنة 138 للهجرة وذكرنا أنه رحل إلى المشرق طلبا للعلم وقد أخذ عن نافع مقرئ أهل المدينة وأحد القراء السبعة المشهورين قراءته، وهو أول من أدخلها-كما يقول الزبيدى-إلى الأندلس، وكان ابنه عبد الله يقرئ بها-بعده-الناشئة والناس، وكان يعاصر عبد الله بن الغازى أبو عبد الله محمد بن عبد الله مؤدب أبناء الحكم الربضى (180 - 206 هـ) ويقول الزبيدى إن له رحلة إلى المشرق أخذ فيها عن ورش عثمان بن سعيد القبطى الأصل المصرى تلميذ نافع قراءته، وأخذت تشيع هذه القراءة فى الأندلس كما أخذت تشيع فى المغرب عن طريق تلاميذ آخرين لورش، ولا تزال شائعة فيه إلى اليوم. ومن حين إلى آخر طوال العصر يلقانا من اشتهروا بهذه القراءة مثل عبد الله (1) بن محمد القضاعى الذى كان يقرئ الناس بقراءة ورش فى عهد الحكم المستنصر (350 - 366 هـ) حتى توفى سنة 378. وما نكاد نصل إلى نهاية القرن الرابع وأوائل الخامس حتى نجد نفرا من الأندلسيين يأخذون القراءات-وخاصة القراءات السبع-عن المشارقة ويحاولون التأليف فيها مقتدين بهم فى ذلك إذ نجد بقرطبة مؤلفا كبيرا فى القراءات هو أبو عمر (2) الطلمنكى المولود سنة 340 وقد رحل إلى المشرق فأخذ القراءات عن أئمتها فى الشام

(1) طبقات القراء 1/ 456.

(2)

انظر فى الطلمنكى النشر فى القراءات العشر لابن الجزرى 1/ 71 وكتابه طبقات القراء 1/ 120.

ص: 106

ومصر، وخاصة عن عبد المنعم بن غلبون المتوفى سنة 389 صاحب كتاب الإرشاد فى القراءات السبع وشيخ المقرئين بالقاهرة، وعاد إلى قرطبة يعنى بدراستها حتى توفى سنة 429 وله فيها كتاب الروضة. وكان يقرئ الناس معه بقرطبة مكى (1) بن أبى طالب المعروف بحموش القيروانى منذ نزلها سنة 393 إلى أن توفى سنة 437 وهو تلميذ عبد المنعم بن غلبون مثل الطلمنكى، وعدّ له ابن خلكان فى القراءات واختلاف القراء تصانيف كثيرة منها كتاب التبصرة فى خمسة أجزاء، وكتاب فى أصول قراءة نافع وذكر الاختلاف عنه فى جزءين وكتاب فى تصحيح المدّ لورش فى ثلاثة أجزاء. ومن القراء المهمين حينئذ أبو عمر وعثمان بن سعيد الدانى (2) المولود بقرطبة سنة 371 وقد رحل إلى مصر سنة 397 وأخذ القراءات عن شيوخها وعاد إلى قرطبة يقرئ بها القرآن إلى سنة 403 إذ تركها سبعة أعوام إلى سرقسطة فى الشمال وعاد إلى قرطبة وتركها سريعا إلى المرية ورحل عنها إلى جزيرة ميورقة فأقام بها ثمانية أعوام، ثم غادرها إلى دانية سنة 417 واتخذها سكنا ودار إقامة إلى أن توفى سنة 444 للهجرة، وهو أحد الأئمة فى قراءات القرآن وتفسيره وعلومه، وله فيها مصنفات حسان يطول تعدادها، منها كتاب التيسير فى القراءات السبع وعليه عوّل الأندلسيون وهو منشور، وله كتاب إيجاز البيان فى قراءة ورش عن نافع، ونشر له فى دمشق كتاب المحكم فى نقط المصاحف. ويلقانا بعده محمد (3) بن شريح الإشبيلى المتوفى سنة 476 وكتابه الكافى فى القراءات. وأهم قراء الأندلس بعد الدانى الإمام الشاطبى (4) الضرير القاسم بن فيرّه نزيل القاهرة المتوفى بها سنة 590 نزلها سنة 572 ورتبه القاضى الفاضل وزير صلاح الدين بمدرسته متصدرا لإقراء القرآن الكريم وقراءاته، وله قصيدة «حرز الأمانى ووجه التهانى فى القراءات» وعدّتها ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتا، وعليها عوّل القراء فى زمنه وبعد زمنه حفظا وقراءة وتفسيرا، ولها شروح كثيرة، يقول ابن خلدون: «استوعب الشاطبى ما دوّنه

(1) راجع فى مكى طبقات القراء 2/ 309 وبغية الملتمس 455 ومعجم الأدباء 19/ 167 وإنباه الرواة 3/ 313 وابن خلكان 5/ 274.

(2)

انظر فى الدانى طبقات القراء 1/ 503 والصلة رقم 873 ومعجم الأدباء 12/ 121 وبغية الملتمس 399 وتذكرة الحفاظ 3/ 298 وطبقات المفسرين للسيوطى 159 وإنباه الرواة 2/ 341 والنفح 2/ 135.

(3)

راجع النشر فى القراءات العشر 1/ 67 وابن خلكان 7/ 82.

(4)

انظر فى الشاطبى التكملة لابن الأبار رقم 1973 وطبقات القراء 2/ 20 والذيل والتكملة للمراكشى 5/ 548 ومعجم الأدباء 16/ 293 ونكت الهميان ص 228 وطبقات الشافعية للسبكى 7/ 270 ونفح الطيب 2/ 45.

ص: 107

الدانى فى القراءات بقصيدته وعنى الناس بحفظها وتلقينها للولدان المتعلمين وجرى العمل على ذلك فى أمصار المغرب والأندلس (1)». وخاتمة قراء الأندلس أبو حيان الغرناطى الذى مر ذكره بين النحاة، ويقول فى مقدمة تفسيره إن له فى القراءات منظومة فى ألف بيت وأربعة وأربعين ويذكر من ترجموا له أن له كتابا فى كل قارئ من القراء السبعة وأيضا كتابا فى قراءة زيد بن على إمام الزيدية.

ومعروف أنه تكونت حول القرآن علوم كثيرة تتناول نقطه ورسمه والإملاءات فيه والإدغام والوقف والابتداء كما تتناول مشكل معانيه وناسخه ومنسوخه وأحكامه، وللقارئين: الدانى ومكى فى ذلك كتب مختلفة. وظلت الأندلس تعنى بتلك العلوم وظل الأندلسيون يؤلفون فيها مثل المشارقة، ويطول بنا الحديث لو تعقبنا ما كتبوا فيها.

وحسبنا أن نتحدث عن نشاطهم فى تفسير الكتاب العزيز، ومن أقدم ما ألّف فيه هناك كتاب بقى (2) بن مخلد المتوفى سنة 276 للهجرة، وفيه يقول ابن حزم:«هو الكتاب الذى أقطع قطعا لا أستثنى فيه أنه لم يؤلف فى الإسلام تفسير مثله: لا تفسير محمد بن جرير الطبرى ولا غيره» وابن حزم يضعه فوق تفسير الطبرى أهم التفاسير المشرقية للذكر الحكيم حتى زمنه فى النصف الأول من القرن الخامس الهجرى. ونلتقى بعد بقى بمحمد (3) بن عبد الله بن أبى زمنين المتوفى سنة 399 وله مختصر فى التفسير منه مخطوطة بمكتبة القرويين، ولمكى المذكور آنفا تفسير ضخم سماه:«الهداية إلى بلوغ النهاية فى معانى القرآن الكريم وتفسيره وأنواع علومه» وكان فى سبعين جزءا، وسقط من يد الزمن. وأهم تفسير أنتجته الأندلس بعد تفسير بقى التفسير الكبير لابن عطية (4) أبى محمد عبد الحق بن غالب بن عطية قاضى المريّة المتوفى سنة 542، وولى أبوه قبله قضاء غرناطة، فهو من بيت علم وفضل، وكان فقيها نابها عارفا بالأحكام والحديث، وكتابه المحرر الوجيز فى التفسير من أحسن التآليف فيه وأبدع التصانيف على مر الأزمنة، وسماه الوجيز تواضعا، وهو فى مجلدات ضخمة، وفيه لخّص-كما يقول

(1) مقدمة ابن خلدون تحقيق الدكتور وافى 3/ 1030

(2)

راجع فى بقى ابن الفرضى 1/ 107 والحميدى 167 ونفح الطيب (تحقيق إحسان عباس) 3/ 168 والصلة رقم 277 والبغية للضبى 229 ومعجم الأدباء 7/ 75 وتذكر الحفاظ للذهبى 629.

(3)

انظر فى ابن أبى زمنين الحميدى 53 وابن بشكوال، رقم 1047 والبغية 77 وطبقات المفسرين للسيوطى رقم 102 والوافى للصفدى 3/ 321 وابن فرحون 2/ 232.

(4)

راجع فى ابن عطية الفتح فى القلائد ص 208 وتاريخ القضاة للنباهى ص 109 والصلة رقم 825 وابن فرحون فى الديباج 2/ 57 والمغرب 2/ 117.

ص: 108

ابن خلدون-التفاسير المأثورة كلها وتحرّى الأقرب إلى الصحة منها، وتداول تفسيره بعده أهل المغرب والأندلس (1). وينسب لمحيى الدين بن عربى المتوفى سنة 638 تفسير مطبوع، وأكبر الظن أن نسبته له غير صحيحة، ونلتقى بعده بالقرطبى (2) محمد بن أحمد نزيل مصر الذى اختار المنيا بالصعيد سكنا إلى أن توفى سنة 671 وله تفسيره المشهور المسمى:«جامع أحكام القرآن والمبين لما تضمن من السنة وآى القرآن» وهو فى عشرين مجلدا، سار فيه على نهج ابن عطية فى تفسيره (3). ويختتم نشاط الأندلسيين فى تفسير القرآن العظيم بكتاب البحر المحيط لأبى حيان الذى مرّ بنا ذكره بين النحاة وهو فى ثمانى مجلدات ضخام، ويذكر فى مقدمته مصادره فى اللغة والنحو والبلاغة والحديث النبوى وأصول الفقه وعلم الكلام وكتب القراءات والتفسير ويشيد بتفسير عبد الحق بن عطية مواطنه وتفسير الزمخشرى، ويذكر من روى عنهم هذين التفسيرين خاصة لأنه كثير النقل عنهما والمراجعة لهما فى تفسيره، ويعنى فيه عناية واسعة بوجوه الإعراب وببيان لغات العرب كما يعنى بالقراءات السبع وما وراءها مما يكمل القراءات الأربع عشرة والشاذة.

ونشطت الأندلس فى علم الحديث نشاطا واسعا منذ محدثها وقاضيها معاوية (4) بن صالح المتوفى سنة 178 سواء فى روايته أو فى التصنيف فيه وفى رجاله. ويتسع هذا النشاط منذ القرن الثالث الهجرى، ونلتقى فيه ببقى بن مخلد الذى مر ذكره بين المفسرين، وله فى الحديث النبوى مصنف يقول فيه ابن حزم:«له فى الحديث مصنفه الكبير الذى رتبه على أسماء الصحابة رضى الله عنهم، فروى فيه عن ألف وثلاثمائة صحابى ونيف، ثم رتب حديث كل صحابى على أسماء الفقه وأبوابه فهو مصنف ومسند» أى أنه مصنف فى الفقه وأحكامه ومسند على طريقة مسند ابن حنبل يراعى فيه الصحابى الراوى للحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع كل حديث سنده، ويقول ابن حزم: «ما أعلم أحدا سبق بقى بن مخلد إلى مثل ذلك مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله وجودة شيوخه،

(1) مقدمة ابن خلدون 3/ 1032.

(2)

انظر فى القرطبى طبقات المفسرين للسيوطى ص 28 وابن فرحون 2/ 308 والوافى للصفدى 2/ 122 وشذرات الذهب 5/ 335.

(3)

ابن خلدون 3/ 1032.

(4)

راجع فى معاوية ابن الفرضى رقم 1443 والحميدى رقم 796 ومعجم الصدفى لابن الأبار ص 180 وترتيب المدارك للقاضى عياض 1/ 349 وابن القوطية ص 43 والمغرب 1/ 102 والقضاة للخشنى (طبعة ريبيرا) ص 30 وتهذيب التهذيب لابن حجر (طبع حيدر آباد) 10/ 209

ص: 109

فإنه روى أحاديثه فى المصنف عن مائتى رجل وأربعة وثمانين ليس فيهم عشرة ضعاف وسائرهم أعلام مشاهير» (1) ويقول ابن حيان فى المقتبس به انتشر الحديث بالأندلس ورسا أصله، ثم تلاه محمد (2) بن وضّاح المتوفى سنة 287 - وله رحلتان إلى المشرق-فى نشر الحديث وسعة الرواية، «فاستوسع أهل الأندلس فى الحديث من يومئذ وصارت دار حديث ومعدن؟ ؟ ؟ سنة» (3) وهما لم يدفعا الأندلس إلى السعة فى الحديث وروايته فحسب، بل دفعاها أيضا إلى معرفة طرقه وعلله. ويلقانا بعد بقى وابن وضاح تلميذهما ثابت (4) بن عبد العزيز السرقسطى المتوفى سنة 313 وابنه قاسم المتوفى قبله سنة 303 وقد رحلا إلى المشرق فى طلب الحديث وعادا إلى قرطبة، فعنى قاسم بتأليف كتاب فى غريب الحديث سماه «الدلائل» وحال الموت بينه وبين تمامه فأتمه أبوه، ويقول ابن حزم إن كتاب الغريب المصنف المشهور فى غريب الحديث لأبى عبيد القاسم بن سلام لا يتميز عليه إلا بالتقدم فى زمن تأليفه فحسب. ومن أهم المحدثين فى القرن الرابع قاسم (5) بن أصبغ تلميذ بقى بن مخلد وابن وضاح المتوفى سنة 340 وله كتاب غرائب حديث مالك بن أنس مما ليس فى الموطأ، وكتاب المجتبى ويشيد ابن حزم بعلو سنده، ويقول: له فى الحديث مصنف، وكذلك لمعاصره محمد (6) بن عبد الملك بن أيمن (المتوفى سنة 330) وهما مصنفان رفيعان احتويا من صحيح الحديث وغريبه ما ليس فى كثير من كتب المصنفات. ويلقانا فى آخر القرن الرابع ابن فطيس المتوفى سنة 401 وينوه ابن بشكوال فى كتابه الصلة بحفظه للحديث وعلله، ومعرفته بأسماء الرواة: المعدّلين منهم والمجرّحين (7). ونلتقى فى القرن الخامس بكتاب الجمع بين الصحيحين للحميدى (8) صاحب جذوة المقتبس التى نرجع إليها فى الهوامش المتوفى سنة 488. ويتكاثر المصنفون لكتب الحديث النبوى فى القرن السادس الهجرى، ومنهم رزين (9) السرقسطى المتوفى سنة 524 وله كتاب التجريد فى الجمع بين الموطأ والصحاح الخمس: البخارى ومسلم وأبى داود والترمذى والنسائى، وقد

(1) نفح الطيب 3/ 168.

(2)

انظر فى ابن وضاح ابن الفرضى رقم 1134 والحميدى رقم 152 والضبى رقم 291.

(3)

المقتبس (تحقيق د. محمود مكى-نشر بيروت) ص 264

(4)

راجع فى ثابت وقاسم ابنه مراجعهما فى هامش ص 92 وأيضا النفح 3/ 170 والحميدى رقم 345، 771

(5)

انظر فى ابن أصبغ النفح 3/ 169 وابن الفرضى رقم 1068

(6)

راجع فى ابن أيمن النفح 3/ 169 والحميدى رقم 98 وابن الفرضى رقم 1228.

(7)

انظر الصلة رقم 679.

(8)

راجع فى الحميدى الصلة رقم 1114 ومعجم الأدباء 7/ 58 وابن خلكان 4/ 282 وما به من مصادر والوافى للصفدى 4/ 317.

(9)

انظر فى رزين الصلة رقم 424 والضبى 741.

ص: 110

دوت شهرته فى المغرب والمشرق وعليه اعتمد ابن الأثير فى كتابه «جامع الأصول» .

وجاء بعده الرشاطى (1) عبد الله بن على المتوفى سنة 542 وله كتاب فى أنساب رواة الحديث على نهج كتاب الأنساب للسمعانى،

وجاء بعده ابن قرقول (2): إبراهيم بن يوسف المتوفى سنة 569 وله كتاب مطالع الأنوار وضعه على مثال كتاب مشارق الأنوار للقاضى عياض فى غريب الحديث. وكان يعاصره عبد الحق (3) الإشبيلى المعروف بابن الخراط المتوفى سنة 581 وله كتاب الجمع بين الصحيحين: البخارى ومسلم، وله أيضا كتاب فى الجمع بين الصحاح الستة وكتاب فى المعتل من الحديث وكتاب فى غريبى القرآن والحديث ضاهى به الغريبين للهروى وثلاث نسخ من كتاب له فى الأحكام: كبرى ووسطى وصغرى. ومن أهم المحدثين بالأندلس فى القرن السابع الهجرى ابن القطان (4) على بن محمد المتوفى بفاس سنة 628 وكان من أبصر العلماء بالحديث وعلله ورجاله ورأس طلبة الحديث بمراكش قاطبة، ويذكر ابن الأبار أن له تآليف مختلفة فى الحديث. وخاتمة المحدثين بالأندلس أحمد بن (5) فرح الإشبيلى نزيل دمشق وبجامعها حدّث إلى أن توفى سنة 699 وله قصيدة غزلية ضمّن أبياتها أكثر مصطلحات الحديث. وللأندلسيين معاجم مختلفة فى رجال الحديث ورواته، من أهمها كتاب أنساب الرواة للرشاطى المار ذكره، ومن أهمها أيضا كتاب طبقات المحدثين وطبقات أئمة الفقهاء لابن الدباغ (6) يوسف بن عبد العزيز الأندى المتوفى سنة 546 وكان من أعرف المحدثين بثقات الرواة وضعفائهم.

وللأندلس نشاط خصب فى الفقه ودراساته، وكانت تعتمد فيه أولا على مذهب الإمام الأوزاعى فقيه الشام المشهور المتوفى سنة 157 للهجرة، إذ كان أكثر العرب الفاتحين للأندلس والقادمين إليها من الشام، فكان الفقهاء يفتون الناس به، وفى مقدمتهم صعصعة (7) بن سلام تلميذه المتوفى سنة 192 وهو الذى أفتى الناس هناك-أخذا برأى

(1) راجع فى الرشاطى الصلة رقم 648 وتذكرة الحفاظ للذهبى 1307 والمطرب لابن دحية (طبع القاهرة) 61، 120 وابن خلكان 3/ 106

(2)

راجع فى ابن قرقول بقية التكملة رقم 394 وابن خلكان 1/ 62

(3)

انظر فى ابن الخراط عبد الحق التكملة رقم 1805 وتذكرة الحفاظ 4/ 139 والمراكشى فى المعجب ص 347 وفوات الوفيات 2/ 518.

(4)

راجع ابن القطان فى التكملة رقم 1920

(5)

انظر ابن فرح فى طبقات الشافعية (الطبعة الجديدة) 8/ 26 وتذكرة الحفاظ 4/ 1486 وشذرات الذهب 5/ 443 والنجوم الزاهرة 8/ 191.

(6)

راجع ابن الدباغ فى الصلة رقم 1395

(7)

انظر فى صعصعة ابن الفرضى رقم 605 والحميدى رقم 510.

ص: 111

أستاذه-بغرس الشجر فى صحن المسجد الجامع بقرطبة، وظل به العمل فى المساجد الجامعة بالأندلس (1) بعد انصرافها عن مذهب الأوزاعى إلى مذهب مالك (2) بن أنس إمام المدينة، إذ كانوا يرحلون فى كل عام إلى الحجاز للحج، وكانت المدينة حتى وفاة مالك سنة 179 تعدّ دار الفقه ويؤمها ويؤم إمامها مالك التلاميذ من كل فجّ، فكان طبيعيا أن يكون بين هؤلاء التلاميذ أندلسيون، وخاصة أنه كان لمالك سمعة مدوّية فى العالم الإسلامى، وأيضا فإن عبد الرحمن الداخل (138 - 172 هـ) وابنه هشاما (172 - 180 هـ) دفعا الطلاب للرحلة إلى مالك لأنه كان مغاضبا للعباسيين منذ أفتى أهل المدينة بالتحلل من بيعة الخليفة المنصور ومبايعة النفس الزكية محمد بن عبد الله سليل الحسن بن على بن أبى طالب سنة 145 ولم يلبث واليها جعفر بن سليمان أن دعا بمالك سنة 146 بعد القضاء على ثورة النفس الزكية، وجرّده وضربه بالسياط عقابا له على فتواه (3). وهو ما جعل-فى رأينا-عبد الرحمن الداخل وابنه هشاما يتشيعان لمالك ومذهبه الفقهى نصرة له ضد العباسيين وصاحبهم أبى حنيفة وتلاميذه، مما أشعل الحماسة فى نفوس طلاب العلم الأندلسيين للتلمذة على مالك وحمل كتابه الموطأ إلى الأندلس ودراسته للطلاب بقرطبة وغير قرطبة، ومن أوائل من أدخله إلى الأندلس-إن لم يكن أول من أدخله-الغازى بن قيس الذى مر بنا بين المؤدبين والقراء، يقول ابن القوطية:

«فى أيام عبد الرحمن بن معاوية (الداخل) دخل الغازى بن قيس الأندلس بالموطأ عن مالك وبقراءة نافع، وكان له مكرما ومتكررا عليه بالصلة فى منزله» (4) ويقول الحميدى:

كانت تدور الفتيا على الغازى بن قيس فى عهد هشام إذ كان مشاورا مع مصعب بن عمران (5). ومن أوائل من أدخلوا الموطأ أيضا إلى الأندلس شبطون (6): زياد بن عبد الرحمن المتوفى سنة 204 وفى بعض الروايات أنه أول من أدخل الموطأ إلى

(1) انظر فى هذه المسألة تاريخ قضاة الأندلس للنباهى (طبع القاهرة) ص 51.

(2)

ظلت فى الأندلس بقية لمذهب الأوزاعى فى الفقه، يدل على ذلك أن نجد زهير بن مالك المتوفى سنة 250 فقيها على مذهبه. انظر الحميدى ص 205 وابن الفرضى فى تاريخ علماء الأندلس (طبع مدريد) ص 181.

(3)

راجع ترجمة مالك فى ابن خلكان 4/ 35.

(4)

انظر افتتاح الأندلس لابن القوطية (طبع مدريد، ص 35

(5)

الحميدى ص 305.

(6)

راجع فى شبطون ابن الفرضى رقم 456 والحميدى رقم 439 والقضاة للخشنى ص 14، 33 وابن فرحون 1/ 370.

ص: 112

الأندلس. وأول فقيه أندلسى مالكى يعدّ-بحق-بين أئمتها المالكيين عيسى (1) بن دينار المتوفى سنة 212 ويقول ابن حيان فى المقتبس: «رحل عيسى فأدرك أصحاب مالك، وسمع من عبد الرحمن بن القاسم رئيس المدرسة المالكية بمصر حتى وفاته سنة 191 واقتصر عليه فاعتلت فى الفقه المالكى طبقته. . وكان محمد بن وضاح يقول:

«هو الذى علّم أهل الأندلس الفقه» ويقول أيضا ابن حيان: «كان لا يعدّ فى الأندلس أفقه منه فى نظرائه» وله فى الفقه المالكى كتاب الهداية، وفيه يقول ابن حزم إنه من أرفع الكتب وأجمعها فى معناها على مذهب مالك وتلميذه عبد الرحمن بن القاسم (2). وتألق فى الفقه المالكى بالأندلس بعد ابن دينار نجم يحيى (3) الليثى المتوفى سنة 234 وقد سمع الموطأ فى أول نشأته بالأندلس من شبطون ورحل فى الثامنة والعشرين من عمره إلى المشرق ولحق الليث بن سعد فقيه مصر، كما لحق مالكا وسمع الموطأ منه إلا بعض أبواب سمعها فى الفسطاط من عبد الرحمن بن القاسم. وكان أقرب الفقهاء إلى الأمير عبد الرحمن بن الحكم الربضى (206 - 238 هـ) وكان يلتزم من إعظامه وتكريمه وتنفيذ أموره ما يلتزمه الولد لأبيه ويقول ابن حزم:«إنه كان لا يولّى قاضيا إلا بمشورته واختياره ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه المالكى وبذلك انتشر مذهب مالك فى الأندلس» . ولم يقبل تولى القضاء إذ فرّغ نفسه للدراسة ولقاء طلابه الكثيرين.

وحرى بنا أن نتوقف قليلا لنوضح-من بعض الوجوه-مدى ما كان للفقهاء المصريين من تأثير فى الفقه المالكى وفقهائه فى الأندلس فإن إمامهم عيسى بن دينار تخرّج فى الفقه المالكى على يد عبد (4) الرحمن بن القاسم، وتخرّج مثله على يده سحنون

(1) انظر فى ابن دينار ابن الفرضى رقم 973 والحميدى ص 279 والضبى ص 389 والمقتبس لابن حيان (طبعة بيروت-تحقيق مكى) ص 78، 99.

(2)

النفح 3/ 167 وترتيب المدارك للقاضى عياض (طبعة الرباط) 1/ 17

(3)

راجع فى يحيى المقتبس ص 42 و 83 وما بعدها وابن الفرضى رقم 1554 والحميدى رقم 908 وابن خلكان 6/ 143 والمغرب 1/ 163 وترتيب المدارك لعياض (طبع بيروت) 1/ 534.

(4)

يذكر كثيرا فى النصوص الأندلسية أن الفقهاء كانوا يلتزمون بآراء عبد الرحمن بن القاسم المصرى الفقيه حتى ليقول أبو الوليد الشقندى فى رسالته التى كتبها فى فضل الأندلس واحتفظ بها المقرى فى النفح (طبعة د. إحسان عباس) 3/ 216: «أهل قرطبة أشد الناس محافظة على العمل بأصح الأقوال المالكية حتى إنهم كانوا لا يولون قاضيا إلا بشرط أن لا يعدل فى أحكامه عن مذهب ابن القاسم» .

ص: 113

فقيه القيروان الذى حمل عنه مدونته (1) وأذاعها بموطنه، فنسبت إليه، وهى من عمل ابن القاسم وإملاءاته (2) على طلابه. وقد تتلمذ عليه من فقهاء قرطبة كثيرون ويدور اسم ابن القاسم تاليا لاسم مالك فى كتب الفقه المالكى الأندلسى، ونمثل لذلك بكتاب الوثائق والسجلات لابن العطار، فقد ذكر مالكا فى فتاويه وأحكامه نحو تسعين مرة وذكر ابن القاسم 54 مرة. ويذكر أيضا فى تلك الكتب اسم كبار الفقهاء المالكيين بمصر ممن تتلمذ لهم الأندلسيون مثل أشهب بن عبد العزيز رئيس المدرسة المالكية بعد ابن القاسم إلى أن توفى سنة 204 وأصبغ بن الفرج رئيس تلك المدرسة بعد أشهب إلى أن توفى سنة 225. ويذكر أيضا فيها الإمام الليث المذكور آنفا الذى قال فيه الشافعى:«الليث بن سعد أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به» يقصد تلاميذه المصريين. ونرى يحيى الليثى عميد الفقهاء المالكيين فى الأندلس المذكور آنفا والذى كان لا يفتى إلا برأى مالك يترك رأيه فى القنوت فى الصبح لرأى الليث، كما يترك رأيه فى الأخذ باليمين مع الشاهد لرأى الليث فى إيجاب شاهدين والمسألة الأخيرة من المسائل الثلاث (3) التى خالفت فيها مالكية الأندلس جميعا الإمام مالكا مؤثرة رأى الليث، والمسألة الثانية مسألة الخلطة وهى الشركة غير المميزة كأن يكون لرجل فى غنم مائة وعشر ولآخر فى نفس الغنم مائة وعشر فهل تؤخذ الصدقة على مجموعهما فيكون عليهما ثلاث شياه أو تؤخذ من كل منهما على حدة فيكون على كل واحد منهما شاة واحدة، والفقهاء يختلفون هل تؤخذ الصدقة على الجمع أو على التفريق. والمسألة الثالثة التى خالفت فيها مالكية الأندلس جميعا مالكا إلى رأى الليث هى مسألة كراء الأرض للفلاح بجزء مما يخرج منها بالنصف أو الثلث مثلا وهو نظام معروف فى مصر إلى اليوم، وكأن المصريين أخذوا بفتوى الليث على مر الأزمنة كما أخذ بها الأندلسيون. ومرّ بنا أنهم أخذوا بمذهب الأوزاعى فى غرس الشجر فى المساجد مخالفين فى ذلك رأى مالك. وخلف يحيى الليثى فى رياسة المدرسة المالكية بالأندلس عبد (4) الملك بن حبيب المتوفى سنة 238 للهجرة، وله كتاب

(1) ابن خلكان 3/ 181 إذ يقول أصل المدونة أسئلة سأل عنها فقيه القيروان أسد بن الفرات ابن القاسم فأجابه عنها، وجاء بها إلى موطنه فكتبها عنه سحنون ورحل بها إلى ابن القاسم سنة 188 فعرضها عليه وأصلح فيها مسائل ورجع بها إلى القيروان سنة 191.

(2)

انظر المقتبس ص 84.

(3)

راجع فى هذه المسائل التى خالف فيها مالكية الأندلس مذهب مالك النباهى ص 51.

(4)

انظر فى عبد الملك بن حبيب ابن الفرضى رقم 814 والزبيدى فى طبقات النحويين واللغويين ص 282 والحميدى رقم 628 والمغرب 2/ 96 والمطمح لابن خاقان ص 36 وابن فرحون فى الديباج 2/ 8 وتذكرة الحفاظ 2/ 112.

ص: 114

الواضحة فى الفقه المالكى الذى اشتهر فى الأندلس وبلدان المغرب. ومن كبار الفقهاء بعده ابن عتبة (1) محمد بن أحمد المتوفى سنة 254 وهو تلميذ يحيى الليثى وعبد الملك بن حبيب، رحل إلى المشرق ومصر وسمع بها أصبغ بن الفرج، وله كتاب المستخرجة وتسمى العتبية نسبة إليه، وطارت شهرتها فى الأندلس والمغرب. وكان يعاصره يحيى (2) بن مزين المتوفى سنة 259 وله كتاب فى تفسير الموطأ للإمام مالك أشاد ابن حزم به وباستقصائه لمعانى الموطأ، كما أشاد بكتاب ثان له فى رجال الموطأ. ومن الفقهاء المؤلفين بعده يحيى (3) بن عبد الله حفيد يحيى الليثى المتوفى سنة 367، وكان يملى على الطلاب بقرطبة الموطأ وكتاب سماع ابن القاسم وحديث الليث وعشرة (4) جدّه يحيى الليثى. وفى ذلك ما يدل على أن كتابا فى الأندلس كان يروى عن ابن القاسم يسمى سماعه وهو يقابل كتاب المدونة رواية سحنون فى القيروان، كما كان يروى كتاب آخر عن الليث يسمى حديثه، فكان لكل من هذين الفقيهين المصريين كتاب متداول هناك. وجاء بعد ذلك ابن أبى زمنين (5) المتوفى سنة 399 وله المغرب فى اختصار مدونة سحنون وكتاب فى الشروط وشرح كبير على الموطأ.

ونلتقى فى زمن أمراء الطوائف بالفقيه المالكى الأندلسى الكبير ابن عبد (6) البر يوسف النمرى المتوفى سنة 463 للهجرة وله «كتاب الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمن الموطأ من معانى الرأى والآثار» شرح فيه الموطأ على نسق أبوابه وكلامه شرحا بديعا، وله «كتاب التمهيد لما فى الموطأ من المعانى والأسانيد» رتبه على أسماء شيوخ مالك على حروف المعجم، قال ابن حزم: لا أعلم فى الكلام على فقه الحديث مثله أصلا، وله كتب لا مثيل لها، منها كتابه المسمى بالكافى فى الفقه على مذهب مالك وأصحابه خمسة عشر جزءا». واشتهر بعده فى القرن الخامس أبو الوليد (7) الباجى

(1) راجع ابن عتبة فى ابن الفرضى رقم 1102 والحميدى رقم 5 وابن فرحون 2/ 176.

(2)

انظر فى ابن مزين ابن الفرضى رقم 1556 والحميدى رقم 880 وابن فرحون 2/ 361 والنفح 3/ 168.

(3)

راجع فى يحيى بن عبد الله ابن الفرضى رقم 1595.

(4)

يريد بعشرة جده كتبا عشرة له كان يرويها عن شيوخه وخاصة شبطون.

(5)

انظر مصادر ابن أبى زمنين بين المفسرين ص 108

(6)

راجع فى ابن عبد البر المطمح ص 61 والحميدى ص 344 والصلة رقم 1386 وتذكرة الحفاظ 1128 وابن فرحون 2/ 367 والمغرب 2/ 407 وترتيب المدارك 4/ 808.

(7)

انظر فى أبى الوليد الباجى الصلة رقم 449 وقلائد العقيان ص 188 والنباهى ص 95 والمغرب 1/ 404 ومعجم الأدباء 11/ 246 وابن خلكان 2/ 408 وابن بسام المجلد الأول من القسم الثانى ص 94.

ص: 115

سليمان بن خلف المتوفى سنة 474 رحل وسمع منه خلق كثير غربا وشرقا وله كتاب الاستيفاء شرح الموطأ، والمنتقى مختصره، والإيماء مختصر المنتقى، وكتاب فى الأصول باسم إحكام الفصول فى أحكام الأصول، وأيضا كتاب المقتبس من علم مالك بن أنس والمهذب فى اختصار مدونة سحنون. ويلقانا فى القرن السادس ابن (1) رشد الجد أبو الوليد محمد بن أحمد أشهر فقهاء المالكية فى زمنه المتوفى سنة 520 وله «البيان والتحصيل لما فى المستخرجة (العتبية) من التوجيه والتعليل» بسط فيه الأحكام الفقهية لمذهب مالك بحسب ما جاءت فى المستخرجة، وكتاب المقدمات لأوائل كتاب المدونة. وجاء بعده الفقيه المتبحر أبو (2) بكر بن العربى محمد بن عبد الله المتوفى سنة 543 وله كتاب القبس فى شرح موطأ مالك بن أنس، وشرح عليه ثان باسم ترتيب المسالك فى شرح موطأ مالك، سوى كتب أخرى كثيرة فى شرح كتب الصحاح فى الحديث وفى أحكام القرآن. ويختم القرن السادس بابن رشد المتفلسف حفيد ابن رشد الفقيه، وله فى الفقه كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد ويقول ابن الأبار: ذكر فيه أسباب الخلاف وعلّل ووجّه فأفاد وأمتع به، ولا يعلم فى فنه أنفع منه ولا أحسن مساقا (3). ولا تكاد الأندلس بعد ذلك تخرج فقيها مالكيا كبيرا باستثناء ابن حرب محمد بن أحمد المتوفى سنة 741 وله كتاب الفوائد الفقهية فى المذاهب المالكية والشافعية والحنفية والحنبلية فى ثلاثة مجلدات وجاء بعده ابن عاصم أبو بكر محمد بن محمد المتوفى سنة 829 وله أرجوزة فى الفقه المالكى فى نحو 1690 بيتا وهى منشورة فى باريس منذ القرن الماضى، وكان الطلاب يدرسونها فى جامعة فاس إلى عهد قريب.

ولعل فيما سبق ما يدل على مدى ازدهار المذهب المالكى فى الأندلس، وكان من أهم الأسباب فى ذلك أن جمع له القضاء، فكان له غير قليل من السلطان والرياسة، والناس سراع إلى طلب الدنيا، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به. ولذلك قل من اعتنق مذهب (4) أبى حنيفة، إذ عدّ مذهب العباسيين خصوم الأمويين فى الأندلس، ومثله المذهب

(1) انظر فى ابن رشد الجد الصلة رقم 1154 والنباهى ص 98 والديباج 2/ 248

(2)

راجع فى ابن العربى الضبى رقم 179 والنباهى ص 105 والمغرب 1/ 254 واللصلة رقم 1181 وابن خلكان 4/ 296 وتذكرة الحفاظ رقم 1294 وأزهار الرياض 3/ 86 - 95 وابن فرحون 2/ 252.

(3)

التكملة رقم 853.

(4)

ممن ذكر عنه أنه تأثر بالفقه الحنفى محمد بن عيسى الأعشى وكان من الفقهاء المشاورين فى عهد عبد الرحمن الأوسط. انظر ابن الفرضى رقم 1100 والمقتبس (طبع بيروت) ص 42.

ص: 116

الحنبلى البغدادى، أما المذهب الشافعى فعنى به بعض الفقهاء ممن كانوا ينزلون مصر، وكثرتهم كانت تتلمذ لأصحاب مالك من مثل عبد الرحمن بن القاسم وأشهب وأصبغ ومن جاء بعدهم، وقلة منهم كانت تتلمذ لأصحاب الشافعى من مثل المزنى ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وإبراهيم بن المنذر وأبى الطاهر أحمد بن عمرو ويونس بن عبد الأعلى والحارث بن مسكين وإبراهيم بن محمد ابن عم الشافعى ومن جاء بعدهم.

وأول فقيه شافعى يلقانا بقرطبة هو قاسم (1) بن محمد بن سيار المتوفى سنة 276 تتلمذ لبعض من سميتهم من أصحاب الشافعى بالفسطاط ولزم منهم خاصة محمد بن عبد الله بن عبد الحكم للتفقه والمناظرة وصحبه وتحقق به، وعاد إلى الأندلس فعنى بنشر مذهب الشافعى عن طريق التأليف والتدريس، ومما ألف كتاب الإيضاح فى الرد على ابن عتبة وابن مزين الفقيهين المالكيين المار ذكرهما فى ترك التقليد والأخذ بالحجة والنظر، والتفّ حوله بعض الشباب من الفقهاء أمثال أحمد بن خالد ومحمد بن عمر بن لبابة وسعيد بن عثمان الأعناقى. وكان يعاصره بقى بن مخلد، ولم يكن يعيش لمذهب الشافعى مثله غير أنه كان يدعو إلى النظر فيه بجانب مذهب مالك والمذاهب الفقهية الأخرى، وكان قد رحل وتتلمذ لشافعيين مختلفين ولأحمد بن حنبل. ويذكر ابن الفرضى من فقهاء الشافعية يحيى بن عبد العزيز المعروف بابن الخراز (2) المتوفى سنة 295 تتلمذ بمصر للمزنى والربيع بن سليمان ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم أصحاب الشافعى وليونس بن عبد الأعلى، ومما سمعه من ابن عبد الحكم مختصر المزنى ورسالة الشافعى. ومن شافعية الأندلس تلميذ لبقى وقاسم هو أبو الخيار هرون (3) بن نصر القرطبى المتوفى سنة 302 وكان قد تفقه بكتب الشافعى. ومن فقهاء الشافعية فى القرن الرابع الهجرى أسلم (4) بن عبد العزيز المتوفى سنة 319 وقد رحل إلى المشرق وتتلمذ للمزنى والربيع بن سليمان ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم أصحاب الشافعى، وعاد إلى قرطبة، وولى بها قضاء الجماعة مرتين فى أيام عبد الرحمن الناصر وكان يقضى بين الناس بما عليه الجماعة هناك من مذهب مالك. .

(1) راجع ابن سيار فى الحميدى 310 وابن الفرضى 1/ 397 والسبكى فى طبقات الشافعية (طبعة الحلبى الجديدة) 2/ 344.

(2)

راجع فى يحيى ابن الفرضى رقم 1568.

(3)

انظر فى هرون ابن الفرضى رقم 1047 وابن فرحون 2/ 360

(4)

انظر فى أسلم ابن الفرضى رقم 278 والحميدى رقم 322 والقضاة للخشنى ص 155 وابن فرحون 1/ 308 والإحاطة (نشر عنان) 1/ 427.

ص: 117

وكان عبد الله بن عبد الرحمن الناصر شافعيا، وثبت لأبيه أنه يدبر مؤامرة ضده، فأمر بقتله سنة 339 ولو قدرت له الحياة لأعان على انتشار المذهب الشافعى فى الأندلس.

ووفد فى عصر المستنصر (350 - 366 هـ) فقهاء يحملون المذهب الشافعى فأكرمهم وتوسع لهم فى العطاء والرواتب مثل عبيد (1) الله بن عمر المتوفى بقرطبة سنة 360 وكان إماما فى الفقه على مذهب الشافعى كثير التصنيف فيه وفى القراءات والفرائض. ومن فقهاء الشافعية المهمين فى القرن الرابع الأصيلى (2) عبد الله بن إبراهيم المتوفى سنة 392 وله كتاب فى اختلاف مالك والشافعى وأبى حنيفة سماه كتاب الدلائل على أمهات المسائل. ومن كبار فقهاء الشافعية فى القرن الرابع ابن (3) أمية الحجارى وله كتاب فى أحكام القرآن نوه به ابن حزم قائلا إنه كان بصيرا بالكلام، وقلما نسمع بعد عصر بنى أمية عن فقهاء شافعيين مهمين.

وعرفت الأندلس مبكرا مذهب الظاهرية فى الفقه لصاحبه داود بن خلف الظاهرى المتوفى ببغداد سنة 270 إذ تتلمذ له أندلسى هو عبد الله بن محمد بن قاسم المتوفى سنة 272، وقد نسخ كتبه بخطه وأقبل بها إلى الأندلس واجتهد فى نشر المذهب، ولم يكتب له النجاح فيما ابتغى إذ لقى معارضة شديدة من فقهاء المذهب المالكى. ونمضى إلى القرن الرابع الهجرى، ونلتقى بمنذر (4) بن سعيد المتوفى سنة 355 وقد رحل إلى المشرق ودرس على شيوخه من الفقهاء واللغويين، وعاد إلى بلده يحمل معجم العين للخليل عن ابن ولاد المصرى واختلاف العلماء رواية عن ابن المنذر النيسابورى، كما يحمل مذهب داود الظاهرى، وكان خطيبا مفوها، وولاه عبد الرحمن الناصر الصلاة والخطابة فى المسجد الجامع بالزهراء ثم ولاه قضاء الجماعة وظل يليهما فى عهد ابنه الحكم وكان شديدا فى دينه لا تأخذه فى الله لومة لائم، وله مع الناصر عظات محمودة، وكان مذهبه الفقهى المذهب الظاهرى وكان يحتج له ويحامى عنه ويؤثره، حتى إذا جلس مجلس القضاء قضى بمذهب مالك الذى عليه العمل فى بلده ولم يعدل عنه، ويقول ابن حزم إنه كان قويّا على الانتصار للمذهب الظاهرى، وله كتاب فى أحكام القرآن غاية فى بابه. ويلقانا فى القرن

(1) راجع فى عبيد الله بن عمر ابن الفرضى رقم 769.

(2)

انظر فى الأصيلى ابن الفرضى رقم 785 وابن فرحون 1/ 433

(3)

راجع فى ابن أمية الحميدى ص 380 وقد سماه ابن آمنة وانظر فى كلمة ابن حزم عنه النفح 3/ 169.

(4)

انظر مصادر منذر فى ترجمته بالفصل الخامس.

ص: 118

الخامس إمام مذهب الظاهرية فى الأندلس على (1) بن أحمد بن حزم المتوفى سنة 456، وكان من أسرة نابهة، إذ كان أبوه وزيرا للمنصور بن أبى عامر، ونشأ نشأة مترفة، ولم تلبث الفتنة أن هبت على قرطبة منذ سنة 400 فخرج من قرطبة وعاد إليها مرارا وأقامه المستظهر وزيرا سنة 414 ولم يلبث المستظهر أن قتل فصمّم ابن حزم على اعتزال السياسة والتفرغ للعلم والأدب، وكان قد عكف على دراسة المذهب المالكى، ورأى العدول عنه إلى مذهب الشافعى ثم عدل عنه إلى دراسة المذهب الظاهرى على أبى الخيار مسعود بن مفلت المتوفى سنة 426 واعتنقه مؤمنا به، وألف فيه كتاب الإبطال وفيه يبطل الأصول الخمسة التى أخذ بها الأحناف والشافعية، وهى القياس والرأى والاستحسان والتقليد والتعليل، فكل ذلك ينبغى إبطاله والاكتفاء بالكتاب والسنة. وله كتاب فى أصول المذهب المالكى القائمة على التقليد، وكتاب ثان يناقش فيه أصول المذهب الشافعى وفروعه. ومعروف أن المذهب الظاهرى ازدهر فى عصر دولة الموحدين إذ كانت تعتنقه مذهبا فقهيّا لها من دون المذاهب المشهورة: مذهب أبى حنيفة ومالك والشافعى وابن حنبل واتخذ ذلك شكل ثورة عنيفة فى عهد يعقوب بن يوسف (580 - 595) حتى لنجده يأمر بحرق كتب تلك المذاهب، وكان طبيعيّا لذلك أن تصبح كثرة القضاة من فقهاء المذهب الظاهرى يتقدمهم قاضى القضاة ابن مضاء (2) أحمد بن عبد الرحمن المتوفى سنة 592 وابن (3) حوط الله عبد الله المتوفى سنة 612 وكان قد ولى القضاء ببلدان أندلسية كثيرة مثل إشبيلية وقرطبة ومثلهما ابن (4) خطاب الإشبيلى على بن عبد الله قاضى إشبيلية المتوفى سنة 629 وابن الرومية المار ذكره بين الصيادلة. ويعود المذهب المالكى بعد زوال دولة الموحدين-بقوة-إلى سلطانه القديم وقلما نسمع عن أتباع للمذهب الظاهرى، ويتحول عنه كثيرون على نحو ما تحول أبو حيان المار ذكره بين المفسرين فقد بدأ حياته ظاهريّا ثم تحول إلى المذهب الشافعى.

ولم نعرض لفقهاء القضاء المالكيين فى الأندلس لأن لهم كتبا متعددة مطبوعة تعنى بهم مثل كتاب القضاة للخشنى ولابن عبد البر كتاب مماثل وكذلك للنباهى، وإنما يهمنا من دفعوا الحركة الفقهية المالكية فى الأندلس إلى الازدهار بدراستهم المذهب للطلاب

(1) راجع فى مصادر ابن حزم ترجمته فى الفصل الخامس.

(2)

مرت مصادر ابن مضاء فى ص 97.

(3)

راجع فى ابن حوط الله النباهى ص 112 والتكملة 2/ 838.

(4)

انظر فى ابن خطاب التكملة رقم 1901.

ص: 119

ومؤلفاتهم النفيسة. على أنه ينبغى أن أشير إلى أن النظام القضائى بالأندلس رافقته ثلاث ظواهر لا يعرفها نظيره فى المشرق، أولاها أنه كان هناك-منذ أول الأمر-هيئة استشارية (1) من الفقهاء يرجع إليها القضاة للتشاور وإبداء الحكم السديد فى القضايا المشكلة، وهى تشبه ما نعرف فى قضائنا المعاصر من قيام هيئة استشارية بجانب محاكم مجلس الدولة للرجوع إليها فى القضايا الملتبسة ودراستها وإبداء الحكم فيها وقد نقلنا ذلك عن القضاء الفرنسى. والظاهرة الثانية ظاهرة هيئة المحامين من الفقهاء عن أصحاب الدعاوى والمتهمين على نحو ما نعرف فى قضائنا اليوم، وكان من يوكل عنه محاميا يثبت ذلك فى عقد بينه وبين المحامى (2) وكان للمحامى الحق فى أن ينيب من يترافع عنه فى القضية أمام القاضى، ويثبت ذلك أيضا فى عقد بينهما (3). والظاهرة الثالثة وضع كتب باسم الوثائق يضعها كبار الفقهاء تبيّن للناس كيفية العقود وصيغها القانونية، وهى كتب بالغة الأهمية فى بيان الأحوال الاجتماعية فى الأندلس إذ تعرض علينا عقود المعاملات فى المزارعات وغيرها من الاستئجارات، ومن الطريف أن نعرف أنه كانت هناك محلات لاستئجار الخيل والسلاح للحرب واستئجار الثياب والحلى والكتب (4)، وكان لا بد لإسلام نصرانى أو يهودى من وثيقة يقدمها للقاضى وعليها شهادة شهود بأنه أسلم غير مكره ولا فارّ من شئ ولا متوقع لأمر، وأنه اختار الإسلام بعد أن وقف على شريعته وعلم أنه ناسخ لجميع الأديان وأنه الدين الذى لا يقبل الله سواه، وأنه أسلم على يد فلان القاضى أو صاحب الشرطة أو المدينة أو السوق (5).

ولم تعرف الأندلس الخلافات الكلامية الكثيرة التى عرفها المشرق، ولذلك لم تنشأ فيها فرق المرجئة والجبرية والقدرية أو المعتزلة أو بعبارة أدق لم تجد لها أنصارا فيها إلا ما كان من الاعتزال بسبب قراءة بعض الراحلين إلى المشرق لكتابات الجاحظ المعتزلى ونقلهم لها إلى الأندلس، فأخذ الناس يقرءون كتاباته وأخذوا يحاولون التعرف على الاعتزال منذ القرن الثالث الهجرى ومن المعتزلة القدامى حينذاك عبد الأعلى بن وهب

(1) يتردد أسماء أعضاء هذه الهيئة فى مقتبس ابن حيان لعهد بنى أمية ويسميهم المشاورين.

(2)

انظر فى ذلك كتاب الوثائق والسجلات لابن العطار الأندلسى المتوفى سنة 399 (طبع مدريد) ص 498. وراجع ترجمة ابن العطار فى الديباج المذهب 2/ 231.

(3)

ابن العطار ص 500.

(4)

راجع ابن العطار ص 194، 197، 206.

(5)

ابن العطار ص 405، 409.

ص: 120

القرطبى المتوفى سنة 262 للهجرة وكان يقول بحرية الإرادة (1) للإنسان، وكان يعاصره معتزلى مثله هو خليل الغفلة، وكان يقول مثله بحرية الإنسان (2) فى أفعاله، وتابعه فى اتجاهه الاعتزالى ابن السمينة (3) يحيى المتوفى سنة 315 إذ يقول صاعد إنه كان معتزليّا.

وأول معتزلى أندلسى دعا إلى الاعتزال بمعناه الكامل ابن مسرة الذى ألممنا به فى أول حديثنا عن الفلسفة ملاحظين من كتاب أمر الناصر فى سنة 345 بتلاوته على الناس لبيان خروجه هو وتلاميذه عن العقيدة السنية للجماعة بترويجه لأفكار المعتزلة من مثل قولهم بخلق القرآن وبأن الانسان حر فى إرادته ووجوب إنفاذ الوعد والوعيد على الله.

ومع ذلك ظل له تلاميذ يرددون آراءه الاعتزالية، واضطروا إلى الاختفاء-كما أسلفنا- فى عهد الناصر وعادوا إلى الظهور فى عصر ابنه الحكم لما نشر من التسامح إزاء الاعتزال وغيره من العقائد. ولم يلبث أن خلفه ابنه المؤيد (366 - 399 هـ) وحاجبه المنصور بن أبى عامر الذى أظهر التشدد فى كل ما يخالف آراء أهل الأندلس، ومع ذلك كان حكم بن منذر بن سعيد فى عهدهما رأس المعتزلة بالأندلس وكبيرهم وأستاذهم ومتكلمهم وناسكهم كما يقول (4) ابن حزم، واضطرت شيعة ابن مسرة إلى الاختفاء ثانية فى عهد ابن أبى عامر وعادت إلى شئ من النشاط فى عصر أمراء الطوائف على نحو ما مرّ بنا-فى حديثنا عن ابن مسرة-وداعية تعاليمه إسماعيل الرعينى. ولا نسمع بعده عن نشاط اعتزالى أو كتب اعتزالية لأندلسيين. ويبدو أن كثيرا من كتابات المعتزلة والمتكلمين عامة تسرب إلى الغرب عن طريق ما حملته الأندلس من تلك الكتابات على نحو ما حملت إليه من علوم الطب والرياضيات والصيدلة مما هيأ لقيام التأليف العلمى فى أوروبا ولنهضتها العلمية، كما هيأ لقيام التفكير الفلسفى فيها. ومن أقوى الدلالات على تأثير المعتزلة فى التفكير الأوربى أن نجد ديكارت (1597 - 1650 م) أبا الفلسفة الغربية الحديثة يقيم فلسفته على مبدأين يلتقيان بأفكار المعتزلة والمتكلمين وهما مبدأ الشك فى حقائق الأشياء حتى نتبين فيها وجه اليقين ويردد الجاحظ هذا المبدأ عن أستاذه النظام فى كتابه الحيوان مستشهدا بقوله:«لم يكن يقين قط حتى كان قبله شك» . وكان حريّا بالأستاذ الدكتور طه حسين حين نوه بهذا المبدأ فى أوائل كتابه «فى الأدب الجاهلى»

(1) انظر ترجمته فى ابن الفرضى رقم 835 وابن فرحون 2/ 55 وبالنثيا ص 325.

(2)

راجع ترجمته عند ابن الفرضى رقم 417 وبالنثيا ص 325.

(3)

انظر فيه طبقات الأمم لصاعد ص 101 وابن الفرضى رقم 578، والنفح 3/ 375 وبالنثيا ص 325.

(4)

طوق الحمامة (تحقيق د. الطاهر مكى) ص 72.

ص: 121

وأضافه إلى ديكارت أن يضيفه إلى أصحابه الحقيقيين من المعتزلة. والمبدأ الاعتزالى أو الكلامى الثانى أشار إليه بيير دانييل هويه إذ قال إن ديكارت أخذ عن أهل الفكر والجدل الإسلاميين مبدأه الفلسفى: «أنا أفكر فأنا موجود» (1) مما يقتضى وجود الله، وحديث المتكلمين والمعتزلة عن وجود الإنسان الممكن ووجود الله الواجب علة وجوده معروف. وبذلك يكون المبدآن أو الأصلان الأساسيان للفلسفة الأوربية اجتلبهما ديكارت اجتلابا مما ترجم فى اللاتينية من كتابات الكلاميين الإسلاميين وخاصة المعتزلة. وقد ذكر المقرى فى (2) النفح عن شخص يسمى محمد بن خلف أنه كان متكلما متحققا برأى الأشعرية، وأنشد له بيتين فى مديح إمام الحرمين الجوينى المتوفى سنة 438 للهجرة، وإعلانه حبه له وإيمانه بعقيدته ومعروف أنه إمام كبير من أئمة الأشعرية.

وإذا كانت الأندلس لم تنتج فى الاعتزال والدراسات الكلامية بحوثا خصبة، فإنها أنتجت عند ابن حزم أروع تاريخ ناقد للأديان والفرق والمذاهب الدينية من إلهية ووثنية بكتابه «الفصل فى الملل والأهواء والنحل» وهو عرض باهر لكل ما يتصل بعلم الكلام فى الإسلام، وفيه ينقض نقضا دقيقا مذاهب الزنادقة وعقائد المجوسية، كما ينقض عقيدة اليهود بمذاهبها الخمسة: السامرية والصدوقية والقراءية والربانية والعيسوية أتباع أبى عيسى الأصبهانى، وينكر صحة العقيدة المسيحية وقواعدها الأخلاقية قائلا إنها جميعا من صنع البشر. ويرى أن الكلمات فى التوراة وفى الإنجيل بعهديه-القديم والجديد- حرّفت عن مواضعها على أيدى أصحابهما من اليهود والنصارى. وينتهى من دراساته المتعمقة فى التوراة والإنجيل وعقائد الوثنيين والمجوس والزنادقة إلى أن الدين الصحيح المنزل من السماء هو الإسلام، ويدلل-ببراهين قاطعة-على صحته وصحة النبوة المحمدية والوحى الإلهى، وكيف أن الله نسخ بالإسلام ما أوحى به قبله إلى أنبياء بنى إسرائيل بما فيهم عيسى، إذ يعدّه-كما يعده المسلمون عامة-نبيا مرسلا.

(1) بالنثيا ص 534. وانظر فى مبدأ ديكارت الفلسفى ترجمته فى قصة الفلسفة الحديثة للدكتورين أحمد أمين وزكى نجيب محمود 1/ 100.

(2)

النفح 3/ 353.

ص: 122