الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثّانى
الثقافة
1 - الحركة العلمية
لم يكن لإيبريا دور حضارى فى العالم القديم، إذ ظل سكانها قرونا متطاولة يستقبلون الحضارات ولا ينفذون من خلالها إلى حضارة لهم متميزة، وكان أول ما استقبلوا من الحضارات الحضارة الفينيقية إذ غزاها الفينيقيون فى القرن العاشر قبل الميلاد وأسسوا بها مالقة على البحر المتوسط وقادس على المحيط الأطلسى، وبعد نحو خمسة قرون استقبلوا الحضارة اليونانية إذ غزاها اليونانيون وأسسوا فيها مدينة برشلونة على البحر المتوسط وسموها إيبيريا، وحدثت حروب بينهم وبين الفينيقيين واستعان الفينيقيون ضدهم بأبناء عمومتهم من القرطاجنيين، فأعانوهم. واستقبلت إيبيريا حضارتهم وأسسوا بها مدينة قرطاجنة على البحر المتوسط نفس اسم مدينتهم فى إفريقيا، ونشبت الحرب بينهم بقيادة هانيبال وبين الرومان فى أوائل القرن الثانى قبل الميلاد وانتصر الرومان واستولوا سريعا على إيبيريا، ونشروا فيها-بواسطة جنودهم ومن سمع بخيراتها فى إيطاليا ورحل إليها-لغتهم اللاتينية، وحين اعتنقت روما المسيحية نشرتها فيها، وهى التى سمتها بإسم إسبانيا.
وأخذت إسبانيا تشارك روما بعض المشاركة فى حياتها السياسية بفضل من نشأوا فيها أو ولدوا بها لأسر إيطالية وخاصة من القياصرة مثل تراجان وابن أخيه هدريان. وكانت الخطابة مزدهرة فى روما بسبب ما كان لديها من مجلس شيوخ أعدّ بقوة لهذا الازدهار، كما أعدّ لكثرة الأساتذة الذين كانوا يعلّمون الشباب فنون البلاغة الخطابية، وشاركت إسبانيا فى هذا النشاط الخطابى باثنين من أبنائها القرطبيين هما سنيكا الأب الذى نشأ فى قرطبة وانتقل إلى روما وعلم فيها فن الخطابة، وسنيكا الابن الذى ولد بقرطبة فى العام الرابع قبل الميلاد، وجئ به إلى روما وتلقى تعليمه على أبيه ومن بها من الفلاسفة
الرواقيين، وأصبح فيلسوفا رواقيا ومعلما كبيرا للخطابة، وعلّمها نيرون، وله مسرحيات اتخذها كورنىّ وراسين مثلهما المسرحى الأعلى، وحكم عليه نيرون بالموت لاتهامه باشتراكه فى مؤامرة ضده. ورحل إلى روما شاب إسبانى هو كونتليان ليتعلم فن الخطابة، وبرع فيها هناك وأنشأ مدرسة لتعليمها، وألف فيها كتابا كان-ولا يزال-المرجع الأساسى للأوربيين فى التعرف على الخطابة الرومانية. واشتهر بروما حفيد لسنيكا، هو «لو كان» الشاعر، وكان قد ولد بقرطبة سنة 39 للميلاد ونشأ بروما وأصبح شاعرا متألقا بما نظم من ملحمة قصصية من طراز ملحمة الإنيادة لفرجيل، وقد وصف فيها الحرب الأهلية بين قيصر وبومبى، واتهمه نيرون باشتراكه مع عمه فى مؤامرة ضده وحكم عليه بالموت وعمره لا يتجاوز السادسة والعشرين (1).
وواضح أن من شاركوا من إسبانيا قديما فى الأدب اللاتينى أفنوا شخصياتهم فيه، وهم لم ينتجوه فى إسبانيا، بل أنتجوه فى روما، وهو لذلك أدب لاتينى رومانى خالص.
وإسبانيا-بذلك-لا تزال فى العهد الرومانى كما كانت فى العهود الفينيقية واليونانية والقرطاجنية لا تستطيع أن تضيف إلى الحضارة الإنسانية أعمالا إسبانية متميزة القسمات، بل ظلت روما ترعاها وتتعهدها فى الحضارة كما تعهدها ورعاها من قبل القرطاجنيون واليونان والفينيقيون، حتى إذا دخلت فى القرن الخامس للميلاد أغارت عليها القبائل الجرمانية المتبربرة التى قضت على الدولة الرومانية الغربية ونزلها منهم الفندال ثم القوط الذين حكموها إلى أن تسلّمها العرب منهم. ولم يكن للقوط حضارة، وقد قضوا على ما كان بإسبانيا من حضارة رومانية، ولا يحفظ التاريخ كتابا من أيامهم سوى مجموعة القس إيزيدور الإشبيلى المتوفى سنة 636 للميلاد، وهو يعرض فيها تصوره الساذج للتاريخ والعلوم الطبيعية مع تفسيرات مجازية للكتاب المقدس، ويقول ديورانت فى قصة الحضارة إنها تكتظ بأخطاء فى الحقائق، وتدل على ما كان فاشيا فى عهد القوط بإسبانيا من الجهالة (2)، وليس لهذه المجموعة أى ذكر فى كتابات الأندلسيين.
ومعنى ذلك أن العرب حين فتحوا إسبانيا كان ظلام الجهل يطبق عليها ولم يكن بها علم ولا علماء، وبحق ما يقوله صاعد فى كتابه طبقات الأمم من أن هذا القطر لم يعرف فى
(1) انظر فى سنيكا وأسرته وكونتليان ولو كان قصة الحضارة لول ديورانت: (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) 10/ 163 وما بعدها وكذلك 174 وما بعدها و 199 وما بعدها.
(2)
قصة الحضارة لول ديورانت 12/ 194 وما بعدها.
العصر القديم بالعلم ولا كان به شخص اشتهر بحبه للعلم، وظل مغلقا فى وجه الحكمة إلى أن فتحه العرب (1). وكان فيه-كما مر فى الفصل الماضى-يهود ولكن لم يكن لهم أى كتاب علمى، وأيضا لم يكن لهم دور فى الحركة العلمية لأيام العرب، إنما دورهم يقوم فقط على تمثل العلم العربى ثم على المساهمة فى ترجمته إلى اللاتينية فيما بعد حين جدّ الغرب فى طلب العلم الأندلسى والوقوف عليه. ومثل اليهود-فى ذلك-الصقالبة الذين مرّ ذكرهم فى غير هذا الموضع والذين جلبهم الحكام الأمويون إلى الأندلس منذ عهد الحكم الرّبضى، وكانوا يتعلمون العربية ويتثقفون ثقافة عربية إسلامية، ولم يكن لهم أى دور فى الحركة العلمية بالأندلس إلا أن يصبح أحدهم حاكما لإحدى المدن فى عصر أمراء الطوائف، ويجزل العطاء للعلماء. أما أهل إسبانيا فإنهم-كما قلنا-لم يحملوا إلى الحركة العلمية فى الأندلس تراثا لاتينيا، وكل ما لهم أن من أسلموا منهم وسلالاتهم من المولّدين أسهموا فى تلك الحركة العلمية العربية، وعروبتها لا ترجع إلى اللسان الذى استخدمته فحسب، بل ترجع-أيضا-إلى أنها أسست-ونهضت كما سنرى-على أصول عربية مشرقية.
ومعروف أن الإسلام دفع أمته فى كل قطر وبلد إلى العلم والتعلم، ومرّ بنا أن موسى ابن نصير فاتح الأندلس ومكمل فتح المغرب كان يرسل دائما مع الجيوش فقهاء يعلّمون أهل الديار المفتوحة الإسلام ويحفّظونهم بعض القرآن ويبصّرونهم بالدين الحنيف وتعاليمه. ولما كان تعليم الناشئة المسلمة القرآن شعارا من شعائر الدين أخذ به المسلمون فى جميع بلدانهم فإن الأندلس-بدورها-أخذت بهذا التعليم، وافتتحت له الكتاتيب منذ عصرها الأول عصر الولاة (2)، واطرد ذلك طوال الحقب التالية، ويؤثر عن الحكم المستنصر (350 - 366 هـ) أنه أنشأ بقرطبة سبعة وعشرين كتّابا فى عهده، جعل ثلاثة منها بجوار المسجد الجامع والباقى فى أماكن مختلفة من أحياء قرطبة. (3) وكانت قرطبة تكتظ بكتاتيب أخرى قبل كتاتيبه. وكان معلّم الكتاتيب يسمى مؤدّبا، وكان يأخذ أجرا على تعليمه الناشئة (4)، ولم يكن تعليمه لها يقتصر على تحفيظها القرآن الكريم وبعض نصوص الحديث النبوى بل كان يتسع ليشمل تعليمها النحو وإحسان الكتابة والخط مع
(1) طبقات الأمم لصاعد (طبع مطبعة السعادة) ص 97.
(2)
افتتاح الأندلس لابن القوطية (طبع مدريد) ص 40.
(3)
البيان المغرب لابن عذارى (طبع بيروت) 2/ 240.
(4)
طبقات النحويين واللغويين للزبيدى (طبع القاهرة) ص 278.
تحفيظها بعض النصوص من الأشعار والرسائل البارعة، وينوّه ابن خلدون بتعليم الناشئة فى الأندلس قائلا:«وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن فى التعليم وكثرة رواية الشعر والرسائل ومدارسة العربية (النحو) من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف فى اللسان العربى» (1). وابن خلدون يثنى-بذلك-على مؤدبى الأندلس وأنهم استطاعوا أن يغرسوا فى الناشئة-فضلا عن حفظ القرآن الكريم-الملكة العربية بما مرنوهم عليه من قواعد النحو وما حفظوهم من منتخبات الشعر والنثر، مما أعدّهم ليصبحوا أهل أدب بارع. ومنهم من كان يؤدّب أبناء الخاصة من الحكام الأمويين والأشراف من الأسرة الأموية والوزراء وغيرهم، ومنهم من كان يؤدب أبناء العامة فى المساجد أو فى دور ملحقة بها أو فى دور مستقلة بهم أو فى دورهم الخاصة.
وكان الناشئ حين ينهى هذا التعليم الأول على أيدى المؤدبين يتحول إلى حلقات الشيوخ فى المساجد ليتسع فى دروس العربية إن شاء أو ليتزود من هذا العلم أو ذاك من العلوم الدينية إما الفقه وإما التفسير وإما الحديث النبوى، وقد يجمع بين هذا كله. ومنذ عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية يقود حكامها الحركة العلمية. واستقر منذ أول هذه الدولة أن العالم فى أى علم من علوم العربية أو الدين لا يتم له علمه على الوجه الأكمل إلا إذا رحل إلى ينابيعه الأساسية فى المشرق، وحتى مؤدبو الكتاتيب تذكر لهم رحلات إلى البصرة والكوفة وبغداد على نحو ما نقرأ عن جودى (2) النحوى المتوفى سنة 198 والغازى (3) بن قيس المتوفى سنة 199. وكانت الرحلة فى طلب الفقه والعلوم الدينية أوسع، واشتهر الأمير هشام بن عبد الرحمن الداخل (172 - 180 هـ) بتحبيبها إلى الشباب القرطبى وتشجيعهم عليها، ورحل فى عهده كثيرون إلى المدينة لحمل فقه الإمام مالك وموطّئه. وتصبح الرحلة فى طلب العلم إلى المشرق تقليدا متبعا منذ هذا التاريخ، ويكثر الراحلون إليه من شباب العلماء الأندلسيين، ويفرد المقرى لمشاهيرهم فصولا طويلة فى نفحه، وهى تدل على أنها ظلت تقليدا متبعا قرونا متوالية.
ونحن لا نصل إلى عصر الحكم الربضى (180 - 206 هـ) حتى يكثر الفقهاء لعهده كثرة مفرطة، كما تدل على ذلك ثورة أهل الربض القبلى عليه بقرطبة، فقد ألّبهم كثيرون من الفقهاء عليه، حتى إذا أخفقت الثورة أمر بأن يرحل الثائرون ومؤلبوهم عن قرطبة،
(1) مقدمة ابن خلدون ص 1252
(2)
طبقات النحويين واللغويين للزبيدى ص 278
(3)
الزبيدى ص 277.
فرحل فريق إلى دار الحرب وفريق إلى طليطلة ورحل إلى الاسكندرية 15 ألفا وأنزلهم أميرها عبد الله بن طاهر جزيرة كريت على نحو ما مر بنا فى الفصل الماضى.
ويلى الإمارة بعد الحكم ابنه عبد الرحمن الأوسط (206 - 238 هـ) ويقول عنه ابن سعيد فى المغرب، كما مر بنا:«عنى أبوه بتعليمه وتخريجه فى العلوم الحديثة والقديمة، وكان من أهل التلاوة للقرآن والاستظهار للحديث، وكان يداخل كل ذى علم فى فنه» (1) ويقول ابن خلدون: «كان عالما متبحرا فى علوم الدين والفلسفة» (2) ويقول ابن القوطية: «التزم إكرام أهل العلم وأهل الأدب والشعر فى دولته وإسعافهم فى مطالبهم كلها» (3) وسنرى فى غير هذا الموضع أنه هو الذى دفع الأندلس إلى الاهتمام بعلوم الأوائل. وأقبل الطلاب لعهده على حلقات العلماء-وكانوا يعدون بالمئات-فى المسجد الجامع بقرطبة، وكانت حلقة عبد الملك بن حبيب كبير الفقهاء لزمنه بعد يحيى الليثى تضم ثلاثمائة طالب (4). وخلف عبد الرحمن الأوسط ابنه الأمير محمد (238 - 272 هـ) ويقول ابن حيان نقلا عن الرازى:«كان مكرما لأعلام الناس مقدّما على طبقاتهم ذوى الفقه والعلم منهم يرفع مجالسهم ويزلف وسائلهم ويسعف فى رعايتهم ويستشعر مع ذلك الحذر من تحاسدهم» (5) ويذكر ابن حيان موقفين عظيمين له (6)، هما موقفه من بقى بن مخلد وموقفه من محمد بن عبد السلام الخشنى فقد رحلا إلى المشرق وجلب أولهما كتاب مصنف ابن أبى شيبة فى الحديث فأنكر جماعة من الفقهاء ذلك عليه وسلطوا عليه العامة ليمنعوه من قراءته، وعلم بذلك الأمير فحماه منهم ونهاهم أن يتعرضوا له. وجاء الثانى أيضا من المشرق حاملا كتاب الناسخ والمنسوخ لأبى عبيد، فأنكر الفقهاء عليه إملاءه الكتاب على الطلاب فى المسجد الجامع، فنهاهم الأمير محمد عن تعرضهم له. ويقول ابن حيان عن ابنه الأمير عبد الله (275 - 300 هـ) إنه «كان كثير التلاوة للقرآن مثابرا على درسه متصرفا فى فنون العلم متحققا بلسان العرب بصيرا بلغاتهم وأيامهم حافظا للغريب والأخبار آخذا من الشعر بحظ وافر، وكان مجلسه أعمر مجالس الملوك بالفضائل وأجمعها لطبقات أهل الآداب والتعاليم، وكان لا يقدم أمرا ولا يؤخره إلا بمشورة أهل
(1) المغرب (طبع دار المعارف) 1/ 45.
(2)
تاريخ ابن خلدون (طبعة بولاق) 4/ 130.
(3)
افتتاح الأندلس (طبع مدريد) ص 85.
(4)
الديباج المذهب لابن فرحون. (نشر مكتبة دار التراث بالقاهرة) 2/ 8.
(5)
المقتبس (تحقيق د. محمود مكى-طبع بيروت) ص 245.
(6)
المقتبس ص 248 وما بعدها.
العلم والفقه باسط اليد على الفقراء وأهل الحاجة وذوى الزمانة (1)» وفى ذلك ما يؤكد بسطة يده على العلماء من كل صنف وإغداقه عليهم الأموال الجزيلة.
وتولّى بعده حفيده عبد الرحمن الناصر (300 - 350 هـ). وتبلغ الأندلس فى عهده الذروة المنتظرة فى قوة السلطان، وتزدهر الحركة العلمية فى أيامه، وكان قد انتدب لرعايتها ابنه وولى عهده الحكم المستنصر، واستنّ له الإغداق على العلماء، ويكفى أن نعرف أنه أرسل إلى محمد بن القاسم بن شعبان الفقيه المالكى بالفسطاط-وهو أندلسى الأصل-عشرة آلاف دينار (2) ليفرّقها على شيوخ المالكية بمصر لنتصور مدى ما كان ينثر حينئذ من الأموال على فقهاء الأندلس وعلمائها من كل صنف، واستنّ لابنه الحكم أيضا إكرام العلماء القادمين من المشرق لينشروا فى الأندلس علمهم، ووفد عليه من بغداد أبو على القالى (3) سنة 330 فبالغ فى الحفاوة به، وقاد أبو على فى الأندلس-كما هو معروف-حركة لغوية ضخمة بمؤلفاته اللغوية وبمن تخرج على يديه هناك من تلاميذه اللغويين الكثيرين. وكما عنى الناصر بعلماء الدين واللغة عنى بمن يدرسون علوم الأوائل، ونرى إمبراطور بيزنطة قسطنطين السابع يرسل إليه بهدية بينها كتاب ديوسقوريدس فى الصيدلة باليونانية، ولم يكن فى قرطبة حينئذ من يعرف تلك اللغة، فطلب الناصر من الإمبراطور أن يرسل إليه أحد العارفين بها، فأرسل إليه الراهب نيقولا سنة 340 وكان يعرف اليونانية واللاتينية جميعا، وألف الناصر لجنة لمساعدته فى ترجمة الكتاب إلى العربية (4).
واقتدى الحكم بأبيه منذ كان وليا لعهده وأسند إليه الإشراف على الحركة العلمية، فنهض بها فى أيامه، حتى إذا خلفه فى الحكم (350 - 366 هـ) عنى بتلك الحركة إلى الذروة، وقد طرّز القالى باسم أبيه واسمه كتابه الأمالى ونوّه بهما طويلا فى مقدمته للكتاب، ونرى مؤلفين كثيرين فى الأندلس وفى المشرق يقدمون إليه مؤلفاتهم، من ذلك كتاب الاستيعاب (5) فى فقه مالك لأحمد بن عبد الملك ومحمد بن عبيد الله القرشى،
(1) انظر المقتبس (طبع دار المعارف) الفصل الخاص بالثناء على الأمير عبد الله وتقريظه.
(2)
حسن المحاضرة للسيوطى 1/ 313 - 314.
(3)
انظر فى وفادة أبى على القالى على الناصر ومقامه بقرطبة طبقات النحويين واللغويين للزبيدى ص 204 وإنباء الرواة 1/ 204 ومعجم الأدباء لياقوت 7/ 30 وبغية الملتمس للضبى ص 216 وجذوة المقتبس للحميدى (طبع القاهرة) ص 155.
(4)
انظر طبقات الأطباء والحكماء لابن جلجل تحقيق فؤاد سيد (طبع المعهد الفرنسى بالقاهرة) ص 22 وطبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة (طبعة دار مكتبة الحياة ببيروت) ص 493 وما بعدها.
(5)
الصلة لابن بشكوال (طبع مدريد) رقم 36.
ووصلهما بجائزة كبيرة، ومن ذلك كتاب الحدائق لأحمد بن فرج الجيانى الذى ألفه له، وقد عارض به كتاب الزهرة لابن داود الأصبهانى، وكان ابن داود ذكر فى كتابه مائة باب فى كل باب مائة بيت فجعل الجيانى كتابه مائتى باب فى كل باب مائتا بيت ولم يورد فيه لغير شعراء الأندلس شيئا (1)، وسمع الحكم بكتاب الأغانى لأبى الفرج الأصبهانى فأرسل إليه ألف دينار ذهبا ليبعث إليه بنسخة من الكتاب، فأرسل إليه نسخة منه منقّحة، وأرفقه بكتاب فى أنساب أسرته الأموية موشّحا بمناقبهم، فجدّد له الحكم الصلة الجزيلة، وصنع نفس الصنيع مع القاضى الأبهرى المالكى حين طلب إليه شرحه لمختصر ابن عبد الحكم فى الفقه المالكى (2).
ويقول ابن الأبّار: «لم يسمع فى الإسلام بخليفة بلغ مبلغ الحكم فى اقتناء الكتب والدواوين وإيثارها والاهتمام بها (3)» ويقول ابن خلدون: «اجتمعت بالأندلس لعهده خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده (4)» . وكان له ورّاقون أو بعبارة أخرى جلاّب كتب بأقطار البلاد وعواصمها مثل الإسكندرية والقاهرة ودمشق وبغداد ينتخبون له نفائس الكتب، ويقال إن عدد الفهارس بمكتبته فى القصر كانت أربعا وأربعين فهرسا فى كل فهرس عشرون (5) ورقة-وفى رواية خمسون ورقة-وكانت الدار التى اتخذها لمكتبته أشبه بمجمع علمى، وكانت تزخر بالحذاق فى صناعة النسخ والتجليد (6) وبالعلماء الدارسين من كل صنف وبالمحققين الذين يقابلون مخطوطات الكتب المهمة بعضها على بعض مستخلصين منها للمكتبة نسخا منقحة غاية التنقيح. ويذكر الحميدى فى الجذوة أن الحكم مرّ يوما بأبى على القالى ومجموعة من العلماء يقابلون نسخ معجم العين وبينها نسخة القاضى منذر بن سعيد التى أخذها بالفسطاط عن عالم مصر اللغوى ابن ولاد، ومكث معهم قليلا يسألهم عن نسخ الكتاب (7). ويقول ابن الأبار منوها بثقافة الحكم ومعرفته بالكتب ومؤلفيها: «كان كثير الاهتمام بكتبه والتصحيح لها والمطالعة
(1) انظر الجذوة ص 97 وبغية الملتمس ص 40 وابن دحية فى المطرب ص 4 ومعجم الأدباء 4/ 236.
(2)
تاريخ ابن خلدون 4/ 146.
(3)
انظر ترجمة الحكم فى الحلة السيراء لابن الأبار (طبع القاهرة) 1/ 200 وما بعدها.
(4)
تاريخ ابن خلدون 4/ 146.
(5)
المغرب لابن سعيد (طبع دار المعارف) 1/ 186 وراجع ترجمته فى الحلة السيراء وجمهرة أنساب العرب لابن حزم ص 100.
(6)
تاريخ ابن خلدون 4/ 146 ويقال كان بمكتبة الحكم أربعمائة ألف كتاب.
(7)
جذوة المقتبس للحميدى ص 47 وما بعدها.
لفوائدها، وقلما تجد له كتابا كان فى خزانته إلا وله فيه قراءة ونظر من أى فن كان من فنون العلم، يقرؤه ويكتب فيه بخطه-إما فى أوله أو فى آخره أو فى تضاعيفه-نسب المؤلف ومولده ووفاته والتعريف به وأنساب الرواة له، ويأتى من ذلك بغرائب لا تكاد توجد إلا عنده لكثرة مطالعته. . وصار كل ما كتبه حجة عند شيوخ الأندلسيين وأئمتهم، ينقلونه من خطه ويحاضرون به (1)». وطبيعى أن تبلغ الحركة العلمية بالأندلس فى عهده كل ما كان يؤمل لها من ازدهار لا بفضل ما وضعه تحت أعين العلماء من أمهات الكتب فى العلوم اللغوية والدينية وعلوم الأوائل من طب وغير طب فحسب، بل أيضا بفضل ما أغدق عليهم من الرواتب الجزيلة. ولم يكن الحكم يقصر الرواتب على العلماء المتخصصين الذين يحاضرون الطلاب فى المساجد، بل كان يعممها فى المؤدبين الذين يعلمون أولاد الفقراء والمساكين فى الكتاتيب (2) ومرّ بنا أنه أنشأ فى قرطبة سبعة وعشرين كتّابا، سوى ما كان بها قبله من الكتاتيب، ويقول ابن الأبار إنه أفاء على العلم بما بسط عليه من المال، ونوّه بأهله ورفع ذكرهم، ورغّب الناس فى طلبه، ووصلت عطاياه وصلاته إلى فقهاء البلدان النائية عن بلده (3).
وولى بعد الحكم المستنصر ابنه هشام المؤيد، وكان فى الحادية عشرة من عمره، واستبد بالسلطان وتدبير الدولة حاجبه أو رئيس وزرائه المنصور بن أبى عامر، لا ينازعه فى ذلك منازع طوال حياته، وله وقائع كثيرة مع النصارى فى الشمال انتصر فيها دائما واستولى منهم على برشلونة وحصونا وبلدانا أخرى كثيرة، مما حبّب الناس فيه. وأعلى مراتب العلماء وجعل لهم فى كل أسبوع يوما يجلس لهم فيه ويتناظرون بين يديه (4)، وكان يجزل الرواتب والعطايا لهم، ووفد عليه بعض علماء المشرق فأكرم وفادتهم عليه، على نحو ما هو معروف من وفادة صاعد بن الحسن البغدادى اللغوى، وألف له فى اللغة كتبا مختلفة نال بها منه أموالا جمة، منها كتابه الفصوص ألفه على شاكلة كتاب الأمالى لأبى على القالى، وحين قدمه إليه أمر له توا بخمسة آلاف دينار (5). وكان يعنى بالفقهاء
(1) ترجمة الحكم فى ابن الأبار 1/ 202 ويقول القاضى عياض فى كتابه ترتيب المدارك (طبع الرباط 1/ 22): «كان الحكم ممن طالع الكتب ونقّر عن أخبار الرجال تنقيرا لم يبلغ فيه شأوه كثير من أهل العلم» .
(2)
البيان المغرب لابن عذارى 2/ 358.
(3)
ابن الأبار فى الحلة السيراء 1/ 201.
(4)
المعجب فى تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشى (طبع القاهرة) ص 83 والحميدى ص 72.
(5)
الصلة لابن بشكوال 1/ 235 وإنباء الرواة للقفطى (طبع القاهرة) 2/ 89.
والمحدثين عنايته بصاعد اللغوى واللغويين. وكان شديد الطموح فأمر أن يحيىّ بتحية الملوك، وقعد على سرير الملك. وطمح-كما مرّ بنا فى الفصل الماضى-إلى تنصيب نفسه خليفة، ورأى-تقربا للعامة-أن ينكّل بتلامذة ابن مسرة الصوفى المتفلسف المعتزلى (1)، ودفعه هذا التقرب إلى أن يأمر بإحراق كل ما كان فى مكتبة الحكم المستنصر بالقصر من كتب الفلسفة والفلك والتنجيم (2) حتى يرضى العامة، غير أن ذلك لم يقف الحركة العلمية التى ازدهرت فى عصر عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم فقد ظلت فى مدّها، إذ كانت أقوى من أن يعصف بها هذا الحادث. وسرعان ما تنشب بعد ابن أبى عامر الفتنة أو الفتن التى ظلت أكثر من عشرين عاما وانتهت بالقضاء على الدولة الأموية فى الأندلس سنة 422 للهجرة، وكان من آثار هذه الفتن أن هاجر من قرطبة إلى مدن الأندلس المختلفة كثير من علمائها. وهاجر معهم إلى تلك المدن كثير من الكتب العلمية التى كانت مختزنة فى مكتبة الحكم وغيرها من مكتبات المساجد والمكتبات الخاصة.
وأعدّ ذلك من بعض الوجوه لأن تنشط الحركة العلمية فى المدن الكبرى التى تأسست فيها إمارات أمراء الطوائف أو ملوك الطوائف كما كانوا يسمونهم، إذ انتثر عقد الأندلس وأصبحت أندلسات أو قل إمارات كثيرة، ففى كل مدينة كبيرة فرد أو أسرة تحكمها، وتنافست هذه المدن، فكل مدينة تريد أن تتفوق على أخواتها فى العلم والفلسفة والأدب، وكل أمير لمدينة يريد أن يظفر بقصب السبق على نظرائه فى السلطان والشئون المادية والثقافية والفنية، وكأنما أعيدت فى هذه الحقبة سيرة المدن اليونانية القديمة: أثينا وإسبرطة وأخواتهما وما كان بينها من تنافس هيّأ لعصر من أزهى العصور اليونانية فى الفلسفة والفن والعلم والأدب، مما جعل حقبة أمراء الطوائف من أزهى الحقب فى تاريخ الأندلس، ومن يرجع إلى إشبيلية سيجد حاكميها المعتضد عباد وابنه المعتمد يتحولان بها إلى ما يشبه سوقا كبرى للشعر والشعراء، بينما يجد بنى الأفطس فى بطليوس بغربى الأندلس وقد صعدوا بالتأليف فى الثقافة والآداب إلى الأوج على نحو ما يصور ذلك المظفر بن الأفطس فى موسوعته التى سماها كتاب المظفرى فى الأدب والتاريخ، وكانت
(1) يدفعنا إلى اعتقاد ذلك أن قاضى الجماعة محمد ابن يبقى فى صدر دولة ابن أبى عامر هو الذى تولى محاكمة هؤلاء التلاميذ ولا بدّ أن كان ذلك بإيعاز منه. انظر النباهى فى تاريخ قضاة الأندلس ص 78 وتاريخ الفكر الأندلسى لبالنثيا (الترجمة العربية) ص 330.
(2)
طبقات الأمم لصاعد ص 103 ونسبة إحراق الكتب للخليفة هشام المؤيد خطأ وانظر البيان المغرب لابن عذارى 2/ 437.
نحو مائة مجلد (1). وبثّ بنو ذى النون فى طليطلة حركة علمية وأدبية واسعة وخاصة فى عهد أميرهم المأمون يحيى بن إسماعيل، ويقول ابن سعيد:«لم يجتمع عند ملك من ملوك الأندلس ما اجتمع عنده من الوزراء والكتاب الأجلاء (2)» . ونهضت سرقسطة فى أقصى الشمال بحركة علمية نشطة فى الرياضيات والفلك وبالمثل نشطت فى دراسة الفلسفة، وخاصة على عهد أميرها المؤتمن من بنى هود وله فى العلوم الرياضية تآليف مثل الاستهلال والمناظر (3) وكان مألفا للعلماء والأدباء والشعراء. وازدهرت فى المرية شرقى الأندلس نهضة علمية وأدبية واسعة قادها أحمد بن عباس الوزير لزهير الصقلبى أول أمرائها، وكان كاتبا مبدعا وشغف بجمع الكتب واقتنائها حتى قالوا إنه اقتنى منها أربعمائة ألف مجلد (4)، وصارت الإمارة سريعا إلى بنى صمادح فانتعش بهم العلم والشعر وخاصة فى عهد أميرها المعتصم وكان شاعرا مجيدا كما كان ممدّحا أكثر الشعراء من مديحه (5). وتكاثر العلماء والشعراء المبدعون فى مرسيه وبلنسية فى شرقى الأندلس وقاد مجاهد صاحب دانية هناك حركة علمية وأدبية، وكان عالما بالعربية وعلوم القرآن، وجمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من نظرائه، ووفد عليه العلماء الأجلاء والشعراء الأفذاد، وشاع العلم فى حضرته حتى فشا فى جواريه وغلمانه (6). وكان لغرناطة فى جنوبى الأندلس ما لأخواتها الأندلسيات من النشاط العلمى والأدبى، وظلت قرطبة تفوح بشذاها العطر فى الفلسفة والعلوم والآداب.
واستولى ألفونس السادس على طليطلة سنة 478 للهجرة، واستقر فى نفوس أمراء الطوائف أن لا حول لهم ولا قوة إزاءه وإزاء المسيحيين بالشمال فاستغاثوا بيوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين فى المغرب فلباهم، وأوقع بألفونس وجيوشه هزيمة ساحقة فى وقعة الزلاقة المشهورة، ورأى من الخير أن يضم شتات الأندلس ودويلاته المتنازعة تحت لوائه، لما ثبت له من فساد حكمهم وعجزهم عن مقاومة المسيحيين فى الشمال وبذلك أظل الأندلس حكم دولة المرابطين إلى أواخر العقد الرابع من القرن الخامس، وعظم شأن
(1) المغرب لابن سعيد 1/ 364 ويذكر أنه اجتمع عنده ابن شرف حسنة القيروان وعبد الله بن خليفة المصرى الحكيم وأبو الفضل البغدادى الأديب.
(2)
المغرب 2/ 12.
(3)
تاريخ ابن خلدون 4/ 162.
(4)
المغرب 2/ 206.
(5)
انظر ابن الأبار فى الحلة السيراء 2/ 82 ويقول كان يجلس يوما فى كل أسبوع للفقهاء والخواص فيتناظرون بين يديه فى التفسير والحديث.
(6)
المغرب 2/ 401 وأعمال الأعلام للسان الدين ابن الخطيب (نشر بروفنسال) ص 256 والبيان المغرب 3/ 157.
الفقهاء فى هذه الدولة منذ ابن تاشفين وأجرى الرواتب على كثيرين منهم طوال أيام حكمه (1)، واحتذاه فى ذلك ابنه على خليفته فى الحكم. ولا تلبث دولة الموحدين أن تحل فى المغرب والأندلس محل دولة المرابطين، وتدين الأندلس لمؤسسها عبد المؤمن وكان فقيها عالما مشاركا فى كثير من العلوم الدينية والدنيوية (2) وكان مؤثرا لأهل العلم ويجرى عليهم الرواتب الواسعة (3) وخلفه ابنه يوسف (558 - 580 هـ.) وكان قد درس فى إشبيلية على فقهائها وعلمائها اللغويين، وقيل إنه كان حفظة حتى ليقولون إنه حفظ البخارى بأسانيده، وشغف بالفلسفة وأمر بجمع كتبها فاجتمع له منها قريب مما اجتمع للحكم المستنصر (4)، وولى بعده ابنه يعقوب وكان مثقفا مثله ثقافة واسعة وكان يعقد المناظرات بين يديه للعلماء والفلاسفة. (5) وكل ذلك يشهد بأن الحركة العلمية والفلسفية ظلت مطردة النمو فى الأندلس طوال عصر دولتى المرابطين والموحدين.
وأخذت المدن الأندلسية الكبرى تسقط فى أيدى المسيحيين الشماليين منذ العقد الثالث فى القرن السابع الهجرى، واستطاع محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر أن يؤسس فى غرناطة سنة 635 إمارة ظلت حتى سنة 897 للهجرة وقد استطاعت بعلمائها وأدبائها ومن آوى إليها من أدباء المدن الأندلسية الساقطة فى حجر النصارى أن تستتم نهضة العلوم والآداب الأندلسية، وهاجر كثير من الأدباء والعلماء الأندلسيين إلى مراكش والمشرق ونشروا بهما آدابهم وعلومهم وذاع صيتهم. وكان لغرناطة والمدن التابعة لها مثل مالقة الحظ الأوفر فى الحركتين العلمية والأدبية ونرى أمراءها منذ الأمير محمد الفقيه (671 - 701) يرعون العلماء والشعراء، وعرف باسم الفقية لدراسته الفقة أيام أبيه وشغفه به، ويبدو أنه كان شغوفا بكل فروع العلم حتى علوم الأوائل، يدل على ذلك استقدامه من مرسية لمحمد بن إبراهيم الأوسى ومحمد بن أحمد الرقوطى كى يدرسا للطلاب فى غرناطة العلوم الطبية والفلسفية (6) ولعل أكبر أمير من بنى الأحمر نشطت دراسة العلوم فى عهده هو أبو الحجاج يوسف الأول
(1) روض القرطاس لابن أبى زرع (طبع الرباط) ص 38.
(2)
الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (طبع القاهرة) 1/ 158.
(3)
المعجب ص 269.
(4)
المعجب ص 310.
(5)
انظر كتابنا الرد على النحاة (طبع دار المعارف) ص 15.
(6)
الإحاطة فى أخبار غرناطة للسان الدين بن الخطيب (تحقيق عنان-طبع القاهرة) 3/ 67 - 68.
(733 - 755) الذى أنشأ لأول مرة فى غرناطة-بل ربما أيضا فى الأندلس-مدرسة سماها المدرسة (1) النصرية. ومعروف أنه لم يكن لأهل الأندلس مدارس لتعليم فروع العلم، بل كانوا يدرسونها جميعا فى المساجد أو فى دور العلماء أنفسهم، إذ كان كثيرون منهم يعلمون الطلاب فى منازلهم، ولم يكن ذلك قاصرا على أصحاب علوم الأوائل بل كان عاما عند أصحاب العلوم اللغوية والدينية وأيضا عند بعض معلمى الكتاتيب. ومع أن الأندلس لم تعرف المدارس قبل القرن الثامن الهجرى فإن الحركة العلمية ازدهرت بها ازدهارا عظيما كما رأينا سواء فى المساجد أو فى منازل العلماء التى كانت تتحول إلى ما يشبه المدارس منذ القرنين الثانى والثالث الهجريين.
وحظيت المرأة فى هذه الحركة العلمية بغير قليل من العلم والتعليم، ومعروف أن الإسلام يلزم أتباعه رجالا ونساء بأخذ قسط من التعليم فكان طبيعيا أن تقبل المرأة الأندلسية عليه حتى تتعرف على فروض دينها وخاصة من العبادات وحتى تحفظ أجزاء من القرآن وقد تحفظه جميعه. وكانت تتعلم بداخل الدور، وكان الأمراء يختارون المؤدبين لبناتهم ولجواريهم وكانت قصورهم تكتظ بهن، ومثلهم الوزراء وأصحاب الثراء. وتذكر كتب التراجم بجانب المؤدبين مؤدبات كن يتفرغن لتأديب الصبيان فى الصغر مثل ابنة حزم التى كانت تشترك مع أبيها وأخيها فى تأديب الناشئة بدار واحدة (2) وكان قيام المؤدبين بهذه المهمة أوسع، ولم يكن هناك عالم فى أى فرع من فروع العلم إلا ويأخذ بناته بالتعليم المبكر. وكثيرات كن لا يكتفين بتعلم القراءة والكتابة وشئ من الحساب مع حفظ بعض المختارات من الشعر، بل كنّ يحاولن استيعاب العلوم ويتفرغن لإتقانها، واشتهرت البهاء بنت الأمير عبد الرحمن بن الحكم الربضى (206 - 238 هـ) بأنها كانت زاهدة عابدة متبتلة وكانت كما مر بنا تكتب المصاحف وتقفها على القراء بالمساجد (3) وكانت تعاصرها أم الحسن بنت سليمان بن وانسوس وزير الأمير محمد والمنذر وعبد الله وقد تتلمذت للمحدث بقى بن مخلد المتوفى سنة 276 وروت عنه سماها منه وقراءة عليه، وصحبته، وكان لها يوم فى الجمعة تنفرد فيه به لأخذ العلم عنه بداره،
(1) راجع هذه المدرسة فى ترجمة رضوان النصرى فى الإحاطة 1/ 508 وبها لوحة تحدد تاريخ الانتهاء من بنائها بسنة 750.
(2)
التكملة لابن الأبار رقم 97 وانظر رقم 312.
(3)
الذيل والتكملة للمراكشى (طبع أكاديمية المملكة المغربية-تحقيق محمد بن شريفة) 8/ 2/484.
وحجت وسمعت هنالك الحديث والفقه وعادت إلى الأندلس (1). ومن لداتها ورفيقاتها رقية بنت تمام بن عامر وزير الأمير محمد وكان أديبا شاعرا وأحسنت ابنته رقية الكتابة حتى اتخذتها ابنة الأمير المنذر بن محمد (273 - 275 هـ) كاتبة لها (2). ومر بنا فى الفصل الماضى ثلاث من جوارى القصر الأموى كانت اثنتان منهن: مزنة وكتمان تكتبان للناصر، وكانت الثالثة لبنى تكتب للمستنصر، وكانت نظام كاتبة بقصر الخلافة أيام هشام المؤيد (366 - 399 هـ) وكانت أديبة بليغة تحسن تحبير الرسائل ومن إنشائها الرسالة التى عزّى فيها هشام المؤيد حاجبه المظفر بن المنصور بن أبى عامر عن أبيه وجدّد له العهد بالحجابة (3) سنة 392. ويدل على ما كان للجوارى فى قصور الخلفاء والوزراء وعلية القوم من ثقافة أنهن اللائى كن يقمن على تربية النّشء فى تلك القصور وهو ما يشهد به ابن حزم أحد أبناء الوزراء فى العهد الأموى إذ يقول عن نشأته فى أواخر القرن الرابع الهجرى بكتابه طوق الحمامة:«إننى ربّيت فى حجور الجوارى ونشأت بين أيديهن ولم أعرف غيرهن ولا جالست الرجال إلا وأنا فى حد الشباب وحين بقل (4) وجهى وهن علمننى القرآن وروّيننى كثيرا من الأشعار» (5). وتلقانا فى كتب التراجم من حين لآخر عالمات متعمقات فى العلم مثل ابنة فائز زوجة أبى عبد الله بن عتاب، وقد أخذت عن أبيها التفسير واللغة والعربية والشعر وعن زوجها الفقه ورحلت إلى دانية لأخذ القراءات السبع عن أبى عمرو الدانى المقرئ وكان قد سبقها إليه الموت فأخذت تلك القراءات عن تلميذه أبى داود بن نجاح فى آخر سنة 444 للهجرة (6). وكانت تعاصرها إشراق السويداء وقد برعت فى العربية واللغة والآداب واشتهرت بتقدمها فى علم العروض وعنها أخذه أبو داود المقرئ وقرأ عليها كامل المبرد وأمالى القالى (7) واشتهرت فى تلك الحقبة جارية الطبيب ابن الكتانى بحسن الغناء وبإحسانها لعلم الطب وتشريح الأعضاء مما يقصر عنه كثيرون من أصحاب الصناعة. (8) وتلقانا فى القرن السادس أم العز (9) راوية قراءة ورش عن أم معفر إحدى زوجات محمد بن سعد بن مردنيش
(1) المراكشى 8/ 2/481.
(2)
نفس المصدر 8/ 2/485.
(3)
المراكشى 8/ 2/493.
(4)
يقال بقل وجه الغلام حين ينبت شعر خده ولحيته.
(5)
طوق الحمامة لابن حزم (تحقيق د. الطاهر أحمد مكى طبع دار المعارف) ص 79.
(6)
التكملة رقم 2118 والمراكشى 8/ 2/494.
(7)
التكملة رقم 2115 والمراكشى 8/ 2/480.
(8)
المجلد الأول من القسم الثالث من الذخيرة لابن بسام (تحقيق احسان عباس) ص 112.
(9)
التكملة رقم 2125 والمراكشى 8/ 2/483.