الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأوّل
السياسة والمجتمع
1 - التكوين الجغرافى والبشرى
(1)
تقع شبه جزيرة إيبيريا فى الجنوب الغربى من القارة الأوربية، وتتصل بالقارة عن طريق جبال شاهقة وعرة، هى جبال البرينيه التى تكوّن حاجزا منيعا بينها وبين أوربا، ولا يمكن لأحد اجتيازها إلا من ممرين يخترقانها فى الشرق والغرب، وبينهما ممرات متعرجة ملتوية ضيقة سماها العرب باسم الأبواب مما جعلهم يسمون تلك الجبال جبال الأبواب. وفى وسط الجزيرة هضبة كبرى تنحدر نحو الشرق مطلّة على البحر المتوسط مهد الحضارات القديمة الكبرى: المصرية والفينيقية واليونانية والرومانية، كما تنحدر نحو الغرب مطلة على المحيط الأطلسى، وهو يطوّق شماليها الغربى فى خليج بسكاى ويتصل فى جنوبيها بالبحر المتوسط عن طريق مضيق الزقاق الذى سمّى بعد الفتح العربى إلى اليوم باسم مضيق جبل طارق. وتمتد فى هضبة إيبيريا الوسطى سلاسل جبال من الشرق إلى الغرب تصعّب التواصل بين أجزائها فى الداخل. وبها أنهار كثيرة وخاصة فى الغرب حيث تصب فى المحيط، وهى من الشمال إلى الجنوب نهر المنيو ثم نهر دويرة، وهو كثير الفروع غزير المياه خصب التربة، ويليه نهر تاجه وتقع عليه مدريد وطليطلة ويصب عند أشبونة، ثم نهر آنه وتقع عليه بطليوس، فنهر الوادى الكبير وتقع عليه قرطبة وإشبيلية ومنه يتفرّع نهر شنّيل مادّا ذراعا له إلى غرناطة، وجنوبيه نهير لكّه ويصب فى المحيط بالقرب من قادس. وتصب فى البحر المتوسط أنهار أقل أهمية ما عدا نهر إبرو فى
(1) انظر فى التكوين الجغرافى لإيبيريا كتب الجغرافية العربية القديمة وخاصة التراث الجغرافى الأندلسى والتعريف به فى كتاب الجغرافية والجغرافيين فى الأندلس للدكتور حسين مؤنس. وراجع فى التكوين البشرى لإيبيريا الصفحات الأولى من كتاب فجر الأندلس للدكتور مؤنس وكتاب دولة الإسلام فى الأندلس لمحمد عبد الله عنان وكتاب الإسلام فى إسبانيا للدكتور لطفى عبد البديع.
الشمال وهو متعدد الفروع غزير المياه، وينبع من شرقى إقليم قشتالة ويمر بإقليم أراجون فإقليم سرقسطة فى الثغر الأعلى فإقليم فطالونية ويصب عند طرطوشة جنوبى برشلونة.
ويليه جنوبا نهير الوادى الأبيض ويصب عند بلنسية، فنهير شقر بأوديته وفروعه الخصبة ويصب شمالى دانية، ثم نهير شقورة وعليه تقع مرسية، ويليه نهير أندرش ويصب عند المرية، فنهير البشرّات ويصب عند شلوبينيه.
والمناخ فى إيبيريا متباين لاختلاف أقاليمها، فهو فى الجبال وشمالى البلاد بارد، وهو دافئ فى الوديان بالوسط وفى الجنوب. ومناخ الأقاليم فى الشرق مناخ البحر المتوسط وتخضع له تلك الأقاليم فى نباتاتها وحيواناتها، بينما تخضع الأقاليم فى الغرب لمناخ المحيط الأطلسى ونباتاته وحيواناته وغاباته. وإيبيريا لا تساع مساحتها وقيام الجبال والهضاب فيها متعددة المناخ، فمناطق جبلية بها غابات وأحيانا معادن وبسفوحها مراع، ووديان وسهول بها زروع وبساتين، وهضاب بها قفار ومراع، وأحواض أنهار بها حبوب وبقول وحدائق ذات بهجة. ومن يعيشون فى تلك الأحواض وما بها من زرع وضرع تجرى حياتهم سهلة هيّنة، ومن يعيشون فى الجبال يتأثرون بوعورتها ومن يعيشون فى سفوحها والقفار ومراعيها يتأثرون بما يتأثر به أهل البوادى. وعلى هذه الشاكلة بينما نجد فى إيبيريا أهل مدن متحضرين نجد أهل جبال بائسين كما نجد رعاة متبدين، مما حال من قديم بين أهل إيبيريا وبين قيام وحدة جغرافية تؤلف بينهم وتجمع أشتاتهم.
وهذا الاختلاف فى أقاليم إيبيريا رافقه-منذ أقدم الأزمنة-اختلاف فى العناصر والأجناس البشرية التى كوّنت سكانها، وأول من سكنها الإيبيريون وهم قبائل من غالة والبسك، وسرعان ما أخذت أجناس وأمم تفد عليها، وكان أول الوافدين الفينيقيين، وفدوا عليها فى القرن العاشر قبل الميلاد للتجارة، وأقاموا بشواطئها الجنوبية مؤسسين على البحر المتوسط مدينة مالقة وعلى المحيط مدينة قادس، ووفد عليها بعدهم الإغريق فى القرن الخامس قبل الميلاد وأقاموا بشواطئها الشرقية الشمالية وهم الذين سموها إيبيريا وقد أسسوا بها مدينة برشلونة على البحر المتوسط، ووفد عليها بعدهم بنحو قرنين القرطاجنيون وأسسوا فى شرقيها مدينة قرطاجنة. واستولت عليها روما فى أواسط القرن الثانى قبل الميلاد، وكان جيشهم الفاتح لها خليطا من شعوب أوربية مختلفة إيطالية وغير إيطالية واستوطنتها بعض أسر رومانية، وأطلقت عليها روما اسم إسبانيا، وأشاعت فيها حضارتها ولغتها حتى إذا تنصرت أدخلتها معها فى النصرانية. وظلت خاضعة لها، حتى
إذا أقبل القرن الخامس الميلادى وأقبلت معه غارات المتبربرين من الألمان وغيرهم على الدولة الرومانية الغربية وقضت عليها كان من سابقيهم إلى إسبانيا قبائل، الوندال وزحزحتهم إلى الجنوب قبائل ضخمة من القوط وسمّى باسمهم:«قاندالوسيا» وعرّب الفاتحون من العرب هذا الاسم إلى الأندلس وسموا به جميع إيبيريا من الجنوب إلى أقصى الشمال. وظل القوط يحكمون البلاد متخذين طليطلة-كما اتخذها الرومان- عاصمة لهم، ونزلها فى عهد القوط يهود كثيرون، وازداد عددهم بها حتى كانت لهم مدن خاصة بهم مثل أليسانة قرب قرطبة وكثروا فى إلبيرة وغرناطة.
وأضاف الفتح العربى إلى هذه العناصر البشرية الكثيرة فى المجتمع الإيبيرى عناصر جديدة آسيوية من العرب وإفريقية من البربر. وكان عدد العرب فى الفتح لا يتجاوز ثمانية عشر ألفا، وسموا باسم البلديين تمييزا لهم من فوج عربى نزل الأندلس سنة 123 للهجرة مع واليها بلج بن بشر القشيرى، وكان تعداده عشرة آلاف وسموا باسم الشاميين تمييزا لهم من البلديين، ونزلها فى سنة 125 للهجرة مع واليها أبى الخطار حسام بن ضرار الكلبى فوج عربى ثان، وسمع العرب بخيراتها فارتحل إليها كثيرون منهم.
وكانت كثرة الفاتحين من البربر حتى إذا تم الفتح أخذت بعض القبائل والعشائر البربرية تهاجر إلى الأرض الجديدة واتخذوها سكنا ومقاما لهم. وبجانب البربر والعرب نجد عنصرا ثالثا فسح له حكام الدولة الأموية فى الأندلس والمقام بها منذ أفضى زمام تلك الدولة إلى الحكم الربضى (180 - 206 هـ) إذ استكثر من شراء الصقالبة، وهم رقيق أوربى كان يخصى ويباع، وأصل نشأته فى بلغاريا شرقى أوربا، ولذلك قيل له صقلبى، وعم الاسم فى الأندلس الرقيق الأوربى جميعه من ألمانيا وغير ألمانيا. وكان حكام الدولة الأموية يشترون هؤلاء الصقالبة شبانا ويدخلونهم فى الإسلام ويعلمونهم العربية وآداب المجتمع الأندلسى ويدربونهم على الفروسية واتخذوهم حرسا وخدما فى قصورهم، وألحقوا نفرا منهم بجيوشهم وازدادوا حتى بلغوا أكثر من ثلاثة عشر ألفا فى عهد عبد الرحمن الناصر، وسنراهم يستقلون ببلنسية ودانية والمرية فى عهد ملوك الطوائف.
وواضح أنه شاركت فى التكوين البشرى لإيبيريا أجناس كثيرة منها الآسيوى والإفريقى والأوربى، وبذلك أصبحت فى دمائها القارات القديمة الثلاث، مما حال دون قيام وحدة سياسية فيها، إذ أخذ كل إقليم من أقاليمها يشعر أن له وجودا ذاتيا وأن من حقه التمتع بالاستقلال، ومن ينظر إلى خريطتها اليوم يرى فيها أمتين مستقلتين تمام الاستقلال: الأمة الإسبانية والأمة البرتغالية، ولكل منهما نظامها السياسى الخاص.