الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طوق الحمامة لابن حزم
ابن حزم (1) هو أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم، من أسرة كانت تنتسب إلى جد فارسى من موالى بنى أمية وزعم ابن حيان أن أسرته إسبانية من عجم لبلة وأنها حديثة العهد بالإسلام، فجده الأدنى أول من أسلم من آبائه. ويبدو أنه لم يعرف جذور أسرته معرفة دقيقة، إذ تجمع كتب التراجم على سلسلة من النسب له، يتصل فيها أجداد مسلمون حتى ينتهوا به إلى جد فارسى أعلى كان مولى ليزيد بن أبى سفيان، ويقول صاحب المعجب إنه قرأ هذه السلسلة بخطه على ظهر كتاب من تصانيفه، ونصّ ابن حزم على نسبته الفارسية وولائه لبنى أمية قائلا:
سما بى ساسان ودارا وبعدهم
…
قريش العلا أعياصها والعنابس
وهو فى الشطر الأول ينسب نفسه إلى دارا وملوك الفرس الساسانيين، وفى الشطر الثانى ينتمى بالولاء إلى بنى أمية، وكان لأمية ستة أبناء من العنابسة وخمسة من الأعياص. وسنعرف عما قليل عن ابن حزم كيف كان يأخذ نفسه بالصدق والتدين العميق، مع ما يضاف إلى ذلك من أنه لا يوجد أى مبرر لكى يرجّح نسبته إلى عجم الفرس على نسبته إلى عجم الإسبان، مع ما ضم إلى ذلك من اعترافه بالولاء لبنى أمية، وظل مشايعا لهم حتى الأنفاس الأخيرة من حياته، وربما كان ذلك ما أثار ابن حيان ضده، محاولا أن يخلعه من ولائه وولاء أبيه للأمويين.
(1) انظر فى ترجمة ابن حزم ودراسته الحميدى فى الجذوة ص 290 والذخيرة 1/ 167 والمطمح ص 55 والبغية للضبى ص 403 والصلة 408 والمعجب 93 وطبقات الأمم لصاعد ص 117 والمغرب 1/ 354 ومعجم الأدباء 12/ 235 والقفطى فى تاريخ الحكماء ص 232 وابن خلكان 3/ 325 والذهبى فى تذكرة الحفاظ 3/ 341 وعبر الذهبى 3/ 239 وابن شاكر فى الفوات 2/ 271 والشذرات 3/ 299. وكتبت عن ابن حزم دراسات كثيرة، وراجع فيه تاريخ الفكر الأندلسى لبالنثيا ص 14، 74 - 77، 213 - 239، 426 وكتابات د. إحسان عباس فى تاريخ الأدب الأندلسى: عصر سيادة قرطبة ص 245 - 264 ومقدماته لما نشر من رسائله وكتاب ابن حزم: حياته وعصره لمحمد أبى زهرة ودراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة للدكتور الطاهر مكى (طبع دار المعارف) وابن حزم صورة أندلسية للدكتور الحاجرى وابن حزم الأندلسى: حياته وأدبه للدكتور عبد الكريم خليفة. وفى كتاب طوق الحمامة انظر مقدمته فى تحقيق الدكتور الطاهر مكى (طبع دار المعارف) وعرضه فيها لآراء المستشرقين وما ذكره فى هوامش تحقيقه للكتاب من تأثيرات موضوعاته فى الأدب الإسبانى. وانظر كتاب ألوان للدكتور طه حسين (الطبعة السادسة فى دار المعارف) ص 99 وما بعدها.
وكانت أسرة ابن حزم تعيش فى قرية تملكها تسمى منت ليشم من قرى مدينة لبلة على بعد خمسين كيلو مترا غربى إشبيلية، وبها ولد أبوه أحمد، ورحل منها مبكرا إلى قرطبة، ليحرز لنفسه ما استطاع من الثقافة، وسرعان ما لمع بين أقرانه بقدرته الأدبية وبلاغته ومعرفته بالتاريخ. وتعرّف عليه ابن أبى عامر حاجب الخليفة المؤيد أثناء الطلب والتلمذة، وكان يعجب به، فاتخذه وزيرا له سنة 381 مما جعله يسكن فى الجانب الشرقى من قرطبة بناحية الزاهرة مدينة أبى عامر ومجمع قصوره. وأقصاه فترة عن وزارته للنظر فى كور غربى الأندلس، ثم أعاده إلى الوزارة. وبلغ من ثقته به أن كان يستخلفه حين مغيبه عن قرطبة، ووزر من بعده لابنه عبد الملك المظفر. ورزقه الله بابنه على سنة 384 ووكل تربيته فى صباه إلى جوارى قصره وكنّ على حظ كبير من الثقافة الأدبية-شأن أمثالهن من الجوارى فى قرطبة ومدن الأندلس-وفى ذلك يقول ابن حزم فى كتابه «الطوق»:«لقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيرى، لأنى ربّيت فى حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن، ولا جالست الرجال إلا وأنا فى حدّ الشباب وحين أبقل وجهى (نبت الشعر فيه) وهنّ علّمننى القرآن وروّيننى كثيرا من الأشعار ودرّبننى فى الخط» . وجعلته هذه النشأة يستشعر مبكرا عاطفة الحب لمن؟ ؟ ؟ كن فى سنه من الجوارى، ويقول فى الطوق إنه أحب حينئذ جارية شقراء فما استحسن بعدها سوداء الشعر أبدا. وظل يختلط بهؤلاء الجوارى ويعيش معهن كما يقول إلى حد الشباب وحتى أصبح يافعا فى سن الثانية عشرة أو بعدها بقليل إذ يذكر أن أباه اصطحبه إلى مجلس الحاجب المظفر بن المنصور بن أبى عامر سنة 396. ولم يلبث أن أخذ يتتلمذ للشيوخ وفى مقدمتهم ابن الجسور المتوفى سنة 400 وعنه أخذ الحديث النبوى وتاريخ الطبرى وكان لا يزال فى سن مبكرة. وكثيرا ما كان يرافق أباه فى مجلس وزارته ويستمع إلى مادحيه من الشعراء ويحفظ بعض أشعارهم، وكان أبوه لا يزال يسكن الجانب الشرقىّ من قرطبة، حتى إذا بدأت الفتنة الكبرى سنة 399 رأى أن يتحول عن دوره المحدثة فى هذا الجانب إلى دورهم القديمة فى الجانب الغربى من قرطبة، وكان الخليفة المؤيد هشام قد عزل وأعيد سريعا، فاتهمه بمساعدته للثائرين ضده واعتقل وأغرم إغراما ماليا فادحا، وتوفى سنة 402.
وظل الفتى على فى هذه الأثناء يتابع دروسه على الشيوخ وقراءاته. ويتزوج من جارية له كلف بها تسمى نعما كانت غاية فى الحسن خلقا وخلقا، ولم يلبث القدر أن فجعه فيها وهو دون العشرين فالتاع لوعة شديدة، حتى ليقول إنه أقام بعدها سبعة أشهر لا يتجرد
عن ثيابه حزنا عليها ولا تفتر له دمعة، ويقول إنه لم يطب له عيش بعدها. وكانت أحواله المادية قد تمادت فى السوء بعد وفاة أبيه ففارق قرطبة سنة 404 إلى المرية عند حاكمها خيران أحد فتيان المنصور بن أبى عامر، ووشى به إليه فاعتقله أشهرا ثم ردّ إليه حريته فبارح المرية إلى حصن القصر وظل به أشهرا وغادره إلى بلنسية وأميريها مبارك والمظفر من فتيان العامريين، إذ سمع أنهما يشايعان أمويا بايعاه بالخلافة وتلقب بالمرتضى، فأسرع إليهما، ولم يلبث أن زحف معهما بالمرتضى إلى غرناطة للاستيلاء عليها سنة 409 والانقضاض منها على قرطبة التى كانت قد أصبحت فى قبضة القاسم بن حمود. ولم يتحقق الحلم، فقد هزم المظفر ومبارك وقتل المرتضى. وعاد ابن حزم إلى قرطبة، ورأى دورهم وأكثر دور الأمويين والعامريين أصبحت أطلالا داثرة فبكاها طويلا، وتفرغ لالتهام العلوم من لغوية ودينية وفلسفية. وفى سنة 414 تولى زمام الخلافة صديقه المستظهر الأموى فاتخذه وزيرا له مع خدنه ابن شهيد، وسرعان ما يقتل المستظهر بعد نحو شهر ونصف من خلافته، ويعتقل الخليفة الجديد المستكفى ابن حزم فترة، وتردّ إليه سريعا حريته.
وعرف ابن حزم أنه لم يخلق للسياسة، ففارقها إلى غير مآب، وانقضّ على المعارف من كل لون انقضاض الوحش على فريسته، بحيث أصبح أكبر عقل مفكر أهداه عصر أمراء الطوائف إلى الإسلام والعروبة، وفيه يقول ابن حيان:«كان حامل فنون من حديث وفقه وجدل ونسب وأدب مع المشاركة فى كثير من أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة» ويقول ابن بشكوال فى كتابه الصلة: «كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة مع توسعه فى علم اللسان ووفور حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار» ويقول ابنه الفضل: إن مجموع مؤلفاته فى الفقه والحديث والأصول والتاريخ والنحل والملل والنسب والأدب والرد على معارضيه نحو أربعمائة مجلد فى قريب من ثمانين ألف ورقة. وبدأ حياته مالكيا ثم انتقل إلى مذهب الشافعى فترة ثم تركه فى أوائل الثلاثينيات من عمره إلى مذهب داود الظاهرى، وتنقل فى مدن الأندلس يناضل عنه ويكتب فيه بحيث أصبح إمامه الحقيقى، كما كان يناضل عن الإسلام أرباب الملل من اليهود والنصارى. وتتعدد مؤلفاته تعددا واسعا، منها فى الفقه كتاب الإبطال فى مناقشة الأصول الخمسة عند الشافعية والحنفية وهى القياس والرأى والتعليل والاستحسان والتقليد محاولا نصرة مذهبه الظاهرى، وكتاب الإيصال فى فقه الحديث وفيه يورد أقوال الصحابة والتابعين فى مسائل الفقه مع بيان الحجة لكل رأى،
وكتاب المحلّى فى المذهب الشافعى، وكتاب مراتب الإجماع، وكتاب حجّة الوداع.
ومنها فى التاريخ جوامع السيرة النبوية وكتاب جمهرة الأنساب ورسالة نقط العروس ورسالة فضل الأندلس وهى تسجل ما لعلمائها وأدبائها من مصنفات وأعمال. ومنها فى المنطق كتاب التقريب لحدوده. ومنها فى تاريخ الأديان كتابه «الفصل فى الملل والأهواء والنحل» وهو به يعد واضح علم المقارنة بين الأديان الذى لم يعرفه الغرب إلا فى منتصف القرن التاسع عشر، وفيه يبين بأدلة دامغة كيف حرّفت الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى مبطلا لآرائهم العقيدية، ويعرض فى تفصيل لأركان العقيدة الدينية القويمة (عقيدة الإسلام) من التوحيد والإيمان والوعد والوعيد والقدر والإمامة، مما انتفع به فيما بعد توماس الإكوينى فى كتابه خلاصة علوم الدين. ومن كتبه النفيسة فى الأصول كتابه الإحكام فى أصول الأحكام» ومرّ بنا فى الفصل الثانى أنه أشار فى مقدمته إلى القرابة اللغوية بين العربية والسريانية والعبرية وأن العربية الشمالية العدنانية لغة مضر وربيعة تخالف العربية الجنوبية لغة حمير اليمنية. وبذلك يعد-كما أسلفنا-واضع الأساس لعلم فقه اللغة المقارن فى العربية كما وضع علم الأديان المقارن قبل أن تعرفهما أوربا بقرون. ومن المؤكد أن كتبه كانت فى مقدمة الكتب التى عنيت مدرسة طليطلة منذ القرن الثالث عشر الميلادى بترجمتها إلى اللاتينية. وله رسائل كثيرة نشر منها الدكتور إحسان عباس طائفة، ومن أهم رسائله رسالته فى الأخلاق والسير ومداواة النفوس، وقد حققها الدكتور الطاهر مكى ونشرها بدار المعارف، وبها مبادئ تتصل بسيرته وسيرة الناس فى عصره، وفيها يصور الفضائل والرذائل الخلقية مضيفا إليها بعض اعترافات فى تواضع وإخلاص، ويبدو أنها مما ترجم من آثاره إلى اللاتينية، إذ نجد على مثالها أو قريبا منها مقالات فى الأخلاق لبيكون المعروف بصلته بترجمات طليطلة. وظل ابن حزم يطوف بمدن الأندلس ناشرا علمه ومذهبه الظاهرى فى الفقه، وله مناظرة مشهورة مع الفقيه المالكى أبى الوليد الباحى فى جزيرة ميورقة سنة 452. وكان فقهاء المالكية لا يزالون ينفّرون من كتبه، مما جعل المعتضد بن عباد أمير إشبيلية يأمر بحرق طائفة منها لقصر نظره. ورأى بأخرة العودة إلى قرية آبائه منت ليشم، ويبدو أنه كان يعود إليها قبل ذلك كثيرا وبها توفى سنة 456.
وكتابه طوق الحمامة فى الألفة والألاف ألفه فى سكناه بشاطبة سنة 418 أو 419 وموضوعه دراسة الحب العذرى ويستهل حديثه فيه بأن الحب ظاهرة إنسانية لم يسلم منها حاكم ولا محكوم، ويعرفه بأنه اتصال بين أجزاء النفوس فى الطبيعة الإنسانية فى أصل
عنصرها الرفيع ويريد به عالم النفوس العلوى قبل حلول النفوس فى الأجساد فى عالم الأرض السفلى. ويحدث هذا الاتصال حين يكون بين النفوس ائتلاف ومشاكلة فيكون الحب، أما إذا كان بينها انفصال وتباين فيكون البغض. والحب بذلك إنما يكون بين النفوس لا بين الأجسام. ويوزع ابن حزم كتابه على ثلاثين بابا، منها عشرة فى أصول الحب وعلاماته وصوره كمن أحب فى النوم أو بالوصف أو من نظرة واحدة أو مع المطاولة أو مع التعريض بالقول أو مع الإشارة بالعين أو بالمراسلة أو بالسفير والرسول. ومنها اثنا عشر بابا فى أعراض الحب المحمود والمذموم، وهى أبواب الصديق المساعد والوصل وطىّ السر والكشف أو الإذاعة والطاعة والمخالفة وحب صفة فى المحبوبة والقناعة والوفاء والغدر والضّنا والموت. ومنها ستة أبواب فى آفات الحب، وهى أبواب العاذل والرقيب والواشى والهجر والبين والسلو، ثم بابان فى قبح المعصية وفضل التعفف. وجميع هذه الأبواب تعرض لا فى كلام نظرى بل من خلال الواقع والتجربة والمشاهدة أو بعبارة أدق من خلال اعترافات صريحة منتهى الصراحة لابن حزم ومعاصريه عن الحب دون أى مواربة أو خجل يحجبان الحقيقة، فالحقيقة دائما مكشوفة كالشمس. وفى تضاعيف ذلك ما لا يكاد يحصى من حقائق النفس فى الحب وترهاتها، مع أشعار لابن حزم تصور تلك الحقائق. وكأنه كان يريد بالكتاب تربية الفتاة والفتى بالأندلس موطنه ليكون حبهما حبّا نقيّا بريئا من كل دنس. ومن اعترافاته عن نفسه فى الحب قوله فى باب السلو:
«وإنى لأخبرك عنى أنى ألفت فى أيام صباى ألفة المحبة جارية نشأت فى دارنا، وكانت فى ذلك الوقت بنت ستة عشر عاما، وكانت غاية فى حسن وجهها وعقلها وعفافها وطهارتها وخفرها ودماثتها، عديمة الهزل، منيعة البذل، فقيدة الذّام (1)، قليلة الكلام، غضيضة البصر، شديدة الحذر، نقيّة من العيوب، دائمة القطوب (2)، حلوة الإعراض، مطبوعة الانقباض. . لا تقف المطامع عليها، ولا معرّس (3) للأمل لديها. .
على أنها كانت تحسن العود إحسانا جيدا، فجنحت إليها، وأحببتها حبّا مفرطا شديدا، فسعيت عامين أو نحوهما-أن تجيبنى بكلمة، وأسمع من فمها لفظة، غير ما يقع فى الحديث الظاهر إلى كل سامع-بأبلغ السعى، فما وصلت إلى شئ من ذلك البتة فلعهدى بمصطنع (4) كان فى دارنا. . تجمعت فيه دخلتنا (5) ودخلة أخى: من النساء ونساء فتياننا ومن لاث (6) بنا من خدمنا ممن يخفّ موضعه ويلطف محله، فلبثن صدرا من
(1) الذام: العيب.
(2)
القطوب: العبوس.
(3)
معرّس: مكان.
(4)
مصطنع: وليمة.
(5)
الدخلة: من يكثر دخولهم على قوم منهم أو ليسوا منهم.
(6)
لاث: اختلط.
النهار ثم تنقّلن إلى قصبة (1) كانت فى دارنا مشرفة على بستان الدار، ويطّلع منها على قرطبة وفحوصها (2) مفتّحة الأبواب، فصرن ينظرن من خلال الشراجيب (3) وأنا بينهن.
وإنى لأذكر أنى كنت أقصد نحو الباب الذى هى فيه، أنسا بقربها، متعرّضا للدنوّ منها، فما هى إلا أن ترانى فى جوارها فتترك ذلك الباب وتقصد غيره مع لطف الحركة.
فأتعمدّ أنا القصد إلى الباب الذى صارت إليه، فتعود إلى مثل ذلك الفعل من الزّوال (4) إلى غيره. وكانت قد علمت كلفى بها، ولم يشعر سائر النسوان بما نحن فيه، لأنهن كن عددا كثيرا، وكن ينتقلن من باب إلى باب بسبب الاطلاع من بعض الأبواب على جهات لا يطّلع من غيرها عليها. واعلم أن قيافة (5) النساء فيمن يميل إليهن أنفذ من قيافة مدلج (6) فى الآثار. ثم نزلن إلى البستان، فرغب عجائزنا وكرائمنا إلى سيداتها فى سماع غنائها، فأمرتها، فأخذت العود، وسوّته بخفر وخجل لا عهد لى بمثله، وإن الشئ ليتضاعف حسنه فى عين مستحسنه، ثم اندفعت تغنى بأبيات للعباس بن الأحنف. . ولعمرى لكأن المضراب كان يقع على قلبى، وما نسيت ذلك اليوم، ولا أنساه إلى يوم مفارقتى الدنيا».
ويمضى ابن حزم فيذكر أن خطوب الفتنة الكبرى بقرطبة فرّقت بينه وبين هذه الجارية إلى أن رآها بعد بضع سنوات فى جنازة لبعض أهله باكية نادبة، فأثارت فيه وجدا دفينا وحركت ساكنا وذكّرته عهدا قديما وحبّا تليدا ودهرا ماضيا وجدّدت أحزانه، وما كان نسى، وزاد الشّجا وتوقّدت اللوعة. واضطرّ إلى فراق قرطبة سنة 404 فغابت عن بصره نحو خمسة أعوام، وعاد فنزل على بعض أهله فرآها وما كاد يميّزها فقد غاض الحسن وذهبت نضارتها لفقدها الصيانة التى كانت لها فى قصر أبيه وأيام عزّه، ويقول إنه مع ذلك لو أنالته أقلّ وصل وأنست له بعض الأنس لجنّ طربا أو لمات فرحا، غير أن هذا النفار منها هو الذى أتاح له الصبر والسّلوى مع ما ظل يطوى فى نفسه من عذاب حبه وآلامه.
وبمثل هذا التصوير الواقعى القصصى الصريح المرسل فى غير تكلف لسجع أو غير سجع يتحدث ابن حزم عن الحب العذرى العفيف وتجاربه فيه وتجارب معاصريه وما له
(1) قصبة: غرفة أو غرف مشرفة فى الدار.
(2)
فحوص قرطبة: ضواحيها
(3)
شراجيب: قوائم.
(4)
الزوال: التحول.
(5)
القيافة: المعرفة القائمة على التتبع.
(6)
مدلج فى الآثار هنا: متعمق فى تتبع الآثار.