الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - المقامات والرحلات
(أ) المقامات
فن المقامات من أهم فنون النثر العربى، وقد ابتكره بديع الزمان الهمذانى (358 - 398 هـ) نافذا فيه إلى أقاصيص تصور الأدباء السيّارين المسمّين فى عصره بالساسانيين المحترفين للكدية أو الشحاذة الأدبية متخذا له أديبا شحاذا، أو متسولا كبيرا، هو أبو الفتح الإسكندرى، ومعه راويته عيسى بن هشام. وبديع الزمان يصور حيل أبى الفتح فى استخلاص الأموال والمطاعم من أيدى الناس بفصاحته وخلابة منطقه فى أسلوب قصصى يشيع فيه الحوار. وطارت شهرة مقامات البديع فى العالم العربى ونزلت قرطبة فيما نزلت من بلدانه، ونرى ابن شهيد المار بنا يستوحى-كما ذكرنا-من إحدى مقامات البديع، وهى المقامة الإبليسية، رسالته التوابع والزوابع التى بناها على لقائه فى وادى الجن لشياطين الشعراء والكتاب، ولقى بينهم شيطان بديع الزمان. وليس ذلك فحسب فإننا نراه-كما مرّ بنا-يحاكيه فى وصفه للحلواء ببعض مقاماته كما يحاكيه فى وصفه الرائع للماء. ويعرض علينا ابن بسام فى ذخيرته ثلاث مقامات، غير أنها ليست مقامات بالمعنى الذى أراده بديع الزمان إذ لا تقوم على الكدية والشحاذة الأدبية، وإنما تصف موضوعا أو موضوعات، وهى أشبه بالرسائل منها بالمقامات.
وأولى المقامات الثلاث مقامة أبى حفص (1) عمر بن الشهيد الذى لقيه الحميدى فى المريّة سنة 440 وهو من شعراء أميرها المعتصم بن صمادح (439 - 484 هـ) ومقامته أشبه بوصف رحلة له وصفا أدبيا طريفا، فيه غير قليل من الدعابة، وقد استهلها بنعى حال الكتابة فى عصره وأنها أصبحت صنعة ممتهنة. ويكتفى ابن بسام بعرض فصول منها، وفى أحد الفصول يصف ابن الشهيد الربيع وصياح الديك فى السحر، وفى فصل ثان يصف منزل بدوى دخله مع صحبه «فهشّ البدوى وبشّ، وكنس منزله ورشّ، وصيّر عياله
(1) انظر فى أبى حفص بن الشهيد ومقامته الذخيرة 1/ 670 وما بعدها، وراجع فى ترجمته الجذوة للحميدى ص 283 والبغية ص 394 والمغرب 2/ 209.
إلى ناحية، وجمع أطفاله فى زاوية». ويتحدث عن أثاث بيته حديثا فكها، ويقول إنه حاول أن يكرمهم فدعا صبيانه ليمسكوا بديك هرم، ويستغيث بهم الديك ويتشفّع-فى حوار طويل-بهرمه وأنه أصبح لضعفه ونحوله أشبه بالأدوية منه بالأغذية، ويرقّون له. ويقدّم إليهم البدوى بعض ألطافه معتذرا ويقبلون عذره ويرحلون سحرا عنه. وينزل مع صحبه قرية مسيحية سمعوا فيها صوت الناقوس وألموابدير راعهم ما فيه من شموس وأقمار ولا سيوف إلا من مقل ولا تروس إلا من خجل، فنزلوا فيه وشربوا من الدّنان ما أسكرهم ثم شدّوا الجياد عنه ركضا فمروا بكنيسة متهدمة ويبكى ابن الشهيد أطلالها وما كان فيها. ويفضى مع صحبه إلى مروج بها قطعان من السائمة، ويصيدون كثيرا من طير البرك، وينقش على مرمرة بيضاء مقطوعة شعرية يصوّر فيها البرك ومياهها وما صادوه من طيرها. ويستأنفون السّير ليلا، ويلقاهم شابّ فارس ممتطيا جوادا ومتقلّدا حساما، آبق من أهل حصن لنصارى مرّوا به، معلنا إليهم أنه عبد الصّليب وقرع الناقوس إلى أن أسعده الله بهداية الإسلام، ويشهد أن الله إله واحد، ليس له ولد ولا والد. وبذلك تنتهى المقامة وهى أشبه بنزهة متعددة المشاهد.
والمقامة الثانية عند ابن بسام مقامة أبى الوليد (1) محمد بن عبد العزيز المعلم أحد وزراء المعتضد أمير إشبيلية وكتّابه، وقد انتقى منها ابن بسام فصولا وأولها يستهله ابن المعلم بالحنين إلى ماض نعم فيه برفاهية العيش، ثم دار به الدهر من نعيم إلى شظف شديد، وما يلبث أن يقول إن البشير قرع بابه حاملا إليه كتابا من أمير، فلبّاه، حتى إذا مثل بين يديه أسمعه مدحة فيه ثم تلاها بنثر مفرط فى الثناء عليه من مثل قوله:«هو الإمام الطاهر، والكوكب الزّاهر، والأسد الخادر (2)، والبحر الزّاخر، أوهب الملوك للذخائر، وأعفاهم عن الجرائر. . أعطر من العنبر، فى كل منبر، وأفوح من المسك الذكىّ، فى كل ندىّ» ومضى فى مثل هذا الثناء حتى استطير الأمير فرحا، وازدهى مرحا، وقام إليه فقبّل بين عينيه. وبذلك تنتهى المقامة، وهى أشبه برسالة فى مديح أمير، وربما كتب بها إلى المعتضد أميره.
والمقامة الثالثة عند ابن بسام مقامة أبى محمد (3) بن مالك القرطبى، وقد ساق فى
(1) انظر فى ابن المعلم ومقامته الذخيرة 2/ 112 وراجع الجذوة ص 65 والبغية ص 94 والمغرب 1/ 112.
(2)
الخادر: المقيم بعرينه.
(3)
انظر فى أبى محمد بن مالك ومقامته الذخيرة 1/ 739 وما بعدها وراجع فى ترجمته القلائد 170.
ذخيرته بعض فصولها، وابن مالك يديرها على مديح المعتصم بن صمادح أمير المرية ويغرق فى مديحه إغراقا شديدا، ونراه يطيل فى وصف فتوحه وانتصاراته فى الحروب ووصف جيشه وأسلحته من الدروع والسيوف والرماح والخيل مظهرا فى هذا الوصف غير قليل من البراعة، ولا يزال ينثر عليه ثناءه من مثل قوله:«جدب وربيع معرق، وليل ونهار مشرق، فيه الصّاب والعسل والسّهل والجبل، ثالث القمرين وسراج الخافقين (1)، وعماد الثّقلين، المعتصم بالله ذو الرياستين» . ويشكو للمعتصم عوز أهله وضيق ذات يده، وأنه لولا ما يقيّده من أفرخ كزغب القطا لتقدم فى صفوف جنده تارة محاربا وتارة خطيبا محمّسا أو مهادنا. وبذلك تنتهى المقامة، وهى أشبه بقصيدة مدح طويلة دبّجها فى المعتصم بن صمادح
وعلى هذا النحو نفتقد المقامة التى تقوم على الكدية والشّحاذة الأدبية فى عصر أمراء الطوائف، ويظهر الحريرى (446 - 516 هـ) ويؤلف مقاماته فى أواخر القرن الخامس وسرعان ما تدوّى شهرتها فى العالم العربى ويؤمّه الرواة من كل مكان يأخذونها عنه، وأمّه من الأندلس فى فواتح القرن السادس الهجرى أبو (2) القاسم عيسى بن جهور القرطبى وأحمد بن محمد بن خلف الشّاطبى وأبو الحجاج يوسف القضاعى البلنسىّ والحسن بن على البطليوسىّ، وجميعهم حملوا مقاماته إلى الأندلس وأخذها عنهم تلاميذ كثيرون ومضوا بدورهم يدرسونها لطلابهم، وأخذ نفر من دارسيها هناك يتجرّد لشرحها، منهم عبد (3) الله بن ميمون العبدرى القرطبى المتوفى سنة 567، ومنهم أبو العباس (4) أحمد الشريشى المتوفى سنة 619 وقد صنع لها ثلاثة شروح: كبير طبع بمصر مرارا فى جزئين، ثم أوسط وأصغر. ومعروف أن مقامات الحريرى تقوم-مثل مقامات بديع الزمان -على الطريقة الساسانية أو الشّحاذة الأدبية، وقد بلغ الحريرى بفنّها الذروة.
وإذا رجعنا إلى ما أثر من مقامات عند الأندلسيين بعد مدارستهم لمقامات الحريرى وجدنا المقامات تأخذ نهجين: نهجها المار فى القرن الخامس الهجرى القائم على الوصل بينها وبين أغراض الشعر من مديح وغيره وكذلك بينها وبين أغراض الرسائل من وصف بعض المشاهد والبلدان. ونهج جديد يستوحى الحريرى فى مقاماته الساسانية القائمة على
(1) الخافقان: المشرق والمغرب، والثقلان: الإنس والجن.
(2)
انظر فى ترجمة أبى القاسم بن جهور وزملائه التكملة رقم 35 ورقم 727 ورقم 2076.
(3)
انظر ترجمة العبدرى فى المغرب 1/ 111.
(4)
راجع فى الشريشى التكملة 111 والنفح 2/ 115 والمنهل الصافى 1/ 354.
الكدية والشحاذة الأدبية، ومن النهج الأول المقامة الدّوحيّة لمحمد (1) بن عياض الّلبلىّ المتوفى سنة 550 وموضوعها الغزل، وذكر ابن سعيد فى المغرب فاتحتها، والمقامة العياضية لمحارب (2) بن محمد بن محارب الوادى آشى المتوفى سنة 553 وهى فى مديح القاضى عياض، ومقامة فى هجاء بعض أعيان مالقة لعلى (3) بن جامع الأوسى، والمقامة النّخلية لأبى الحسن النباهى المالقى المتوفى بأخرة من القرن الثامن وهى مفاخرة بين النخلة والكرمة. وللسان الدين بن الخطيب مقامة فى السياسة، وهى أشبه برسالة أو مبحث فيما ينبغى أن يكون الحاكم عليه من نشر العدل فى رعيته وتعهد المجاهدين فى سبيل الله وأن لا يعوّلوا فى كسبهم إلا على مغانمهم كالجوارح لا تطعم إلا من صيدها وما يقع فى مخالبها، ويلمّ بسياسة العمال فى ولاياتهم وأن تقوم على الحق ودحض الباطل، وكل ذلك على لسان شيخ فارسى ناصح لهرون الرشيد ويوصيه بعمارة البلدان والتمسك بالشريعة.
والرسالة حرية بأن تقرن برسائل السياسة عند ابن المقفع. وللسان الدين غير مقامة فى وصف رحلات له فى بلدان الأندلس والمغرب الأقصى، وهى أشبه بالرحلات منها بالمقامات ولذلك سنتحدث عنها بين رحلات الأندلسيين. وحوالى منتصف القرن التاسع الهجرى يشتهر-فى أيام الأندلس الأخيرة-عمر الزّجّال، وقد روى له المقّرى مقامتين أولاهما مقدمة لقصيدة هزلية طويلة، وثانيتهما فى أمر الوباء الذى ألم بغرناطة زمن أميرها الغنى بالله، وهو فيها ينكر على قصر الحمراء بغرناطة إبقاءه فيه على السلطان مع تفشى الوباء، ويقول إنه ينبغى أن يتحول عنه إلى مالقة التى كانت تتبع حينئذ غرناطة.
ونترك هذه المقامات التى تستوحى مقامات عصر أمراء الطوائف الشبيهة بالرسائل الأدبية إلى مقامات الكدية والشحاذة الأدبية التى تستوحى الحريرى فى مقاماته أو أقاصيصه الساسانية التى رواها الحارث بن همّام عن بطلها أبى زيد السروجى. وأول ما يلقانا من ذلك المقامات اللزومية للسرقسطى، وهى خمسون مقامة، وسنخصها بحديث مستقل. وكان يعاصره الكاتب أبو عبد الله بن أبى الخصال الذى مرت ترجمته والمتوفى سنة 540 وله مقامة (4) ساسانية جعل بطلها نفس بطل مقامات الحريرى: أبا زيد السروجى، كما جعل الراوى لها نفس راوية تلك المقامات: الحارث بن همام. وتبدأ المقامة
(1) انظر ترجمة ابن عياض فى المغرب 1/ 344 والتكملة ص 233.
(2)
التكملة ص 407.
(3)
راجع ترجمته فى الذيل والتكملة: القسم الأول من السفر الخامس ص 202.
(4)
انظر فى مقامة ابن أبى الخصال تاريخ الأدب الأندلسى: عصر الطوائف والمرابطين للدكتور إحسان عباس ص 316.
بمنظر فى الريف والناس متجمعون حول أبى زيد السروجى، وهو يستحثهم على الجود والسخاء وهم يحذفونه بالدراهم، وهو يتلقّف ولا يتوقف. وعرفه الحارث ونصحه أن يبيت بمنزله خشية اللصوص ويلبى دعوته، ويطعم عنده الطعام المرئ، حتى إذا أصبح الحارث وجده غادر المنزل تاركا له رقعة فيها ثلاث قصائد. ويبحث عنه ويعرف أنه ذهب إلى حانة. وتطيل المقامة فى وصف الخمر والشاربين ومن فى الحانة من الجوارى والغلمان.
ويقضى البطل وروايته فيها يوما هنيئا، وتنتهى المقامة بمقطوعة شعرية.
وتنوه كتب التراجم بمقامات لغير أديب، ولكن لا ندرى هل هى كمقامات عصر أمراء الطوائف أو هى تستلهم الحريرى فى مقاماته الساسانية، ومن أهم المقامات التى استلهمته مقامة العيد لعبد (1) الله بن إبراهيم بن عبد الله الأزدى المتوفى سنة 750 وهو من أهل مدينة بلّيش، وكانت مجاورة لمالقة، وهى مقامة خاطب فيها الرئيس أبا سعيد بن نصر يستجديه أضحية، وهو فيها يحكى قصة ساسانى من أهل الكدية أو الشحاذة الأدبية، ويستهلها بأن الرجل دخل داره ليتناول شيئا من الطعام فقالت له زوجته لم جئت؟ لا طعام لك عندى إلا إذا صنعت ما صنعه زوج الجارة إذ فكّر فى العيد وأنت قد نسيته، فقال لها: صدقت وسأخرج الآن لأبحث لك عما ذكرت، وأخذت تقول له إنك لن تأتى بشئ وأخذت تهوّن من شأنه، ولما كان يجد من خوفها-كما يقول-ما يجد صغار الغنم من الذئاب عدا يطوف السكك والشوارع ويجوب الآفاق، ويسأل الرفاق، ويخترق الأسواق، إلى أن مرّ بقصّاب (جزّار) وبين يديه عنز، وسأله أن يبيعه منه ويمهله فى الثمن، وباعه له مؤجّلا بعشرين دينارا، وانحدر معه لدكّان موثّق يكتب لهما عقد البيع. وعاد مع الجزار فلم يجد العنز، وكان قد شرد، فأخذ ينادى فى الأسواق والأزقة من رأى عنزا، وإذا برجل فخّار خرج من دهليز يصيح أين صاحب هذا العنز، والعنز يدور فى الدهليز ويحطم ما بقى من الطواجن والقدور. وطلبه المحتسب (شرطىّ السوق) وصاحب الدهليز أمامه يبكى، ولم يعف عنه إلا بعد أن أدّى عنه جيرانه ما أفسده عنزه. وتوجّه به مع الحمّال إلى داره ولم تبق فى الزّقاق عجوز إلا وصلت لتراه، وتسأله بكم اشتراه، والأولاد يدورون به، أما ربّة البيت، فبادرت زوجها تقول:«ليس فى البيت خلّ ولا زيت، ومتى تفرح زوجتك، والعنز أضحيتك، واقلّة سعدها، واخلف وعدها، وما حبسك عن الكباش السّمان» وتأخذ فى وصف الكبش السمين الذى كانت تريده، فيقول لها: وأين توجد هذه الصفة، يا قليلة
(1) راجع فى ترجمة عبد الله الأزدى ومقامته الإحاطة فى أخبار غرناطة (تحقيق عنان) 3/ 421 وما بعدها.