المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

طلحة وابن الجنان (1) وأبو المطرف بن عميرة، وسنترجم له، - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٨

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - التكوين الجغرافى والبشرى

- ‌2 - الفتح-عصر الولاة

- ‌(أ) الفتح

- ‌3 - الدولة الأموية

- ‌4 - أمراء الطوائف-المرابطون-الموحدون-بنو الأحمر فى غرناطة

- ‌(أ) أمراء الطوائف

- ‌(ب) المرابطون

- ‌(ج) الموحدون

- ‌5 - المجتمع

- ‌ الحضارة

- ‌الغناء

- ‌المرأة

- ‌6 - التشيع-الزهد والتصوف

- ‌(أ) التشيع

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-الفلسفة-علم الجغرافيا

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) الفلسفة

- ‌(ج) علم الجغرافيا

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب الأندلس-كثرة الشعراء

- ‌(أ) تعرب الأندلس

- ‌(ب) كثرة الشعراء

- ‌2 - الموشحات والأزجال

- ‌(أ) الموشحات

- ‌ ابن عبادة القزاز

- ‌ يحيى بن بقى

- ‌(ب) الأزجال

- ‌ابن قزمان

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ابن عبد ربه

- ‌ ابن عمار

- ‌ابن الحداد القيسى

- ‌الأعمى التّطيلى القيسى

- ‌الرّصافى محمد بن غالب

- ‌ابن زمرك

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌ عبد الملك بن هذيل

- ‌يوسف الثالث

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌ يحيى الغزال

- ‌السّميسر

- ‌اليكّىّ

- ‌5 - الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ حازم القرطاجنى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ابن خاتمة

- ‌2 - شعراء الطبيعة والخمر

- ‌ عبد الرحمن بن مقانا

- ‌ على بن حصن

- ‌ ابن خفاجة

- ‌ محمد بن سفر

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌ محمد بن سوار

- ‌ ابن وهبون

- ‌(ب) رثاء الدول

- ‌ المعتمد بن عباد

- ‌ابن اللبانة

- ‌ابن عبدون

- ‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ ابن العريف

- ‌ ابن عربى

- ‌الششترى

- ‌(ج) شعراء المدائح النبوية

- ‌5 - شعراء الاستنفار والاستصراخ

- ‌ ابن الأبار

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌1 - الرسائل الديوانية

- ‌ البزليانى

- ‌ابن أبى الخصال

- ‌ابن عميرة المخزومى

- ‌2 - الرسائل الشخصية

- ‌حبيب

- ‌ابن الدباغ

- ‌ سهل بن مالك

- ‌3 - الرسائل الأدبية

- ‌رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد

- ‌(أ) رسالة السيف والقلم

- ‌(ب) رسالة النخلة

- ‌(ج) رسالة أهب الشّاء

- ‌رسالتا ابن زيدون: الهزلية والجدية

- ‌رسالة ابن غرسية فى الشعوبية والردود عليها

- ‌رسائل نبوية ومواعظ

- ‌(أ) رسائل نبوية

- ‌ ابن الجنان

- ‌(ب) مواعظ

- ‌منذر بن سعيد البلّوطى

- ‌4 - أعمال نثرية

- ‌طوق الحمامة لابن حزم

- ‌كتابة التاريخ والتراجم الأدبية

- ‌(أ) المقتبس لابن حيان

- ‌(ب) الذخيرة لابن بسام

- ‌مذكرات عبد الله بن بلقّين

- ‌ قصة حى بن يقظان لابن طفيل

- ‌5 - المقامات والرحلات

- ‌(أ) المقامات

- ‌المقامات اللزومية للسّرقسطى

- ‌(ب) الرحلات

- ‌رحلة ابن جبير

- ‌خاتمة

الفصل: طلحة وابن الجنان (1) وأبو المطرف بن عميرة، وسنترجم له،

طلحة وابن الجنان (1) وأبو المطرف بن عميرة، وسنترجم له، وكتب عن الباجى ابن (2) البناء الإشبيلى، وكتب لابن الأحمر ابن خطاب (3) الجيانى وأبو عبد الله (4) ابن الخيال، وكتب لزيان أبو المطرف بن عميرة، وابن الأبار الذى ترجمنا له فى الفصل الماضى.

ومن الكتاب فى دواوين بنى الأحمر ابن الحكيم (5) كاتب الحاكم الثانى فى الأسرة محمد بن محمد بن نصر المعروف بالفقيه (671 - 701 هـ) وكتب ابن الحكيم أيضا لابنه محمد (701 - 708 هـ.) ومن كتاب بنى الأحمر النابهين فى القرن الثامن الهجرى ابن الجيّاب (6) ولسان الدين بن الخطيب الكاتب المشهور وسنترجم له، وخلفه على ديوان الإنشاء ابن زمرك، ومرّت ترجمته بين شعراء المديح، وربما كان أنبه كتابهم فى القرن التاسع الهجرى أبو عبد الله (7) الشّرّان محمد بن إبراهيم. وحرى بنا أن نتوقف قليلا لنتحدث بكلمات مجملة عن ستة من كتاب الرسائل الديوانية النابهين هم:

‌ البزليانى

وأبو محمد بن عبد البر وابن القصيرة وابن أبى الخصال وابن عميرة ولسان الدين بن الخطيب.

البزليانى (8)

هو أبو عبد الله محمد بن عامر البزليانى المالقى، وبزليانة من قرى مالقة، وكانت مالقة تتبع غرناطة وكانت إمارة الإقليم فى عصر أمراء الطوائف لبنى زيرى المغاربة، وأول من تولاها منهم زاوى حتى سنة 410 وتولاها بعده ابن أخيه حبوس بن ماكسن بن زيرى، وطمحت نفس البزليانى للعمل فى الدواوين بغرناطة وسبقت شهرته بإحسان الكتابة إليها فاستكتبه أميرها حبوس وأصبح رئيسا لديوانه وكتابه. وعمل بعده مع ابنه باديس (429 - 465 هـ) وكانت فيه قسوة وجفوة، فرأى التحول عنه وعن دواوينه، ويقول صاحب الذخيرة إنه «ممن أدار الملوك ودبرها، وطوى الممالك ونشرها» وإنه تقلب فى البلاد، وانتهى به المطاف إلى المعتضد بن عباد سنة 443 فألحقه بدواوينه، ووصله بابنه

(1) راجع فى ابن الجنان ورسالة له عن ابن هود صبح الأعشى 7/ 34.

(2)

انظر فى ابن البناء القدح ص 118.

(3)

راجع فى ابن خطاب الجيانى القدح ص 22.

(4)

انظر فى أبى عبد الله بن الخيال القدح ص 66.

(5)

أزهار الرياض 2/ 240 والإحاطة 2/ 444.

(6)

الكتيبة الكامنة ص 183.

(7)

انظر فى الشران أزهار الرياض 1/ 133.

(8)

راجع فى ترجمة البزليانى ورسائله الذخيرة 1/ 624 والمغرب 1/ 441.

ص: 398

إسماعيل، وما تدخل سنة 445 حتى يأمر المعتضد ابنه إسماعيل بغزو قرطبة، ولم يكن البزليانى-كما سنرى-يرتضى سياسة المعتضد فى غزو جيرانه، بينما يرضخ خاضعا لنصارى الشمال، وأغوى إسماعيل بمخالفة رأى أبيه، وخوّفه من إسراع باديس أمير غرناطة بنجدة بنى جهور فى قرطبة، فيقع بين فكّى أسدين يمضغانه. وكان المعتضد أبوه يعامله بقسوة وفظاظة فرأى أن ينصرف من طريقه بجيشه إذ تعاظمه الهجوم على قرطبة مع قرب حلي أمرائها باديس أمير غرناطة منهم كما ذكرنا. ويقال إن البزليانى مضى فى استغوائه له وإنه أشار عليه بهربه من أبيه ودبّره، وتطورت الظروف، فقتل المعتضد البزليانى لما وقر فى نفسه من أنه هو الذى أغواه، وقتل بعده ابنه. هكذا يقول الرواة ونظن ظنا أن المعتضد استدرج البزليانى للعمل فى دواوينه، وهو يبيّت له هذا المصير المحتوم، لما عرف عنه من إنحائه على أمراء الطوائف باللوم-فى رسائله-منذ كان عند حبوس-على سياستهم وحربهم بعضهم لبعض واستعانتهم فى ذلك بنصارى الشمال، ليغرسوا حرابهم فى صدور إخوانهم المسلمين. وليس ذلك غريبا على المعتضد فقد كتب إليه أصدق أصدقائه أبو حفص عمر الهوزنى يحضه على جهاد النصارى فاستدرجه، ووضعه بأعلى محل، وعوّل عليه فى العقد والحل، حتى إذا مضى عليه عامان باشر قتله بيده (1)، فكان طبيعيا أن يفتك بالبزليانى، حتى لو لم يتصل بابنه إسماعيل، لحملته العنيفة على سياسته وسياسة أنداده من أمراء الطوائف، على نحو ما يتضح من رسالة أرسل بها -كما يقول ابن بسام-عن حبوس إلى يحيى بن منذر التجيبى أمير سرقسطة: وفيها يقول:

«اتصل بى ما وقع بينك وبين المؤتمن (المنصور (2) الأصغر عبد العزيز) أمير بلنسية (417 - 425 هـ.) والموفق مجاهد (أمير دانية)(413 - 436 هـ.) وعضد الدولة (أمير إشبيلية)، وأنكم اضطررتم إلى إخراج كل فريق منكم النصارى إلى بلاد المسلمين، فعظم قلقى، وكثر على المسلمين شفقى، فى أن يطأ أعداؤهم بلادهم، ويوتموا أولادهم. . ولو لم تكن الفتنة-يا سيدى-إلا بين المسلمين والتشاجر إلا بين المؤمنين لكانت القارعة العظمى، والداهية الكبرى، فإذا تأيّدنا بالمشركين، واعتضدنا بالكافرين، وأبحناهم حرمتنا، ومنحناهم قوتنا، وقتلنا أنفسنا بأيدينا، وأدّتنا إلى النّدم مساعينا، كانت الدائرة

(1) المغرب 1/ 239 وما بعدها.

(2)

انظر فى تلقيب المنصور الأصغر بهذا اللقب الذخيرة 1/ 193، 203، 205.

ص: 399

أمضّ (1)، والحيرة أرمض (2)، والفتنة أشدّ، والمحنة أهدّ، والأعمال أحبط، والأحوال أسقط، والأوزار أثقل، والمضارّ أشمل، والله يعيذنا من البوائق (3)، ويسلك بنا أجمل الطرائق. . وأنت يا سيدى للمسلمين الحصن الحصين، والسّبب المتين، والنّصيح المأمون، فاجر فى جمع كلمتهم والمراماة دون حوزتهم (4)».

والبزليانى يصرخ فى يحيى بن المنذر التجيبى أمير سرقسطة فى أقصى الشمال، فإن أمراء الطوائف من أمثال أمير بلنسية وأمير دانية وأمير إشبيلية يوطئون النصارى بلادهم مستعينين بهم فى حرب أهل دينهم وقتل الآباء وتيتيم الأطفال والأبرياء. ويقول لو كانت المحنة محاربة المسلمين بعضهم بعضا فحسب لكانت تلك قارعة عظمى وداهية كبرى، ولكن المحنة أدهى وأمر فإننا نستعين بالنصارى ونبيحهم ديارنا فيا لله ويا للمسلمين.

ويستغيث بيحيى بن المنذر أن يجمع كلمة هؤلاء الأمراء، حتى يدافعوا عن حوزتهم وحدود أرضهم ويرموا العدو يدا واحدة حتى لا تقوم له قائمة. ومن غريب أن هذه الصرخة دوّت فى العشرينيات من القرن الخامس، وكأنها صرخة فى فلاة ولا حياة لمن تنادى.

ويصرخ البزليانى فى رسالة ثانية وجّه بها إلى (المنصور الأصغر أمير بلنسية الذى ذكره فى الرسالة السابقة)، وله يقول-فيما أظن-على لسان باديس:

«اتصل بى ما جزعت له من لزومك مع الموفق مجاهد ومن تبعكما من معاقديكما لمقاتلة المظفر أبى بكر محمد أمير بطليوس (430 - 460 هـ) ومنازلته ومقارعته واستجاشة (5) كل حزب منكم النصارى وطمعكم أن تمنعوا بهم ذمارا، وتقضوا بإخراجهم (معكم) أوطارا (6)، وتدركوا بأيديهم أوتارا. (7) ولم يخف عليك ما يتسبّب بالفتن، من البلوى والمحن. . باخترام (8) الرّجال، وإيتام الأطفال، وإرمال (9) النساء، وإحلال الدماء، وانتهاب الأموال، واعتساف (10) الأهوال، وإخلاء الأوطان، وإجلاء السكان. هذا إذا كانت الدعوة واحدة، والشرعة معاضدة، فأما إذا انساق العدوّ إلينا، وتطرّق علينا،

(1) أمض: أكثر ألما.

(2)

أرمض: أوجع.

(3)

بوائق: جمع بائقة: الداهية.

(4)

الحوزة: الحمى.

(5)

استجاشة هنا: استعانة.

(6)

أوطارا جمع وطر: مأرب.

(7)

أوتار جمع وتر: ثأر.

(8)

اخترام هنا: قتل أو موت.

(9)

أرملت المرأة: مات زوجها.

(10)

اعتساف: ركوب.

ص: 400

وضرى (1) على أموال المسلمين ودمائهم، وجرؤ على قتل رجالهم وسبى نسائهم، وبانت له العورات، وتحققت عندهم الاختلافات، أحدّوا رحاهم (2)، واستمدّوا من وراهم، ولم يكن للمسلمين بهم بعد يد (3)، ولا عن إخلاء هذه الجزيرة بدّ، والله يحميها من الغير (4)، ويكفيها سوء القدر»

ولا تقل هذه الصرخة عن سابقتها قوة، والبزليانى يهيب فيها بالمنصور الأصغر أن لا يمضى مع مجاهد فى حشد الجيوش ضد أخيهما المظفر بن الأفطس أمير بطليوس مستعينين فى قتال أهلهما المسلمين بالنصارى طامعين أن يحموا لهما حماهما وأن يحققوا لهما آمالهما ويدركوا لهما أثآرهما غير مراعين فى أهل دينهما حقا، إذ تقتل الرجال وتيتّم الأطفال وترمّل النساء وتنهب الأموال وتخلو الأوطان ويجلو السكان. والطامة الكبرى أن العدو إذا جاس خلال ديارنا وتجرّأ على نهب أموال المسلمين وعلى سفك دمائهم وقتل رجالهم وسبى نسائهم وانكشفت له فى البلاد العورات، وتحقق مما بين أمراء المسلمين من الاختلافات والمنازعات شحذ أسلحته وأدار رحى حرب طاحنة مستمدا فيها النصارى من ورائه فى أوربا، فجاءوه من كل فج، وأصبح المسلمون ولا طاقة لهم فى نزالهم ولا قدرة، واضطروا اضطرارا إلى مبارحة الجزيرة لا يلوون. وذهبت الصرختان جميعا هباء، وبدلا من أن يعيها هؤلاء الأمراء الذين عاشوا للترف وأعدوا لضياع البلاد جازاه المعتضد الباغى منهم شر الجزاء، فسفك دمه.

أبو محمد (5) بن عبد البر

هو أبو محمد عبد الله ابن الفقيه المشهور أبى عمر بن عبد البر النمرى القرطبى، وقد عنى به أبوه، فخرجه على يده فى أجمل صورة علمية للشاب الأندلسى فى عصره، وتفتحت فيه مبكرا نزعة أدبية جعلته يؤثر على حلقات العلم والدراسة دواوين أمراء الطوائف، ويقول ابن بسام إنه «حلّ من كتاب الإقليم محل القمر من النجوم. . وتهادته الآفاق، وامتدت إليه الأعناق. . ففاز به المعتضد (أمير إشبيلية) بعد طول خصام، والتفاف

(1) ضرى: اجترأ.

(2)

الرحى هنا: رحى الحرب.

(3)

يد هنا: طاقة، قوة.

(4)

غير الدهر: أحداثه وتقلباته.

(5)

انظر فى ترجمة أبى محمد ورسائله الذخيرة 3/ 125 وما بعدها والمغرب 2/ 402 والقلائد 181 والصلة رقم 606 وبغية الملتمس رقم 965 وإعتاب الكتاب 220 والخريدة 2/ 166، 3/ 459.

ص: 401

زحام، فأصاخ أبو محمد لمقاله، وتورط بين حبائله وحباله» وأصبح من كتّاب ديوانه، ولا نعرف الأسباب التى جعلت ابن زيدون يغصّ-كما يقول ابن بسام-بمقامه معه فى حضرة المعتضد، إذ أخذ يوغر صدره عليه، ومضت الأيام. وشعر أبو محمد بتغير المعتضد عليه، وكان سفاكا للدماء، فأخذ فى اقتناء الضياع والديار حتى يوهمه بأنه لن يفارق عمله عنده، ويبدو أنه أرسل إلى أبيه يطلعه على موقف ابن زيدون وزير المعتضد-وموقف المعتضد نفسه منه-وأنه يخشى مغبة مكثه عنده، فربما فتك به كما فتك بكثرين. وكان أبوه قد استوطن دانية وطاب له المقام عند أميرها مجاهد، فخفّ إلى المعتضد، وخلصه من يديه، وانصرف به محفوفا بالتجلة والإكرام، يقول ابن بسام:«وجعل أبو محمد بن عبد البر بعد نجاته من المعتضد يتنقل فى الدول كالبدر يترك منزلا إلى منزل. . وكتب عندنا عن أكثر ملوك الطوائف» وأكبر الظن أن ابن بسام بالغ فى قوله إنه تنقل بين ملوك الطوائف وكتب عند أكثرهم، فإنه هو نفسه لم يرو له رسائل ديوانيه إلا عن المعتضد وعلى بن مجاهد أمير دانية بعد أبيه مجاهد (436 - 467 هـ) وكأنه صحب أباه إلى دانية، فوظفه على بن مجاهد رئيسا لديوانه وكتّابه، وظل يعمل فيه، حتى توفى سنة 458 وحزن أبوه لفقده، ولعل ذلك ما جعله يتحول عن دانية إلى شاطبة، شرقيها، وبها توفى. وقد أورد ابن بسام لأبى محمد رسائل ديوانية كثيرة عن المعتضد وعلى بن مجاهد، ومن أطرفها رسالة عن ابن مجاهد وقد زفّ ابنته إلى المعتصم بن صمادح أمير المرية، وفيها يقول:

«أنفذت الهديّة (العروس). . وأنا أسأل الله فى متوجّهها ومنقلبها الرعاية الموصولة بك، والكفاية المعهودة منك، حتى يفئ (1) عليها ظلّك، ويبوّئها (2) مثوى الحفاوة محلّك، ويحميها حوزك ومكانك، ويؤويها عزّك وسلطانك، ثم حسبى عليها كرمك وكنفك (3)، وخليفتى عليها برّك ولطفك. . وإنك-والله يبقيك ويعليك، ويشدّ (4) قبضتك على رقاب أمانيك وأراجيك-ذخر الأبد، وعتاد الأهل والإخوان والولد، وعندك ثمرة النفس وفلذة الكبد، فارقتها عن شدة ضنانة، وأسلمتها بعد طول صيانة، وما زفّت إلا إلى كريم يحملها محمل الأمانة، ويقضى فيها حقّ الديانة، ويرعى لها انقطاعها عن أهلها، واغترابها عن ملئها ومنشئها، وهو حكم الله الواجب، وقدره الغالب، وسنّته المشروعة، ومشيئته المتبوعة»

(1) يفئ: ينبسط.

(2)

يبوئها: ينزلها.

(3)

الكنف: الحفظ والجناح.

(4)

يشد: يقوّى ويحكم.

ص: 402

وحدثت فى سنة 456 نكبة عظمى، فإن النورمانديين فى الشمال الغربى لفرنسا تجمعوا وتجمعت معهم شراذم من فرنسا وأوربا لحرب المسلمين فى الأندلس، مكوّنين حملة صليبية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة إذ باركها البابا إسكندر الثانى، واخترقت الحملة جبال البرينيه الفاصلة بين فرنسا وإسبانيا وحاصرت مدينة وشقة فى أقصى الشمال الشرقى لإسبانيا، ولم تستطع اقتحامها، فاتجهت إلى مدينة بربشتر إلى الشمال الشرقى من سرقسطة، وحاصروها أربعين يوما، واضطر أهلها إلى التسليم لنقص القوت والمئونة، ففتكوا بهم فتكا ذريعا وانتهكوا نساءهم وسبوا عشرات الألوف من غلمانهم وفتياتهم، وحملوا من الكسوة والفرش والأمتعة خمسمائة حمل، كل ذلك والمقتدر أمير سرقسطة قد وكلهم إلى أنفسهم وقعد عن النفير لهم. وزر لا يماثله وزر، وقد شركه فيه أمراء الطوائف جميعا، إذ لم ينهض أحد منهم للدفاع عن بربشتر. ويعلل ابن حيان تلك الكارثة بعلتين: علة صمت الفقهاء لأكلهم على موائد هؤلاء الأمراء وتقية وخوفا منهم، والعلة الثانية، وهى الأفدح، أن الأمراء استناموا إلى التنابذ والتنافر، ويسميهم «أمراء الفرقة الهمل» ويعجب أن لا تنبّههم هذه اللطمة الضخمة إلى جمع الكلمة ووقوفهم صفا واحدا ضد العدو الكاشر عن أنيابه، وأن يكون كل ما دفعتهم إليه حفر الخنادق حول مدنهم وتعلية الأسوار وتوثيق البنيان. وأطارت النكبة أفئدة المسلمين فى الأندلس وتزلزلت بهم الأرض، وتجمعوا فى السنة التالية بقيادة المقتدر بن هود أمير سرقسطة وكأنما أراد أن يغسل عنه عار نكوله عن إغاثة أهل بربشتر، وسرعان ما أجيل السيف فى النصارى المعتدين واستؤصلوا أجمعين وردّت بربشتر إلى المسلمين فغسلوها من رجس الشرك-كما يقول ابن حيان-وجلوها من صدأ الإفك (1).

وإنما قدمنا كل ذلك لتتضح لنا صرخة ضخمة وجّهها أبو محمد بن عبد البر فى شكل منشور وزّع فى كل مدن الأندلس، مما دفع أهل الجهاد فى كل مكان منها إلى حمل سلاحهم واستردادها سريعا هذا الاسترداد المشرف، وقد جعل المنشور على لسان أهل بربشتر وعنوانه-كما يقول ابن بسام-:

«من الثّغور القاصية، والأطراف النائية، المعتقدين للتوحيد، المعترفين بالوعد والوعيد، المستمسكين بعروة الدين، المستهلكين فى حماية المسلمين، المعتصمين بعصمة الإسلام، المتآلفين على الصلاة والصيام، المؤمنين بالتنزيل، المقيمين على سنّة

(1) انظر فى تصوير ابن حيان لموقعة بربشتر الذخيرة 3/ 179.

ص: 403

الرسول، محمد نبىّ الرحمة، وشفيع الأمة، إلى من بالأمصار الجامعة، والأقطار الشاسعة، بجزيرة الأندلس من ولاة المؤمنين، وحماة المسلمين، ورعاة الدين، من الرؤساء والمرءوسين»

والمنشور كان طويلا مما جعل ابن بسام يقتطف منه فصولا، وقد مضى أبو محمد يصور ما نزل بأهل بربشتر من الأهوال التى تقشعر لها الأبدان وتشيب لها الولدان، ومن قوله فى بعض فصوله مستثيرا مستنفرا بما يوجع القلوب سماعه من انتهاك النساء والدين:

{إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} -على ما رأت منا العيون-من انتهاك النّعم المدّخرات، وهتك ستر الحرم المحجّبات، والبنات المخدّرات، ولو رأيتم-معشر المسلمين-إخوانكم فى الدين، وقد غلبوا على الأموال والأهلين، واستحكمت فيهم السيوف، واستولت عليهم الحتوف، وأثخنتهم الجراح، وعبثت بهم زرق الرّماح، وقد كثر الضّجيج والعويل والنّواح. . . ومصاحف تمزّق، ومساجد تحرّق، ولا الأخ يلبّى أخاه، ولا الابن يدعو أباه، ولا الأب يدنى بنيه، (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) ولا المرضعة تلوى (تعطف) على رضيعها، ولا الضجيعة ترثى لضجيعها. . وقد سيقت النساء والولدان، ما بين عارية وعريان، ومشيخة الرجال مقرّنين فى الحبال، مصفّدين فى السلاسل والأغلال. . والجوامع، والصّوامع، بعد تلاوة القرآن، وحلاوة الأذان، مطبقة (1) بالشرك والبهتان، مشحونة بالنواقيس والصلبان، عوضا من شيعة الرحمن، والكفر يضحك وينكى (2)، والدين ينوح ويبكى، فيا ويلاه! ويا ذلاّه! ويا كرباه! ويا قرآناه! ويا محمداه! ولو شهدتم-معشر المسلمين-ذلك لطارت أكبادكم جزعا، وتقطّعت قلوبكم قطعا، واستعذبتم طعم المنايا، لموضع تلك الرّزايا، ولهجرت أسيافكم أغمادها، وجفت أجفانكم رقادها، امتعاضا لعبدة الرحمن، وحفظة القرآن، وضعفة النساء والولدان، وانتقاما من عبدة الطّغيان، وحملة الصّلبان»

والرسالة-بهذا النمط-تشعل الحماسة فى النفوس الخامدة حمية للدين الحنيف وما حرّق من مساجده وصوامعه وما مزّق من قرآنه ومصاحفه، ولنساء المسلمين وما انتهك من حرماتهم وما ساموهم به من أسر وسباء، بل من عرى وعذاب أليم، ومن بقى من الرجال أوثقوا فى السلاسل والأغلال. ويقول أبو محمد: إن

(1) مطبقة: مغطاة.

(2)

ينكى: يقهر.

ص: 404

ما دهى بربشتر إنما هو رمز لما أصاب الأندلسيين فى عهد أمراء الطوائف من تقاطع وتنابذ ويدعو إلى التواصل والألفة، حتى يتدارك الأندلسيون ما يوشك أن يصيبهم من هلاك مدمر، يقول متحسرا:

«ولو كان شملنا منتظما، وشعبنا ملتئما، وكنا كالجوارح فى الجسد اشتباكا، وكالأنامل فى اليد اشتراكا، لما طاش لنا سهم، ولا سقط لنا نجم (1)، ولا ذلّ لنا حزب، ولا فلّ لنا غرب، ولا روّع لنا سرب، ولا كدّر لنا شرب (2)، ولكنّا عليهم ظاهرين، إلى يوم الدين، فالحذر الحذر! فإنه رأس النظر، من بركان تطاير منه شرر ملتهب، وطوفان تساقط منه قطر مرهب، قلما يؤمن من هذا إحراق، ومن ذلك إغراق، فتنبّهوا قبل أن تنبّهوا، وقاتلوهم فى أطرافهم قبل أن يقاتلوكم فى أكنافكم، وجاهدوهم فى ثغورهم قبل أن يجاهدوكم فى دوركم»

ولم تذهب صرخة أبى محمد أدراج الرياح، فسرعان ما حمل الأندلسيون أسلحتهم كما ذكرنا، وهاجموا العدو فى بربشتر وردوا كيده فى نحره مستأصلين له إلا ما باعوه بيع الرقيق من الأبناء والعيال. وكان حريّا بأمراء الطوائف بعد تلك الكارثة المروعة أن يأتلفوا ويتحدوا ضد نصارى الشمال، ولكنهم عادوا إلى فرقتهم كما عادوا إلى استخذائهم من دفع الإتاوات السنوية لأولئك النصارى مع تسديدهم الرماح والسيوف إلى صدور إخوانهم من المسلمين إلى أن ضاعت طليطلة، ولولا أن تدارك يوسف بن تاشفين الأندلس لسقطت مدنها فى حجور النصارى واحدة إثر أخرى.

أبو بكر (3) بن القصيرة

هو أبو بكر محمد بن سليمان الكلاعى الولبى الإشبيلى المعروف بابن القصيرة، نشأ فى إشبيلية، وتفتحت موهبته الأدبية فى عهد المعتضد أمير إشبيلية، وفطن له-كما يقول ابن بسام-ابن زيدون وزيره، فنبه عليه المعتضد آخر دولته، فألحقه بديوانه، وتعرّف

(1) يقال لم يسقط لهم نجم كناية عن غلبتهم وظفرهم الدائم.

(2)

الشّرب: مورد الماء.

(3)

انظر فى ترجمة ابن القصيرة ورسائله الذخيرة 2/ 239 والمغرب 1/ 350 والقلائد 104 والصلة رقم 1137 والمطرب 81 والمعجب 227 والإحاطة 2/ 516 وإعتاب الكتاب 222 والوافى 3/ 128 والخريدة 3/ 383 والذيل والتكملة 6/ 227 ووثائق تاريخية جديدة عن عصر المرابطين فى المجلد السابع من صحيفة معهد الدراسات الإسلامية فى مدريد وما بها من رسائل ابن القصيرة مع تحليل د. محمود مكى لها.

ص: 405

حينئذ بالمعتمد وأعجب كل منهما بصاحبه، حتى إذا استولى على صولجان إشبيلية بعد أبيه رفعه إلى مرتبة الوزارة، مع إسناد الكتابة إليه، وله عنه فى الذخيرة غير رسالة، وعهد إليه غير مرة بالسفارة بينه وبين جيرانه من أمراء الطوائف، حتى إذا استولى ألفونس ملك القشتاليين على طليطلة، وشدّد عليه فيما كان يأخذ من المعتمد من إتاوات سنوية استصرخ-وبالمثل المتوكل أمير بطليوس-يوسف بن تاشفين أمير المرابطين لكى يقدم بجيشه إلى الأندلس نجدة لها ضد ألفونس ومطامعه، وكان أبو بكر بن القصيرة هو الرسول أو السفير الذى حمل رسالته إلى يوسف واستغاثته. ولبّاه ولبّى المتوكل وفقهاء الأندلس، فعبر بجنوده المجاز، وأنزل-يعاونه الأندلسيون وأمراؤهم: المعتمد وغيره- بألفونس وقعة الزلاقة المشهورة فى رجب سنة 479 وفيها سحق جيش ألفونس سحقا كاد لا يبقى منه ولا يذر. وتطورت الظروف فاستولى ابن تاشفين-نزولا على إرادة الأندلسيين وفقهائهم-على إمارات الطوائف جميعا ما عدا سرقسطة فى الشمال إذ تركها لبنى هود، لما رأى من إحسانهم لحمايتها ودفاعهم عنها ضد النصارى، وأخذ المعتمد معه أسيرا إلى أغمات كما مر بنا فى غير هذا الموضع. وطبيعى أن يبتعد أبو بكر بن القصيرة عن حكام إشبيلية الجدد من المرابطين، ويظل على ذلك نحو ثلاث سنوات، ويفاجأ فى سنة 487 باستدعاء يوسف له كى يتولى ديوان الإنشاء عنده بمراكش وكان كاتبه عبد الرحمن بن أسباط قد توفى، ويبدو أنه كان يعجب بابن القصيرة والرسائل التى حملها إليه على لسان المعتمد، وأصبح منذ هذا التاريخ رئيس ديوان الإنشاء ليوسف بن تاشفين حتى وفاته سنة 500 وظل قائما على هذا الديوان زمن على ابنه حتى وافاه القدر سنة 508 بمراكش.

وتحتفظ الذخيرة-كما ذكرنا آنفا-بكثير من الرسائل التى كتبها على لسان المعتمد بن عباد، ولعل أهمها الرسالة التى فصّل فيها القول فى هزيمة ألفونس بالزلاّقة، وكان جيشه قد دمّر، وبلغ من كثرة قتلاه أن كان الناس يتخذون من رءوسهم صوامع يؤذّنون عليها ويشكرون الله على حسن صنيعه، ومن قول ابن القصيرة فى الرسالة المذكورة ببعض فصولها بلسان المعتمد.

«قد علم ما كنا-قبل-مع عدوّ الله أذ فونش قصمه الله-من تطأطؤنا واستعلائه، وتقامئنا وانتخائه (1)، وأنا لم نجد لدائه دواء، ولا لبلائه انقضاء، ولا لمدة الامتحان به

(1) تقامؤ: تصاغر وتذلل. انتخاء: تعاظم.

ص: 406

فناء، إلى أن سنّى (1) الله تعالى من استصراخ أمير المسلمين وناصر الدين، أبى يعقوب يوسف بن تاشفين-أيده الله-ما سنّى، وأدنى من نأى دياره وشحط (2) مزاره ما أدنى. . ثم أجاز-على بركة الله وعونه-يريش (3) ويبرى، وسار قدما (4) يخلق ويفرى (5). واتفق رأينا بعد تشاور على قصد قورية (بالقرب من ماردة شرقى بطليوس) -حرسها الله-وسمع العدو-لعنه الله-بذلك فقصد بمحتشده إليها فى جيوش تملأ الفضاء، وتسدّ الهواء، وتمنع أن تقع على ما تحت راياته ذكاء (6)، قد تحصّنوا بالحديد من قرونهم إلى أقدامهم، واتخذوا من السلاح ما يزيد فى جرأتهم وإقدامهم، ودعاه تعاظمه إلى مواجهة سبيلنا، وحمله نفجه (7) وتهوّره على السلوك فى مدرج سيولنا، ودنونا إليه بمحلاّتنا، وأطللنا عليه براياتنا، وتنادى المسلمون بشعارهم (8) المنصور، وأقبلوا عليه وعلى من معه فى حال مؤذنة بالظهور والوفور، وتواقف قليلا الجمعان، وتجاول مليّا (9) الفريقان، ثم صدق أمير المسلمين، وناصر الدين-أيدّه الله-الحملة، وصدم فى جمع لم يكثر عدد الجملة، فلم يلبث أعداء الله أن ولّوا الأدبار، واتبعتهم خيل المسلمين تقتلهم فى كل غور ونجد (10)، وتقتضى أرواحهم على حالين من كالئ ونقد (11)، ولم يخلص منهم على أيدى المتّبعين-آجرهم الله-إلا من سيلتهمه البعد، ويأتى على حشاشته (12) الجهد. . ولم يصب بحمد الله من المسلمين-وفّرهم الله على هول المقام، وشدة الاقتحام، كثير، ولا مات من أعلامهم تحت تلك الجولة إلا عدد يسير، وإن كان أذفونش-لعنه الله-لم يمت تحت السيوف بددا (13)، فسيموت لا محالة أسفا وكمدا، ونحمد الله على ما يسّر من هذا الفتح الجليل وسناّه، ومنحه من هذا الصّنع الجميل وأولاه».

وليت ابن بسام روى هذه الرسالة كاملة حتى تتراءى وقعة الزلاقة المجيدة بكل تفاصيلها، والمعتمد يعترف فى مقدمتها باستخذائه (14) أمام ألفونس وتصاغره وشعوره

(1) سنىّ: فتح.

(2)

شحط: بعد.

(3)

يريش ويبرى: يضر وينفع.

(4)

قدما: مسرعا.

(5)

يخلق ويفرى. يقرر الأمر ويمضيه.

(6)

ذكاء: الشمس.

(7)

نفجه: فخره بما ليس عنده.

(8)

شعارهم: الله أكبر.

(9)

مليا: زمنا غير قليل.

(10)

الغور: المنخفض من الأرض. النجد: المرتفع منها.

(11)

الكالئ: المؤجل. النقد: الحالّ، يقصد القتل السريع والقتل المؤجل مشيرا بذلك إلى أسراهم.

(12)

الحشاشة: بقية الروح.

(13)

بددا: قطعا.

(14)

الاستخذاء: الخضوع والذل.

ص: 407

بالمذلة والهوان مع التزامه بما كان يدفعه له سنويا من إتاوات. ويقول إنه كان دأبه ودأب أمراء الطوائف من حوله الإذعان لنصارى الشمال، بينما كان دأب النصارى التسلط ونهب الحصون والقلاع، بل لقد نهب ألفونس طليطلة الجوهرة الكبرى، والمعتمد وأمثاله من أمراء الطوائف فى غفلة يعمهون. وقيضّ الله للمسلمين هناك ابن تاشفين، فقلّم أظفار ألفونس وردّ كيده فى نحره ونحر أتباعه مذمومين مدحورين على نحو ما يصور ابن القصيرة فى رسالته. واحتفظت الذخيرة برسالة لابن القصيرة على لسان يوسف بن تاشفين وجّه بها إلى أبى عبد الله محمد بن على بن حمدين حين ولاه القضاء بقرطبة سنة 490 وله يقول:

«استهد الله يهدك، واستعن بالله يعنك، وتولّ القضاء الذى ولاّكه الله بجدّ وحزم، وجلد وعزم، وأمض القضايا على ما أمضاها الله تعالى فى كتابه وسنة نبيه، ولا تبال برغم راغم، ولا تشفق من ملامة لائم. . وقد عهدنا إلى جماعة المرابطين أن يسلّموا لك فى كل حقّ تمضيه، ولا يعترضوا عليك فى قضاء تقضيه، ونحن أولا وكلّهم آخرا مذ صرت قاضيا سامعون منك، غير معترضين فى حق عليك، والعمال والرعية كافّة سواء فى الحق» .

وواضح أن ابن تاشفين يجعل القاضى فوقه وفوق الرعية جميعا، ويقول إنه ليس لجماعة المرابطين فى الأندلس من أولى العقد والحل الحق فى أى اعتراض يوجهونه إليه أو إلى قضائه، ويوسف بن تاشفين نفسه أولا ثم المرابطون جميعا مذ صار قاضى الجماعة فى قرطبة قد أصبحوا خاضعين له ولأحكامه. وهو جانب مشرف فى القضاء الإسلامى، نجده فى كل مكان، ونقصد استقلاله وأن مكانة القاضى فوق مكانة الحاكم مهما بلغ من السلطان. وقد نشر الدكتور محمود مكى مجموعة من رسائل كتاب الديوان المرابطى فى عهد على بن يوسف بن تاشفين فى المجلد السابع من صحيفة معهد الدراسات الإسلامية فى مدريد بينها تسع رسائل لابن القصيرة من الرسالة الخامسة فى المجموعة إلى الثالثة عشرة، والسابعة فى ترتيب المجموعة أشبه بمنشور وجهه إلى أهل الأندلس بلسان على بن يوسف، وكان فى زيارة لقرطبة، وفيه ينصح الأندلسيين بطاعة الوالى وأن لا يعصوا له أمرا قائلا:

«إنه النائب عنا فى تدبيركم، وإقامة أموركم، وسياسة صغيركم وكبيركم، وقد فوّضنا

ص: 408