الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأتراب، طاحوا (1) والله وأكلهم التراب، بينما البلبل يغرّد إذ نعب الغراب وفجأت الفجيعة فما لذّ النوم ولا ساغ الشراب».
وكان نبعا فياضا فى الوعظ مما جعل بعض الوعاظ يستعينون به فيما يعظون به الناس. ونلتقى بكثير من المواعظ فى دولة بنى الأحمر بغرناطة، ومن كبار الوعاظ فى دولتهم ابن الزيات الكلاعى المالقى المتوفى سنة 728 وله فى الوعظ كتاب «شذور الذهب فى ضروب الخطب» ، وروى له لسان الدين بترجمته فى الإحاطة عظة ألغى الألف من حروفها وفيها يقول:
قد نصحتم لو كنتم تعقلون، وهديتم لو كنتم تعلمون، ونصرتم لو كنتم تبصرون، وذكّرتم لو كنتم تذكرون، وظهرت لكم حقيقة نشركم (2)، وبرزت لكم خبيئة حشركم، فلم تركضون فى طلق (3) غفلتكم، وتغفلون عن يوم بعثكم، وللموت عليكم سيف مسلول، وحكم عزم غير مفلول (4)، فكيف بكم يوم يؤخذ كلّ بذنبه، ويخبر بجميع كسبه، ويفرّق بينه وبين صحبه، ويعدم نصرة حزبه، ويشغل بهمّه وكربه، عن صديقه وتربه».
ويسترسل فى مثل هذا الوعظ البسيط الذى ينزلق عن اللسان لخفته ولعذوبته، ولعله من أجل ذلك كان مجلس وعظه يغص بالناس ويزدحمون عليه لسماع مواعظه. وحرى بنا الآن أن نقف قليلا عند الواعظين الجليلين: منذر بن سعيد وأبى بكر الطرطوشى.
منذر بن سعيد البلّوطى
(5)
هو أبو الحكم منذر بن سعيد بن عبد الله، ولد سنة 265 بموضع فى نواحى قرطبة يسمى فحص البلوط فنسب إليه، وأقبل منذ نعومة أظفاره على الدراسات الدينية واللغوية وبزّ فيها أقرانه بقرطبة، وفى سنة 308 رحل إلى المشرق للحج والتلقى عن علمائه، وعاد إلى قرطبة يحمل عن محمد بن المنذر النيسابورى كتابه الإشراف المؤلف فى اختلاف الفقهاء سمعه منه بمكة، ويحمل أيضا كتاب معجم العين المنسوب إلى الخليل سمعه على أبى العباس بن ولاد بمصر، غير كتب أخرى فى اللغة والفقه والحديث. وأهم
(1) طاحوا: هلكوا.
(2)
نشركم: بعثكم.
(3)
طلق: شوط.
(4)
مفلول: مثلوم الحد.
(5)
انظر فى ترجمة منذر ومواعظه طبقات الزبيدى 319 وابن الفرضى رقم 1452 والبغية رقم 1356 والجذوة 326 والمطمح 27 ومعجم الأدباء 19/ 174 وإنباه الرواة 3/ 225 وأزهار الرياض 2/ 272 ونفح الطيب (انظر الفهرس).
من ذلك أنه حمل مذهب داود الظاهرى وكتبه وظل يؤثره ويحتج لمقالته، مع أنه كان قاضيا فى بعض مدن الأندلس، والقضاء فيها كان مالكيا يلتزم القضاة فيه بمذهب مالك وفتاويه وفتاوى تلاميذه المصريين، واشتهر منذر بأنه إنما كان يأخذ بالمذهب الظاهرى فى نفسه فإذا جلس للحكومة والقضاء بين الناس قضى بينهم وحكم بمذهب مالك الذى استقر عليه العمل فى الأندلس. وثقف فى رحلته الاعتزال كما ثقف المذهب الظاهرى، وكان يحتج له كما يحتج للمذهب الظاهرى دون إفراط، مع الأخذ بالسنة والورع والرد على أهل الأهواء والبدع. وفى سنة 330 أتيحت له فرصة عظيمة عندما أقيم بقصر الناصر فى قرطبة حفل استقبال ضخم لسفير بيزنطة الذى جاءه يحمل إليه بعض الهدايا من لدن الإمبراطور، وتقدم ابنه وولى عهده الحكم إلى أبى على القالى العالم اللغوى المشهور، وكان قد وفد على قرطبة ودوّت شهرته فى الأندلس، فسأله أن يلقى خطبة أمام أبيه يبين فيها فخامة الخلافة الأموية بالأندلس وما تهيأ للناصر من توطيد الحكم فى بلده، فقام القالى وحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبى صلى الله عليه وسلم، وأرتج عليه وانقطع عن الكلام، فلما رأى ذلك منذر-وكان حاضرا-قام فوصل افتتاحه بخطبة طويلة بليغة على غير أهبة مفتتحا لها بقوله:
«أما بعد حمد الله والثناء عليه، والتعداد لآلائه، والشكر لنعمائه، والصلاة والسلام على محمد صفيّه وخاتم أنبيائه، فإن لكل حادثة مقاما، ولكل مقام مقالا، وليس بعد الحقّ إلا الضلال، فافقهوا عنى بأفئدتكم، إن من الحق أن يقال للمحقّ صدقت، وللمبطل كذبت. .
وإنى أذكرّكم بأيام الله عندكم وتلافيه لكم بخلافته أمير المؤمنين التى لمّت شعثكم، وأمّنت سربكم».
ومضى يتحدث عن تلافى الناصر للفتن التى كانت عمت آفاق الأندلس، وفصّل القول فى انتصاراته وفتوحاته وعدالته وما حظيت به الدولة لعهده من مكانة جعلت الروم يخطبون مودتها. وينصح الناس بالتزام الطاعة لخليفتهم وابن عم نبيهم الناصر، ويختم خطبته بالحمد لله والاستغفار. وبهرت الخطبة المجتمعين وخرجوا يتحدثون عن بلاغة منذر وحسن بيانه وثبات جنانه، وأعجب به الناصر إعجابا شديدا، فولاه الصلاة والخطابة بمسجده الجامع فى مدينته الزهراء التى بناها بجوار قرطبة، ثم ولاه قضاء الجماعة، فأصبح قاضى القضاة فى الأندلس جميعا، وظل على ذلك فى حكم الناصر وحكم ابنه الحكم إلى أن توفى سنة 355. وكان الناصر قد مضى فى بناء مدينته الزهراء وتأنق فيها
ما وسعه التأنق على نحو ما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، فرأى منذر أن يتناوله فى خطبة الجمعة بالموعظة الحسنة رجاء إنابته ورجوعه عن هذا السرف المفرط.
وابتدأ منذر موعظته بقول الله تعالى شأنه: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ (1)} آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ (2) لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ثم قال: ولا تقولوا: {سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ} {مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اِتَّقى} وما زال يصل ذلك بكلام مؤثر فى ذم تشييد البنيان وزخرفته والإسراف فى الإنفاق عليه، واستشهد بقوله تعالى:{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} ومضى منذر يدعو إلى الزهد فى الدار الفانية والإعراض عنها وطلب ما عند الله من فراديس الجنان وأسهب فى ذلك حتى تأثر المستمعون وضجّوا بالبكاء، ودعوا الله تائبين مستغفرين وبكى الناصر واستعاذ من سخط الله وغضبه. ولمنذر مصنفات من أهمها:
«أحكام القرآن» وكان شاعرا، أما العظات فلعل واعظا فى وطنه لم يبلغ فيها مبلغه فى زمنه، وكانت له خطب مجموعة ومتداولة فى الأندلس تحمل وعظا كثيرا، ومن عظاته قوله:
«حتى متى وإلى متى أعظ غيرى ولا أتّعظ وأزجره ولا أزدجر، أدلّ على الطريق المستدلّين، وأبقى مقيما مع الحائرين، كلا إن هذا لهو البلاء المبين {(إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَاِرْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ)} .
اللهم فرّغنى لما خلقتنى له، ولا تشغلنى بما تكفّلت لى به، ولا تحرمنى وأنا أسألك ولا تعذّبنى وأنا أستغفرك يا أرحم الراحمين».
أبو (3) بكر الطّرطوشى
هو أبو بكر محمد بن الوليد القرشى الطّرطوشى الأندلسى ولد فى سنة 451 بطرطوشة فى أعلى الشرق من الأندلس على البحر المتوسط، ويعرف بابن أبى رندقة، ويبدو أنها كنية شهر بها فيما بعد، وقد تخرج على يد أبى الوليد الباجى بسرقسطة، أحد
(1) ريع: المرتفع من الأرض وكان الناصر قد بنى الزهراء بضاحية قرطبة على جبل العروس.
(2)
مصانع: مبان من القصور والحصون.
(3)
انظر فى ترجمة الطرطوشى ومواعظه الصلة 517 وبغية الملتمس رقم 295 والمغرب 2/ 424 وابن خلكان 4/ 262 والديباج المذهب 276 وعبر الذهبى 4/ 48 وأزهار الرياض 3/ 162 والشذرات 4/ 62 وحسن المحاضرة 1/ 192.
كبار المالكية فى أواخر عصر أمراء الطوائف إن لم يكن أكبرهم، وقد أخذ عنه مسائل الخلاف وغيره من كتبه الكثيرة وأجاز له روايتها عنه. ورحل إلى المشرق سنة 476 وحجّ ودخل بغداد والبصرة، وسمع من جلّة الشيوخ فى البلدتين، وسكن الشام مدة ودرّس بها، ثم سكن مصر واستقر بثغر الإسكندرية إلى أن توفى بها سنة 520. وكان ورعا متقشفا متقللا من الدنيا راضيا منها باليسير، ودخل على الأفضل بن بدر الجمالى وزير الفاطميين (487 - 515 هـ) فوعظه حتى بكى، وكان مما وعظه به:
وللطرطوشى مؤلفات مختلفة منها الكتاب الكبير فى مسائل الخلاف وكتاب مختصر تفسير الثعالبى وكتاب بدع الأمور ومحدثاتها وكتاب شرح رسالة ابن أبى زيد فى الفقه المالكى، وأشهر كتبه كتاب سراج الملوك الذى ألفه للمأمون البطائحى وزير الفاطميين بعد الأفضل بن بدر الجمالى (515 - 519 هـ) وهو وعظ للملوك والحكام وبيان لما ينبغى أن يتحلوا به من الأخلاق والسياسة الرشيدة فى الحكم، ويبين فى مقدمته منهجه فيه وغايته قائلا:
«جمعت محاسن ما انطوى عليه سير ملوك ستّ من الأمم، وهم العرب والفرس والروم والهند والسّند والسند هند، فنظّمت ما ألفيت فى كتبهم من الحكمة البالغة والسّير المستحسنة والكلمات اللّطيفة والظريفة المألوفة. . إلى ما رأيته وجمعته من سير الأنبياء عليهم السلام وآثار الأولياء وبراعة العلماء وحكمة الحكماء ونوادر الخلفاء وما انطوى
(1) النقير: ما نقر فى نواة التمر، والقطمير: القشرة الرقيقة على النواة، الفتيل: الخيط فى شق النواة والمراد أنه يسأل عن أصغر الأشياء.
(2)
رخاء: لينة.