المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ابن الأبار - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٨

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - التكوين الجغرافى والبشرى

- ‌2 - الفتح-عصر الولاة

- ‌(أ) الفتح

- ‌3 - الدولة الأموية

- ‌4 - أمراء الطوائف-المرابطون-الموحدون-بنو الأحمر فى غرناطة

- ‌(أ) أمراء الطوائف

- ‌(ب) المرابطون

- ‌(ج) الموحدون

- ‌5 - المجتمع

- ‌ الحضارة

- ‌الغناء

- ‌المرأة

- ‌6 - التشيع-الزهد والتصوف

- ‌(أ) التشيع

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-الفلسفة-علم الجغرافيا

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) الفلسفة

- ‌(ج) علم الجغرافيا

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب الأندلس-كثرة الشعراء

- ‌(أ) تعرب الأندلس

- ‌(ب) كثرة الشعراء

- ‌2 - الموشحات والأزجال

- ‌(أ) الموشحات

- ‌ ابن عبادة القزاز

- ‌ يحيى بن بقى

- ‌(ب) الأزجال

- ‌ابن قزمان

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ابن عبد ربه

- ‌ ابن عمار

- ‌ابن الحداد القيسى

- ‌الأعمى التّطيلى القيسى

- ‌الرّصافى محمد بن غالب

- ‌ابن زمرك

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌ عبد الملك بن هذيل

- ‌يوسف الثالث

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌ يحيى الغزال

- ‌السّميسر

- ‌اليكّىّ

- ‌5 - الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ حازم القرطاجنى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ابن خاتمة

- ‌2 - شعراء الطبيعة والخمر

- ‌ عبد الرحمن بن مقانا

- ‌ على بن حصن

- ‌ ابن خفاجة

- ‌ محمد بن سفر

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌ محمد بن سوار

- ‌ ابن وهبون

- ‌(ب) رثاء الدول

- ‌ المعتمد بن عباد

- ‌ابن اللبانة

- ‌ابن عبدون

- ‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ ابن العريف

- ‌ ابن عربى

- ‌الششترى

- ‌(ج) شعراء المدائح النبوية

- ‌5 - شعراء الاستنفار والاستصراخ

- ‌ ابن الأبار

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌1 - الرسائل الديوانية

- ‌ البزليانى

- ‌ابن أبى الخصال

- ‌ابن عميرة المخزومى

- ‌2 - الرسائل الشخصية

- ‌حبيب

- ‌ابن الدباغ

- ‌ سهل بن مالك

- ‌3 - الرسائل الأدبية

- ‌رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد

- ‌(أ) رسالة السيف والقلم

- ‌(ب) رسالة النخلة

- ‌(ج) رسالة أهب الشّاء

- ‌رسالتا ابن زيدون: الهزلية والجدية

- ‌رسالة ابن غرسية فى الشعوبية والردود عليها

- ‌رسائل نبوية ومواعظ

- ‌(أ) رسائل نبوية

- ‌ ابن الجنان

- ‌(ب) مواعظ

- ‌منذر بن سعيد البلّوطى

- ‌4 - أعمال نثرية

- ‌طوق الحمامة لابن حزم

- ‌كتابة التاريخ والتراجم الأدبية

- ‌(أ) المقتبس لابن حيان

- ‌(ب) الذخيرة لابن بسام

- ‌مذكرات عبد الله بن بلقّين

- ‌ قصة حى بن يقظان لابن طفيل

- ‌5 - المقامات والرحلات

- ‌(أ) المقامات

- ‌المقامات اللزومية للسّرقسطى

- ‌(ب) الرحلات

- ‌رحلة ابن جبير

- ‌خاتمة

الفصل: ‌ ابن الأبار

وهو يقول إنه زار شرق الأندلس، فامتلأ قلبه مما حدث له ولموطنه «شقر» أسى وغمّا فتّته تفتيتا، ولم-ولن-يفتر أو يسكن، وأين شقر؟ وأين نهرها بزرقته وحلله السندسية؟ لقد استولى عليه شقر من الروم زرق العيون مثل زرقة قناته، ويقول:

يا للعجب! لقد كانوا فئة معادية قليلة فسالمهم الواردون على الأندلس، فإذا هم يتكاثرون ويتسع سلطانهم. وإنه ليأمل أن يتوب الدهر مما جناه على أهل الأندلس من عدوان حملة الصليب، ويسترجع طالبا الغفران. ويقول إننا لا نزال نرقب الكرّة على الروم والنصر الذى وعد الله به الإسلام والمسلمين على الكفار وأهل الشرك. ويتوالى بعد ذلك سقوط المدن الأندلسية، فتسقط دانية على المتوسط سنة 643 وجيّان شرقى قرطبة سنة 643 وشاطبة شرقى دانية سنة 644. وإشبيلية سنة 645 ومرسية سنة 664 ويصرخ أبو البقاء الرّندى فى نونية له مشهورة صرخة مدوية، وحرى بنا أن نتحدث بإيجاز عنه وعن‌

‌ ابن الأبار

.

ابن (1) الأبّار

هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبى بكر القضاعى، كان أبوه من جلّة القرّاء، من أهل حصن أنده من أعمال بلنسية، بارحها إليها واتخذها وطنا له ومستقرا، وبها رزق بابنه محمد سنة 595 للهجرة، وعنى به، فحفظ القرآن الكريم، وأخذ عنه قراءة نافع مقرئ أهل المدينة المشهور، وأكبّ على دراسة الحديث ورجاله والفقه والتاريخ، وأخذ يلتهم كل ما يسمعه عن الشيوخ وخاصة عن إمام بلنسية وقاضيها لعصره أبى الربيع سليمان بن موسى الكلاعى، وكان ابن الأبار يعجب به إعجابا يملأ عليه نفسه، وهو الذى وجهه إلى العناية بالكتابة التاريخية عن أعلام الأندلس، واتخذه الكلاعى صفيّا له، لما رأى من ذكائه النادر، غير أنه طمح إلى العمل السياسى فى دواوين الحكام، ولم يلبث والى الموحدين على

(1) انظر فى ابن الأبار عنوان الدراية للغبرينى ص 183 واختصار القدح المعلى لابن سعيد ص 191 والمغرب 2/ 309 وتاريخ ابن خلدون 6/ 283 وفوات الوفيات لابن شاكر 2/ 450 وبقية السفر الرابع من كتاب الذيل والتكملة للمراكشى ص 90 وأزهار الرياض للمقرى 3/ 205 وما بعدها ونفح الطيب 4/ 457 وفى مواضع مختلفة (انظر الفهرس) وشذرات الذهب 5/ 295 وراجع كتاب الدكتور عبد العزيز عبد المجيد عنه (طبع بمعهد مولاى الحسن 1951) وكذلك مادة دائرة المعارف الإسلامية عنه ومقدمة الدكتور مؤنس لتحقيقه لكتابه «الحلة السيراء» وقد عرض فيها جميع من تحدثوا عنه من المستشرقين والمعاصرين.

ص: 385

مدينته محمد بن أبى حفص أن اتخذه كاتبا له، وكتب بعده لابنه أبى زيد عبد الرحمن، ويستخلص منه بلنسية أبو جميل زيّان بن مردنيش صاحب مرسية، ويظل ابن الأبار كاتبا له، وتحدث معركة أنيشة، ويستشهد فيها أستاذه الكلاعى ويندبه ويندب من استشهدوا معه ندبا حارا. وما يلبث صاحب برشلونه أن يحاصر بلنسية، وحينئذ يرسل به أميرها إلى أبى زكريا يحيى بن أبى حفص أمير تونس على رأس وفد لطلب الغوث والمعونة، فجهّز له أسطولا محمّلا بالمؤن والأسلحة كما مرّ بنا، غير أنه لم يستطع إيصال ما يحمله إليها بسبب ما أحاطها به النصارى من حصار شديد، فانسحب الأسطول إلى دانية جنوبيها وسلّم أهلها ما حمله كما مرّ بنا. وتطورت الظروف فاستسلمت بلنسية فى صدر سنة 636 وحضر ابن الأبار عقد تسليمها وشروطه، ودائما كان أمراء النصارى حين يستولون على بلد أندلسى لا يفون بالشروط المأخوذة عليهم، وكأنما زهد ابن الأبار فى المقام بالأندلس بعد سقوط مدينته، فاتجه إلى البلاد المغربية ونزل بجاية وأقام بها بضعة أشهر، ثم تركها إلى تونس، فألحقه أميرها أبو زكريا بدواوينه، فتولى بها كتابة الإنشاء والعلامة أو شارة الدولة، وهى توقيع يوضع على المكاتبات الرسمية لبيان أنها صادرة عن الدولة الحاكمة، وكان يكتبها بخطه الأندلسى، فرأى الأمير أبو زكريا أن تكتب بالخط المشرقى وأن يختص بكتابتها أحمد بن إبراهيم الغسانى، وغضب ابن الأبار لذلك وظل يكتب تلك العلامة بخطه الأندلسى، مما اضطر أبا زكريا أن يعفيه من عمله فأقام ببجاية فترة حتى إذا توفى أبو زكريا سنة 647 وخلفه ابنه المستنصر أبو عبد الله محمد أعاده إلى الكتابة فى ديوانه ورفعه إلى مرتبة الوزارة، وكانت فيه حدة لسان تنفّر الناس منه، ويقول ابن خلدون:«كان فيه أنفة وبأو (عظمة) وضيق خلق» فأوجد له أعداء ألداء، واستطاعوا أن يقنعوا المستنصر باشتراكه فى مؤامرة ضده، فأمر بقتله وإحراق أشلائه وكتبه، وهكذا قتل سنة 658 مظلوما مأسوفا عليه من معاصريه وكل من جاء بعدهم.

ويعد ابن الأبار فى الذروة من مؤرخى الأندلس وعلمائها البررة الموثوق بهم ثقة لا تدانيها ثقة، وهو فى مقدمة من مكّنوا الباحثين المعاصرين من الكتابة عن الأندلس وأعلامها النابهين بفضل كتبه النفيسة، وهى: التكملة فى مجلدين-المعجم فى أصحاب القاضى الصدفى المتوفى سنة 514 هـ-الحلة السيراء فى مجلدين وتشتمل

ص: 386

على تراجم الأمراء والأعيان فى الأندلس والمغرب-تحفة القادم فى شعراء عصره-إعتاب الكتاب: عن الكتّاب الذين فقدوا مكانتهم وحظوتهم عند الحكّام ثم استعادوها، وبهذا الكتاب استعاد مكانته عند المستنصر، ثم غضب عليه.

وكان ابن الأبار شاعرا مجيدا، وحين حدثت وقعة أنيشة أظلمت الدنيا فى عينيه لمن استشهدوا فيها من الشيوخ الجلة وخاصة شيخه أبا الربيع الكلاعى، وكان قد بلغ السبعين من عمره، وحين سمع النفير بادر لقتال أعداء الإسلام، ولم يزل متقدما أمام الصفوف زاحفا إلى الأعداء مرغّبا فى قتالهم مناديا فيمن ينهزمون: أعن الجنة تفرّون؟ وظل يعمل السيف فى الأعداء حتى استشهد مع من استشهدوا من شيوخ بلنسية وشجعانها البواسل، وندبهم معه ابن الأبار بقصيدة، تشعل الحمية فى قلب كل مسلم، وفيها يقول:

ألمّا بأشلاء العلا والمكارم

تقدّ بأطراف القنا والصّوارم (1)

مضوا فى سبيل الله قدما كأنما

يطيرون من أقدامهم بقوادم (2)

مواقف أبرار قضوا من جهادهم

حقوقا عليهم كالفروض اللّوازم

أبيت لها تحت الظلام كأننى

رمىّ نصال أو لديغ أراقم (3)

فوا أسفى للدّين أعضل داؤه

وأيأس من آس لمسراه حاسم (4)

وهو يهيب بكل مسلم أن يلمّ بتلك الأشلاء الطاهرة التى قطّعتها ومزقتها رماح النصارى وسيوفهم ويقول إنهم مضوا إلى الجهاد فى سبيل الله مسرعين، كأنهم طير وأقدامهم قوادمه، حتى يؤدوا حقوق دينهم أداء المجاهدين الأبرار. وإن ذكرى الواقعة وشهدائها لتحز فى نفسه، بل لكأنما رمى منها بنصال تنزف الدم من فؤاده، أو كأنه لديغ حيات ما تزال سمومها تسرى فى شرايينه. ويتحسر للدين الحنيف فى الأندلس فكأنما أنزل النصارى به داء عضالا، لا يمكن لطبيب أن يشفيه منه أو يحسمه. وذكرنا آنفا أنه حين قدم مع وفد بلنسية على أبى زكريا صاحب تونس أنشده قصيدة يستصرخه بها لإنقاذ بلنسية ويقول ابن سعيد: عارضها كثير من الشعراء ما بين محظىّ ومحروم، وولع الناس

(1) تقد: تشقق. القنا: الرماح. الصوارم: السيوف.

(2)

قدما: مسرعين. القوادم: الريشات الكبيرة فى مقدم الجناح.

(3)

نصال جمع نصل: حد السيف. الأراقم: الحيات.

(4)

أعضل الداء: لم يمكن البرء منه. آس: طبيب.

ص: 387

بحفظها ولع بنى تغلب بقصيدة عمرو بن كلثوم، ويقول المقرى فى أزهار الرياض إنها من «غرر القصائد الطنانة» ويقول فى النفح: إنها «قصيدة فريدة فضحت من باراها، وكبا (1) دونها من جاراها» وفيها يستغيث:

أدرك بخيلك خيل الله أندلسا

إنّ السبيل إلى منجاتها درسا (2)

يا للجزيرة أضحى أهلها جزرا

للحادثات وأمسى جدّها تعسا (3)

وفى بلنسية منها وقرطبة

ما ينسف النّفس أو ما ينزف النّفسا

يا للمساجد عادت للعدا بيعا

وللنّداء غدا أثناءها جرسا (4)

طهّر بلادك منهم إنهم نجس

ولا طهارة ما لم نغسل النّجسا

واملأ-هنيئا لك التأييد-ساحتها

جردا سلاهب أو خطّيّة دعسا (5)

وهو يقول لأبى زكريا: أدرك الأندلس بخيلك: خيل الدين الحنيف فقد تعس حظّها وأصبح أهلها جزرا لسيوف النصارى. وإن ما حدث لقرطبة ويوشك أن يحدث لبلنسية لمما يروع النفوس ويخنق الأنفاس، إذ أصبحت المساجد كنائس وغدا الأذان والنداء للصلاة أجراسا لنواقيس النصارى، ويقول له إنهم نجاسة ينبغى أن تطهر بلادك منهم بما تسفك من دمائهم، إذ لا طهارة ما لم تغسل النجاسة وتمحها محوا، واملأ الأرض وساحاتها عليهم بخيلك وأسلحتك القاضية. وأثارت القصيدة أبا زكريا وملأت قلبه.

حفيظة وحمية وموجدة، فأمر-كما أسلفنا-بإعداد أسطول محمل بالمؤن والذخائر، وأرسل به مع ابن الأبار والوفد البلنسى المرافق له لإغاثة بلنسية المحاصرة، غير أن النصارى كانوا قد ضربوا حولها حصارا لم يستطيعوا اجتيازه، وسقطت فى أيديهم المدينة.

أبو (6) البقاء الرّندىّ

هو صالح بن أبى الحسن يزيد بن صالح بن شريف يكنى كنية مشهورة بأبى البقاء

(1) كبا: تعثر.

(2)

درس: أخلق وتقادم عهده.

(3)

جزرا: قطعا وذبائح. جدها: حظها.

(4)

بيع: كنائس. النداء هنا: الأذان. جرسا أى للنواقيس.

(5)

جردا: خيلا سابقة. سلاهب: عادية. خطية: رماحا. دعسا: طاعنة.

(6)

انظر فى ترجمة أبى البقاء وشعره بقية السفر الرابع من كتاب الذيل والتكملة للمراكشى ص 136 وما بعدها والإحاطة لابن الخطيب 3/ 360 ونفح الطيب للمقرى 4/ 486 وما بعدها وأزهار الرياض 1/ 47 وما بعدها ومجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد 6/ 211 وكتاب تاريخ النقد الأدبى فى الأندلس للدكتور محمد رضوان الداية ص 433 - 460.

ص: 388

وكنية أخرى بأبى الطيب، ومسقط رأسه رنده إلى الغرب من مالقة، على قمة جبل سامق يشقها نهر وينابيع وتحفّها وديان، مما جعلها-كما فى المغرب-تعمّم بالسحاب وتوشّح بالأنهار العذاب، وقد رزق أبوه به سنة 601 وكان من أهل العلم، ولذلك سلكه المراكشى بين أساتذته، وذكر منهم على بن جابر الدباج الإشبيلى الذى ظل يتصدر للإقراء بإشبيلية خمسين سنة، كما ذكر مواطن الدبّاج أبا القاسم بن الجد نزيل تونس.

ولم يتتلمذ لهذين العالمين فقط بل تتلمذ أيضا لابن الفخار الشريشى ولابن زرقون الغرناطى. ويذكر ابن الخطيب عن ابن الزبير صاحب كتاب صلة الصلة أنه تتلمذ له، وكل ذلك يدل على نهم فى طلب العلوم والآداب، واتضح ذلك فى جانبين عنده هما التأليف ونظم الشعر، أما التأليف فله فيه كتاب:«روضة الأنس ونزهة النفس» ويبدو أنه كان كتاب محاضرات وطرف أدبية، وسبق أن ذكرنا فى الفصل الثانى أن له أيضا كتاب الوافى فى نظم القوافى، وأن منه مخطوطة بالمكتبة التيمورية، وأنه فى أربعة أجزاء أولها فى فضل الشعر وطبقات الشعراء وعمل الشعر وآدابه وأغراضه، وثانيها فى محاسن الشعر وفنونه البديعية، وثالثها فى الإخلال والسرقة والضرورة، ورابعها فى حد الشعر وعروضه وقوافيه وأخباره تدل بوضوح على صلته الوثيقة بمحمد بن الأحمر مؤسس إمارة غرناطة، وهى صلة جعلته يكثر من مدائحه. وكان له بجانب هذين الكتابين المتصلين بالأدب شعره ونثره كتاب فى علم الفرائض، وهو يدل-كما قال المراكشى-على أنه كان بجانب ثقافته الأدبية «فقيها فرضيا حافظا» أى محدثا ويقول إنه كان متفننا فى معارف جليلة.

ويقول المراكشى إنه «كان خاتمة الأدباء بالأندلس بارع التصرف فى منظوم الكلام ومنثوره» وإنه كتب إليه بإجازة ما رواه وألّفه، ويذكر أن له فى النثر مقامات بديعة فى أغراض شتى، كما يذكر أن كلامه نظما ونثرا مدون، مما يدل على أنه خلف ديوان شعر كان معروفا فى زمنه. وقد طارت شهرة أبى البقاء الرندى شرقا وغربا لقصيدته النونية التى نظمها بعد سقوط مدن الأندلس الكبرى فى يد النصارى: قرطبة وإشبيلية وبلنسية وجيان ومرسية سوى ما فى حيّز كل منها من مدن ومعاقل وحصون مما تنخلع له القلوب والأفئدة أسى وحزنا لهذا المصير المفجع، لا مصير المدن فحسب بل أيضا مصير السكان المسلمين من رجال ونساء وأطفال ووقوعهم أسرى فى أيد لا ترحم، أيد استعبدتهم وأنزلت بهم أهوالا من العذاب لا تطاق. وكأنما ندب أبو البقاء نفسه عن أهل الأندلس يستصرخ المسلمين لنصرة إخوانهم فى الدين وإنقاذهم من يد الكافرين الآثمين، وهو يستهل قصيدته بالحديث عن الدول التى دالت، وكأنما يتأثر فى هذا الجزء من قصيدته بابن

ص: 389

عبدون آملا أن تدول دولة النصارى الشماليين، ثم ما يلبث أن يتمثل الفواجع التى نزلت بقرطبة وأخواتها الأندلسيات، ويهتف:

دهى الجزيرة أمر لا عزاء له

هوى له أحد وانهدّ ثهلان (1)

فاسأل بلنسية ما شأن مرسية

وأين شاطبة أم أين جيّان

وأين قرطبة دار العلوم فكم

من عالم قد سما فيها له شان

وأين حمص وما تحويه من نزه

ونهرها العذب فيّاض وملآن (2)

قواعد كنّ أركان البلاد فما

عسى البقاء إذا لم تبق أركان

إن المساجد قد صارت كنائس ما

فيهنّ إلا نواقيس وصلبان

إن ما نزل بالأندلس ودهاها من الخطوب أمر يجلّ عن العزاء فيه، إنه لكارثة تهوى لها الجبال وتنهدّ فى كل أرض إسلامية، فتلك مدن كبرى برمّتها ضاعت وضاعت معها قرطبة دار العلوم وإشبيلية دار الغناء والموسيقى، لقد سقطت أركان البلاد الأندلسية وقواعدها الأساسية، فهل يؤمل بعد ذلك بقاء لغرناطة وغيرها مما لا يزال فى أيدى المسلمين، لقد أصبحت المساجد وما كان يتلى فيها من قرآن كنائس تكتظ بالنواقيس والصلبان، ويصرخ مستنفرا:

يا راكبين عتاق الخيل ضامرة

كأنها فى مجال السّبق عقبان

وحاملين سيوف الهند مرهفة

كأنها فى ظلام النّقع نيران (3)

وراتعين وراء البحر فى دعة

لهم بأوطانهم عزّ وسلطان

أعندكم نبأ من أهل أندلس

فقد سرى بحديث القوم ركبان

ماذا التقاطع فى الإسلام بينكم

وأنتم يا عباد الله إخوان

وهو يصيح فى فرسان المسلمين وأبطالهم من حملة السيوف المرهفة أن يسارعوا لنجدة الأندلس، ويعجب أن يرى المسلمين راتعين فى ديارهم يعيشون فى دعة وعزة وقوة، كأن ليس عندهم خبر عن الأندلسيين وما أصابهم من محن وكوارث، لا تصيبهم وحدهم بل تصيب أيضا الحنيفية البيضاء فى الصميم، فما هذا التقاطع والتنابذ وأنتم إخوان فى الدين أخوّة أقوى من أخوة ذوى الرحم، إذ ليست أخوّة دم بل أخوة روح وقلب وفكر وفؤاد، ويصيح جزعا:

(1) أحد: جبل بالمدينة مشهور. ثهلان: جبل بنجد.

(2)

حمص: إشبيلية.

(3)

النقع: غبار الحرب.

ص: 390

يا من لذلّة قوم بعد عزّهم

أحال حالهم كفر وطغيان

بالأمس كانوا ملوكا فى منازلهم

واليوم هم فى بلاد الكفر عبدان

ولو رأيت بكاهم عند بيعهم

لهالك الأمر واستهوتك أحزان

يا ربّ أمّ وطفل حيل بينهما

كما تفرّق أرواح وأبدان

وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت

كأنّما هى ياقوت ومرجان

يقودها العلج للمكروه مكرهة

والعين باكية والقلب حزنان

وهو يلتاع لوعة محرقة لهؤلاء المسلمين الذين استذلهم الكفر والطغيان بعد أن كانوا فى الذروة من العز والكرامة، لقد كانوا ملوكا وأمراء، فأصبحوا عبيدا، وإنهم ليبكون بكاء مرا، حين يرون أنفسهم-وقد فقدوا أعز شئ على نفوسهم، فقدوا حرياتهم-يباعون بيع العبيد. ويا للهول فكم من طفل فرّقوا بينه وبين أمه كما يفرّق بين الروح والبدن، إذ لن ترى ضناها وفلذة كبدها أبدا، وكم من سيدة فائقة الحسن فاتنة كأنما هى ياقوت ومرجان يرغمها إسبانى جاف غليظ على المكروه البغيض، وهى محزونة تذرف الدمع مدرارا.

والقصيدة درة يتيمة رائعة، ولروعتها أخذت الأجيال التالية تزيد عليها أبياتا تندب بها البلاد التى سقطت فى أيدى النصارى الشماليين بعد وفاة أبى البقاء الرندى سنة 684 للهجرة. وتنبه لذلك المقرى فى نفح الطيب، إذ ذكر بعد إنشاده لها من رواية وثيقة أن بأيدى الناس منها زيادات ندبت فيها مدن الأندلس التى ظلت تسقط حتى عهد العرب الأخير وحتى استسلام غرناطة مع غروب الشمس العربية نهائيا فى تلك الديار بعد أن ظلت ساطعة فى سمائها ثمانية قرون طوال.

ص: 391