المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رسالتا ابن زيدون: الهزلية والجدية - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٨

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - التكوين الجغرافى والبشرى

- ‌2 - الفتح-عصر الولاة

- ‌(أ) الفتح

- ‌3 - الدولة الأموية

- ‌4 - أمراء الطوائف-المرابطون-الموحدون-بنو الأحمر فى غرناطة

- ‌(أ) أمراء الطوائف

- ‌(ب) المرابطون

- ‌(ج) الموحدون

- ‌5 - المجتمع

- ‌ الحضارة

- ‌الغناء

- ‌المرأة

- ‌6 - التشيع-الزهد والتصوف

- ‌(أ) التشيع

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-الفلسفة-علم الجغرافيا

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) الفلسفة

- ‌(ج) علم الجغرافيا

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب الأندلس-كثرة الشعراء

- ‌(أ) تعرب الأندلس

- ‌(ب) كثرة الشعراء

- ‌2 - الموشحات والأزجال

- ‌(أ) الموشحات

- ‌ ابن عبادة القزاز

- ‌ يحيى بن بقى

- ‌(ب) الأزجال

- ‌ابن قزمان

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ابن عبد ربه

- ‌ ابن عمار

- ‌ابن الحداد القيسى

- ‌الأعمى التّطيلى القيسى

- ‌الرّصافى محمد بن غالب

- ‌ابن زمرك

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌ عبد الملك بن هذيل

- ‌يوسف الثالث

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌ يحيى الغزال

- ‌السّميسر

- ‌اليكّىّ

- ‌5 - الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ حازم القرطاجنى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ابن خاتمة

- ‌2 - شعراء الطبيعة والخمر

- ‌ عبد الرحمن بن مقانا

- ‌ على بن حصن

- ‌ ابن خفاجة

- ‌ محمد بن سفر

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌ محمد بن سوار

- ‌ ابن وهبون

- ‌(ب) رثاء الدول

- ‌ المعتمد بن عباد

- ‌ابن اللبانة

- ‌ابن عبدون

- ‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ ابن العريف

- ‌ ابن عربى

- ‌الششترى

- ‌(ج) شعراء المدائح النبوية

- ‌5 - شعراء الاستنفار والاستصراخ

- ‌ ابن الأبار

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌1 - الرسائل الديوانية

- ‌ البزليانى

- ‌ابن أبى الخصال

- ‌ابن عميرة المخزومى

- ‌2 - الرسائل الشخصية

- ‌حبيب

- ‌ابن الدباغ

- ‌ سهل بن مالك

- ‌3 - الرسائل الأدبية

- ‌رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد

- ‌(أ) رسالة السيف والقلم

- ‌(ب) رسالة النخلة

- ‌(ج) رسالة أهب الشّاء

- ‌رسالتا ابن زيدون: الهزلية والجدية

- ‌رسالة ابن غرسية فى الشعوبية والردود عليها

- ‌رسائل نبوية ومواعظ

- ‌(أ) رسائل نبوية

- ‌ ابن الجنان

- ‌(ب) مواعظ

- ‌منذر بن سعيد البلّوطى

- ‌4 - أعمال نثرية

- ‌طوق الحمامة لابن حزم

- ‌كتابة التاريخ والتراجم الأدبية

- ‌(أ) المقتبس لابن حيان

- ‌(ب) الذخيرة لابن بسام

- ‌مذكرات عبد الله بن بلقّين

- ‌ قصة حى بن يقظان لابن طفيل

- ‌5 - المقامات والرحلات

- ‌(أ) المقامات

- ‌المقامات اللزومية للسّرقسطى

- ‌(ب) الرحلات

- ‌رحلة ابن جبير

- ‌خاتمة

الفصل: ‌رسالتا ابن زيدون: الهزلية والجدية

‌رسالتا ابن زيدون: الهزلية والجدية

ابن زيدون هو أحمد بن عبد الله بن زيدون المخزومى، القرطبى، وقد مرت ترجمته بين شعراء الغزل فى الفصل الرابع، وقلنا هناك إن حادثين كبيرين أثرا فى حياته، أولهما تبادله فى شبابه الحب مع الشاعرة ولادة بنت الخليفة المستكفى واتصال هذا الحب بينهما فترة ثم هجرها له إلى الأبد بسبب ما لا حظته من مغازلته إحدى جواريها، وقيل بل بسبب نقده لبعض شعرها، وقد يكون للسببين جميعا. وظل ابن زيدون يبكى حبها ووصلها طويلا، وكلفت بعده بشخص كان يختلف مع غيره من شباب قرطبة إلى منتداها هو ابن عبدوس، وهو موضوع رسالة ابن زيدون الهزلية. والحادث الكبير الثانى الذى كان له تأثير فى حياته، هو سخط أبى الحزم جهور أمير قرطبة عليه والزجّ به فى غياهب السجون مما جعله يستعطفه مرارا إلى أن عفا عنه وردّ إليه حريته بشفاعة ابنه أبى الوليد، وفى استعطافه كتب رسالته الجدية، وحرىّ بنا أن نتحدث عن الرسالتين جميعا: الهزلية والجدية.

(أ) الرسالة (1) الهزلية

كتب ابن زيدون هذه الرسالة على لسان ولاّدة إلى ابن عبدوس منافسه فى حبها متهكما به ساخرا منه سخريات لاذعة، وما يمضى القارئ فيها حتى يشعر بوضوح أنه استوحى فيها رسالة التربيع والتدوير للجاحظ التى سخر فيها من كاتب معاصر له يسمى أحمد بن عبد الوهاب كان يكثر من ذمه وثلبه، فوصفه بأنه مربع مدوّر، وظل فى نحو خمسين صفحة من القطع الكبير يخلع عليه صورا ساخرة من الجمال وصورا أخرى ساخرة من المعرفة، تتخذ شكل أسئلة فى تاريخ العرب والأمم القديمة وفى العلوم كيمياء وغير كيمياء وفى الحيوان والجماد وفى الفلسفة والمنطق مع سؤاله عن أسماء كثيرين من الرجال عربا وغير عرب فى ميادين الثقافات المختلفة. وكأن ابن زيدون رأى أن يجاريه فى رسالته، إذ مضى على شاكلته يكثر من أسماء الرجال وما يتصل بهم من التاريخ والأخبار والأحداث، مع محاولته الواضحة فى أن يكون لرسالته سماتها الخاصة لا فى طريقة عرضه لأسماء الرجال بها فحسب، بل أيضا بما أكثر فيها من ضرب الأمثال ونثر

(1) انظر هذه الرسالة وتعليقنا عليها فى كتابنا عن ابن زيدون (طبع دار المعارف) وراجع شرح ابن نباتة لها فى كتاب: سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون. ومرت مصادر ابن زيدون فى ترجمته بالفصل الماضى.

ص: 465

الأبيات وجلب الأشطار، مما جعل الرسالة فى حاجة شديدة إلى التعريف بما عدد فيها ابن زيدون من الأعلام وأخبارهم ومن الأمثال والأشعار المنثورة، وتجرد لذلك ابن نباتة فى شرحه لها، وهو يستهلها على هذه الشاكلة:

«أما بعد أيها المصاب بعقله، المورّط بجهله، البيّن سقطه، الفاحش غلطه، العاثر فى ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره، الساقط سقوط الذّباب على الشراب، المتهافت تهافت الفراش فى الشّهاب (الضوء). . وإنك راسلتنى مستهديا من صلتى ما صفرت (خلت) منه أيدى أمثالك، مرسلا خليلتك مرتادة وقد أعذرت (جهدت) فى السفارة لك، وما قصّرت فى النيابة عنك، زاعمة أن المروءة لفظ أنت معناه، والإنسانية اسم أنت جسمه وهيولاه (مادته) قاطعة أنك انفردت بالجمال، واستأثرت بالكمال، واستعليت فى مراتب الجلال، واستوليت على محاسن الخلال، حتى خيّلت أن يوسف عليه السلام حاسنك (باراك فى الحسن) فغضضت منه، وأن امرأة العزيز رأتك فسلت عنه، وأن قارون أصاب بعض ما كنزت، وكسرى حمل غاشيتك (مظلّتك) وقيصر رعى ماشيتك، والإسكندر قتل دارا فى طاعتك» .

ويظل ابن زيدون يورد على ابن عبدوس رجالا وأعلاما تاريخيين عديدين، مدعيا أن جميعهم تصرّفوا عن إرادته محاولين الزلفى إليه من مثل أردشير ملك الفرس القديم وجذيمة الملك العربى الجاهلى. ويقول له إن شيرين زوجة أبرويز نافست ابنته بوران فيه وفى حسنه، وكليبا إنما حمى حماه بعزته، ومهلهلا أخاه إنما طلب ثأره بهمته، وحاتما إنما جاد بأمواله والسّليك بن السّلكة العدّاء الجاهلى إنما عدا على قدميه، وسحبان البليغ إنما كان يتكلم ببيانه، وأن الحجاج إنما تقلد ولاية العراق بحظّه، والمهلب القائد الأموى إنما ظفر بالخوارج الأزارقة بقوته. وليس هناك فيلسوف لليونان أو عالم لهم-ويعددهم- إلا صدر عن فكره، وبالمثل ليس للعرب مفكر ولا فيلسوف مشهور إلا منحه القدرة على ابتداعه، وما بلغاؤهم بالقياس إليه؟ إن عبد الحميد الكاتب بارى أقلامه وسهل بن هرون مدون كلامه والجاحظ مستمليه، وبالمثل الفقهاء الكبار من أمثال الإمام مالك. بل هو الذى أقام البراهين ووضع القوانين وحدّ ماهية الأشياء وبيّن الكيفية والكمية وناظر فى الجوهر والعرض وفرّق بين الصحة والمرض. حتى إذا بلغ ابن زيدون من ابن عبدوس كل ما أراد من سخرية أخذ يكويه بسياط هجائه معددا صفاته الذميمة، وكأنما جمع كل مثلبة. وتتوالى المثالب، فهو خسيس أرعن مفرط الحمق سيىّء الإجابة والسمع، ظاهر الوسواس، منتن الأنفاس، كلامه تمتمة وبيانه فهفهة، ودينه زندقة، وباقل المشهور بالعى

ص: 466

عند العرب بليغ بالقياس إليه، ووجوده عدم، والاغتباط به ندم، والخيبة منه ظفر والجنة معه سقر، وأين هو من ولاّدة؟ إن الشرق والغرب لا يجتمعان ولا يتقاربان. ويجعلها تهدده وتتوعده بسوء المصير حتى كأنما يطلب حتفه، ويقول له على لسانها مقارنا فى سخرية شديدة بينه وبين من يختلفون إلى ندوتها من نوابغ الشباب الأفذاذ.

«النار، ولا العار، والمنيّة، ولا الدّنية، والحرّة تجوع ولا تأكل بثدييها، وما كنت لأتخطّى المسك إلى الرّماد، فإنما يتيمّم من لم يجد ماء. . ولعلك إنما غرّك من علمت صبوتى إليه وشهدت مساعفتى له من أقمار العصر، وريحان المصر، الذين هم الكواكب علوّ همم، والرّياض طيب شيم. . ما أنت وهم؟ وأين تقع منهم؟ وهل أنت إلا واو عمرو فيهم، و؟ ؟ ؟ كالوسيظة (النتوء) فى العظم منهم. وإن كنت إنما عطّرت أردانك (أكمامك) وجررت سروالك، واختلت فى مشيتك، وحذفت فضول لحيتك، وأصلحت شارتك، ومططت حاجبك، ورقّقت خطّ عذارك، واستأنفت عقد إزارك، رجاء الاكتنان فيهم، وطمعا فى الاعتداد منهم، فظننت عجزا، وأخطأت الغرض» .

وتمضى ولادة قائلة لابن عبدوس فى سخرية مرة: فلو أن عمرو بن هند ملك الحيرة أعطاه برديه وحلّته مارية بنت ظالم زوجة أحد ملوك الغساسنة بالقرطين اللذين أهدتهما إلى الكعبة، وقلّده عمرو بن معد يكرب الفارس القديم سيفه الصمصامة، وحمله الحارث بن عباد سيد وائل فى الجاهلية على فرسه النعامة، ما شكّت فيه ولا أخفى ذلك كله أصله ونسبه، وهل يجتمع لها فيه إلا خلّتان سيئتان: كأردأ التمر وسوء كيله وهل يقترن عليها به إلا ما اقترن على عامر بن الطفيل الذى دعا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فاقترنت غدّه فى رقبته بموته ميتة ذليلة فى بيت سلوليّة. وتقول له هازئة به ساخرة إنه كان أجدر به أن يقدر الأمر تقديرا دقيقا فلا يكلف نفسه ما لا تستطيعه، حتى لا يكون مثله مثل الكلبة براقش التى غزا أصحابها قوم فلم يعرفوا مكانهم ونبحت فدلّتهم، وضرب العرب بها المثل فى الشّؤم، فقالوا «دلّت على أهلها براقش». ويختم ابن زيدون الرسالة قائلا على لسانها: «قد أعذرت إن أغنيت شيّا، وأسمعت لو ناديت حيّا، وإن بادرت بالندامة، ورجعت على نفسك بالملامة كنت قد اشتريت العافية لك بالعافية منك، وإن أنشدت:

لا يؤيسنّك من مخدّرة

قول تغلّظه وإن جرحا (1)

فعدت لما نهيت عنه، وراجعت ما استعفيت منه بعثت من يزعجك إلى الخضراء

(1) البيت لبشار.

ص: 467

(الريف) دفعا ويستحثك نحوها وكزا (ضربا) وصفعا، فإذا صرت إليها عبث أكّاروها (فلاّحوها) بك، وتسلّط نواطيرها (متعهدو بساتينها) عليك بما قدّمت يداك، لتذوق وبال أمرك، وترى ميزان قدرك».

وبدون ريب بلغ ابن زيدون فى هذه الرسالة الذروة بالسخرية من ابن عبدوس، وقد أصبح فى يده كلعبة تارة يعلو به فيرفعه إلى السموات العليا فى القوة والسلطان والعلوم والفلسفة والبيان والبلاغة وتارة يسقط به فيهوى من حالق إلى الحضيض والدرك الأسفل. وهو فى كل ذلك يزدرى عقله وعلمه وأدبه وفكره وهيئته وكل ما يتصل به.

ويسوق ابن زيدون للإغراق فى السخرية به أعلام التاريخ القديم والإسلامى وأعلام الفلسفة والعلوم والبيان العربى، وكأنه هو الذى نفث فيهم كل ما امتازوا به. واستكثر فى الرسالة من الأمثال ومن نثر الأشعار، وهو لا يطرف فيها بذلك فقط، بل يطرف أيضا بالألفاظ الجارحة الموجعة الملأى بسموم التهكم.

(ب) الرسالة (1) الجدية

كتب ابن زيدون هذه الرسالة يستعطف بها أبا الحزم جهورا أمير قرطبة حين ألقى به فى غياهب السجن ووراء قضبانه، لما قيل من نهبه عقارا لبعض مواليه، وقيل-وهو الأصح-بل لما دسّ عليه عند جهور من اشتراكه ضده فى مؤامرة فاشلة، وظل يدبج فيه القصائد ويرسل إليه الشفعاء، وهو لا يعفو عنه ولا يصفح، فدبّج له هذه الرسالة الرائعة مستهلا لها بقوله:

«يا مولاى وسيدى الذى ودادى له، واعتمادى عليه، واعتدادى به، وامتدادى منه، أبقاك الله ماضى حدّ العزم، ثابت عهد النعمة، إن سلبتنى-أعزّك الله-لباس إنعامك، وعطّلتنى من حلى إيناسك، وأظماتنى إلى برود (بارد) إسعافك، ونفضت بى كفّ حياطتك (رعايتك) وغضضت عنى طرف حمايتك، بعد أن نظر الأعمى إلى تأميلى لك، وسمع الأصمّ ثنائى عليك، وأحسّ الجماد باستنادى إليك، فلا غرو قد يغصّ بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفى به، ويؤتى الحذر من مأمنه. . وإنى لأتجلّد وأرى الشّامتين أنى لريب الدّهر لا أتضعضع، فأقول: هل أنا إلا يد أدماها سوارها، وجبين عضّه إكليله، ومشرفىّ ألصقه بالأرض صاقله، وسمهرىّ (2) عرضه على النار مثقّفه. .

(1) انظر فى هذه الرسالة وتعليقنا عليها كتابنا عن ابن زيدون، وراجع شرح الصفدى لها فى كتابه:«تمام المتون شرح رسالة ابن زيدون» .

(2)

المشرفىّ: السيف. السمهرىّ: الرمح.

ص: 468

وهذه النكبة سحابة صيف عن قليل تقشّع، ولن يريبنى-من سيدى-أن أبطأ سيبه (عطاؤه). . فأبطأ الدّلاء فيضا أملؤها، وأثقل السحائب مشيا أحفلها (أملؤها) وأنفع الحيا (الغيث) ما صادف جدبا، وألذّ الشراب ما أصاب غليلا».

وابن زيدون-فى مطلع رسالته-يسترحم جهورا مستعطفا، فطالما أثنى عليه وطالما ظن أنه سيسبغ عليه نعمه، فإذا هو ينزل به عقابا أليما. ويتجلّد للنكبة، ويحاول أن يسرّى عن نفسه، ويخال كأنه يد أدماها سوارها أو جبين عضّه تاجه أو سيف ركزه صاقله فى الأرض أو رمح سوّاه على النار صانعه. ويمنى نفسه بأن نكبته سحابة صيف ستنجلى ويعود إلى سماء الود الصّحو والصفاء، وإذا كان عطاء جهور على ثنائه ومديحه أبطأ فإن أبطأ الدلاء فيضا أغزرها وأثقل السحاب مسيرة فى السماء أملؤها، وأنفع الغيث ما صادف أرضا مجدبة، وألذ الشراب ما صادف نفسا ظامئة، ويستمر فيهوّن من ذنبه مخاطبا جهورا بقوله:

«ليت شعرى ما هذا الذنب الذى لم يسعه عفوك، والجهل الذى لم يأت من ورائه حلمك. . وما أرانى إلا أمرت بالسجود لآدم فأبيت واستكبرت، وقال لى نوح: اركب معنا فقلت: (سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء)، وأمرت ببناء الصّرح (لعلّى أطّلع إلى إله موسى) وعكفت على العجل، واعتديت فى السّبت، وتعاطيت فعقرت، وشربت من ماء النهر الذى ابتلى به جنود طالوت، وعاهدت قريشا على ما فى الصحيفة، وانخذلت بثلث الناس يوم أحد، وتخلّفت عن صلاة العصر فى بنى قريظة، وجئت الإفك على السيدة عائشة الصّدّيقيّة، وأنفت من إمارة أسامة، ومزّقت الأديم (1) الذى باركت يد الله عليه، وضحيّت بالأشمط (2)، ورجمت الكعبة (3)» .

وهو يقول كأننى اقترفت كبيرة مثل كبيرة إبليس حين استكبر وأبى السجود لآدم معلنا عصيانه لربه، أو ارتكبت ما ارتكبه ابن نوح حين عصى أمر أبيه فلم يركب معه فى السفينة فكان من المغرقين، أو كأنه ارتكب جريرة فرعون حين أمر وزيره هامان أن يبنى له صرحا لعله يرى إله موسى، أو جريرة بنى إسرائيل حين عبدوا العجل وحين اعتدوا فى يوم السّبت فصادوا فيه، أو جريرة عاقر ناقة صالح {(فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ)} وأهلكهم، أو جريرة جنود طالوت الذى حرّم عليهم الشرب من نهر فخالفوه، أو جريرة

(1) يشير إلى مقتل عمر بن الخطاب.

(2)

الأشمط: عثمان بن عفان.

(3)

راجم الكعبة الحجاج فى حربه لابن الزبير.

ص: 469

من تعهدوا لقريش بما فى الصحيفة التى كتبوها من مقاطعة الرسول وأصحابه، أو جريرة أبىّ بن سلول حين انخذل بمن معه من المنافقين عن رسول الله يوم أحد، أو جريرة من تخلفوا عن صلاة العصر مع الرسول فى بنى قريظة من اليهود، أو جريرة من شاركوا فى حادثة الإفك والبهتان على زوج الرسول السيدة عائشة بنت الصديق، أو جريرة من أنفوا من تولية أسامة الصحابى الجليل على رأس جيش، أو جريرة قاتل عمر بن الخطاب أو جريرة قتلة عثمان بن عفان، أو جريرة رجم الحجّاج للكعبة، إلى عظائم أخرى ذكرها لا يعدّ ذنبه بجانبها شيئا مذكورا. ومضى ابن زيدون يقول إنه لا ذنب له إلا وشاية مشّاء بنميم، ويشهد الله أنه ما غشّ جهورا ولا انحرف عنه ولا عاداه بعد أن تشيع له وأصبح فى عداد خاصته مما سوّل لحساده أن يوغروا صدره عليه بوشاياتهم ونمائمهم الدنيئة، يقول:

«كيف لا تتضرّم جوانح الأكفاء (النّظراء) حسدا لى على الخصوص بك، وتتقطّع أنفاس النّظراء منافسة فى الكرامة عليك؟ وكيف وقد زاننى رسم خدمتك، وزهانى وسم نعمتك، وأبليت البلاء الجميل فى سماطك (صفّك) وقمت المقام المحمود على بساطك. . وهل لبس الصباح إلا بردا طرّزته بفضائلك، وتقلّدت الجوزاء إلا عقدا فصّلته بمآثرك، واستملى الربيع إلا ثناء ملأته بمحاسنك، وبثّ المسك إلا حديثا أذعته فى محامدك؟ . ما يوم حليمة بسرّ. ولم أكسك سليبا، ولا حلّيتك عطلا، ولا وسمتك غفلا بل وجدت آجرّا وجصّا فبنيت، ومكان القول ذا سعة فقلت. حاش لك أن أعدّ من العاملة الناصبة، وأكون كالذّبالة المنصوبة تضيئ للناس وهى تحترق، فلك المثل الأعلى وهو بك، وبى فيك، أولى» .

وهو يقول لجهور إنه من الطبيعى أن تضطرم جوانح النظراء حسدا وتتقطع أنفاسهم غيظا لمنزلتى منك وقد ازدنت بخدمتك وازدهيت بنعمتك، وأبليت البلاء الجميل فى صفّك ونصرتك وقمت المقام المحمود على بساطك، أنثر بين يديك خلع مدائحى المضيئة بفضائلك، وعقود ثنائى المنظومة بدرر مآثرك، ولكأنما عطر الربيع إنما يفوح بمحاسنك وشذى المسك إنما يذيع أحاديث محامدك، ويقول: ما يوم حليمة بسر أى أن ذلك كله مشهور، ويصيح إن جهورا لم يكن سليبا أو عاريا فكساه ولا عطلا غير مزدان فحلاّه ولا غفلا غير معلم فوسمه وأبداه، بل لقد وجد آجرّا وجصّا فبنى وشاد قصائده، ويقول حاش لجهور أن أعدّ عنده من العاملة الناصبة إشارة إلى آية التنزيل:{(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً)} وأيضا حاش لجهور أن يعده كالذبالة أو فتيلة

ص: 470

السراج تضيئ للناس وهى تحترق وتلفظ أنفاسها الأخيرة. وتعزّ على ابن زيدون نفسه، فيقول إنه لن يصبر على الذل والهوان، ويقول إن الأدب خير وطن للأديب وإنه لا يجفى فى أى مكان ينزل به فأينما توجّه ورد أعذب منهل وضوحك قبل إنزال رحله، وأعطى حكم الصبى على أهله. وكأنه يلمّح بأنه سيفارق وطنه قرطبة إلى من يعرف له حقه ويقدر أدبه. وتهدأ نفسه فيعود إلى صوابه، ويعلن محبته لوطنه وأنه لا يؤثر عليه أى وطن كما لا يؤثر على أبى الحزم جهور أى أمير، ويأخذ فى استعطافه حتى يعفو عنه ويصفح عن زلته، يقول:

«إن الوطن محبوب، والمنشأ مألوف، واللبيب يحنّ إلى وطنه حنين النّجيب (البعير) إلى عطنه (مبركه) والكريم لا يجفو أرضا فيها قوابله (داياته) ولا ينسى بلدا فيها مراضعه. هذا إلى مغالاتى بعقد جوارك، ومنافستى فى الحظّ من قربك، واعتقادى أن الطمع فى غيرك طبع (دناءة) والغنى من سواك عناء، والبدل منك عوز (فاقة) والعوض لفاء (خسّة). وما هذه البراءة ممن يتولاّك؟ والميل عمّن لا يميل عنك، وهلاّ كان هواك فيمن هواه فيك، ورضاك لمن رضاه لك» .

ويظل ابن زيدون إلى نهاية الرسالة يستعطف أبا الحزم جهورا كى يرد إليه حريته، ويضيف إليها قصيدة استعطاف بديعة، ويختمها بقوله لجهور:«هب ذنبا لحرمة، واشفع نعمة بنعمة، ليتأتّى لك الإحسان من جهاته، وتسلك إلى الفضل من طرقاته» . والرسالة تكتظ بالأمثال وبالأحداث التاريخية فى عهود الرسل وفى الإسلام، كما تكتظ باقتباسات من القرآن الكريم والأشعار مع حلّ كثير منها، ومع رهافة الشعور ودقة الحسّ وصفاء الذوق فى انتخاب ذلك كله وفى اختيار الألفاظ والتنسيق بينها تنسيقا بديعا. ولكثرة ما فى الرسالة من أمثال العرب ووقائع التاريخ والأشعار احتاجت إلى الشرح وشرحها الصفدى، وسمى شرحه «تمام المتون شرح رسالة ابن زيدون» وواضح من كلمة المتون التى اختارها اسما لكتابه أنه شعر أن الرسالة تشبه المتون لكثرة ما فيها من الأمثال وغير الأمثال، مما يحتاج إلى تفسير وفضل بيان، وهى-كأختها السالفة-آية بديعة من آيات النثر الأندلسى.

ص: 471