الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة ابن غرسية فى الشعوبية والردود عليها
ابن غرسية (1) هو أبو عامر أحمد بن غرسية، كان من أبناء نصارى البشكنس فى شمالى إسبانيا، سبى صغيرا-كما يقول ابن سعيد-وأدّبه مجاهد مولاه ملك دانية والجزر المقابلة لها فى البحر المتوسط شرقى الأندلس (405 - 436 هـ) وكان مجاهد من فتيان المنصور بن أبى عامر الصقالبة الذين دان لهم شرقى الأندلس فى أوائل عصر أمراء الطوائف أثناء الفتنة التى أطاحت بالدولة الأموية. ولما رأى براعة ابن غرسية البشكنسى فى العربية والكتابة ألحقه بدواوينه، وأخطأ جولدتسيهر فى مقاله عن الشعوبية الإسبانية، فظن أنه كان فى خدمة المعتصم ابن صمادح التجيبى أمير المريّة (442 - 484 هـ). وله رسالة يذم فيها العرب ويفخر بالعجم كتب بها لا إلى أبى عبد الله بن الحداد شاعر المعتصم بن صمادح كما ظن جولدتسيهر وبروكلمان، وإنما إلى أبى جعفر أحمد بن الجزار كما جاء عند ابن سعيد، وذكره ابن بسام باسم ابن الخراز وهو تصحيف بدليل هجاء ابن غرسية له الذى أنشده ابن سعيد فى ترجمته إذ هجاه بأنه سليل أسرة كانت تحترف الجزارة. ويقول ابن بسام إنه خاطب برسالته الأديب أب جعفر بن الجزار معاتبا له لتركه مدح مجاهد (الصقلبى أمير دانية) واقتصاره على مدائح ابن صمادح التجيبى (العربى) الذى كان أميرا للمرية فى حياة مجاهد المتوفى سنة 436 وهو معن بن صمادح مؤسس دولة الصمادحية بالمرية (432 - 443 هـ) لا ابنه المعتصم كما ظن ابن سعيد ومن ظن ظنه من المستشرقين. والرسالة تشغل فى الذخيرة نحو تسع صفحات، ونقتطف من فقرها قوله:
«سلام عليك ذا الرّوىّ المروىّ الموقوف قريضه على حللة بجّانة أرش اليمن (2)، بزهيد الثمن. . ولو أن القوم خلطوك بالآل، لما ألجأوك إلى الخبط فى الآل (3)، مه، مه (4)
(1) انظر فى ابن غرسية ورسالته الذخيرة 3/ 704 وما بعدها والمغرب لابن سعيد 2/ 406 وبحثا لجولدتسيهر عن «الشعوبية عند مسلمى الأندلس فى مجلة الجمعية الألمانية الشرقية المجلد 53 ص 601 - 620 (طبع ليبزج) وتاريخ الأدب الأندلسى عصر أمراء المرابطين للدكتور إحسان عباس ص 170 وما بعدها وتاريخ الأدب العربى لبروكلمان (طبع دار المعارف) 5/ 141 والمجموعة الثالثة من نوادر المخطوطات للأستاذ عبد السلام هرون وبها ملخص لمقال جولدتسيهر المذكور. وراجع فى أبى جعفر أحمد بن الجزار الذى كتب إليه ابن غرسية بالرسالة وأنه من أسرة كانت تحترف الجزارة المغرب 2/ 355 - 356.
(2)
ذا الروى: القصيد. حللة بجانة: سكانها وهى بجوار المرية. أرش هنا: اقليم.
(3)
الآل الأولى: الأهل والأصل. والثانية: السراب.
(4)
مه: كفّ.
من أحوجك إلى ركوب المهمه (1) وإذا يمّمت بطن تبالة تتباله، وصرت ضغثا على إبّالة (2). . وأحسبك أن أزريت، وبهذا الجيل النجيب (يقصد مجاهد أو الصقالبة) ازدريت، وما دريت أنهم الصّهب الشّهب ليسوا بعرب، ذوى أينق جرب، بل هم القياصرة الأكاسرة، بهم لا رعاة شويهات ولا بهم (3)، شغلوا بالماذىّ والمرّان، عن رعى البعران (4)، وبجلب العزّ عن حلب المعز، جبابرة قياصرة، صقورة غلبت عليهم شقورة، صقورة الخرسان (5)، لكنهم خطبة بالخرصان، أرومة روميّة وجرثومة صفريّة. .
فلا تهاجر بنى هاجر، أنتم أرقاؤنا وعبدتنا، وعتقاؤنا وحفدتنا، مننّا عليكم بالعتق، وأخرجناكم من ربق (كرب) الرقّ، وألحقناكم بالأحرار فغمطتم النعمة، فصفعناكم صفعا، يشارك سفعا، اضطرّكم إلى سكنى الحجاز وألجأكم إلى ذات المجاز (6). وإذا قامت الحرب على ساق، وأخذت فى اتساق، وقرعت الظّنابيب، وأشرعت الأنابيب، وقلّصت الشّفاه، وفغر الهدان فاه، وولّى قفاه، ألفيتهم ذمرة الناس (7) عند احمرار الباس، الطّعن بالأسل، أحلى عندهم من العسل، تزدان بهم المحافل والجحافل، كواكب المواكب، قيول، على خيول، كأنهم فيول، نجوم الرّجم من العجم، ضراغمة الأجم، تبحبحت عنهم سارة الجمال والكمال، ربّة الإياة (8). . دوّخوا المشارق والمغارب، فاستوطنوا من المجد الذّروة والغارب غنوا بالإستبرق (الحرير) عن البتّ (الكساء) المجموع من النّعيجات طعامهم الحنيذ (اللحم المشوى) لا الهبيد (الحنظل) بسل (شجعان) لا حرّاس
(1) المهمة: الفلاة.
(2)
تبالة: بلدة صغيرة باليمن يشير إلى أصل الأسرة الصمادحية التجيبية اليمنية. ضغث على إبالة: مثل بضرب للبلية فوق البلية.
(3)
الصهب الشهب: ذوو الوجوه المشربة حمرة يريد العجم من صقالبة وغير صقالبة. بهم: بضم الباء فرسان حرب، وبفتحها صغار الغنم.
(4)
الماذى: السيوف. المران: الرماح. البعران: جمع بعير.
(5)
صقورة: جمع صقر. شقورة: حمر. الخرسان: الصقالبة. كانوا يلقبون أيام الدولة الأموية بالخرس لعجمة لسانهم، ويقول إنهم فصاح بالخرصان أى الرماح.
(6)
هاجر زوجة إبراهيم: أم النبى إسماعيل أصل العرب. عبدة وحفدة: عبيد وخدم. سفعا: لطما على الوجوه. ذات المجاز: سوق فى الجاهلية كانت بقرب مكة.
(7)
قامت الحرب على ساق: اشتدت، وكذلك قول العرب قرعت الظنابيب وأشرعت الأنابيب. الهدان: الجبان. ولّى قفاه: انهزم. ذمرة: يحثون على القتال. الأسل: الرماح.
(8)
الجحافل: الجيوش الضخمة. قيول: جمع قيل: ملك. الرجم: الشهب: يتساقطون على الأعداء مثلها. الأجم: جمع أجمة غيل الأسد وهى الشجرة الملتفة. تبحبحت عنهم: ولدتهم فى عزة وسارة زوجة النبىّ إبراهيم أم إسحق. الإياة هنا: الحسن.
مسل (جريد النخل) ولا غرّاس فسل (صغار النخل). . فكفّ أيها الشّان، فلهم عظيم الشّان واليد الطّولى إذ تخلّصوكم من يد الحبشان. . رسخت فى المجد أصولنا وفروعنا، ومن يطولنا، وكل الورى قد شمله فضلنا وطولنا (1)، ذوو الآراء الفلسفية والعلوم المنطقية حملة الأسترلوميقى والجومطريقى، والعلمة بالأرتماطيقى وأنولوطيقى والقومة بالموسيقى والبوطيقا (2)، والنّهضة بعلوم الشرائع والطبائع، والمهرة فى علوم الأديان والأبدان، ما شئت من تدقيق، وتحقيق، حبسوا أنفسهم على العلوم الدينية والبدنية لا على وصف الناقة الفدنية (الضخمة). . فلا فخر معشر العربان الغربان، بالقديم المفرّى الأديم (3)، لكن الفخر بابن عمّنا (يريد الرسول صلى الله عليه وسلم، الذى بالبركة عمّنا، الإسماعيلى الحسب، الإبراهيمى النسب الذى به إنما انتشلنا الله تعالى وإياكم من الغواية والعماية، ولا غرو أن كان منكم حبره وسبره، ففى الرّغام يلفى تبره». (4) وينوه بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:
«لله مما قد برا صفوة
…
وصفوة الخلق بنو هاشم
وصفوة الصّفوة من بينهم
…
محمد النور أبو القاسم
بهذا النبى الأمىّ أفاخر من يفخر، وأكاثر جميع من تقدم وتأخّر، المنيف (الرفيع) الطرفين، الشريف السّلفين، المتلقىّ بالرسالة، والمنتقى للأداء والدلالة، أصلّى عليه عدد الرّمل، ومدد النّمل، وكذلك أصلّى على واصلى جناحه، سيوفه ورماحه، صحابته الكرام، عليهم من الله أفضل السلام».
وابن غرسية يفتتح رسالته بالسخرية من أبى جعفر بن الجزار الذى يقف قريضه وشعره على نزلة بجاية والمرية بإقليم اليمن فى شرقى الأندلس مختصّا به عرب الأسرة الصّمادحية أمراء المرية وما والاها دون مجاهد الصقلبى ذى الأصل الشريف والنسب الرفيع، ويأخذ فى التهكم بابن الجزار والتهجم على العرب، فهو قد تعلق بآل أو بسراب، ويممّ وجهه نحو تبالة اليمنية، فتبّا له لقد أصابه البله، وأصبحت محنته محنتين. ويعجب أن
(1) الغارب: الكاهل يربد مادون الذروة. الشان الأولى: الشانئ: المبغض الحاقد. الطولى: سابغة النعم. ويشير: بالحبشان إلى حكمهم اليمن فترة قبل الإسلام. يطولنا: يفوقنا. الطول: الفضل.
(2)
الأسترلوميقى: علم الفلك. الجومطريقى: الهندسة. الأرتماطيقى: الرياضة. أنولوطيقى: الفياس المنطقى. البوطيقا: الشعر.
(3)
المفرى الأديم: الممزق جلده.
(4)
الغواية والعماية: الضلال. حبره وسبره: حسنه وبهاؤه. الرّغام: التراب. التبر. فتات الذهب.
يزرى ابن الجزار على مجاهد وقومه الصقالبة. ويبدو أنه كان قد هجاه، فأخذ يشيد به وبقومه الصّهب حمر الوجوه، ويقول إنهم ليسوا بعرب ذوى نوق جرب. ويضم إليهم العجم قاطبة، ويقول إنهم ملوك قياصرة وأكاسرة، فرسان لا رعاة أغنام ولا غارسو زروع يعيشون للحرب وحمل السلاح. ويستغلّ ما قيل من أن هاجر أم إسماعيل كانت جارية لسارة زوجة أبيه إبراهيم، فيزعم أنهم منّوا على العرب بنعمة العتق ونعمة الحرية، وأسكنوهم الحجاز إشارة إلى نزول هاجر وابنها إسماعيل بمكة. ويطيل فى الحديث عن فروسية العجم وبطولتهم فى الحرب وانشغالهم بالسيوف عن الملاهى وربات الأقراط أو الشنوف. ويقول إن لباسهم الإستبرق لا الصوف وطعامهم اللحم المشوى لا الحنظل ولا الضب، وسكناهم القصور لا الخيام وبيوت الشعر. ويفخر على العرب بأن الفرس من العجم خلصوا اليمن من يد الحبش أيام الجاهلية، كما يفخر بأم العجم سارة ويتغنى بجمالها وكمالها. وأيضا يفخر بأن العجم أصحاب العلوم الفلسفية والفلكية والهندسية والرياضية والمنطقية والموسيقية والشعر، لا أصحاب النوق الفدنية الضخمة. وابن غرسية فى كل ذلك يستمد من أصحاب الشعوبية فى القرن الثانى والثالث بالعصر العباسى، وكانت أهم مطاعنهم على العرب-كما أوضحتها فى كتاب العصر العباسى الأول-أنهم كانوا فى الجاهلية بدوا رعاة أغنام وإبل، ولم يكن لهم ملك ولا حضارة ولا مدنية ولا علوم، فأين هم قديما من ملك الأكاسرة والقياصرة؟ وأين هم من علوم الفرس واليونان والرومان. وكان الشعوبيون يصدرون فى ذلك عن بغض للإسلام، ولذلك اقترنت الشعوبية عند كثير منهم بالزندقة والإلحاد فى الدين الحنيف. وشعوبية ابن غرسية فى رسالته لا تقترن بإلحاد ولا بزندقة، ومع أنه شعوبى ذميم يعلن فى نهاية رسالته تمجيده للرسول صلى الله عليه وسلم ولصحابته.
وليس بين أيدينا فى الأندلس أعمال صدرت عن نزعة الشعوبية سوى هذه الرسالة لابن غرسية، وحقا هناك كتاب صنّف قبلها سمّى:«الاستظهار والمغالبة على من أنكر فضل الصقالبة» . ومن المؤكد أن نزعة الشعوبية فى الأندلس كانت نزعة فردية، ولم تتحول-كما تحولت فى القرنين الثانى والثالث بالعراق-إلى نزعة اجتماعية تقوم على معاداة العرب والإسلام. ولم تكد رسالة ابن غرسية تشعلها حتى انطفأت، بل لقد أطفأها هو نفسه فى نهاية رسالته إذ أعلن تمسكه بالدين الحنيف وإشادته بالرسول وصحابته من المهاجرين والأنصار. ومع ذلك نجد ردودا عليه، لكن لا بأبحاث مطولة تهدم الشعوبية، كما نرى عند الجاحظ وابن قتيبة مما عرضناه مفصلا فى حديثنا عن تاريخ الأدب العربى
بالعصر العباسى الثانى وإنما برسائل تنقض مزاعمه نقضا حميّة للعرب والعروبة. وفى الذخيرة لابن بسام ثلاث رسائل منها رسالة لابن الدودين وثانية لعبد المنعم بن منّ الله القروى، وثالثة لشخص يسمى ابن عباس لم يوضح هويته ابن بسام. وظلت ردود تدبّج فى القرن السادس الهجرى، منها رد لابن أبى الخصال باسم:«خطف البارق وقذف المارق فى الرد على ابن غرسية الفاسق» . وسقط هذا الرد من يد الزمن كما سقط رد الفقيه أبى مروان عبد الملك بن محمد الأوسى، ورد عبد المنعم بن الفرس، ورد عبد الحق بن فرج، ووصلنا رد أبى يحيى بن مسعدة المعاصر لعبد المؤمن بن على مؤسس دولة الموحدين وكذلك رد أبى الحجاج يوسف البلوى المتوفى سنة 604 إذ سجّله فى موسوعته: ألف باء، وهو يكثر فيه من الشعر. ونقف قليلا عند الردود الثلاثة الأولى ورد أبى يحيى بن مسعدة.
وأولى الرسائل الثلاث عند ابن بسام رسالة أبى جعفر (1) أحمد بن الدودين البلنسى، ويقول ابن بسام إنه أملاها عليه بالأشبونة سنة 477 وهو يفتتحها بسب ابن غرسية مع تهديد شديد ومع هجاء قومه من العجم هجاء مقذعا أشد الإقذاع رادا كلّ مثلبة للعرب فى رسالة ابن غرسية إلى محمدة لهم وكل محمدة للعجم إلى مثلبة، ومن قوله فيها:
«اخسأ أيّها الجهول المارق، والمرذول المنافق، ثكلتك أمّك، حبّرت بحبرك لذهاب خبرك، ومشقت (2) فى قرطاسك لمشق رأسك، وما حقيقة جوابك على خطل خطابك إلا سلبك عن إهابك (جلدك) وصلبك على بابك، وأقسم ببارئ النّسم، وناشر الأمم من رفات الرّمم. . لأخلّدنّك سمرا غابرا، ومثلا سائرا، وتحتزم بزنّارك (3) وتلحق بأديارك، مآلك، ومقرّ آلك، أسرتك الأرذلين، وعترتك الأنذلين الصّهب (الحمر) أكلة الجيف. .
وأما فخرك بربّة الإياة (سارة) فياليتها حين ولدتكم ثكلتكم، فلقد سربلتموها عارا مجدّدا، وعصبتم بها شنارا (عارا) مخلّدا، حين خمتم (4) عن الكفاح، حذر الصوارم والرماح، فأسلمتم لعداتها، من بناتها، كل طفلة رداح (5)، جائلة الوشاح (6)، ذات ثغر
(1) انظر فى ترجمة ابن الدودين ورسالته الذخيرة 3/ 703 وما بعدها وراجع ترجمته فى المغرب 2/ 322 ورسالته فى مجموعة هرون.
(2)
مشقت: طعنت. مشق: طعن وقطع.
(3)
الزنار: حزام كان يشده النصارى فى أوساطهم تمييزا لهم.
(4)
خمتم: جبنتم ونكلتم.
(5)
طفلة: ناعمة. رداح: ضخمة الردف.
(6)
جائلة الوشاح: كناية عن دقة الخصر.
كالأقاح، وغرّة كالصباح. . ووصفك قومك بأن ليسوا حفرة أكر (1)، ولا حفزة عكر (2)، الله أجلّ الأكر أن يحفروها، والعكر أن يحفزوها، لكنهم خفرة جحشان، وحفرة كهوف وغيران (3)، اتخذوها مخبأ من قبائل العربان، وملجأ من وقع الصّوارم والمرّان، فعل الخزّان (4) واليرابيع والجرذان. وأما وصفك قومك أنهم مجد، نجد، فهيهات تلك صفات قومنا العرب أولى اللّسن والبيان والإسهاب فى الصواب، والحكمة وفصل الخطاب، أنديتهم عراص المنيّة، وأرديتهم بيض المشرفيّة، ولبوسهم مضاعفة الماذيّة (5)، مجالسهم السّروج، وريحانهم الوشيج (6)، مناهم، تعجيل مناياهم، أسود الأغيال (7)، حماة الأشبال».
والرسالة الثانية عند ابن بسام فى الرد على ابن غرسية رسالة (8) أبى الطيب عبد المنعم بن منّ الله القروىّ، دخل الأندلس، ودرّس الحديث فى شرقيها إلى أن توفى سنة 493، وكان أديبا شاعرا، واطلع على رسالة ابن غرسية فاستثارته، وكتب نقضا لها رسالة سماها «حديقة البلاغة ودوحة البراعة، المورقة أفنانها، المثمرة أغصانها بذكر المآثر العربية ونشر المفاخر الإسلامية والردّ على ابن غرسية فيما ادعاه للأمم الأعجمية» وهى تمتد فى الذخيرة إلى نحو خمس وعشرين صحيفة، ويقول له فى مطالعها:
«أخبرنى عنك أما كانت للعرب يد تشكرها، ومنّة تذكرها؟ أما جبرت نقيصتك؟ أما رفعت خسيستك؟ ألم تربّك فينا وليدا؟ ألم تتّخذك بها تليدا؟ (9) ألم تعن بتخريجك وتدريجك؟ أما أنطقتك بعد العجمة؟ أما أسلقتك (10) عقب اللّكنة، حتى إذا اشتدّ كاهلك، وقوى ساعدك، كفرت نعمتها لديك، ونثرت عصمتها من بين يديك. . وهات أرنا مفاخرك نرك مساخرك، أنت صاحب الشّهب الصّهب أين أنت عن السّمر القمر (11)، البيض غررا وصفاحا (12)، الدّعج عيونا ورماحا، البلج (13) وجوها وسماحا؟ سعروا
(1) أكر: حفر.
(2)
عكر: إبل.
(3)
جحشان: جمع جحش. غيران: جمع غار.
(4)
الصوارم: السيوف. المران: الرماح. الخزان: أولاد الأرانب. الجرذان: الفئران.
(5)
المشرفية: السيوف. الماذية: الدروع.
(6)
الوشيج: الرماح.
(7)
الأغيال: جمع غيل: بيت الأسد.
(8)
انظر فى ترجمة ابن من الله ورسالته الذخيرة 3/ 722 - 746 وراجع فيه الصلة: 371 وانظر فى رسالته المجموعة الثالثة من نوادر المخطوطات لهرون.
(9)
تليدا هنا: مقيما.
(10)
أسلقتك: أتاحت لك السليقة العربية.
(11)
القمر جمع أقمر: المشرق الوجه.
(12)
الصفاح: السيوف.
(13)
البلج: المشرقون.
(أوقدوا) عليكم نار الحرب، بتلك الأينق الجرب، فكسروا أكاسرتكم، وقصروا قياصرتكم، فسفكوا دماءهم، وأباحوا أحماءهم (1)، وأخمدوا نار صولتهم، ومحوا آثار دولتهم، وطهّروا الأرض المقدسة من أنجاسكم والمسجد الأقصى من أرجاسكم. ويحك بم آثرت (فضّلت) وبمن كاثرت (فخرت) أما استحييت مما انتحيت؟ هل كانت العرب إلا كنز عزّ وذخر فخر، وخبيئة ذخرها الله إلى الوقت المحتوم ليختار منها صفيّه، وميزّها ليميز منها حفيّه. يمشى أحدهم إلى الموت ثابتة وطأته، فسيحة خطوته، شديدة سطوته، لبقا بتصريف القناة بنانه، بصيرا بمهج الدارعين سنانه. . أليس شعاركم: الهرب، الهرب، هذه العرب. . وما تركوا من الأعاجم عاجما، ولا ناجما، وساروا يذبحون البرّ ذبحا، ويسبحون البحر سبحا، حتى طرقكم طارقهم (2) فى هذا الطّرف، ورشقكم راشقهم فى هذا الهدف، وملكوا أرضكم بساحتيها، وأحاطوا بها من ناحيتيها، سلبوها بأقطارها وحلبوها من أشطارها».
ويطيل ابن من الله فى الفخر بدول العرب قبل الإسلام، وبشجاعتهم وفروسيتهم، وما يزال يتتبع مفاخر العجم عند ابن غرسية ناقضا لها حتى فى العلوم. وينوه بعلم العرب فى الفلك والطب وبراعتهم فى الغناء والموسيقى. ويضع له أمام عينيه فخر العرب برسولها محمد سيد ولد آدم الذى به بزّت الأمم، ويطلب إليه أن يتوب توبة تهديه وتنجيه. والرد الثالث الذى ساقه ابن بسام يذكر أنه اقتبسه من كتاب (3) لابن عباس رد فيه على ابن غرسية، ولا يعرّفنا بشخصية ابن عباس هذا، وحديثه يدور على الهجاء المقذع ولا يخرج عما رأينا فى الرسالتين السالفتين من نقض مزاعم ابن غرسية نقضا يصيب قومه العجم فى الصميم.
ومثل هذه الردود فى الرد المفحم على رسالة الشعوبية لابن غرسية رسالة (4) أبى يحيى ابن مسعدة، وهو يستهلها بهجاء شديد فابن غرسية غثيث (لا خير فيه) آبق وقاح لئيم الجدود. وبعد قرع صفاه، وصفع قفاه، ينتقل إلى الحديث عن دين العجم وأقانيمه الثلاثة وعقيدة التثليث وينكر أن يكون إبراهيم الخليل أبا للعجم أو تكون سارة زوجته أمّا لهم
(1) أحماء: جمع حمى.
(2)
تورية لطيفة عن طارق بن زياد فاتح الأندلس.
(3)
انظر الذخيرة 3/ 746.
(4)
راجع فى أبى يحيى بن مسعدة ورسالته المجموعة الثالثة من نوادر المخطوطات لعبد السلام هرون.