الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو تكون هاجر أمة لسارة. وينقض على ابن غرسية كل ما أشار إليه من خبر أو أسطورة تتصل بالعرب، ويشويه ويشوى العجم معه بسياط من أهاجيه، ويتهكم على ما افتخر به من علوم الأعاجم، ويقول إنه كفخر الجارية بهودج سيدتها، إذ العلوم التى ذكرها إنما هى علوم اليونان والفرس والكلدان. ويتهكم على موسيقاهم التى يندبون بها فى نواحهم ويقصفون عليها فى أعيادهم. ويفخر بانتصار العرب على الفرس والروم فى القادسية واليرموك. ويتمدح بما يجلبه العجم للعرب من القيان والدّنان، كما يتمدح بشغف العرب بالمرأة وما لهم فيها من الغزل الرقيق مع ما يميزهم من الشجاعة والإقدام حتى ملكوا الأرض، وتلك منازلهم منها بمكان الغرّة. ويقول ابن مسعدة: كفى ابن غرسية والعجم أن فى العرب رسول الله هادينا ومرشدنا سيد البشر وشفيع هذه الأمة وسفير يوم العرض وإمام أهل السموات والأرض، وبه يفاخر العرب البشر، ويناظرون الشمس والقمر.
ويشيد ابن مسعدة فى ختام الرسالة بابن تومرت داعية الموحدين وخليفته عبد المؤمن بن على مؤسس دولتهم فى المغرب والأندلس.
وواضح-مما تقدم-أن الشعوبية فى الأندلس لم تؤيدها إلا رسالة وحيدة لابن غرسية البشكنسى، وكأنها شئ عارض أو كأنها حجر ألقى فى بحر لجى للعروبة، فلم تترك أثرا وراءها سوى ما كان من كثرة الردود عليها طوال القرنين الخامس والسادس للهجرة، وهى كثرة تدل-دلالة بيّنة-على تعمق نزعة العروبة فى الأندلس وأن الأندلسيين كانوا يستشعرونها دائما بقوة، أما ما نقرؤه أحيانا عن عالم أندلسى أو أديب هناك من أنه كان شعوبيا فإنما كان يوصف غالبا بذلك لنزعة وطنية تجعله يشيد بأبناء وطنه لا لنزعة شعوبية معادية للعرب. وقد ظلت الأندلس بعيدة عن استشعار تلك النزعة كما ظلت بعيدة عن استشعار نزعة الزندقة والإلحاد المعادية للإسلام.
رسائل نبوية ومواعظ
(أ) رسائل نبوية
للأندلسيين كتابات كثيرة فى مناقب الرسول صلى الله عليه وسلم، على شاكلة كتاب الشفا فى التعريف بحقوق المصطفى للقاضى عياض حافظ المغرب والأندلس المتوفى سنة 544 ولسنا نريد الحديث عن مثل هذه الكتابات الجليلة إنما نريد أن نتحدث عن رسائل نبوية كثيرة صوّر فيها الأندلسيون شوقهم الحار لاكتحال عيونهم برؤية الروضة الشريفة
ضارعين إلى صاحبها عليه السلام أن يكون شفيعهم إلى غفران ربهم يوم القيامة، يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه. ومنذ أواخر عصر أمراء الطوائف تتكاثر الرسائل النبوية إذ أخذ الكتاب فى الأندلس يستشعرون محنة بلدهم وما يتهدّدها من الأخطار فبثوا شكواهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فى رسائل تفيض بوجد ملتهب لزيارة قبره الشريف وبتوسل ضارع لشفاعته يوم الحشر الأكبر. وأخذوا-مع تقدم الزمن-يضمّنون رسائلهم بعض الأحداث فى الأندلس آملين من الرسول الغوث والعون على أعدائهم وأن تدور عليهم الدوائر. ومن طريف ما نقرأ فى تلك الرسائل رسالة لأبى القاسم بن الجد المتوفى سنة 515 ومرت بنا ترجمته، وله رسالة نبوية كتبها على لسان صديق صدر من بيت الله الحرام وزيارة قبر رسوله عليه السلام، وقد امتلأ قلبه شوقا إلى العودة لزيارة الروضة الشريفة، مؤملا فى شفاعته، والحشر فى عداد زمرته وجماعته، وفيها يقول ابن الجد:(1)
والرسالة تصور هذا الشوق المضطرم فى قلب كل مسلم ليسعد بزيارة الروضة الشريفة ويتملّى بنورها الباهر. وما إن يعود زائره إلى موطنه حتى يضطرم شوقه من جديد لينعم بزيارته آملا أن يكون له حظ فى شفاعة صفىّ الرحمن وحبيبه المصطفى من خلقه. ويذكر ابن خير الإشبيلى فى فهرسته أن لابن السيد البطليوسى عبد الله بن محمد المتوفى سنة 521 رسالة كتب بها إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالمثل ذكر ابن خير أن لابن أبى الخصال المتوفى سنة 540 - ومرت ترجمته-رسالة كتب بها متوسلا إلى قبر الرسول
(1) انظر الرسالة بترجمة ابن الجد فى الذخيرة 2/ 286.
ومعها مقطوعة شعرية، كتبها بلسان أحد الزمنى (المقعدين) آملا فى شفائه، فلما وضعت عند القبر الشريف برئ المقعد بإذن الله وببركة رسوله الأمين. وتظل هذه الرسائل النبوية تكتب من الأندلس وترسل إلى الروضة النبوية طوال الحقب الأندلسية التالية، ويلقانا من كتّاب هذه الرسائل ابن الجنان وسنخصه عما قليل بترجمة. وكان يعاصره أبو الحسن (1) الجيانى على بن محمد الأنصارى الذى تولى القضاء ببعض نواحى إشبيلية، واستكتبه آخر أمراء الموحدين: الرشيد (629 - 640 هـ) وظل يتولى الأعمال السلطانية حتى توفى سنة 663 للهجرة، وله رسالة بارعة كتب بها إلى الروضة الشريفة وفيها يقول (2):
والرسالة طويلة، وقد ذكر فيها أبو الحسن الجيانى طائفة من المعجزات النبوية. ويقف
(1) انظر فى ترجمة أبى الحسن الجيانى الذيل والتكملة للمراكشى (تحقيق د. إحسان عباس) 5/ 287 وما بعدها.
(2)
انظر الرسالة عند المراكشى 5/ 288.
(3)
الكليم: موسى عليه السلام.
(4)
النقيبة: الطبع والسجية.
(5)
صادى: عطشان. ديمة: سحابة هاطلة.
(6)
الصعداء: المشقة. يتنفس الصعداء: يتنفس نفسا ممتدا.
(7)
السبسب: الفلاة.
(8)
عرصاتها: ساحاتها.
(9)
الجد: الحظ.
(10)
طيبة: المدينة.
على باب الروضة الشريفة مسترحما لذنبه شفيع المذنبين يوم الهول الأكبر الذى تغذى بحبه طفلا وشابا وكهلا، وإنه ليأمل فى اللقاء بحبيبه، وفى فؤاده لوعة لا تنطفئ وفى عينيه دموع لا تجف، وإنه ليتمنى لو طيّب وجناته بتراب طيبة وتحقق له هذا الأمل العظيم. ويدعو ربه ضارعا أن ينيله أداء فريضة الحج وزيارة الرسول الكريم حتى يفوز بسعادة ما تماثلها سعادة.
وتسقط حينئذ مدن الأندلس العظمى: قرطبة وإشبيلية وبلنسية ومرسية وطليطلة وبطليوس فى حجر حملة الصليب الشماليين، ونرى هذه الرسائل النبوية الموجهة إلى الروضة الشريفة تضم إلى تصوير التعلق بالرسول والشغف بزيارته والتوسل إلى شفاعته تضرعا إليه كى ينصر المسلمين فى الأندلس على أعدائهم الشماليين، ومن خير ما يمثل هذه الرسائل رسالتان (1) للسان الدين بن الخطيب كتبهما إلى الرسول عليه السلام على لسانى سلطانى الأندلس أبى الحجاج يوسف الغالب بالله (733 - 755 هـ) وابنه محمد الغنى بالله (755 - 793 هـ) وربما كانت رسالته الأولى أروع من أختها الثانية، وقد افتتحها بقصيدة بديعة، يصور فيها الشوق الذى أضنى أبا الحجاج لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويفخر بأن جده سعد بن عبادة كان من أنصار دينه الحنيف. ويعتذر بتقصيره عن زيارته باشتغاله بجهاد الجلالقة والقشتاليين حملة الصليب الشماليين، وتلى ذلك الرسالة، وهى طويلة، ويفتتحها لسان الدين على لسان سلطانه أبى الحجاج بقوله:
«إلى رسول الحقّ، إلى كافّة الخلق، وغمام الرحمة الصادق البرق، والحائز فى ميدان اصطفاء الرحمن قصب السّبق، خاتم الأنبياء، وإمام ملائكة السماء، ومن وجبت له النبوة وآدم بين الطّين والماء. . نبىّ الهدى الذى ختم به الرسالة ربّه، وجرى فى النفوس مجرى الأنفاس حبّه، الشفيع المشفّع يوم العرض، المحمود فى ملأ السماء والأرض. .
فائدة الكون ومعناه، وسرّ الوجود الذى بهر سناه، من الأنوار من عنصر نوره مستمدّة، والآثار تخلق (2) وآثاره مستجدّة، من طوى بساط الوحى لفقده، وسدّ باب الرسالة والنبوة من بعده».
وهذه القطعة الرائعة فى تمجيد الرسول يغمسها ابن الخطيب فى فكرة الحقيقة المحمدية
(1) انظر فى الرسالتين الإحاطة (طبعة عنان) 4/ 527 وما بعدها. وراجع فى الرسالة الأولى صبح الأعشى 14/ 469.
(2)
تخلق: تبلى.
التى ردّدها بعض الصوفية ذاهبين إلى أن الروح المحمدية سبقت فى الوجود صورة محمد الجسدية، وهو بذلك يسبق آدم، بل يسبق جميع الكائنات وكأنه مبدأ الرسل وخاتمهم، بل مبدأ الوجود جميعه، فكل نور فى الكون مستمد من نوره ومستعار منه. ويستمر ابن الخطيب فى هذا التمجيد متحدثا عن معجزات الرسول، قائلا إن الرسالة من عتيق شفاعته وعبد طاعته. ويصور تشوق أبى الحجاج إلى الاكتحال بمشهد روضته الشريفة، حتى يطفئ غلته ويسكن لوعته، ويعتذر بجهاده لحملة الصليب وما يلقى فى هذا الجهاد هو وجنوده من أهوال تعوقه عن أن يشد الرحال إلى الروضة العبقة الطاهرة، يقول:
وهذه القطعة من الرسالة تصور الجهود المضنية التى كان يبذلها مسلمو الأندلس فى جهاد حملة الصليب، وقد جاءوهم-كالذرّ عند انتشاره-من شمالى إسبانيا ومن البلدان الأوربية، يريدون أن يقتلعوهم من البقية الباقية من ديارهم. وتستبسل الفئة القليلة أمام تلك الجموع الغفيرة نحو ثلاثة قرون متطاولة، بائعة أنفسها لربها متزاحمة على حياض الاستشهاد لنصرة دينه حتى تكون كلمته هى العليا، وحملة الصليب ما ينون يغيرون وما تنى سحب سيوفهم تتجمع فوق ديارهم وأوكار أفلاذ أكبادهم، والفئة القليلة تنازلهم مستميتة نزالا ضاريا وكثيرا ما دقّت أعناقهم دقا. والرسالة الثانية للسان الدين كتبها
(1) عجاجه: غباره.
(2)
هيعة: صيحة.
(3)
حمر الحواصل: تشبيه لأطفال غرناطة بصغار الطير حين تكون حمراء الحواصل ولا تستطيع الطيران.
(4)
المناصل: جمع منصل: السيف.
(5)
البيض: السيوف. السمر: الرماح.