الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وشاعت القصيدة وبلغت المأمون فحرّض على قتله، وفرّ ابن الصفار إلى أبى زكريا بن عبد الواحد أمير تونس وأجرى عليه راتبا شهريا إلى أن بارح دنياه. ويظل شرر الهجاء يتطاير فى إمارة بنى الأحمر، ويكثر الشعراء حينئذ من ذم الزمان والناس، على نحو ما يلقانا عند البسطى محمد بن عبد الكريم القيسى بأخرة من زمن تلك الإمارة، وقد صبّ كثيرا من هجائه على القضاة والمشرفين على الأحباس، ومن هجائه لقاضى بلدته (1):
تبّا لقاضى بسطة ابن مفضّل
…
تبّا له فيه يروح ويغتدى
إذ غيّر الأحكام عما أصّلت
…
تغيير جبّار عنيد معتدى
وحرى بنا أن نتوقف قليلا بإزاء أربعة من كبار الهجائين فى الأندلس على مر عصورها هم
يحيى الغزال
والسّميسر واليكّى وعلى بن حزمون.
يحيى (2) الغزال
هو يحيى بن الحكم البكرى الجيّانى المعروف باسم الغزال، ولد حوالى سنة 156 للهجرة وتوفى حوالى سنة 250 وإذا صحّ ذلك يكون قد عاش أكثر من تسعين سنة، ويؤكد ذلك ما ذكره فى أرجوزته التاريخية من قوله:
أدركت بالمصر ملوكا أربعه
…
وخامسا هذا الذى نحن معه
فهو قد أدرك زمن عبد الرحمن الداخل المتوفى سنة 172 وابنه هشام وحفيده الحكم الربضى وابنه عبد الرحمن وحفيده محمد، وكان جميل الصورة لذلك لقّب بالغزال وهو ممن رحلوا إلى المشرق وأفادوا منه أدبا وعلما. ويبدو أنه كان يتولى أحيانا بعض أعمال للدولة وخاصة فى زمن الأمير عبد الرحمن الأوسط، إذ تولى له قبض الأعشار من المحاصيل وخزنها، ويقال إن سعرها ارتفع فى بعض الأعوام فباع كل ما لديه من مخزون، وغضب الأمير حين علم بصنيعه لأنها كانت معدة للجند، وأمره أن يرد ثمنها ويشترى
(1) انظر كتاب البسطى آخر شعراء الأندلس للدكتور محمد بن شريفة (طبع بيروت) ص 194.
(2)
راجع فى ترجمة يحيى الغزال المقتبس: الجزء الخاص بالأمير عبد الرحمن وابنه محمد (تحقيق د. مكى-طبع بيروت) ص 11 - 13، 64 - 65، 69، 70، 134 والحميدى رقم 887 والبغية للضبى رقم 1467 والمغرب 2/ 57 والمطرب ص 133 وما بعدها والبيان لابن عذارى 2/ 93 والنفح 2/ 254 واليتيمة للثعالبى 2/ 56 وكتاب القضاة للخشى ص 83. ونشر ديوانه د. محمد رضوان الداية بدار قتيبة.
للدولة منها حاجتها وكان السعر قد هبط، فرأى أن يكتفى برد ما يماثلها من الطعام دون رد المال جميعه، فأمر عبد الرحمن بسجنه. وكان شاعرا فذا فاستعطفه ببعض منظومه أو بعبارة أدق بقصيدة من قصائده فعفا عنه. وكان الأمير عبد الرحمن يعجب به، ولذلك نراه يكلفه بسفارتين سفارة لتيوفيل ملك بيزنطة، ولنجاحه فيها كلفه بعد القضاء على غارة النورمان الدانماركيين بغربى الأندلس سنة 229 بسفارة ثانية إلى ملكهم، ونجح فيها كما نجح فى السفارة الأولى وعاد بذخائر ملوكية.
ويبدو من مدائح الغزال للأمراء الأمويين ولشغله لبعض الوظائف ولسفارته المتكررة للأمير عبد الرحمن الأوسط أنه عاش فى غير قليل من لين العيش وأنه كان فى أكثر حياته-إن لم يكن فيها جميعا-على حظ غير قليل من اليسر والرخاء وسعة ذات اليد، ولذلك نعجب أن نجد نفسه مطوية على غير قليل من المرارة مما دفعه إلى أن يكثر من الهجاء، فهو يهجو المرأة ويرميها بعدم الوفاء، ويهجو زرياب فى أول قدومه على قرطبة، ويهجو الناس جميعا حاكمين ومحكومين، يقول:
ما أرى هاهنا من الناس إلا
…
ثعلبا يطلب الدّجاج وذيبا
أو شبيها بالقطّ ألقى بعيني
…
هـ إلى فأرة يريد الوثوبا
فالناس بين ثعلب ماكر وذئب مفترس وقطّ ينتظر فرصة من فأرة، وجميعهم متحفز للوثوب والتقاط صيد ثمين ما وسعهم الصيد. ومن أهم من سلط عليه سهام هجائه قاضى الجماعة بقرطبة يخامر بن عثمان الجذامى الجيانى مواطنه، ولاّه عبد الرحمن قضاء الجماعة سنة 220 فأكثر من هجوه وذمه ووصفه بالجهل والبله مع السخرية المرة منه ومن أحكامه، كقوله فى شعر استهله باعتذاره لشخص كلفه عملا لا يحسن أداءه على نحو ما كلّف القاضى يخامر بالقضاء وهو لا يحسنه:
فقلت له كلّفتنى غير صنعتى
…
كما قلّدوا فضل القضاء يخامرا
وقلت لو استعفيت منه فقال لى
…
سأفضح ما قد كان منك مغايرا
فقلت له: رأس الفضوح إقامة
…
علينا كذا من غير علم مكابرا
وخبطك فى دين الإله على عمى
…
خباطة سكران تكلّم سادرا (1)
فلن يحمل الصّخر الذّباب ولن ترى ال
…
سّلاحف يزجين السّفين مواخرا (2)
(1) سادرا: غير مبال.
(2)
مواخر: تمخر البحر أى تشقه.
وهو هجاء مقذع ليخامر إذ يصفه بأنه يخبط فى قضائه وأحكامه على الناس خبط أعمى لا يبصر، بل خبط سكران فقد عقله ورشده، ويمثله فى حمله للقضاء ومهمته الثقيلة التى لا يؤتاها إلا أولو العزم بذباب يطلب إليه أن يحمل صخرا ضخما وبسلاحف يطلب إليها أن تدفع سفنا تشق مياه البحار شقا. وما يزال يهوّن منه ويزرى به حتى عزله الأمير عبد الرحمن عن القضاء. وكان نصر الصقلى الخصىّ تمكن من الأمير عبد الرحمن غاية التمكن وكان ذلك يؤذى الغزال وكثيرين غيره من الحاشية وكان نصر يسكن بالقرب من مقابر قرطبة، فقال يتوعده عذاب الله وجحيمه على ما قدّمت يداه:
أيا لا هيا فى القصر قرب المقابر
…
يرى كلّ يوم واردا غير صادر
تراهم فتلهو بالشّراب وبعض ما
…
تلذّ به من نقر تلك المزاهر (1)
سترحل عن هذا وإنك قادم
…
-وما أنت فى شكّ-على غير غافر
وكان الأمير عبد الرحمن ولّى ابنه عبد الله من حظيته طروب ولاية العهد، وأخذ فى سنة 236 يفكر فى صرفها عنه إلى أخيه محمد لاستهتاره وانهماكه فى اللذات، فأغرت طروب نصرا أن يسقيه شربة سم حتى يعجله الموت عن تنفيذ فكرته، وصدع نصر لمشيئتها، ونبّه الأمير عبد الرحمن إلى ذلك، فشكا وعكة فى معدته، فأحضر له دواء، فأمره بشربه، ولم يستطع أن يعصى له أمرا، فشربه، ومات، فقال الغزال ملقّبا له بأبى الفتح ومتشفيا فيه من قصيدة طويلة:
أغنى أبا الفتح عما كان يأمله
…
حفيرة حفرت بين المقابير
فصار فيها كأشقى العالمين وإن
…
لفّوه بالنّفح فى مسك وكافور
وأمر عبد الرحمن بإنزال زرياب مغنيه فى قصر نصر بعد موته، فنظم الغزال قصيدة يذكر فيها تقلب الدنيا بأهلها وأن نصرا قد ترك قصره إلى مسكن ليس عليه حجاب سوى التراب، ولم يأخذ معه من كل ما جمعه سوى كفنه أو كما يقول سوى ثلاثة أثواب.
ولعل فيما أسلفنا ما يدل بوضوح على أن الغزال كان صاعقة من صواعق الهجاء المقذع الموجع فى زمنه.
(1) المزاهر جمع مزهر: العود.