الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رأيت آدم فى نومى فقلت له
…
أبا البريّة إنّ الناس قد حكموا
أنّ البرابر نسل منك قال إذن
…
حوّاء طالقة إن كان ما زعموا
ولما كثر منه مثل هذا الهجاء الموجع المؤلم توعده الأمير عبد الله بسفك دمه، ففر إلى المعتصم بن صمادح أمير المريّة مستجيرا به، فأجاره، وأقام عنده حتى استولى المرابطون على إمارته سنة 484. وكان السميسر سيئ الظن بالناس سوءا شديدا، حتى لينشد:
رأيت بنى آدم ليس فى
…
جموعهم منه إلا الصّور
ولما رأيت جميع الأنام
…
كذلك صرت كطير حذر
فمهما بدا منهم واحد
…
أقول أعوذ بربّ البشر
فقد أصبح من الناس جميعا مثل طير حذر لا يزال يتلفت يمينا ويسارا خشية أن يقع فى شبكة من شباكهم رصدوها له، وإنه ليستعيذ منهم ومن شرهم بربه لاجئا إليه ضارعا.
وعلى شاكلة ظنه السيئ بالناس ظنه بأهل صنعته من الشعراء إذ يقول فيهم:
أنا أحبّ الشعر لكننى
…
أبغض أهل الشعر بالفطره
فلست تلقى رجلا شاعرا
…
إلا وفيه خلّة تكره
والعجب والنّوك إلى الجهل فى
…
أكثرهم إلا مع النّدره
وطبيعى أن يعجب كل شاعر بشعره، أما النوك أو الحمق وكذلك الجهل اللذان يسجلهما على أكثرهم فمبالغ فى وصمهم بهما. ويعلن مرارا أنه هجر اللذات، ويبدو أنه هجرها بأخرة من حياته، مما جعله يكثر من أشعار طريفة فى الزهد والقناعة والحياة والموت.
اليكّىّ
(1)
هو أبو بكر يحيى بن سهل اليكى من قرية يكّة شمالى مرسية، قال فيه الحجارى:«هو ابن رومى عصرنا وحطيئة دهرنا، لا تجيد قريحته إلا فى الهجاء، ولا تنشط به فى غير ذلك من الأنحاء» عاش فى زمن المرابطين ولحق دولة الموحدين إلى أن توفى حوالى سنة 560
(1) انظر فى ترجمة اليكى وشعره زاد المسافر لصفوان ص 77 والمغرب 2/ 266 والخريدة 3/ 580 والضبى فى البغية ص 188.
وكان المرابطون يضعون اللثام على وجوههم، ولذلك سموا الملثمين، ونراه يعلل لاتخاذهم اللثام بمثل قوله:
لمّا حووا إحراز كلّ فضيلة
…
غلب الحياء عليهم فتلثّموا
فى مدحة بلغ بها غاية رضاهم، ثم عاد إليه طبعه وما فطر عليه من الهجاء المقذع، فهجاهم وقدح فى أخلاقهم ولثامهم راميا لهم بالدناءة ونقص العفاف قائلا:
فى كلّ من ربط الّلثام دناءة
…
ولو أنه يعلو على كيوان (1)
لا تطلبّن مرابطا ذا عفّة
…
واطلب شعاع النار فى الغدران
وفى نفس هذه المقطوعة ومقطوعة ثانية ما هو أكثر بذاءة، وكأنه نسى-كأندلسى- أن الملثمين هم الذين أنقذوا الأندلس من وقوعها فى براثن النصارى الشماليين، ولم تكن موقعتهم المظفرة بالزلاّقة التى سحقوهم فيها سحقا ببعيدة. وربما هجاهم بعد زوال دولتهم وقيام دولة الموحدين، غير أن ذلك لا يشفع-إن صح-له. وعلى شاكلته هجاؤه لأهل فاس بعد أن أكرموه بمثل قوله:
يا أهل فاس لقد ساءت ضمائركم
…
فأصبحت فيكم الآراء متّفقه
وربما اجتمعت فى بعض سادتكم
…
نقائص أصبحت فى الناس مفترقه
ويتمادى فى البذاءة بهذه المقطوعة ومقطوعات أخرى، وكأنما يحصى عيوب نفسه، وبالمثل ما أحصاه من خصال عشرة ذميمة للفقيه وزوجته، وما وصم به قاضى بلدته:
مرسية من جوره وأكله أموال اليتامى وأموال المساجد سرقة وغصبا، يقول:
يطالبه الأيتام فى جلّ مالهم
…
ويطلبه فى حقّه كلّ مسجد (2)
والهجاء حين ينزل إلى هذا الدّرك أو إلى هذا المنحدر لا يصبح من الفن والشعر فى شئ، إذ يصبح سبّا وقذفا مذموما. وربما كان أخفّ ما هجا به أهل فاس قوله:
قصدت جلّة فاس
…
أسترزق الله فيهم (3)
فما تيسّر منهم
…
دفعته لبنيهم
(1) كيوان: كوكب زحل وهو كوكب نحس وشؤم.
(2)
جل: معظم.
(3)
جلّة: أجلاء.
وإنما نقول إنه هجاء خفيف لأن فيه شيئا من الدعابة، إذ يقول إن ما يأخذه منهم من النوال بيمينه يدفعه لأبنائهم بيساره. ومن هجائه المقذع اللاذع قوله فى بعض مهجوّيه:
أعد الوضوء إذا نطقت به
…
متذكّرا من قبل أن تنسى
واحفظ ثيابك إن مررت به
…
فالظّلّ منه ينجّس الشّمسا
وكأنه يصفه بدنس لا يماثله دنس وقذارة لا تشبهها قذارة، وهو غلو فى الإقذاع والإيلام. وفى أهاجيه فحش كثير. وتردد ابن سعيد فى المغرب فى نسبة موشح له وقال إنه لابن المرينى ويروى لليكى مما يدل على أنه شارك فى نظم الموشحات.
على (1) بن حزمون
هو أبو الحسن على بن عبد الرحمن بن حزمون، من المريّة، يقول فيه ابن سعيد:
«صاعقة من صواعق الهجاء» ويقول ابن عبد الملك المراكشى: «كان شاعرا مفلقا ذاكرا للآداب والتواريخ أحد بواقع (2) الدهر، بذئ اللسان مقذع الأهاجى» . ومر بنا فى حديثنا عن شعراء المديح أنه كان أحد من مدحوا المنصور يعقوب الموحدى بعد قفوله من غزوة الأرك المظفرة سنة 591 وقد وقعت قصيدته من المنصور موقع استحسان، وأنشدنا منها قطعة هناك، ويذكر ابن عبد الملك المراكشى أنه وفد على المستنصر الموحدى (610 - 620 هـ) بمراكش مادحا له ومتظلما من واليه المجريطى على مرسية لضربه بالسياط لما بلغه من هجائه له، وتبرأ للمستنصر مما نسب إليه من ذلك، فأمر بتمكينه من الوالى وتحكيمه فيه حتى ينتصف منه، غير أن ابن حزمون لم يكد يصل إلى الأندلس حتى توفى المستنصر فلم يتم له أمله من القصاص من الوالى واشتدّ أسفه.
ويبدو أنه عاش فترة غير قصيرة بعد وفاة المستنصر. وله مرثية رائعة لقائد الأعنة بمرسية سنعرض لها فى غير هذا الموضع، وجرّه هجاؤه إلى التعرض لأحد قواد الأندلس، واسمه محمد بن عيسى، بهجاء لاذع، زاعما أنه فرّ فى إحدى المواقع مع النصارى قائلا:
يودّ بأن لو كان فى بطن أمّه
…
جنينا ولم يسمع حديثا عن الغزو
(1) انظر فى ترجمة ابن حزمون وشعره المعجب ص 370 وما بعدها وزاد المسافر ص 64 والمغرب 2/ 214 وما بعدها وأزهار الرياض 2/ 211.
(2)
بواقع جمع باقعة: داهية.
ثقيل ولكن عقله مثل ريشة
…
تطير بها الأرواح فى مهمه دوّ (1)
تميل بشدقيه إلى الأرض لحية
…
تظنّ بها ماء يفرّغ من دلو
وقد حدّثوا عنه بكلّ نقيصة
…
ولكنّ مثلى لا يروّى ولا يروى
وهو تجنّ على هذا القائد الذى كان مشهورا فى قومه بالشجاعة والنجدة، ويبدو أنه بدر منه ما أسخطه عليه، فمضى يصفه بالجبن، وهو برئ منه، وبثقل الروح وخفة العقل وضخم اللحية التى لا تزال تميل بشدقيه السائلين إلى الأرض. وهى مبالغة فى هجاء مقذع كان حريا به أن ينحيه عن مثل هذا الفارس الشجاع. وحين وفد على المستنصر رأى أن يلتقى بالوزير الموحدى أبى سعيد بن جامع، فقصد داره وكان لها بابان، فوقف بأحدهما ينتظر لقاءه، فقيل له إنه خرج من الباب الآخر، فأنشد:
نعوذ بالله من وجد ومن بين
…
ومن وقوف على دار ببابين
ومن زيارة أرباب بلا عدد
…
لا يملكون حياتى لا ولا حينى (2)
إنى وجدتهم لما رجوتهم
…
كالرّيح تطلبها ما بين كفّين
وكان أبو سعيد بن جامع أديبا وغيثا مدرارا وممدّحا للشعراء، ولكنها نزعة الهجاء فى ابن حزمون إذ جعلته يهجو متسرعا لأول بادرة ممن يستحقون منه المديح والإطراء. وبلغ من تعلقه بهذا الفن أن هجا نفسه، وكأنما أراد أن يقتصّ منها لكل من رماه بسهام هجائه، فقال:
تأمّلت فى المرآة وجهى فخلته
…
كوجه عجوز قد أشارت إلى الّلهو
إذا شئت أن تهجو تأمّل خليقتى
…
فإنّ بها ما قد أردت من الهجو
كأنّ على الأزرار منى عورة
…
تنادى الورى غضّوا ولا تنظروا نحوى
فلو كنت مما تنبت الأرض لم أكن
…
من الّرائق الباهى ولا الطيّب الحلو
وفى الحق أنه كانت فى ابن حزمون مرارة كثيرة، وربما كانت هى التى دفعته إلى أن يسلك طريقة إبن حجاج البغدادى الماجنة المفحشة فى كثير من شعره، وكان وشاحا مجيدا ودفعته نزعته الماجنة إلى أن لا يدع موشحة تجرى على ألسنة الناس-كما يقول صاحب المعجب-إلا نظم فى عروضها ورويها موشحة ماجنة مكثرا فيها من الفحش.
وينهى المراكشى حديثه عنه بقوله: «ونال ابن حزمون عند قضاة المغرب وعماله وولاته جاها وثروة خوفا من لسانه» وبعبارة أخرى خوفا من هجائه البذئ المقذع.
(1) الأرواح: الرياح. مهمه: مفازة. دوّ: واسع.
(2)
حينى: هلاكى وموتى.