الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للكلام كيسا يحلّ عقده، ويجعل شاعرتان للبلوى برصا ويجعل شاعر ثالث للمهابة فأسا.
وكان له ذوق أدبى مصفّى أحال به الذخيرة إلى متحف رائع يموج بالاستعارات والأخيلة المبتكرة ولمع البديع الرائعة بل إنه يموج بفرائد لا تحصى للأندلسيين من الشعر والنثر، ويكفى أنهم يبلغون فى الكتاب أكثر من تسعين بين شاعر وكاتب، ولم يكد ابن بسام يترك لأحدهم عملا أدبيا أبدع فيه إلا عرضه حتى يصور بدقة ما ذكره فى مقدمة الكتاب من تفوق الأندلس فى الأدب وأنها منه فى الأفق الأعلى.
وفى الحق أنه لولا الذخيرة لظل الأدب الأندلسى بروائعه الباهرة شعرا ونثرا محجوبا عن الباحثين ولما استطاع أحد أن يكتب تاريخه. وذكر ابن بسام فى بعض الصحف أنه ابتدأ تحرير الذخيرة بقرطبة سنة 493 وقال إنه كان لا يزال معنيا بتحريرها سنة 500 وأنه بدأ الكتابة فى قسمها الرابع سنة 502 ويبدو أنه كان لا يزال يعيد النظر فى بعض فصولها، إذ نراه فى ترجمته للكاتب ابن أبى الخصال يذكر أنه لم يجد لديه فى سنة 503 شيئا من ترسله، فسأل بعض إخوانه أن يخاطبه ليرسل إليه بعض نماذج من أدبه. وبدون ريب اقتضت الذخيرة من ابن بسام جهودا مضنية فى سنين متطاولة، وهى جهود تنوء بها العصبة أولو القوة.
مذكرات عبد الله بن بلقّين
هو عبد الله (1) بن بلقّين بن حبوس بن ماكسن بن زيرى الصنهاجى القيروانى آخر أمراء بنى زيرى لعهد الطوائف. شاد لهم هذه الإمارة بغرناطة وإلبيرة زاوى بن زيرى فى زمن الفتنة، وظل يلى شئونها حتى سنة 410 وخلفه ابن أخيه حبوس بن ماكسن حتى سنة 429 وقام عليها بعده ابنه باديس حتى وفاته سنة 465 وورثها بعده ابن أخيه عبد الله بن بلقين وهو فى الثامنة من عمره، وحاز حظا من العربية والثقافة غير أنه لم يكن على نصيب من السياسة والمهارة فى تدبير الحكم، فاتخذ وزراء أغمارا غير مجربين مثل سماجة الصنهاجى، ويقول ابن الصيرفى المؤرخ إنه كان جبانا هيّابة مغمد السيف، فكان طبيعيا أن ترتعد فرائصه كلما ذكر ألفونس السادس أمير قشتالة، وقد فرض عليه
(1) انظر فى عبد الله بن بلقين المغرب 2/ 108 وأعمال الأعلام لابن الخطيب (طبعة بروقنسال) 2/ 233 وما بعدها والإحاطة 3/ 379 وتاريخ ابن خلدون 4/ 161 والبيان المغرب لابن عذارى. ومذكرات الأمير عبد الله منشورة بدار المعارف فى القاهرة.
عشرة آلاف دينار يدفعها سنويا. وكان طبيعيا أن يهلل لعبور يوسف بن تاشفين أمير المرابطين بجنوده إلى الأندلس ومواقعته ألفونس فى الزلاقة وسحقه لجيشه سحقا كاد لا يبقى منه ولا يذر. وعاد يوسف إلى المغرب، وعاد أمراء الأندلس إلى المنافسات فيما بينهم ومدّ أيديهم إلى ألفونس السادس، كلّ يستعديه على أخيه، واستغاث الفقهاء فى الأندلس ثانية بيوسف. وأخذ المعتمد بن عباد أمير إشبيلية وعبد الله بن بلقين وغيرهما يحاولون استصراخ ألفونس خشية أن يفكر يوسف فى عزلهم وضم الأندلس إلى سلطانه.
وعرف يوسف ما يبيّتون وخشى على الأندلس من الضياع، فعبر إليها سنة 483 وبدأ بغرناطة وأميرها عبد الله بن بلقّين، وكان لا يزال يعد جيشه للقاء يوسف كما كان يفاوض ألفونس ويرسل إليه هدايا نفيسة ويطمعه بأموال كثيرة ليمد له يد العون، ونصحه خلصاؤه أن يلقى ابن تاشفين وكان قد أصبح على مسافة فرسخين من غرناطة، فلقيه مترجّلا مرحّبا سائلا العفو، فأمّنه على نفسه وأهله وطيبّ خاطره، وصودر كل ما كان بالقصر وكل ما ملك عبد الله وأمه من أموال. وأمر يوسف بتوزيع كل ذلك على قواده ولم يستأثر منه بشئ. ونفى عبد الله إلى المغرب الأقصى مع مشيعّين يؤنسونه فى الطريق ويتكفّلون أموره، وكتب إليه يوسف:«لا أنساك ما بقيت» وأنزله بأغمات، وأسعفه-كما يقول ابن الخطيب-فى رغباته، فعاش معيشة كريمة، ورزق ولدين وبنتا، وترك لهم-حين توفّى-مالا جمّا.
وكتب عبد الله فى أثناء منفاه بأغمات كتابا باسم «التبيان عن الحادثة الكائنة بدولة بنى زيرى فى غرناطة» وكانت قد حفظت منه نسخة تنقص بعض الأوراق، فنشرها المستشرق بروقنسال باسم «مذكرات الأمير عبد الله» . وهو فى الفصول الأولى من الكتاب يحكى مقدم بنى زيرى الإفريقيين أو التونسيين إلى الأندلس وتأسيس زاوى بن زيرى لإمارتهم فى غرناطة وتدبير حبوس بن ماكسن بعده فى تنظيم حكمها وإدارته وميراث ابنه باديس الإمارة بعده واستيلاءه على مالقة وتفويضه شئون الحكم إلى وزيره اليهودى ابن النغريلّة وازدياد نفوذ النساء فى القصر ومؤامرات ابن النغريلّة وإفساده الحكم وقتل صنهاجة له واستيلاء باديس على جيان. ثم تتعاقب ثمانية فصول فى الحديث عن إمارته، وفيها يتحول الكتاب إلى مذكرات حقيقية، مستهلا لها بالحديث عن أحداث الأندلس وتمزقها أمام ألفونس السادس وغاراته المتلاحقة على غرناطة وغيرها مما أدى إلى استيلائه على طليطلة سنة 478 ثم ما كان من استصراخ الأمراء والسفارات لابن تاشفين وعبوره إلى الأندلس واشتراك الأمير عبد الله فى موقعة الزلاقة معه مجاهدا بماله
وجنوده، ورجوع يوسف إلى المغرب واضطراره إلى العودة، ومبارحة الأندلس وعودة أمرائها إلى الخلاف. ويحاول أن يبرر نقضه لما عاهد عليه ابن تاشفين وأخذه فى اختزان الأقوات وبناء الأسوار وإعلاء الأبراج استعدادا لمنازلته وحربه، والسوءة الكبرى أنه عقد معاهدة مع ألفونس السادس التزم فيها بأداء الجزية له سنويا، ويقول إن ابن تاشفين علم بجميع ما صنع، فأرسل إليه يهدده وكتب إليه عبد الله يبرر مسلكه، ويعرض بعض الأحداث فى إمارته وبعض الشئون الشخصية والأحوال الاجتماعية. ويفصّل الحديث فى عبور ابن تاشفين إلى الأندلس سنة 483 للمّ شعثها ويصور مثول جيشه أمام غرناطة وأحوالها وانصراف الناس والجند عنه واضطراره إلى التسليم وما كان من نفيه إلى المغرب الأقصى ومن عزل بقية أمراء الطوائف. وينهى المذكرات بطائفة من تأملاته وأحاديث عن نفسه وعن أولاده. والمذكرات طرفة نفيسة بما تصور من الانحلال السياسى والاجتماعى والأخلاقى فى الأندلس زمن أمراء الطوائف مما أدى إلى سقوط طليطلة فى حجر ألفونس السادس وخنوع أمرائها له وانعكاس الموقف السياسى والحربى فلم يعد نصارى الشمال يؤدون الجزية لحكام الأندلس كما كان الشأن فى العصر الأموى، بل أصبح حكام الأندلس وأمراؤها يؤدون الجزية لألفونس، وأوشكت الأندلس جميعها أن تسقط فى حجره لولا أن تداركها ابن تاشفين فقلّم أظفار ألفونس فى الزلاقة وردّه إلى وكره خاسئا مدحورا. ولا تصور المذكرات الانحلال الذى عمّ الأندلس فحسب، بل تصور أيضا غرناطة وجميع أحوالها فى عهد بنى زيرى وخاصة فى عهد أميرها عبد الله، كما تصور فساد حكمه ومنازعاته مع جيرانه ومحاولاته فى التواطئ المزرى مع ألفونس السادس أمير قشتالة عدوه ضد ابن تاشفين منقذ الأندلس من براثنه. وعبثا يحاول تبرير فساد سياسته التى أدت إلى ضياع إمارته وعزله، ونفيه إلى أغمات. ومع نفاسة هذه المذكرات عبثت بها يد بروقنسال محققها إذ لم يكن يحسن العربية فامتلأت بتصحيفات لا تكاد فى أحوال كثيرة توجد بينها مسافات فى السطور والكلمات. ونسوق من المذكرات قطعة من حديث عبد الله عن أهل غرناطة حين اقترب منها ابن تاشفين وانفضاض كل من فيها من الجند والناس عنه حتى العبيد من الصقالبة وغيرهم وحتى الخدم من النساء والغلمان، يقول (1):
«أما الجند من البربر فكانوا مغتبطين بهم (بالمغاربة) طامعين فى الزيادة على أيديهم
(1) المذكرات ص 15 وصححنا النصّ فى غير موضع.
للجنسية، واتفق رأيهم على أن لا يلقوه بجحد (1) وقدموا كتبهم بالطاعة، وراجعهم عليها، يعدهم بأن يبقيهم فى أماكنهم على أفضل ما كانوا عليه. . وأما من كان من التجار وأهل البلد فكانوا على نيّة أنهم مع من انتصر ولا طاقة لهم بالحرب، ولا هم أهلها، وأكثرهم خرج من البلدة يقول: «لأى وجه نحتمل الحصار؟ تاجر هنا أو صانع، كما فى غيرها.
وأما الرعية فبخ بخ، ذلك ما كانت تبغى طمعا منها فى الحرية وأنها لا يلزمها غير الزكاة والعشر. وأما العبيد والصقالبة، فالعبيد الأعلاج (الأفظاظ) أول من عصا، رجوا أن يكونوا عنده فى أعلى مرتبة. حتى الخدم من النساء والخصيان كلّ طامع فى إقبال الدنيا عليه والخروج عن ثقاف (قيد) القصر إلى راحة التسريح والاستهتار بالرجال وما أشبه ذلك. وجعفر الخصىّ منهم ولبيب كانا زعيمى المداخلة ورأسا الفتك، يقولان:«نحن لا ولد لنا ولا تالد (2)» فعلى أى شئ نصير (3) إلى القتال؟ وما عسى نطمع إن نصر إليه؟ هل تحصل لنا سلطنة أو قيادة أو قضاء أو فقه؟ إنما نحن بمنزلة العيال، من سبق (4) استمتع بنا وكنا عنده من جملة الفيئ، نرزق كسائر الكسب، فلا نضيع، تعالوا بنا نقدّم لأنفسنا، ووردت عليهم كتب أمير المسلمين بالإنزالات القوّية والمثاقيل والمراتب العالية، يعدهم بذلك عند إكمال حاجته وإسلامهم (5) له».
وعبد الله يقول إن جيشه وهو من البربر اغتبط بالمرابطين لأنهم بربر مغاربة مثله، ولما رجوا من زيادة رواتبهم، لذلك قرروا أن لا يلقوا ابن تاشفين بإنكار لصنيعه وما كان من إنقاذه للأندلس، وأرسلوا إليه يعلنون طاعتهم، فكتب إليهم برضاه عنهم وأنه مبقيهم فى أماكنهم وزائدهم فى رواتبهم. وأما التجار والصناع فهم مع من انتصر، وأما الرعية فابتهجت بمقدم ابن تاشفين، لما كان يثقل عليهم عبد الله من ضرائب متنوعة تارة باسم ألفونس السادس وتارة باسم حاجة الجيش والدولة بجانب زكاة العين وعشر الزرع.
وفعلا بمجرد أن استسلم عبد الله لابن تاشفين أسقط عن الرعية تلك الضرائب مكتفيا بزكاة العين وعشر الزرع، وانفض عن عبد الله سريعا العبيد والصقالبة آملين أن يجدوا عند ابن تاشفين مرتبة أعلى، ومثلهم الخدم من النساء والخصيان طامعين فى إقبال الدنيا عليهم. ويصور موقف الخصيان على لسان خصيين كبيرين، قالا إننا لا نعد أنفسنا شيئا إنما نحن لمن غلب، وأرسلا هما وأضرابهما الكتب إلى ابن تاشفين، وردّ عليهم بأنه
(1) فى الأصل: بحجر. جحد: نكران للحق.
(2)
فى الأصل: تلد. والتالد: القديم والموروث من المال.
(3)
فى الأصل: نصبر.
(4)
يريد: انتصر.
(5)
فى الأصل: وإسلامهم لنا.