الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما انتهت وحل محلها تعصب وطنى استشعره المسالمة والمولدون والمسيحيون إذ داخلهم عصبية التعصب لوطنهم والشعور بأن العرب والبربر الأندلسيين غرباء أجانب، مما هيأ لثورات عبد الرحمن بن الجليقى فى بطليوس وعمر بن حفصون فى ببشتر وكثيرين غيرهما، واستطاع عبد الرحمن الناصر القضاء على هذه الثورات واستعادة وحدة الأندلس. ونتوقف قليلا بإزاء
الحضارة
والغناء والمرأة فى الأندلس.
الحضارة
كانت حياة أهل إيبيريا قبل الفتح العربى أقرب إلى حياة البداوة، وظل المسيحيون فى القسم الجبلى بالشمال يعيشون هذه الحياة لوعورة موطنهم، ولما تقوم عليه حياتهم من شظف وخشونة، وظل العرب والبربر وأهل الأندلس جميعا يعيشون نفس هذه المعيشة المتبدية زمن الولاة، غير أنهم أخذوا فى التحضر زمن الدولة الأموية لما ساد حياتهم من أمن واستقرار، وأخذوا يخطون فى ذلك خطوات قوية منذ عهد عبد الرحمن الأوسط (206 - 238 هـ). بسبب شغفه بحضارة العرب المادية فى المشرق مما دفع تجار قرطبة إلى استيراد أدواتها ونفائسها، وفى ذلك يقول ابن سعيد فى ترجمته بكتاب المغرب:«فى أيامه دخل الأندلس نفيس الجهاز من ضروب الجلائب لكون ذلك نفق عليه وأحسن لجالبيه، ووافق زمنه انتهاب الذخائر التى كانت فى قصور بغداد عند خلع الأمين فجلبت إليه» .
وحاكاه أهل قرطبة والأندلس فى العناية بالفرش والرّياش وأدوات الزينة، ولم يلبث أن أنشأ بقرطبة دار طراز لصنع المنسوجات والملابس الأنيقة، وأخذت تنشأ هناك صناعة الحلى والحقاق والتحف والأوانى والأثاث. وسرعان ما أخذ المجتمع القرطبى يتحضر فى المعاش والحياة الاجتماعية وآدابها فى المأكل والملبس والتزين وكان من أهم العوامل فى ذلك وفود زرياب غلام إسحق الموصلى فى أول عهد عبد الرحمن الأوسط الذى احتفل به احتفالا عظيما وقد علّم الأندلسيين الأكل على الموائد بالملاعق والسكاكين بدلا من الأصابع مع تفضيل آنية الزجاج، وأضاف إلى أطعمتهم ألوانا جديدة من أطعمة بغداد، وعلم المرأة الأندلسية كيف تتزين وما تتخذ من عطور ومن ضروب الثياب وكيف تتفنن فى تصفيفات شعرها وكيف تسدله على جبهتها وجوانب وجهها، وعلم الرجال آدابا مختلفة فى اتخاذ الثياب وتقصيرها وتضييق الأكمام وإرسال شعرهم وراء آذانهم، وأيضا كيف يتأنقون فى فرشهم وتأثيث بيوتهم. (1)
(1) انظر فى هذا الدور الحضارى لزرياب النفح للمقرى (تحقيق د. إحسان عباس) 3/ 127 وما بعدها.
وأخذت الأندلس تخطو خطوات واسعة فى الحضارة المادية، وساعدها على ذلك ثراؤها لوفرة الأنهار فيها والثمار والضّرع والزرع والبساتين وكثرة المعادن، ولا حظ ذلك كل من زاروها من رحالة المشرق فقالوا إن خيراتها كثيرة وليس بها شحاذ ولا متسول، وهيأ هذا الثراء فيها وما كان يجنيه حكامها من الضرائب للتفنن فى بناء القصور منذ عهد عبد الرحمن الأوسط وابنه محمد حتى إذا كنا فى عهد عبد الرحمن الناصر وجدناه لا يبنى قصرا أو قصورا متعددة فحسب، بل يبنى مدينة الزهراء بجوار قرطبة على سفح جبل العروس وقد ظل عشرة آلاف عامل ينهضون ببنائها لمدة خمسة وعشرين عاما، وكانت الطبقة الدنيا فيها بساتين وحدائق، وفى الطبقة الوسطى دور الموظفين، وفى الطبقة العليا قصره وقاعته الكبيرة المزدانة بأعمدة الرخام وحليّها الذهبية وجوهرة كبيرة تتلألأ فى وسطها سوى ما كان بالمجلس المعروف بمجلس المؤنس من تماثيل لحيوانات من الذهب الخالص. وكان القصر يمتد طولا فى نحو ثلاثة آلاف ذراع وعرضا فى نحو ألف وخمسمائة، وكان به نحو أربعة آلاف عمود من الرخام. ويتضح ثراء الحكم الأموى وأبهته فى بناء المسجد الجامع بقرطبة. ولا تزال روعته ماثلة إلى اليوم على الرغم مما اقتطع منه لكاتدرائية وكنيسة، وقد استغرق وصف روعة المعمار فيه نحو عشرين صحيفة فى كتاب الفن العربى فى إسبانيا وصقلية لفون (1) شاك. وبنى المنصور بن أبى عامر حاجب الخليفة هشام المؤيد بدوره مدينة الزاهرة. ولا يتضح ثراء الحكم الأموى فى بناء الجامع الكبير الذى ظل يعنى الحكام الأمويون حتى عهد المنصور بزخرفته والاتساع به ولا فى بناء القصور وبناء المدن فحسب، فمن أهم صوره الهدايا الفاخرة التى ذكر ابن حيان أن عبد الرحمن الناصر (2) كان يرسل بها إلى أمراء المغرب مثل هديته إلى موسى بن أبى العافية سنة 322 وما كان بها من قطع البزّ العجيب الصنعة والطرف الأنيقة من ثياب وغير ثياب وطيب وغير طيب. وذكر ابن خلدون فى ترجمته للناصر هدية (3) وزيره أحمد بن عبد الملك بن شهيد وما حمل إليه فيها من الذهب، وقد بلغ خمسمائة ألف مثقال وحمل من التبر مثله، سوى كميات كبيرة من سبائك الفضة والعود الهندى والمسك الذكى والعنبر والكافور والثياب الحريرية المرقومة بالذهب والفراء الثمين والملاحف المذهبة للخيل والأبسطة، وأيضا سوى عشرين جارية بكسوتهن وزينتهن وأربعين وصيفا، وسوى ما لا يكاد يحصى من السلاح وعتاق الخيل الكريمة.
(1) انظر الكتاب بترجمة الدكتور الطاهر مكى (طبع دار المعارف) ص 22.
(2)
المقتبس 5/ 238.
(3)
تاريخ ابن خلدون 4/ 138. وانظر أزهار الرياض 2/ 261.
وظل كثير من صور هذا الثراء الواسع ماثلا فى عهد أمراء الطوائف، وهو يتضح فى تنافسهم فى بناء القصور والتفنن فى كل ما يتصل بها من أناقة وتنميق على نحو ما يصور ابن بسام ذلك فى وصفه لقصر المكرم للمأمون بن إسماعيل بن ذى النون حين احتفل فيه بإعذار لحفيده يحيى، ونشعر كأننا انتقلنا إلى قصر مسحور من قصور ألف ليلة وليلة لكثرة ما فيه من ضروب الديباج والطنافس والستائر المزركشة وأزر الحيطان المرمرية وما عليها من تماثيل وصور لحيوانات وأطيار وأشجار وثمار، سوى بحيرتين فى القصر صفّت عليهما تماثيل أسود من الذهب والمياه تنساب من أفواهها. ونعجب أن ينفق أمير طليطلة-وهو أقرب أمراء الأندلس إلى ملوك قشتالة والنصارى عامة-هذه القناطير المقنطرة من الذهب على قصره المكرم، ولا يكاد يبقى فى خزائنه ما لا يشترى به سلاحا للقاء أعدائه، وما هى إلا سنوات حتى سقطت طليطلة من يد حفيده يحيى فى حجر ألفونس السادس ملك قشتالة. ولم يكن المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية يقل عن المأمون فى طليطلة إسرافا فى بناء قصوره والإنفاق على حظاياه ومجالس أنسه الكثيرة وكان مشغوفا بزوجته اعتماد الرميكية وفى نفح الطيب أنها رأت يوما بإشبيلية نساء البادية حولها يبعن اللبن فى القرب، وهن رافعات-فى الطين-ثيابهن عن سوقهن، فقالت له:
أشتهى أن أفعل مثلهن أنا وجوارىّ فأمر بعنبر ومسك وكافور وماء ورد، وصيّر كل ذلك طينا فى القصر ومعه قرب وحبال من حرير، وخرجت-هى وجواريها-يخضن فى ذلك الطين. ويحكى عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة أنه حين تنازل عن أمواله ليوسف بن تاشفين كان بينها سفط ذهب فيه عشرة عقود من أنفس الجواهر، وتنازلت أمه عن خمسة عشر عقدا نفيسا. وعلى هذا النحو ظل أمراء الطوائف ينعمون بهذا الترف على حساب الشعب، وحقا كانت هناك طبقة وسطى من التجار والصناع ممن كانوا يقدمون أدوات الترف والنعيم للطبقة الحاكمة وحواشيها من الوزراء والولاة والقواد وكبار رجال الدولة، غير أنه كان وراءها طبقة من العامة تكدح وتنصب لطائفة استأثرت لنفسها بزينة الحياة.
على أنه ينبغى أن لا نبالغ فى صور ما كانت تعيش فيه الطبقة العامة من شظف فى الحياة أو بؤس لكثرة ما كان فى الأندلس من طيّبات الرزق، وقد ظلت تنعم بما فيها من ثراء لعهدى المرابطين الموحدين ونرى آثاره فى بناء السلطان يعقوب الموحدى لجامع إشبيلية ومئذنته «الخير الدا» التى لا تزال قائمة إلى اليوم، أما الجامع فأحاله المسيحيون إلى كنيسة، وما كان أحراهم أن يبقوه متحفا-على مر الزمن-يعرض مهارة الفنان الأندلسى فى المعمار والزخرفة. وحرى بنا أن نذكر أنه كان بالأندلس غابات كثيرة هيأت
لصناعة الأساطيل وازدهار صناعة الأثاث، واشتهرت طرطوشة بصنوبر أحمر صافى البشرة، ومن عيدانه اتّخذ خشب المسجد الجامع بقرطبة. وكانت المعادن كثيرة، ومن أهمها معدن الزئبق فى شمالى قرطبة، ويقول الإدريسى فى القرن السادس الهجرى إنه كان يعمل فيه ما يزيد على ألف عامل، وازدهرت صناعات الحلى والأوانى والحقاق والطرف المعدنية والبرونزية والفضية والملابس والثياب الحريرية، ويقول الإدريسى إنه رأى فى المرّية ثمانمائة دار طراز للحرير تصنع فيها الحلل والثياب والستائر والبسط. ويقول ابن خلدون فى مقدمته عن الأندلس وصناعاتها وقد نزلها فى أواخر القرن الثامن الهجرى:«إنا نجد فيها رسوم الصنائع قائمة وأحوالها مستحكمة راسخة فى جميع ما تدعو إليه عوائد أمصارها كالمبانى والطبخ وأصناف الغناء واللهو من الآلات والأوتار والرقص وتنضيد الفرش والرياش وحسن الترتيب والأوضاع فى بناء القصور وصوغ الآنية من المعادن والخزف وجميع المواعين وسائر الصنائع التى يدعو إليها الترف وعوائده فنجدهم أقوم عليها وأبصر بها، ونجد صنائعها مستحكمة لديهم، وهم على حصة موفورة من ذلك وحظ متميز بين جميع الأمصار لما قدمناه من رسوخ الحضارة أيام الدولة الأموية ودول الطوائف» (1). ومن أكبر الأدلة على استمرار ازدهار الصناعات ومظاهر الحضارة المادية فى الأندلس قصر الحمراء الذى شاده بغرناطة أمراؤها فى الحقب العربية الأخيرة بها، وليس قصرا فحسب بل معرضا خلابا لما وصلت إليه الحضارة الأندلسية من ازدهار، وبه يحيط سور يعلوه شرف للحراسة، وتلقاك بداخله جنة العريف، وهى حديقة كأنها اقتطعت من الفردوس بنافوراتها ومياهها المتدفقة وأشجار البرتقال والريحان بها والأزهار الأرجة، ومن ورائها القصر الفخم وقد فرشت أرضه بالرخام وازدانت حيطان قاعاته وردهاته وغرفه بالآيات القرآنية والأشعار وآلاف الزخارف، وتلقاك أسود فى قاعة حاملة حوضا من الماء ينسكب من أفواهها، وقد استغرق وصف هذا القصر وجنته فى كتاب «الفن العربى فى إسبانيا وصقلية» لفون شاك أكثر من خمسين صفحة، وإنه ليقول وقد أخذت روعته بلبه:
«سعيد من يستطيع زيارة الحمراء إذ سوف تستيقظ فى روحه الأحلام المكبوتة وتحيا الآمال الضائعة (2)» .
(1) المقدمة (تحقيق د. على عبد الواحد وافى) ص 938 وما بعدها.
(2)
انظر الفن العربى فى إسبانيا وصقلية لفون شاك ص 182.