المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌2 - الفتح-عصر الولاة ‌ ‌(أ) الفتح (1) أتمّ موسى بن نصير والى - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٨

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - التكوين الجغرافى والبشرى

- ‌2 - الفتح-عصر الولاة

- ‌(أ) الفتح

- ‌3 - الدولة الأموية

- ‌4 - أمراء الطوائف-المرابطون-الموحدون-بنو الأحمر فى غرناطة

- ‌(أ) أمراء الطوائف

- ‌(ب) المرابطون

- ‌(ج) الموحدون

- ‌5 - المجتمع

- ‌ الحضارة

- ‌الغناء

- ‌المرأة

- ‌6 - التشيع-الزهد والتصوف

- ‌(أ) التشيع

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-الفلسفة-علم الجغرافيا

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) الفلسفة

- ‌(ج) علم الجغرافيا

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب الأندلس-كثرة الشعراء

- ‌(أ) تعرب الأندلس

- ‌(ب) كثرة الشعراء

- ‌2 - الموشحات والأزجال

- ‌(أ) الموشحات

- ‌ ابن عبادة القزاز

- ‌ يحيى بن بقى

- ‌(ب) الأزجال

- ‌ابن قزمان

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ابن عبد ربه

- ‌ ابن عمار

- ‌ابن الحداد القيسى

- ‌الأعمى التّطيلى القيسى

- ‌الرّصافى محمد بن غالب

- ‌ابن زمرك

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌ عبد الملك بن هذيل

- ‌يوسف الثالث

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌ يحيى الغزال

- ‌السّميسر

- ‌اليكّىّ

- ‌5 - الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ حازم القرطاجنى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ابن خاتمة

- ‌2 - شعراء الطبيعة والخمر

- ‌ عبد الرحمن بن مقانا

- ‌ على بن حصن

- ‌ ابن خفاجة

- ‌ محمد بن سفر

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌ محمد بن سوار

- ‌ ابن وهبون

- ‌(ب) رثاء الدول

- ‌ المعتمد بن عباد

- ‌ابن اللبانة

- ‌ابن عبدون

- ‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ ابن العريف

- ‌ ابن عربى

- ‌الششترى

- ‌(ج) شعراء المدائح النبوية

- ‌5 - شعراء الاستنفار والاستصراخ

- ‌ ابن الأبار

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌1 - الرسائل الديوانية

- ‌ البزليانى

- ‌ابن أبى الخصال

- ‌ابن عميرة المخزومى

- ‌2 - الرسائل الشخصية

- ‌حبيب

- ‌ابن الدباغ

- ‌ سهل بن مالك

- ‌3 - الرسائل الأدبية

- ‌رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد

- ‌(أ) رسالة السيف والقلم

- ‌(ب) رسالة النخلة

- ‌(ج) رسالة أهب الشّاء

- ‌رسالتا ابن زيدون: الهزلية والجدية

- ‌رسالة ابن غرسية فى الشعوبية والردود عليها

- ‌رسائل نبوية ومواعظ

- ‌(أ) رسائل نبوية

- ‌ ابن الجنان

- ‌(ب) مواعظ

- ‌منذر بن سعيد البلّوطى

- ‌4 - أعمال نثرية

- ‌طوق الحمامة لابن حزم

- ‌كتابة التاريخ والتراجم الأدبية

- ‌(أ) المقتبس لابن حيان

- ‌(ب) الذخيرة لابن بسام

- ‌مذكرات عبد الله بن بلقّين

- ‌ قصة حى بن يقظان لابن طفيل

- ‌5 - المقامات والرحلات

- ‌(أ) المقامات

- ‌المقامات اللزومية للسّرقسطى

- ‌(ب) الرحلات

- ‌رحلة ابن جبير

- ‌خاتمة

الفصل: ‌ ‌2 - الفتح-عصر الولاة ‌ ‌(أ) الفتح (1) أتمّ موسى بن نصير والى

‌2 - الفتح-عصر الولاة

(أ) الفتح

(1)

أتمّ موسى بن نصير والى المغرب منذ سنة 86 هـ/706 م فتح بلاد المغرب حتى المحيط الأطلسى غربا وجبال السوس الأقصى جنوبا، واتبع موسى سياسة حميدة: أن يرسل مع الجيوش الغازية طائفة من الفقهاء ليدخلوا البربر فى الدين الحنيف ويلقّنوهم تعاليمه، مما عمل على تعريبهم سريعا، وأسس فى بلاد المغرب الأوسط ولاية جعل حاضرتها تلمسان، وأسس فى بلاد المغرب الأقصى ولاية ثانية جعل حاضرتها طنجة المطلة على مضيق الزقاق، وولّى عليها أحد قواده من البربر هو طارق بن زياد. وأبقى موسى على سبتة شرقيها على الزقاق لواليها الرومى البيزنطى يوليان، وكان قد سارع إلى موسى حين وصوله إلى إقليم طنجة سنة 89 هـ/709 م فأعلن له ولاءه وطاعته. ويظن أنه أغراه حينئذ بغزو إيبيريا، وكان ملكها غيطشة Witiza قد توفى سنة 708 م وأبى الأشراف أن يخلفه على العرش أحد أبنائه، وأجلسوا عليه لذريق Roderic حاكم قرطبة، ونشبت حروب بينه وبين أبناء غيطشة، وانتصر عليهم، ويبدو أنهم استغاثوا بيوليان حاكم سبتة البيزنطى حليف أبيهم، ورأى أنه لا قبل له بلذريق وفكّر أن يستعين عليه بالعرب، فأغرى موسى بن نصير-حين لقيه فى طنجة-بغزوها. أما ما يقال من أن دافع يوليان إلى حثّ موسى على هذا الغزو مسألة شخصية هى عدوان الملك الجديد لذريق على ابنته فى قصره وأنه أراد أن يثأر لانتهاك عرضه بحضّ العرب على غزو إيبيريا ففى رأينا أن ذلك من باب الأساطير، والمعقول أن يكون الباعث الحقيقى لموسى بن نصير على غزوها

(1) انظر فى الفتح الصفحات الأولى من أخبار مجموعة (طبع مدريد) وتاريخ افتتاح الأندلس لابن حبيب وأيضا لابن القوطية والجزء الثانى من البيان المغرب لابن عذارى والروض المعطار لابن عبد المنعم الحميرى وتاريخ ابن خلدون (طبع مطبعة بولاق) 4/ 116 وما بعدها ونفح الطيب (طبعة إحسان عباس) 1/ 215 - 220، 231 وما بعدها ونزهة المشتاق للإدريسى بتحقيق دى جويه ودوزى (طبع ليدن) ص 177 وتاريخ إسبانيا الإسلامية لبروقنسال 1/ 8 وما بعدها والصفحات الأولى من دولة الإسلام فى الأندلس لمحمد عبد الله عنان وفجر الأندلس لحسين مؤنس ص 52 وما بعدها والتاريخ الأندلسى لعبد الرحمن الحجى ص 43 وما بعدها.

ص: 16

أو بعبارة أدق على فتحها أنه سأل عنها وعرف كثيرا من أحوالها الجغرافية والسياسية وأن ليس بها جيش حقيقى يحميها، فتطلع للاستيلاء عليها ونشر الإسلام بها، وشاور فى ذلك الخليفة، وكان الوليد بن عبد الملك، وكان مثله شديد الطموح للفتوح وكانت جيوشه تتغلغل فى أقصى الشرق: فى أواسط آسيا وفى الهند، فشجع موسى، غير أنه أمره بالتمهل حتى يرسل حملات استكشافية، يتبين بها أين ينزل الجيش الفاتح وكيف يتحرك.

وندب موسى لهذه المهمة قائدا من قواده هو طريف فعبر-مع أربعمائة من الجند ومائة فارس-إلى الشاطئ الإيبيرى فى سنة 91 هـ/710 م ونزل فى موضع أقيمت به بلدة سميت باسمه، ولا تزال قائمة إلى اليوم، وقام طريف بعدة غارات تبين له منها أنه لا توجد بجنوبى إيبيريا وسائل دفاع تحميها. واستدار العام فرأى موسى أن يرسل حملة أكثر عددا بقيادة طارق بن زياد والى طنجة، فعبر فى سنة 92 هـ/711 م مضيق الزقاق بجيش عداده سبعة آلاف، وتجمعوا عند جبل سمّى فيما بعد إلى اليوم جبل طارق. ويقال إن عبور هذه الحملة للمضيق-مثل عبور سابقتها-إنما كان بسفن أعدّها يوليان، ويدحض ذلك أنه كان لموسى بن نصير والعرب حينئذ أسطول يحمى شواطئ إفريقيا من الأسطول البيزنطى وأقيمت له دار صناعة كبيرة بتونس، وما دام موسى قد عزم على فتح إيبيريا فلا بد أنه أمر أسطوله بالتوجه غربا ليعبر-بحملة طريف ثم بحملة طارق-مضيق الزقاق، أما قصة عبور الحملتين على سفن يوليان فلا يؤيدها منطق الأحداث، وهى-فى رأينا-تكملة لما نسجه الخيال الشعبى من سخط يوليان على لذريق بسبب اعتدائه المزعوم على ابنته. ومما يتصل بهذا القصص الأسطورى عن فتح الأندلس الخطبة البليغة التى أضيفت إلى طارق، وقيل إنه ألقاها على جنوده بعد عبورهم مباشرة مفتتحا لها بقوله:«أيها الناس! أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم فليس لكم والله إلا الصدق والصبر» والخطبة من روعة البيان بحيث يبعد أن ينشئها مغربى تعرّب حديثا مثل طارق، غير أنها شاعت بين الأندلسيين شيوعا أعدّ الخيال الشعبى ليضيف إليها أسطورة إحراق طارق للسفن التى جاز بها مع جنده إلى الشاطئ الإيبيرى، وهى لو صحت لكانت عملا طائشا، وهو عمل لا يمكن أن يقدم عليه أى قائد يقدر مسئولياته وتبعاته. ومما يؤكد أنها مختلقة ومن نسج الخيال الشعبى أنها لم ترو فى كتب التاريخ الأندلسى طوال خمسة قرون وأن أول من رواها الإدريسى الجغرافى المتوفى سنة 560 للهجرة فى كتابه نزهة المشتاق.

ص: 17

وانحدر طارق بجيشه غربا مارّا برأس بارز على الزقاق، أقيمت به-فيما بعد- مدينة الجزيرة الخضراء، وتابع مسيرته على المحيط، وعلم أن لذريق يعدّ جيشا للقائه، فأرسل إلى موسى بن نصير يستمدّه، فأمدّه بخمسة آلاف بقيادة طريف، جازوا المضيق فى سفن عربية، ولم يلبث طارق أن التقى مع لذريق فى السهول المنبسطة شرقى قادس وهزمه هزيمة ساحقة، جعلت كثيرا من مدن إيبريا تفتح أبوابها لطارق وجنده، بينما فرّ لذريق إلى الشرق، وقتل على نهر شقورة. وأرسل طارق أحد قواده إلى قرطبة فاستولى عليها. وتمادى طارق فى الفتح حتى طليطلة عاصمة لذريق والقوط، فألقت له عن يد، وفرّ منها الأسقف والقساوسة يحملون مذبح كنيستها، ولحقت بهم كتيبة عربية عند بلدة صغيرة واستولت منهم على المذبح وذخائر كثيرة، وقيل لهم إنه مائدة سليمان، فسميت البلدة بعد ذلك باسم المائدة. وأخذت تشيع-منذ فتح طليطلة-أسطورة شعبية، مؤداها أنه كان بها بيت مطلسم عليه أقفال كثيرة أمر بفتحه لذريق، فوجده فارغا إلا من تابوت مغلق وجد فيه لفائف مدرجة رسمت فيها صور عرب مدججين بالسلاح وفى أعلاها كتابات بالعجمية تشير إلى أن أمة الرجال المصورين ستغلب على الأندلس حين تكسر أقفال هذا البيت، وواضح أنها أسطورة مختلقة ولا أساس لها من حقيقة.

ولما بلغ طارق طليطلة فى وسط إيبيريا رأى موسى بن نصير أن يسير إليه فى قوة كبيرة ليشد أزره ويثبّت فتحه ويمكّن له، وحين نزل بجنده الجزيرة الخضراء بنى بها مسجدا، وظل كلما دخل بلدة كبيرة أسس بها بيتا من بيوت الله، وكان قد استقدم معه مهندسا معماريا لبناء تلك البيوت أو المساجد، واتبع فى إيبيريا ما اتبعه فى المغرب من تكليف بعض الفقهاء الداخلين معه تعليم أهل إيبريا القرآن الكريم وفرائض الإسلام.

ومضى بجيشه غربا يتمم فتوح طارق واستولى على شذونة وإشبيلية وقرمونة وماردة ولقنت وانتهى إلى طليطلة، ويقول بعض المؤرخين خطأ إنه كان قد امتلأ غيظا وحقدا على طارق لما فتح الله على يديه من البلاد، وزعموا أنه حين لقيه-بدلا من تهنئته بانتصاراته-شدّ وثاقه وهمّ بقتله، وكل ذلك يخالف الأحداث، ولم يكن موسى من الطيش والحمق بأن يصنع ذلك بطارق الجدير بكل شكر وثناء. ويدل أقوى الدلالة على صحة ما نقول أن طارقا ظل الساعد الأيمن فى استكمال الفتح.

وأقام موسى مع طارق فى طليطلة طوال الشتاء فى سنتى 94، 95 هـ/713 - 714 م.

وضرب للبلاد عملة جديدة تحمل على أحد وجهيها شهادة أن لا إله إلا الله، وبذلك كان أول عربى حكم قطرا أوربيا، وجاءه نبأ بانتقاض إشبيلية فأرسل إليها ابنه عبد العزيز

ص: 18

فأخمد الانتقاضة، واستولى غربيها على لبلة وباجة. وكان مما كتب به موسى بن نصير إلى الخليفة يبشره بالفتوح قوله:«إنها ليست الفتوح ولكنه الحشر ولكنها الجنة» . وخرج فى ربيع سنة 95 هـ/714 م-ومعه طارق-بالجيش إلى الشمال لإيبيريا قاصدا سرقسطة مفتاح منطقة وادى نهر إبرو، واستولى عليها كما استولى على لاردة شرقيها، وجاءه حينئذ أمر من الخليفة الوليد بن عبد الملك بوفوده عليه مع طارق لتقديم تقرير مفصل إليه عن الفتوح، ورأى أن يؤخر الوفود عليه بضعة أشهر حتى يستكمل فتح إيبيريا، إذ رأى بلدانها ومعاقلها فى الشمال تستسلم له دون مقاومة تذكر. وللإسراع بالفتح أمر طارقا أن يتجه بجنده إلى الشمال الشرقى فاستولى على أراجون، واتجه موسى إلى الشمال الغربى، ولحق به طارق بعد استيلائه على أراجون، واستولى فى طريقه على ليون بمنطقة قشتالة، وتوغل موسى فى مسيرته وعبر جبال كنتبريه، واستولى على حصن أبيط فى أقصى الشمال، ووصل إلى خليج بسقاية (بسكاى) على المحيط. وأحس أنه أنهى فتح إيبيريا إذ استولى مع طارق على أقاليم قطالونيا فى الشرق وأراجون والبشكنس وقشتالة وجليقية فى الشمال إلى أقصى الغرب. فرأى أن يلبّى مع طارق أمر الخليفة بوفودهما عليه، وأناب عنه فى حكم البلاد ابنه عبد العزيز. ومن سوء حظهما أن الموت كان قد أسرع إلى الخليفة الوليد، وخلفه أخوه سليمان فلم يحسن لقاء الفاتحين العظيمين، ولم يعودا بعد ذلك إلى إيبيريا، ولا عرف مصيرهما، ويقال إن موسى حجّ مع سليمان سنة 97 هـ وإنه توفى بالطريق فى المدينة أو فى وادى القرى، أما طارق فيبدو أنه عاد إلى موطنه مكتفيا بما أدى فى سبيل الله من جهاد وفتوح عظيمة.

وكان موسى وطارق قد استوليا على أهم البلدان فى إيبيريا، وبقيت فيها بلدان وجهات لم تخضع لهما، فأخضعها ابنه عبد العزيز فى ولايته القصيرة قبل؟ ؟ ؟ مقتله:

(95 - 97 هـ). وكان قد اتخذ إشبيلية عاصمة له، واتجه منها إلى الغرب فاستولى على باجة ويابرة وشنترين وقلمرية، وبذلك استكمل فتح غرب إيبيريا، وكانت لا تزال فى الجنوب الشرقى جهات وبلدان لم تخضع للعرب خضوعا تاما، فرأى عبد العزيز أن يخضعها، وبدأ بمالقة فاستولى عليها كما استولى على غرناطة، وولى وجهه؟ ؟ ؟ نحو إقليم مرسية، ولم تكن أنشئت فيه إنما أنشئت فيما بعد، وكانت أريولة عاصمة هذا الإقليم، وكان يحكمه قائد قوطى تسميه المصادر العربية تدمير، فامتنع فى مدينته وصمد لحصار المسلمين، حتى إذا لم يبق فى قوس صبره منزع لجأ إلى حيلة، هى نشر نساء مدينته لشعورهن ووقوفهن على سور المدينة وبأيديهن القضبان إيهاما للمسلمين بأنه لا يزال فى المدينة عدد

ص: 19

ضخم من الرجال البواسل المتهيئين لمواصلة القتال، وخرج هو وطلب لقاء قائد المسلمين عبد العزيز، فاستأمنه، فأمّنه، وعقد له الصلح ولأهل بلده على إتاوة وجزية يؤدونهما. وفى رأينا أن هذه الحيلة للاستئمان تعدّ-بدورها-من أساطير الفتح الشعبية الكثيرة التى كانت تتداول فى إيبيريا. إذ يكفى أن يخرج هذا القائد بعد حصار طويل لقائد المسلمين المحاصرين لبلدته ويطلب الأمان له ولمدينته فيجاب إلى طلبه كما حدث كثيرا فى الفتوح الإسلامية.

(ب) عصر (1) الولاة (95 هـ/714 - 138 هـ/755 م)

عملت عوامل متعددة على كثرة الاضطرابات فى هذا العصر، منها كثرة العناصر التى تكوّن منها الشعب فى الأندلس، إذ كان منه أسبان مختلفو الجنسيات كما أسلفنا ويهود، وحلّ به بربر كثيرون وهم ينقسمون إلى قبيلتين كبيرتين: البتر والبرانس، كما حلّ به العرب وهم ينقسمون بدورهم إلى عدنانية أو مضرية ويمنية أو قحطانية، وكانت بينهما خصومات قديمة أشعلتها فى العصر الأموى حروب قيس المضرية وكلب اليمنية فى موقعة مرج راهط، واستعادت القبائل العربية فى الأندلس هذه الخصومات سريعا. وكان البربر البتر يأخذون صفّ العدنانية والقيسية، بينما البربر البرانس كانوا يأخذون صفّ القحطانية وكلب اليمنية، وكان الوالى على الأندلس إذا كان يمنيا أو كلبيا تعصب لقومه، وبالمثل إذا كان عدنانيا أوقيسيا مما هيأ لكثرة الاضطرابات والقلاقل فى تلك البلاد.

وعامل ثان هيّأ لها هو كثرة تعيين الولاة هناك حتى بلغوا فى نحو أربعين عاما اثنين وعشرين واليا، فلم يكن الوالى يشعر بشئ من الاستقرار. وعامل ثالث هيأ بدوره لكثرة الاضطرابات فى الأندلس هو بعدها عن السلطة المركزية فى دمشق، فكان الخلفاء الأمويون لا يعرفون شئونها معرفة واضحة، مما جعلهم يكلون تعيين ولاتها إلى ولاتهم على المغرب، مع أنها كانت أكثر من المغرب ثراء وخراجا، وكانت تنعم بغير قليل من الحضارة، بينما أهل المغرب كانوا-وخاصة فى الداخل بعيدا عن الشواطئ-بدوا غير متحضرين، وكان أهل الأندلس يأنفون من هذه التبعية، والخليفة الوحيد الذى تنبه إلى

(1) انظر فى ولاة الأندلس بعد الفتح كتاب الأخبار المجموعة وافتتاح الأندلس لابن القوطية والجزء الثانى من البيان المغرب لابن عذارى وتاريخ ابن خلدون 4/ 118 ونفح الطيب 1/ 234 وما بعدها و 3/ 14 وما بعدها وفجر الأندلس لحسين مؤنس ص 122 وما بعدها والتاريخ الأندلسى لعبد الرحمن الحجى ص 131 وما بعدها.

ص: 20

ذلك هو عمر بن عبد العزيز، إذ فصل ولاية الأندلس عن ولاية المغرب، وولّى عليها سنة مائة للهجرة السمح بن مالك، فطبق سياسة عمر فى إنصاف الإسبان المغلوبين والمساواة فى الحقوق بينهم وبين المسلمين من العرب والبربر، ودفع الناس بقوة إلى الجهاد فى سبيل الله وراء جبال البرينيه فى غالة (فرنسا) وتوالت انتصاراته حتى مدينة تولوز، وثبّت أقدام المسلمين فى ولاية سبتمانية جنوبى فرنسا وعاصمتها أربونة بحذاء البحر المتوسط، ولم يلبث ان استشهد فى آخر سنة 102 للهجرة.

وكان عمر بن عبد العزيز قد توفى قبل السمح فعادت الأندلس تابعة لوالى المغرب، فولى عليها عنبسة الكلبى، واقتدى بالسمح فى متابعة الجهاد وراء جبال البرينيه واستولى على قرقشونة فى داخل سبتمانية، وتوغل فى وادى نهر الرون حتى سانس على بعد 70 كيلو مترا من باريس واستشهد سنة 107 وولّى عليها والى المغرب يحيى بن سلمة الكلبى وظل عليها حتى سنة 110 وكان شديد العصبية-مثل عنبسة الوالى قبله- لقبيلته كلب اليمنية، ولقيت قيس المضرية منهما الأمرين، وولى بعدهما ولاة قيسيون كالوا لكلب الصاع صاعين أهمهم الهيثم الكلابى وله بلاء حسن فى الجهاد بأرض غالة، ويقال إنه توغل فيها حتى ماسون شمالى ليون. ووليها عبد الرحمن الغافقى فأعاد إلى الأندلس الهدوء والنظام وقاد جيشا كبيرا لغزو غالة، وواصل انتصاراته بين نهرى جرونة ودوردونى، ومضى فى اتجاه اللوار وكان شارل مارتل قد حشد له جيشا كثيفا من الفرنج والألمان وشعوب الشمال الأوربى، والتقى به لسنة 114 هـ/732 م بين تور وبواتييه على بعد مائتى كيلو مترا من باريس، وصمد المسلمون عشرة أيام ينازلون أعدادا ضخمة، وفجأهم استشهاد قائدهم عبد الرحمن فى المعركة فانسحبوا. وولى الأندلس عبد الملك بن قطن الفهرى لمدة سنتين وخلفه عليها سنة 116 عقبة بن الحجاج القيسى وظل يليها خمس سنوات محمود السيرة، ورابط فى جليقية بأقصى الشمال الغربى من إيبيريا حتى لم يبق فيها قرية إلا فتحت ما عدا حصن بلاى بالقرب من خليج بسكاى لوعورة الطريق إليه، وتخطى جبال البرينيه إلى سبتمانية وعسكر بجيشه فى عاصمتها أربونة وتقدم على نهر الرون واستشهد فى قرقشونة. وباستشهاده يتوقف هذا المد العربى الإسلامى وراء جبال البرينيه فى غالة (فرنسا) بعد استمراره عشرين سنة أو تزيد، سجل فيها العرب صفحات انتصار مجيدة بجانب انتصاراتهم وفتوحاتهم العظيمة فى إيبيريا.

وإنما عاق العرب عن المضى فى هذه الفتوحات والانتصارات ما أفضوا إليه فى الأندلس-منذ أول العقد الثالث فى القرن الثانى-من عصبيات عنيفة أخذت تضطرم

ص: 21

اضطراما شديدا لا بين العرب المضرية واليمنية فحسب، بل أيضا بين العرب أنفسهم والبربر وكانت قد اندلعت العصبية بينهما فى المغرب، واضطر هشام بن عبد الملك أن يرسل جيشا ضخما بقيادة كلثوم بن عياض القشيرى وابن أخيه بلج بن بشر لإخماد ثورة ضارية للبربر، فهزم الجيش مرارا، واضطرت قوات منه تبلغ عشرة آلاف كان يقودها بلج بن بشر أن تلجأ إلى مدينة سبتة، وحاصرها البربر وأصابها جوع قاتل فكاتب بلج بن بشر والى الأندلس أن يسمح له بدخولها مع جنده، فتردد، وكان قد تطاير شرر كثير من فتنة البربر بالمغرب إلى إخوانهم فى الأندلس لإبعاد العرب لهم عن أداة الحكم ولما ينزلونه بهم من عسف، فثاروا فى بلدان كثيرة هناك وخشى الوالى مغبة ذلك فسمح لبلج بن بشر أن يدخل الأندلس سنة 123 بآلافه العشرة. وتعاون مع الوالى فى القضاء على ثوراتهم، مما جعلهم يتنادون-وخاصة فى شمال البلاد-بالرجوع إلى موطنهم فى المغرب. وكانت من البربر كثرة فى جليقية وحوض نهر الدّويرة وفى الأراضى الواقعة شمالى نهر تاجه، فتركوا تلك الديار جميعا تنعى أهلها، وكان لهذه الهجرة البربرية الجماعية أسوأ الأثر على مستقبل الإسلام لا فى الأندلس وحدها بل أيضا فى ساحات الجهاد والفتوح خلف جبال البرينية فى غالة، فقد توقف هذا الجهاد، وليس ذلك فحسب، إذ ضاعت جليقية وأراضى حوض نهر الدويرة أو أشرفتا على الضياع، فقد تركها المغاربة لنصارى الشمال، وأوشك أن يكون ما تركوه وخسره الإسلام نحو ربع إيبيريا، تركوه للنصارى دون حرب أو ما يشبه الحرب، ليتجمع النصارى فيه ويعمروه ويغيروا على المسلمين منه طوال القرون التالية ويخرجوهم من ديارهم وفردوسهم الأرضى.

ولم يلبث بلج بن بشر أن اشتبك بعد ذلك مع جنوده الشاميين فى حروب مع والى الأندلس وجنوده من العرب الفاتحين، وسموا أنفسهم البلديين تمييزا لهم من هؤلاء الشاميين الطارئين. وانتصر بلج ولم يلبث أن توفى وعادت الحرب جذعة بين العرب الشاميين والعرب البلديين ومن انضم إليهم من البربر المستقرين فى الأندلس إذ كانوا يرون أنفسهم-مثل العرب البلديين-أحق بالأندلس وخيراتها. وهاجت الفتن والحروب بين الفئتين، وولى-من قبل والى المغرب-أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبى، وحاول أن يعيد إلى الأندلس الهدوء والنظام، غير أنه أفرط فى التعصب لقومه من كلب واليمنية ضد القبائل المضرية والقيسية ونشبت فتنة ضارية، فخلع سنة 128، ولم تهدأ البلاد، فقد احتدمت الفتنة بين اليمنية والمضرية وأيضا بين العرب الشاميين والبلديين، واستطاع الصميل بن حاتم زعيم المضرية أن يضم تحت لوائه قومه ومعهم

ص: 22