الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طريقة الأدباتية أصحاب الكدية ممن يصفون فى أشعارهم بؤسهم وحرمانهم وما يسود حياتهم من ضنك وفقر وإقلال طلبا للنوال، وكان له ابن رحل إلى غربى الأندلس وعرف أنه عاش هناك للمجون والشراب فكتب إليه رسالة طويلة حاكى فيها الجاحظ مستمدا من رسالته التربيع والتدوير وما فيها من هزل، وقد ذكر منها ابن بسام فصولا فى ترجمته له (1). ولأحمد بن عباس وزير زهير صاحب المرية المقتول معه سنة 429 رسالة هزلية بديعة فى وصف رسول بكتاب أرسله إليه أبو المغيرة بن حزم، ورد على رسالته أبو المغيرة مستوحيا شيئا من هزله (2)، وسنلم لابن شهيد برسالته: التوابع والزوابع وما فيها من سخرية وأيضا بالرسالة الهزلية لابن زيدون. ويذكر ابن بسام لابن طاهر الذى ألممنا به طائفة من رسائله فى الدعابة والهزل، ومرت بنا رسالة أبى الحسين سراج بن عبد الملك فى الشفاعة التى بناها على الدعابة لشخص يسمى الزريزير مستغلا فى وصفه طائر الزرزور، وكأنه هو نفس هذا الطائر، وطارت شهرة الرسالة-كما أسلفنا-فى الأندلس وحاكاها كثيرون من أعلام الكتابة بغرض الفكاهة والدعابة. وهو جانب واسع فى الرسائل الشخصية الأندلسية مثل وصف الطبيعة والجهاد والحرب. وحرىّ بكل جانب من هذه الجوانب أن تجمع رسائله مع مقدمة تحليلية توضح روعته الأدبية، وحسبنا الآن أن نلم ببعض رسائل أدبية اشتهرت للأندلسيين.
رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد
ابن شهيد (3) هو أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن عبد الملك بن شهيد الأشجعى القرطبى، فهو من أصل عربى، كان جده الأعلى عبد الملك بن شهيد وزيرا للأمير محمد (238 - 273 هـ) ووز ابنه أحمد لعبد الرحمن الناصر ولقبه بذى الوزارتين ومر بنا فى الفصل الأول ذكر هدية نفيسة له إلى الناصر تدل على أنه كان من أكثر أهل قرطبة ثراء، وولد له فى سنة 323 ابنه عبد الملك وأصبح فيما بعد وزيرا للمنصور بن أبى عامر، وولاه على الولايات الشرقية: بلنسية ومرسية مدة تسع سنوات، وعاد مضيفا منها إلى ثرائه
(1) الذخيرة 1/ 549.
(2)
الذخيرة 1/ 645 وما بعدها.
(3)
انظر فى ترجمة ابن شهيد اليتيمة 2/ 35 والجذوة 124 والمطمح 16 والذخيرة 1/ 191 - 336، 437 والبغية رقم 437 والخريدة 2/ 555 ومعجم الأدباء 2/ 218 وابن خلكان 1/ 116 والوافى للصفدى 7/ 144. ونشر شعره يعقوب زكى بالقاهرة وشارل بلا فى بيروت وللأخير محاضرات عنه بجامعة عمان.
الموروث عن أبيه ثراء واسعا، واصطفاه المنصور بن أبى عامر لنفسه مستشارا وجليسا.
ونقل سكناه إلى جواره. وكان قد رزق بابنه أحمد سنة 382 فنشأ فى نعيم نشأة مترفة وضاعف ترفها رعاية ابن أبى عامر وحظياته له، فكان لا يزال يغدو ويروح إلى قصوره مختلطا بأحفاده. وعنى أبوه بتربيته. ومنذ نعومة أظفاره كان عنده نهم للأدب والمعارف، يقول فى فواتح رسالة: التوابع والزوابع: «كنت أيام كتّاب الهجاء أحن إلى الأدباء وأصبو إلى تأليف الكلام. فابتعت الدواوين وجلست إلى الأساتيذ، فنبض لى عرق الفهم، ودرّ لى شريان العلم. . فطعنت ثغرة البيان دراكا، وأعلقت رجل طيره أشراكا، فانثالت لى العجائب وانهالت علىّ الرغائب» . ويضيف إلى ذلك فى إحدى رسائله أنه درس ضروب العلم المختلفة من أدب وخبر وفقه وطب وكيمياء وحكمة. وبينما هو غارق فى النعيم وفى تثقيف نفسه إذ النكبة تحل بأسرة ابن أبى عامر سنة 399 وكان قد توفى منذ سبع سنوات. وولى الحجابة المظفر ابنه فسعدت الأندلس والرعية به، غير أن القدر لم يمهله، فتوفى سنة 399 وخلفه أخوه الناصر عبد الرحمن وكان نحسا على نفسه وانهمك فى الشرب والزندقة والطعن فى الدين الحنيف، فقتل سريعا. وانفتح باب الفتنة التى قضت على الدولة الأموية ودمّرت فيها قرطبة وأحرقت المدينتان المحدثتان بجوارها: الزهراء والزاهرة، وسفكت الدماء بقرطبة وظلت تنزف طويلا. وترك ذلك آثارا عميقة فى نفس ابن شهيد فقد اندكّت صروح آماله ومطامحه، وداخله أسى عميق لما نزل بمدينته وبأسرة بنى أبى عامر، ولما رأى فى أثناء ذلك من انتهاك القيم واختلال الموازين، فأكبّ على كئوس الخمر واللذات يغرق فيها همومه محاولا أن ينساها أو يتسلى عنها، وأنّى له، إذ كانت تتجدد كل يوم، فكيف يحتمل الحياة إنه ليس أمامه إلا أن يسرف على نفسه فى الخمر وما يتصل بها من اللذات، لعلها تخفف عنه محنته وما يطبق عليه من أحزان.
وتصادف أن أصابه الصمم مبكرا، فتضاعف حزنه وهمه، وتضاعف إقباله على الخمر والمجون حتى ليقول ابن حيان:«غلبت عليه البطالة فلم يحفل فى آثارها بضياع دين ولا مروءة حتى أسقط شرفه ولم يقصر عن ارتكاب قبيحة» ويقول ابن بسام: «كان بقرطبة فى رقته وبراعته وظرفه خليعها المنهمك فى بطالته وأحطّ الناس فى هوى نفسه وأهتكهم لعرضه وأجرأهم على خالقه» . وكان الشعر قد انثال على لسانه مبكرا، كما أخذت تظهر مخايل نبوغه الأدبى، وسرعان ما أصبحت داره منتدى لأترابه من الشباب القرطبيين المتأدبين أمثال ابن حزم وابن عمه أبى المغيرة عبد الوهاب وابن برد الأصغر وأبى عامر بن المظفر بن أبى عامر وابن عمه المؤتمن عبد العزيز. ويقدم غير مدحة
للخليفة المستعين الأموى (400 - 407 هـ) ويشكو له ممن يتهمونه بسرقة الشعر كذبا وبهتانا. وفتك بالمستعين قائده على بن حمود الحسنى واستولى على صولجان الخلافة وانعقدت صلة بين ابن شهيد وكاتبه أبى جعفر اللمائى، وفتك بابن حمود غلمانه سنة 408 وخلفه أخوه القاسم وخلعه ابن أخيه يحيى بن على بن حمود سنة 412 وكان قد اتخذ وزيرين أبا عبد الله بن الفرضى وابن فتح جعفر بن محمد وأفسدا العلاقة بينه وبين ابن شهيد مما جعله يزجّ به فى غياهب السجن فترة ظل فيها يستعطفه حتى رد إليه حريته.
وكان ابن شهيد يختلف إلى مجالس أبى العباس بن ذكوان المتوفى سنة 413 وفيها انعقدت صلة بينه وبين ابنه أبى بكر وكان مثله رقاعة وخلاعة، وتعرف على ابن الحناط الكفيف الذى كانت ترعاه أسرة بنى ذكوان، واصطدم به، وربما كان من أسباب ذلك أنه كان يوالى بنى حمود ويقدم إليهم مدائحه بينما كان ابن شهيد يوالى بنى أمية، وأيضا ربما رجع ذلك إلى المنافسة الأدبية، فنشبت بينهما مناقضات نظما ونثرا استمرت طويلا. ولم يكن يؤذيه شئ مثل اتهامه بالسرقة فى شعره ونثره، وبلغه أن أبا بكر محمد بن القاسم إشكمياط (فى كتاب المغرب: إشكنهاط) يتهمه بالسرقة فى نثره، فكتب إليه محنقا رسالة عنيفة، قال فيها:«لأقطعن حبالك هاجرا، ولأتركن ليلك ساهرا» . ويصبح صديقه الأمير عبد الرحمن بن هشام الأموى خليفة فى سنة 414 ويتلقب بالمستظهر، ويتخذه مع صاحبه ابن حزم وزيرين، وأحسّ ابن شهيد أن الدنيا تبتسم له بعد طول العبوس، غير أن ابتسامتها سرعان ما غاضت بعد سبعة وأربعين يوما، إذ خلف المستكفى الأموى المستظهر، وعادت الهموم تطبق عليه. وكان يحيى بن على بن حمود قد انسحب إلى مالقة، ففكر ابن شهيد أن يهاجر إليها كما تدل على ذلك قصيدة فى ديوانه، ونظن أنه زار حينئذ مجاهدا أحد فتيان العامريين الصقالبة وكان قد أسس له إمارة فى دانية بشرقى الأندلس سنة 412 غير أنه ازورّ عنه فيما يبدو لاختلاف مسلكهما فى الحياة، إذ لم يكن مجاهد يأخذ نفسه بشئ من اللهو، بل على العكس كان منصرفا إلى الجد والعناية بالعلماء والقراء.
وعاد ابن شهيد إلى قرطبة ولم يلبث يحيى بن على بن حمود أن قدم إليها بجنوده من مالقة واستولى على أزمة الأمور بها سنة 416 وقدّم إليه ابن شهيد بعض مدائحه غير أن وزيريه ابن فتح وابن الفرضى ظلا يغلقان أبوابه فى وجهه. واستدار العام، فانصرفت قرطبة عن ابن حمود وبايعت لأموى هو الخليفة المعتدّ وظل بعيدا عنها يتنقل فى الثغور نحو ثلاث سنوات. وكان صديق ابن شهيد المؤتمن العامرى أصبح أميرا على بلنسية منذ
سنة 417 فتراسلا مرارا، وألحّ عليه المؤتمن أن يترك قرطبة إلى بلنسية، فاعتذر إليه بشعر رقيق يصور فيه شغفه بقرطبة مع ما أصابها من المحن والخطوب والدمار وتفجّع لها وتوجع فى أسى مرير. ويقرّبه الخليفة المعتدّ ويتخذه جليسا وسرعان ما يتقوض حكمه وتتقوض معه الدولة الأموية سنة 422 ويستولى على مقاليد الأمور بها أبو الحزم جهور. وفى سنة 425 يزور أمير المرية زهير الصقلبى-من فتيان بنى عامر-قرطبة ومعه وزيره وكاتبه أبو جعفر أحمد بن عباس وكان فيه عجب شديد، فاصطدم به ابن شهيد وهجاه هجاء مقذعا. ويصاب فى أواخر هذه السنة بفالج ويقاسى منه لمدة سبعة أشهر أهوالا ثقالا حتى ليفكر فى الانتحار كما ذكر فى بعض شعره، ويلبى داعى ربه فى جمادى الأولى سنة 426، وصلّى عليه-وأقام مراسم دفنه-أمير قرطبة أبو الحزم جهور، ويكثر البكاء والعويل على قبره وتنشد مراث متعددة لصديقه ابن برد الأصغر وغيره.
وهذه حياة ابن شهيد، وهى حياة امتلأت بغيوم الهموم مع ما امتاز به من تفوق فى الأدب نثرا وشعرا، وفيه يقول ابن حيان مؤرخ الأندلس:«إذا تأملته، وكيف يجرّ فى البلاغة رسنه، قلت عبد الحميد فى أوانه، والجاحظ فى زمانه. . وله رسائل كثيرة فى أنواع التعريض والأهزال قصار وطوال برّز فيها شأوه، وأبقاها فى الناس خالدة بعده» وقال عنه الفتح بن خاقان فى المطمح: «عالم بأقسام البلاغة ومعانيها، حائز قصب السبق فيها، لا يشبهه أحد من أهل زمانه، ولا ينسّق ما نسّق من درّ البيان وجمانه» وقال فيه ابن بسام: «نادرة الفلك الدوّار، وأعجوبة الليل والنهار، إن هزل فسجع الحمام، أو جدّ فزئير الأسد الضرغام، نظم كما اتسق الدر على النحور، ونثر كما خلط المسك بالكافور» . وقد سقطت من يد الزمن أعماله ولولا ما احتفظ به ابن بسام وأصحاب الكتب الأدبية من أشعاره لضاع هذا الكنز النفيس من منظوماته، وأيضا لولا ما احتفظ به ابن بسام من رسائله وخاصة من رسالته التوابع والزوابع لفقد النثر الأندلسى دررا بديعة من لآلئه وروائعه.
وابن بسام لم يحتفظ برسالة التوابع والزوابع جميعها، إنما احتفظ ببعض فصولها، وما جاء فى صدرها من مخاطبة ابن شهيد لصديق له هو أبو بكر بن حزم، وتصادف أن كان لأبى محمد بن حزم أخ يتفق مع هذا المخاطب فى اسمه توفى سنة 401 فظن بعض الباحثين أنه هو المخاطب، ورتبوا على ذلك أن ابن شهيد ألف رسالته وهو شاب، ولو أنهم رجعوا إلى الحميدى فى الجذوة لوجدوه ينص على أنه شخص آخر، إذ يقول:
«يحيى بن حزم أبو بكر شيخ من شيوخ الأدب. . وهو الذى خاطبه أبو عامر بن شهيد
برسالة التوابع والزوابع التى سماها شجرة الفكاهة، وهو من بيت آخر غير بيت الفقيه أبى محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم». وإذا أضفنا إلى ذلك أن ابن شهيد أنشد فى الرسالة قطعة من رثائه لوزير الخليفة المستظهر حسان بن مالك المتوفى-كما جاء فى كتاب الصلة-سنة 416 تعين أن تكون الرسالة كتبت فى هذه السنة على الأقل أو بعدها فى إحدى السنوات التالية القريبة. وبذلك يسقط كل ما ذهب إليه الباحثون من أن الرسالة ألّفت قبل هذا التاريخ.
والتابع فى الرسالة الجنّىّ والزوبعة الشيطان، وابن شهيد يذكر فى صدرها لصديقه أبى بكر بن حزم أنه أرتج عليه ذات يوم فى شعر كان ينظمه، فتراءى له تابعه من الجنّ على فرس أدهم، فأجازه، واستحلفه من هو فقال: زهير بن نمير من قبيلة أشجع فى الجن، وكأن فى الجن قبيلة تقابل قبيلة ابن شهيد: أشجع فى الإنس، وتحادثا حينا، ثم علّمه أبياتا إذا أراد استحضاره، وأوثب الفرس جدار الحائط وغاب عنه، فكان كلما أرتج عليه أنشد الأبيات المذكورة فمثل توّا. ولما تأكدت صحبته له عرض عليه أن يلقى معه توابع الشعراء والكتاب وزوابعهم فاستأذن له شيخه الجنى، وأذن له، فأركبه معه على متن جواده، وسار بهما كالطائر يقطع الجوّ فالجوّ والدّوّ (الفلاة) فالدّوّ حتى لمح ابن شهيد أرضا لا كأرض الإنس متفرّعة الشجر عطرة الزهر، وقال له تابعه تلك أرض الجن، وطلب منه ابن شهيد أن يلقى صاحب امرئ القيس «وأمال التابع عنان الجواد إلى واد من الأودية به دوح تتكسر أشجاره وتترنّم أطياره، وصاح تابعه على تابع امرئ القيس قائلا: «يا عتيبة بن نوفل، بسقط اللّوى فحومل (وهما موضعان بمعلقة امرئ القيس) يوم دارة جلجل (أيضا فى المعلقة) إلا ما عرضت علينا وجهك، وأنشدتنا من شعرك، وسمعت من الإنسىّ وعرّفتنا كيف إجازتك له؟ فظهر لهما فارس على فرس شقراء كأنها تلتهب، فقال: حياك الله يا زهير وحيّا صاحبك أهذا فتاهم؟ قال زهير هو هذا. وأى جمرة (يشيد بابن شهيد) يا عتيبة، فقال لابن شهيد: أنشد، فقال:
السيد أولى بالإنشاد، فتطامح (ارتفع) طرفه، واهتزّ عطفه، وقبض عنان الشّقراء (فرسه) وضربها بالسوط، فسمت تحضر (تثب) طولا عنا، وكرّ فاستقبلنا بالصّعدة (القناة) هازّالها، ثم ركزها، وأنشده إحدى قصائد امرئ القيس حتى أكملها، ثم قال لابن شهيد:
أنشد، فهمّ إزاء روعة قصيدة امرئ القيس بالحيصة (النكول) ثم اشتدتّ قوى نفسه وأنشده قصيدة يعارض بها قصيدته، فلما انتهى منها تأمله تابع امرئ القيس معجبا به، ثم قال له: اذهب فقد أجزتك وغاب عن بصره. وسأله تابعه زهير: من تريد بعده، فطلب
لقاء صاحب طرفة، فقطع معه وادى عتيبة، وركضا جوادهما حتى انتهيا إلى غيضة.
ويصف ابن شهيد الغيضة وأشجارها ولقاءه فيها بعنتر بن العجلان تابع طرفة، ويحاوره وينشده عنتر قصيدة لطرفة ويعارضها بقصيدة بديعة، ويصيح عنتر معجبا بقصيدته، ويجيزه، ويغيب عنه. ويلتقى ابن شهيد مع صاحبه بتابع قيس بن الخطيم شاعر يثرب ويتحاوران ويتناشدان الشعر ويجيزه. ويترك توابع شعراء الجاهلية إلى شعراء العصر العباسى. ويلتقى بصاحب أبى تمّام، وينشده ابن شهيد أشعارا مختلفة له منها مرثيته للوزير حسان بن مالك. ويلتقى بتابع البحترى، ويتناشدان الشعر ويجيزه.
ويسأل ابن شهيد صاحبه أن يلقاه بصاحب أبى نواس وينقل لنا صورة من منازل خمره وسكره، إذ بوادى الجن منازل مماثلة لمنازل أبى نواس فى دنيا الإنس، فهذا دير حنّة الذى كان كثيرا ما يختلف إليه، ويشقّ سمع ابن شهيد قرع النواقيس، ويجتاب مع تابعه أديارا وكنائس وحانات حتى ينتهيا إلى دير عظيم تعبق روائحه وتفوح نوافحه، ويقف صاحبه زهير ببابه ويصيح سلام على أهل دير حنّة، ويسأله ابن شهيد هل صرنا بذات الأكيراح (ساحة يخرج إليها الرهبان فى أعيادهم وطالما تغنى بها أبو نواس) ويجيبه: نعم، وتقبل نحوهما الرهابين وفى أوساطهم الزّنانير المشدودة وقد قبضوا على العكاكيز، بيض الحواجب واللّحى، وقالوا لصاحبه ما بغيتك؟ فقال حسين الدّنان تابع أبى نواس، فقالوا إنه فى شرب الخمر، منذ أيام عشرة، ونزلوا بابن شهيد وتابعه إلى بيت اصطفّت دنانه وحولها غزلانه، وفى فرجته شيخ طويل الوجه واللحية افترش أضغاث (أخلاط) زهر، واتّكأ على زقّ خمر، وبيده طاس خمر كبير، فصاح به زهير: حيّاك الله أبا الإحسان، فأجاب بجواب لا يعقل لغلبة الخمر عليه، فقال زهير لابن شهيد: اقرع أذن نشوته.
بإحدى خمريّاتك فإنه ربما تنبّه لبعض ذلك، فصاح ابن شهيد ينشده إحدى خمرياته، فصاح تابع أبى نواس وسأله أأشجعى كأنه لا يحسن مثل هذه الخمرية إلا ابن شهيد الأشجعى، وأجابه ابن شهيد: أنا ذاك، فاستدعى ماء قراحا، فشرب منه وغسل وجهه، فأفاق واعتذر إليه من حاله، وأنشده قصيدة أبى نواس:
يا دير حنّة من ذات الأكيراح
…
من يصح عنك فإنى لست بالصّاحى
وكاد ابن شهيد يخرج من جلده طربا، وسأله تابع أبى نواس أن ينشده من شعره، وقام حسين يرقص ببعض شعر ابن شهيد ويردده، وقال له: هذا والله شئ لم نلهمه نحن وقبّل بين عينيه وأجازه. وسأل زهير ابن شهيد من تريد بعد ذلك؟ فقال له: تابع
أبى الطيب المتنبى، ولقيه فارسا على فرس بيضاء كأنه قضيب على كثيب، وبيده قناة قد أسندها إلى عنقه وعلى رأسه عمامة حمراء قد أرخى لها عذبة صفراء، فحيّاه زهير، فأحسن الردّ ناظرا من مقلة شوساء مضمومة أجفانها استعلاء قد ملئت تيها وعجبا، واستنشد ابن شهيد فأنشده بعض أشعاره، ولما انتهى قال لزهير إن امتد به شوط العمر فلا بد أن ينفث بدرر، وما أراه إلا سيختضر (يموت شابا) بين قريحة كالجمر وهمّة تضع أخمصه (باطن قدمه) على مفرق البدر، ويجيزه. وكأنما كان تابع المتنبى يقرأ فى صفحة القدر، إذ تنبأ له أن يحطم الموت غصنه اليافع بعد سنوات معدودة، وحطمه.
وسأل ابن شهيد زهيرا بعد لقائه بالمتنبى أن يلقاه بتوابع الكتّاب-ويسميهم الخطباء-وركضا الجواد طاعنين فى مطلع الشمس، ومالا إلى توابعهم بمرج دهمان وإذا بناد عظيم جمعهم، والكلّ منهم ناظر إلى شيخ أصلع جاحظ العين اليمنى على رأسه قلنسوة بيضاء طويلة، فسأل ابن شهيد زهيرا عنه فقال: عتبة بن أرقم صاحب الجاحظ وكنيته أبو عتيبة، فقال ابن شهيد: بأبى هو ليس رغبتى سواه وغير صاحب عبد الحميد الكاتب فقال له إنه ذلك الشيخ الذى إلى جنبه. وعرّف عتبة بابن شهيد، فقال له: إنك حائك للكلام مجيد، لولا أنك مغرى بالسجع، فكلامك نظم لا نثر، فاعتذر له قائلا إنه يعرف فضل الازدواج والمماثلة (خاصّة أسلوب الجاحظ وعبد الحميد الكاتب) غير أنه عدم ببلده فرسان الكلام. ويسوق حملة عنيفة على كتّاب زمنه مستخدما أسلوبهما من الازدواج والمماثلة، ويقرأ لهما رسالة طويلة مسجوعة فى الحلواء، يصف فيها طائفة منها، من مثل الخبيص والزلابية، ويستحسنانها قائلين إنّ لسجعه موضعا من القلب ومكانا من النفس، مع حلاوة اللفظ وملاحة السياق. ويذكران له أنه بلغهما أن من أبناء جنسه من يطعن على أدبه، وسألاه من أشدهما فى الطّعن والإجحاف بحقك، فيذكر لهما ثلاثة هم أبو محمد وأبو بكر وأبو القاسم، ولا نعرف شخصية أبى محمد، إذ تكنّى بهذه الكنية لزمنه غير واحد، وأما أبو بكر فأكبر الظن أنه إما أبو بكر بن حزم، الذى ذكر فى مطلع الرسالة أنه يتهمه بأن شيطانا يجرى على لسانه ما يخرج عن قدرة الإنس، وإما أبو بكر محمد بن قاسم المعروف بإشكمياط الذى مر بنا فى حياته أنه اتهمه بسرقة فقر نثره الحسان من سابقيه، وأما أبو القاسم فذكر ابن شهيد بعد سطور قليلة أنه أبو القاسم الإفليلى، ويهتف صاحبا الجاحظ وعبد الحميد بتابعه أنف الناقة بن معمر، وينهض لهما جنّىّ أشمط (دبّ الشيب فى شعره) ربعة وارم الأنف (متكبر شامخ بنفسه) يتظالع (يتعارج) فى مشيته كاسرا لطرفه، وزاويا لأنفه.
وكان الإفليلى قد تصدّر فى قرطبة، يقرئ علم الأدب ويختلف الطلاب إليه، وكان مع علمه باللغة والنحو يتكلم فى معانى الشعر والبلاغة والنقد، واستكتبه المستكفى فى خلافته ثم أعفاه لخلو كلامه من حسن البيان والبلاغة. ويتهم تابعه أنف الناقة ابن شهيد بنقص اطلاعه، ويطلب إليه أن يناظره على كتاب سيبويه وشرح ابن درستويه، فيسخر ابن شهيد منه ويقول الإفليلى بلسان أنف الناقة إنه أبو البيان، فيهزأ به قائلا إنه لا يحسنه. ويطلب إليه أنف الناقة مثالا، فيصف له برغوثا وثعلبا وصفا رائعا. ويلتفت إليه تابع بديع الزمان زبدة الحقب فيطلب إليه أن يصف جارية ويعجب بوصفه، ويذكر له زبدة الحقب وصف البديع للماء ويقول له إنه من العقم أو المعجز، فيعارضه ابن شهيد بوصف رائع للماء، ويمتلئ زبدة الحقب غيظا، فيضرب الأرض برجله، فتنفرج عن هوّة يغيب فيها. ويشتدّ غيظ أنف الناقة تابع الإفليلى، فيطلب إليه أن ينشد بعض أشعاره، وينشد أشعارا بديعة متحدّيا له، وتصيح فتيان الجن إعجابا واستحسانا، وتعلو أنف الناقة الكآبة، ويحاول فتى من الجن أن يصلح بينهما، فيأبى ابن شهيد لما يتتبع الإفليلى فى دروسه لزلّة قد تمر به فى شعره أو نثره، فيهتف بها بين تلاميذه ويجعل وقوفه عليها مفخرة من مفاخره. فيقول له الفتى الجنىّ إن الشيوخ قد تزلّ أحلامهم فى النّدرة، ويقول ابن شهيد: بل إنها المرة بعد المرة. وما يلبث صاحبا الجاحظ وعبد الحميد الكاتب أن يشهدا له بأنه شاعر وناثر، وينفضّ الجمع، والكل ممتلئ إعجابا به. ويقول ابن بسام إنه امتد بعد ذلك بابن شهيد الكلام فى باب التوابع والزوابع، ومدّ فيه أطناب (أسباب) الإطناب والإسهاب، ولذلك وقف دون الغاية، وقطع قبل النهاية.
وكنا نتمنى أن لا يقطع ابن بسام وأن لا يقف، بل كنا نتمنى أن يورد التوابع والزوابع بحذافيرها، لأنها طرفة رائعة من طرف النثر الأندلسى، وهى طرفة بديعة النسق فى الصياغة والرونق فى العبارة دون سجع ولا ما يشبه السجع إلا ما جاء عفوا.
وأضاف ابن شهيد فى الرسالة إلى هذا الباب الخاص بلقائه لتوابع الكتاب والشعراء بابا تذاكر فيه مع زهير تابعه ما تعاورته الشعراء من المعانى ومن أحسن منهم الأخذ للمعنى ومن قصّر فيه، ويعرض لبعض المعانى ومن تداولوها، ويتمثل له جنىّ يسمى فاتك بن الصّقعب ويتحاور معه ويجرى على لسانه بعض أبيات من سينية غزلية له، ويسأله فاتك هل جاذبت أحدا فيجيبه نعم أبا الطيب المتنبى، وينشده من ذلك بعض أشعاره فيصيح فاتك صيحة منكرة من صياح الجن إعجابا واستحسانا. وكان بقربه جنى ضخم هو فرعون بن الجون، أخذ يتحداه بأشعار رائعة للمتنبى، فأنشده ابن شهيد بعض أشعاره
البديعة وبهرته، فأخذ يسأله عن أشعار لأبيه وأخيه وعمه وجده وجدّ أبيه، وابن شهيد يذكر له قائله منهم، حينئذ أقسم أن لا يعرض له أبدا، وشهد له بعراقته فى الكلام، وكأنما ألقمه حجرا بشعره وشعر آبائه فتضاءل وغاب عن بصره.
ويتبع ابن بسام ذلك بفصل أخير من فصول الرسالة أو قل بمشهد نرى فيه ابن شهيد مع تابعه زهير بأرض الجن يستعرضان أندية أهل الآداب، وإذا هما يشرفان على أتان من حمر الجن وبعض بغالهم وتعرّضت لابن شهيد الأتان تحكّمه فى شعرين لحمار وبغل من عشاقهم اختلفت التوابع من الجن فيهما، وتقدمت إليه بغلة شهباء عليها جلّها (غطاؤها الصائن لها) وبرقعها، وأنشدته الشّعرين ففضّل شعر البغل وقال: كان أنف الناقة أجدر منى بالحكم، وقالت له البغلة: أما تعرفنى؟ فقال لها: لو كانت بك علامة، فأماطت لثامها، فإذا هى بغلة أبى عيسى والخال على خدّها، فتباكيا طويلا، وأخذا فى ذكر أيامهما، وسألته: ما فعل الأحبّة بعدها؟ أهم لا يزالون على العهد؟ فقال: شاخ الفتيان، وتنكرت الخلاّن، ومن إخوانك من بلغ الإمارة، وانتهى إلى الوزارة، وحالوا عن العهد، ونسو أيام الودّ. وكانت بقربهم إوزّة بيضاء شهلاء فى مثل جثمان النعامة، ويسأل ابن شهيد زهير عنها، فيقول له إنها تابعة شيخ من مشيختكم تسمى العاقلة وتكنى أم خفيف، ويتحاور معها مثنيا عليها، فمرة تسبح ومرة تطير، ومرة تنغمس فى الماء ومرة تخرج منه، ثم سكنت وأقامت عنقها وعرّضت صدرها ورفرفت بمجدا فيها (بجناحيها) واستقبلته مع صاحبه جاثية (قائمة على مؤخّرتها) كصدر المركب، ثم سألته ماذا يحسن؟ فقال لها من الشعر أو النثر، فقالت له إنما أريد النحو والغريب تريد أن تتهمه بأنه لا يحسنهما، ويطيل الحوار معها واصفا لها بالحمق وأنها فى حاجة إلى عقل التجربة إذ عدمت العقل الطبيعى، ويسألها أيهما أفضل: الأدب أم العقل؟ وتجيبه العقل، فيقول لها إذا ظفرت منه بحظ فناظرى حينئذ فى الأدب. وكأن الإوزّة بذلك تأخذ صفة الإفليلى بشهادة تحديها لابن شهيد بإحسان النحو والغريب اللذين كان الإفليلى يشتهر بهما. وبذلك نفهم كلمة ابن بسام عن الرسالة لابن شهيد وتكرار ذكر الإفليلى فيها بأنه هو الذى به ابن شهيد عرّض، وجعله الغرض، وكأنما أنشأها من أجل الرد على ما وسمه به فى بعض دروسه من زلات وعثرات، مما جعله يعرض فى الباب الأول من الرسالة روائع شعره ونثره على توابع الشعراء والكتاب النابهين مقارنة إلى قصائد أصحابهم، وإذا هم يبهرون بشعره ونثره دائما ويجيزونه، محاولا بذلك أن يسقط نقد الإفليلى له. ثم أخذ يعرض جانبا من
تداول المعانى بين الشعراء ومن قدرته على نقد الشعر وتذوقه ليبرهن على أنه يبذ الإفليلى فى انتقاد الشعر وتذوقه والوقوف على المعانى التى يشترك فيها الشعراء ويتداولونها، وكان تابع الكاتب والشاعر فى الشطر الأول من الرسالة يتمثل له بشرا سويا، وتشكّل له فى الشطر الثانى على صورة بعض الحيوانات والطير مستمدا فى ذلك كله من قصص الجن عند العرب.
وقرن كثير من الباحثين (1) هذه الرسالة لابن شهيد إلى رسالة الغفران لأبى العلاء المعرى، ومنهم من ذهب إلى تأثر أبى العلاء بابن شهيد، ومنهم من ذهب إلى أن ابن شهيد هو الذى تأثر بأبى العلاء، وكلا الرأيين يجانبه الصواب، وحقا الرسالتان رحلتان فيما وراء الواقع، لكنهما بعد ذلك تتباينان فى موضوعيهما، فرحلة أبى العلاء تدور على عقيدة إسلامية هى عقيدة المعاد وما يتصل به من أهوال الحشر والصراط ونعيم الجنة وعذاب النار ولقاء بعض من غفر لهم من الشعراء واللغويين فى الفردوس ورؤية إبليس وبشار وأضرابه من الزنادقة فى الجحيم. أما رحلة التوابع والزوابع لابن شهيد-كما مرّت بنا- فتدور على ما شاع على ألسنة العرب فى عصرهم الجاهلى الوثنى من تصور شياطين للشعراء يلهمونهم أشعارهم. وواضح من موضوع الرحلتين أنهما لا يلتقيان أى التقاء وأن من الخطأ كل الخطأ أن يحاول باحث تبين أثر لإحداهما فى الأخرى. وذكرنا من قديم فى كتابنا «الفن ومذاهبه فى النثر العربى» ثم فى كتابنا «المقامة» أن الذى أوحى إلى ابن شهيد برحلته فى أرض الجن ووديانها إنما هو بديع الزمان وما قرأه فى مقامته الإبليسية عن لقاء عيسى بن هشام لإبليس فى واد من وديان الجن وتحاورهما وإنشاد إبليس له أشعارا جاهلية، ثم عرض عليه أن ينشده من شعره، فأنشده إبليس قصيدة لجرير، وعجب عيسى من انتحاله قصيدة جرير، ولم يلبث إبليس أن قال له: «ما أحد من الشعراء إلا ومعه معين منا، وأنا أمليت على جرير هذه القصيدة، وغاب عنه، وكأنما ابتلعته الأرض. وفى نفس رسالة التوابع والزوابع ما يؤكد الصلة بين ابن شهيد وبديع الزمان فى مقاماته، إذ نرى ابن شهيد يعرض على تابعى الجاحظ وعبد الحميد الكاتب رسالة طويلة فى ألوان من الحلواء أراد بها محاكاة بديع الزمان فى مقامته المضيرية.
وما يلبث ابن شهيد أن يذكر أنه لقى تابع بديع الزمان المسمى زبدة الحقب، ويقترح
(1) راجع بلاغة العرب فى الأندلس للدكتور أحمد ضيف (طبع القاهرة) ص 48 والأدب الأندلسى للدكتور هيكل ص 381.
عليه وصف جارية ويصفها، ويعجب زبدة الحقب بوصفه، ويسأله ابن شهيد أن يسمعه وصفه للماء، ويقول له إنه وصف معجز، ويعارضه ابن شهيد بوصف رائع للماء يبهره.
وفى ذلك كله ما يقطع بأن المقامة الإبليسية لبديع الزمان هى التى ألهمت ابن شهيد رسالة التوابع والزوابع وأوحت بها إليه. ويتردد فى كتابى الجذوة للحميدى والمغرب لابن سعيد اسم كتاب لابن شهيد سماه حانوت عطار ويبدو من نقولهما عنه أنه ترجم فيه لأدباء الأندلس فى عصره وقبل عصره ترجمات قصيرة ذكر فيها بعض أخبارهم وما استطرفه من أشعارهم مع بعض نظرات نقدية.
رسائل ابن برد (1) الأصغر
ابن برد الأصغر هو أبو حفص أحمد حفيد أبى حفص أحمد بن برد الأكبر الذى ولى ديوان الإنشاء للمنصور بن أبى عامر، وكتب بعده لابنيه المظفر والناصر. ثم كتب لسليمان المستعين الأموى وللأمراء الحموديين، ويترجم له ابن بسام فى الذخيرة، ويشيد ببيانه وبلاغته قائلا إنه «أسمع الصّمّ بيانا، واستنزل العصم إبداعا واستحسانا» ويتلو ذلك بطائفة بديعة من رسائله. وحين رزق ابنه محمد بولده أحمد توسم فيه النجابة منذ نعومة أظفاره، فعنى بتربيته وتخريجه فى الأدب نثره وشعره، وفى ذلك يقول الحفيد ابن برد الأصغر، كما روى ابن بسام عن كتاب له سماه «سر الأدب وسبك الذهب»:«وكان جدى أحمد بن برد-رحمه الله-بطول ممارسته لهذه الصناعة قد اقتعد سنامها، ورفع أعلامها، وأصبح إمامها، وإنى وافقت أول معالجتى لها آخر أيامه خلا أنه قد كان أقبسنى مصابيح من وصاياه فيها، ووطّأ لى مراكب من دلائله إليها، وضرب لى صوى (أعلاما) من هداياته نحوها أفاد الله بها نفعا» . ويقول ابن بسام إن بنى برد ينتمون إلى بنى شهيد بالولاء، ولعلنا بذلك نفهم ما كان ينعقد من صلة وثيقة بين ابن برد الأصغر وابن شهيد، ويتضح ذلك فى جوانب من أخبار ابن شهيد، وحين توفى بكاه-كما أسلفنا-بكاء حارا.
وليس بين أيدينا أخبار عن نشأة ابن برد الأصغر إلا الخبر السالف عن عناية جده به ورعايته له. ونرى ابن بسام يذكر أنه حين اتخذ المستظهر الأموى فى سنة 414 ابن
(1) انظر فى ترجمة ابن برد الأصغر الجذوة للحميدى: 107 والمطمح: 24 والبغية رقم 354 والمغرب 1/ 86 ومعجم الأدباء 2/ 106 والذخيرة 1/ 486 - 535 وأخبارا متفرقة عنه فى 1/ 358، 771، 787 وراجع رسالته فى تفضيل الورد على سائر الأزهار فى 2/ 127 وراجع 3/ 819.
شهيد وزيرا كتب له ابن برد ولم يوضح ابن بسام هل هو ابن برد الأصغر أو هو جده ابن برد الأكبر، وبالمثل يقول إن أبا القاسم الإفليلى كتب للخليفة المستكفى بعد ابن برد فى نفس السنة ولا يذكر هو الأصغر أو الأكبر، وأكبر الظن أنه الأصغر، وكأنه كتب للمستظهر فى الأشهر التى تولاها ثم كتب فترة للمستكفى بعده ولم يلبث أن أعفاه. وقد ظل ابن برد الأكبر حيا حتى توفى بسرقسطة عن ثمانين عاما سنة 418 ويبدو أنه رحل إلى تلك البلدة فى الشمال لما سمع من كرم منذر التجيبى أميرها وهبته لقصاده أموالا عظيمة. ويقول ابن برد الأصغر إن صروف الأيام باكرته بعد مصابه فى جده ويبدو أن الدنيا ظلت لا تبتسم له فترة غير قليلة كما يبدو أن أبواب دواوين قرطبة ظلت مغلقة دونه فى عهد جهور حين أصبح حاكمها المتصرف فى شئونها منذ سنة 422 ولعل سبب ذلك عمله فى دواوين الخليفتين الأمويين: المستظهر والمستكفى. ومن المؤكد أنه ظل بقرطبة حتى وفاة ابن شهيد سنة 426 ويقول المؤرخون أنه رحل منها إلى مجاهد الصقلبى أمير دانية (412 - 434 هـ) وسنراه يوجه إليه أولى رسائله الأدبية الخاصة بالسيف والقلم وربما حنّ إلى قرطبة ورفاقه فيها وعاد إليها، وقد يدل على ذلك أن نجد ابن زيدون حين سجنه جهور سنة 432 يوجه إليه قصيدة كى يشفع له عند جهور أو عند ابنه أبى الوليد. وربما كان بقرطبة حين خلف أبو الوليد أباه سنة 435 ومرّت بنا رسالته البديعة إليه بتفصيل الورد على سائر الأزهار، ولعله كان يرمز إليه بالورد وأنه يفضل جميع أمراء الطوائف. وكان المظنون أن يظل بقرطبة، غير أننا نراه يؤثر المقام بالمريّة عند أميرها معن بن صمادح (432 - 443 هـ) الذى عرف له فضله، فاتخذه وزيرا له، وإليه قدم ابن برد كتابه:«سر الأدب وسبك الذهب» وافتتح ابن بسام ترجمة ابن برد بصدر هذا الكتاب وقد نوه فيه برعاية جده له وتخريجه كما مرّ بنا، وأثنى ثناء غامرا على معن بن صمادح ورعايته للعلوم وفنون الآداب، وما أسبغ عليه من شرف المرتبة الرفيعة. وضمّن الكتاب رسائلة السلطانية والإخوانية وطرّز أبوابه بأبيات من الأشعار المحتوية على الحكم الجارية مجرى الأمثال. ومن المؤكد أنه قضى الشطر الأخير من حياته فى ظل هذا الأمير، ويقول الحميدى فى الجذوة إنه رآه فى المرية مرارا بعد الأربعين وأربعمائة، ولا ندرى هل لحق عصر المعتصم بن معن بن صمادح (443 - 484 هـ) أو أن القدر لم يمهله حتى عصره، أو حتى إذا كان أمهله فإنما أمهله إلى فترة قصيرة، ويشيد به ابن بسام قائلا:
«كان أبو حفص بن برد الأصغر فى وقته فلك البلاغة الدائر، ومثلها السائر، نفث