الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة
تحدثنا-فى الصحف الماضية-عن كثرة العناصر المكونة لسكان إيبيريا وأنها ظلت تستقبل عناصر متنوعة من القارات القديمة الثلاث: أوربا وإفريقيا وآسيا، ومن قديم ظلت تستقبل حضارات الفينيقيين واليونان والقرطاجينيين والرومان دون أن تضيف شيئا يميزها فى تاريخ الحضارة الإنسانية، وغزاها القوط المتبربرون فى القرن الخامس للميلاد وقضوا-أو كادوا يقضون-على كل ما وفد عليها من تلك الحضارات. ومرّ بنا فتح العرب لإيبيريا سنة 92 هـ/711 م والجهود التى بذلها موسى بن نصير وطارق بن زياد فى فتحها حتى خليج بسكاى وجبال البرينيه التى تفصلها عن غالة (فرنسا). ولم تكد تمضى أربع سنوات حتى أصبحت إيبيريا من جنوبّيها إلى شماليّها تدين بالولاء لدمشق كإقليم من أقاليم الدولة الأموية. ويستدعى الفاتحان العظيمان إلى دمشق بأخرة من سنة 95 للهجرة ولا يعودان إليها. واستوطن الجيش الفاتح من العرب والبربر أواسط إيبيريا وجنوبيها، وسموا ديارهم-بل إيبيريا جميعها-باسم الأندلس أخذا من كلمة «قندالس» سكانها فى الجنوب. وتدخل الأندلس فى عصر الولاة منذ سنة 95 إلى سنة 138 وأبلى نفر من ولاتها-حتى سنة 116 - بلاء حسنا فى غزو غالة (فرنسا) ويفرضون على إقليم؟ ؟ ؟ سبثمانية بجنوبيها ولاءه للعرب، وتتقدم جيوشهم مرارا على نهر الرون وفى اتجاه بواتييه إلى الشمال وليون إلى الجنوب، وتدب العصبيات-بل تضطرم- بين قبائل العرب القحطانية والمضرية، وبين العرب والبربر، فيتوقف هذا المد العظيم، ولولا ذلك لفتح العرب شطرا كبيرا من أوربا الغربية.
ويقيّض لانتشال الأندلس من العصبيات المحتدمة فيها عبور عبد الرحمن بن معاوية ابن الخليفة هشام بن عبد الملك سنة 138 للهجرة بحر الزّقاق إليها وإعلانه فيها ميلاد دولة أموية غربية تخلف دولة آبائه فى دمشق التى قضى عليها العباسيون قضاء مبرما سنة 132 للهجرة. ويأخذ هو وأبناؤه وأحفاده الذين امتد حكمهم للأندلس نحو ثلاثة قرون فى تأسيس حضارة أندلسية عربية باهرة، وقد أخذت تلك الحضارة فى التكامل لعهد عبد الرحمن الأوسط الذى أنشأ للدولة أسطولا يحمى موانيها على المحيط الأطلسى
والبحر المتوسط، ووضع لحكم البلاد نظاما إداريا حضاريا، إذ اتخذ لها مجلس وزراء على نحو ما نعرف الآن من مجالس الوزراء فى الأمم المتحضرة، وأضاف إليه هيئات-باسم خطط-للإشراف على مصالح الرعية. وبلغت الأندلس الذروة فى المكانة السياسية والحضارية لعهد عبد الرحمن الناصر الذى فرض سلطانه على المسيحيين فى الشمال.
وما يلبث عهد الدولة الأموية أن ينتهى بفتنة كبرى ظلت نحو عشرين عاما. وينشأ عصر أمراء الطوائف، وفيه تنقسم الأندلس إلى أندلسات، وبعبارة أخرى إلى إمارات كثيرة، ويتنافس الأمراء فى الإكثار مما يحيط بهم من شعراء وعلماء وكتّاب، وتنفق سوق الأدب والعلم، وتهبط كفّة الحكم والسياسة إلى أدنى مستوى، إذ يعيش الأمراء للترف واللهو وكل فنونه، ويتناحرون فيما بينهم، على حين يركعون-خانعين-للمسيحيين الشماليين، مما جعل ألفونس السادس ملك قشتالة ينقض على طليطلة واسطة عقد الأندلس سنة 478 للهجرة ويستولى عليها، حتى إذا لم يبق منزع فى قوس الصبر لا للفقهاء ولا للرعية ولا للأمراء اللاهين استصرخوا جميعا يوسف بن تاشفين أمير المرابطين فى المغرب، فعبر إلى الأندلس سنة 479 وسحق جموع ألفونس السادس فى الزلاقة سحقا ذريعا، وتطورت الأمور سريعا، وأظل لواء المرابطين الأندلس جميعا.
وتضعف دولتهم بعد نحو نصف قرن ونيّف، وتعود الأندلس فى بعض أجزائها إلى التفكك، وتتداركها دولة الموحدين، وتظل تحميها إلى أوائل العقد الثالث فى القرن السابع الهجرى، ومن مفاخرهم تدمير أميرهم يعقوب الموحدى لجيش ألفونس الثامن فى موقعة الأرك سنة 591. وتعود الأندلس منذ سنة 623 إلى التفكك، وتقع كثرة من مدنها العريقة فى حجور المسيحيين الشماليين، ويستطيع ابن الأحمر سليل سعد بن عبادة الصحابى الجليل أن يستنقذ إمارة غرناطة له ولأسرته لأكثر من قرنين ونصف إلى أن سلّم أبو عبد الله الصغير مفاتيح المدينة لفرناند وزوجته إيزابيلا سنة 897 للهجرة.
وذكرنا ما تم فى المجتمع الأندلسى من مزج سريع بين المسلمين من العرب والبربر وبين المسيحيين ومن دخلوا فى الإسلام منهم وأبنائهم، وكانت حياة المسيحيين حياة متبدية بها غير قليل من الشظف، بينما أخذ المسلمون الأندلسيون يتحولون إلى حياة حضارية، وخاصة منذ عهد عبد الرحمن الأوسط لشغفه بحضارة العرب المادية فى المشرق مما جعل التجار يحملون إليه كثيرا من أدواتها، وساعد على اكتمال الحضارة الأندلسية فى عهده وفود زرياب تلميذ إسحق الموصلى-أكبر الموسيقيين فى عهد الرشيد-على قرطبة، ومكّن له عبد الرحمن-إلى أقصى حد-من إحداث نهضة موسيقية فى الأندلس بإنشائه
له معهدا موسيقيا تخرج فيه كثيرون، قادوا بالأندلس الحركة الغنائية والموسيقية قيادة بديعة. ولا يقف أثر زرياب عند هذا الجانب، بل يتسع ليشمل الجوانب الحضارية المادية فى المأكل وملبس الجنسين وتزينهما فى الهيئة والمظهر، وأيضا فى اتخاذ الرياش الفاخر. وأخذ عبد الرحمن الأوسط وأبناؤه يعنون ببناء القصور والتأنق فى أثاثها وزينتها، ولا يبنى حفيده الناصر قصرا فحسب بل يبنى مدينة عظيمة هى مدينة الزهراء. ومن يتابع ابن بسام فى وصفه لبعض قصور أمراء الطوائف مثل قصر المكرّم لبنى ذى النون يظن كأنها من قصور ألف ليلة وليلة الخيالية، وما يزال قصر الحمراء بغرناطة إلى اليوم يشهد بما بلغته الحضارة المادية فى المعمار إلى أوج لم تعرفه الأندلس قبل العرب وبعدهم إلى اليوم.
وكان للمرأة فى هذا المجتمع الأندلسى الحضارى مكانة عظيمة جعلتها تحظى من الحرية بما لم تحظ به أختها فى المشرق حتى كان بينهن كاتبات مشهورات للخلفاء الأمويين، وكان بينهن عالمات مقرئات ومحدّثات وطبيبات، وكان بينهن سيدات مجتمع راقيات كصواحب الصالونات بفرنسا فى القرنين السابع عشر والثامن عشر وكان لهن- مثلهن-غير قليل من التأثير فى الحياة الأدبية.
ولم تعرف الأندلس التشيع إلا قليلا وعند أفراد محدودين، وظلت النزعة الأموية تغلب عليها بعد سقوط الدولة الأموية، وعرفت الأندلس الزهد وتألق فيها أسماء زهاد كثيرين، كما عرفت التصوف منذ القرن الرابع الهجرى وأنجبت فيه مشاهير مثل ابن عربى وابن سبعين والششترى.
ولم يكن لإيبيريا دور علمى فى العصور القديمة، والعرب هم الذين بدأوا فيها الحركة العلمية بعلومهم اللغوية والدينية، وعمل عبد الرحمن الأوسط على السعة بهذه الحركة، إذ أدخل عليها بقوة العناية بعلوم الأوائل من رياضة وطب وصيدلة، وجلب كتب تلك العلوم من بغداد. وبلغ الناصر وابنه الحكم المستنصر بالحركة العلمية الغاية المأمولة باستدعاء العلماء من المشرق وإجزال العطاء لهم وجلب المخطوطات النفيسة فى مختلف العلوم والآداب، مما أتاح لدراسة علوم الأوائل الازدهار منذ القرن الرابع الهجرى، مع ما أضاف إليها علماء الأندلس من إضافات باهرة على مر العصور، وتلمع فى الرياضة أسماء مسلمة المجريطى والزرقالى والبطروجى والرّقوطى، وتلمع فى الطب أسماء الزهراوى وبنو زهر وابن رشد، وفى الصيدلة أسماء الغافقى وابن العوام وابن البيطار
وفى الفلسفة أسماء ابن باجة وابن طفيل وابن رشد وفى الجغرافية أسماء الرازى وأبى عبيد البكرى وابن غالب وابن سعيد.
وينشط علماء النحو واللغة مبكرين، ويؤلف الزبيدى كتابا فى طبقاتهم حتى زمنه فى القرن الرابع الهجرى، ويبلغون عنده نحو مائة عالم نحوى ولغوى، ومن أشهرهم الرباحى راوى كتاب سيبويه عن أبى جعفر النحاس المصرى ومنذر بن سعيد راوى معجم العين للخليل بن أحمد عن ابن ولاد المصرى، والزبيدى نفسه صاحب الكتاب السالف، وأبو بكر بن القوطية وابن الإفليلى وابن سيده والشنتمرى وابن الطراوة وعيسى الجزولى وابن عصفور وابن مالك وابن حيان. وتنشط مباحث البلاغة على يد أمثال ابن الكتانى المتطبب وحبيب والكلاعى والمواعينى وابن رشد وأبى البقاء الرندى، وبالمثل تنشط الكتابات النقدية عند ابن شهيد وابن خفاجة وابن بسام وحازم القرطاجنى.
وينقل القراء مبكرين عن ورش المصرى قراءته وتشيع فى الأندلس، ومن أشهر علماء القراءات هناك القضاعى والطلمنكى ومكى بن أبى طالب وأبو عمرو الدانى والشاطبى وابن حيان. وتعنى الأندلس بتفسير القرآن مبكرة، وتلمع فيه أسماء بقى بن مخلد وابن أبى زمنين وابن عطية والقرطبى وابن حيان. ويتكاثر المحدّثون من أمثال ابن وضاح وقاسم بن أصبغ والحميدى وابن قرقول وابن الخراط وابن القطان. ويتكاثر الفقهاء كثرة مفرطة وخاصة على مذهب مالك، وتدور فتوى فقهائهم وقضاتهم عليه وعلى حملة مذهبه المصريين وخاصة عبد الرحمن بن القاسم، ومن أشهرهم شبطون وعيسى بن دينار ويحيى الليثى وعبد الملك بن حبيب وابن عتبة وابن عبد البر وأبو الوليد الباجى وابن رشد الجد. ويلقانا غير فقيه للشافعية من مثل ابن الخراز والأصيلى. وينشط المذهب الظاهرى هناك، ومن كبار أتباعه منذر بن سعيد وابن حزم وابن حوط الله. وعرفت الأندلس الاعتزال عند أمثال عبد الأعلى بن وهب وابن مسرة ومنذر بن سعيد وإسماعيل الرعينى، كما عرفت المذهب الأشعرى عند محمد بن خلف.
وكان للمؤرخين نشاط واسع فى الأندلس منذ القرن الثالث الهجرى، ومنهم من كتب فى التاريخ العام مثل عبد الملك بن حبيب وعريب وابن الخطيب، ومنهم من كتب فى تاريخ الأندلس مثل أحمد الرازى وابنه عيسى وابن القوطية وابن حيان ويحيى بن الصيرفى وابن صاحب الصلاة وأبى الحجاج البياسى وابن الخطيب. ومنهم من كتب فى
السيرة النبوية مثل ابن حزم وابن عبد البر والكلاعى وابن سيد الناس. ومنهم من كتب فى تراجم الأدباء والعلماء من كل صنف. ومنهم من كتب فى الأنساب مثل ابن حزم وفى تراجم الصحابة مثل ابن عبد البر. ومنهم من كتب فى التراجم الأندلسية العامة مثل ابن الفرضى وصاعد والحميدى وابن بشكوال والضبى وابن الأبار والملاحى وابن الزبير وابن الخطيب. ومنهم من كتب فى تراجم الفقهاء والقضاة مثل ابن عبد البر أحمد بن محمد والخشنى والنباهى، ويشتهر فى الترجمة للأطباء ابن جلجل وللغويين والنحاة الزبيدى وللأدباء من شعراء وكتاب ابن دحية والفتح بن خاقان وابن بسام وابن الأبار وابن سعيد وابن الخطيب وابن الأحمر.
وأخذت أبحث بحثا تحليليا تاريخيا فى نشاط الشعر والشعراء موضحا كيف أن أهل الأندلس تمثلوا العربية تمثلا قويا، وشركهم المسيحيون فى هذا التمثل، حتى إن جمهورهم هجر لغته اللاتينية الدارجة، وأصبحت العربية لسانه ومهوى فؤاده وأداة تعبيره عن مشاعره وأفكاره، حتى ليعلن ذلك أحد قساوستهم متحسرا ومتعجبا أشد العجب من هجران الشباب المسيحى للغة وطنه الرومانثية وتمثله للعربية معجبا بها وبأدبها أشد الإعجاب، محاولا بكل ما استطاع أن يتقنها. ويقول القس إن كثيرين من الشباب أتقنوها وكتبوا بها أشعارا ورسائل بديعة. ويشهد لكلامه أننا نجد فعلا بين المسيحيين الإسبان من بلغوا من إتقان العربية والقدرة على التعبير الدقيق بها أن عيّنوا كتّابا فى دواوين الدولة، وبذلك وبأدلة أخرى مؤيدة أضفناها ما ينقض نظرية ريبيرا المفضية إلى أن عرب الأندلس كانوا يستخدمون فى حياتهم اليومية لهجة رومانثية من اللاتينية الدارجة، وما كانت الأندلس بدعا من الأقاليم العربية، فقد ظهرت فيها جميعا عاميات دخلتها فى جميع البلدان العربية ألفاظ من لغاتها الأصلية التى كانت متداولة فيها، وبالمثل كانت تشيع فى الأندلس عامية عربية تسربت إليها ألفاظ من اللاتينية الدارجة على نحو ما حدث فى عامية الشام ومصر وغيرهما من البلدان العربية.
وعاشت الفصحى بجانب هذه العامية الأندلسية العربية معيشة مزدهرة شأنها فى ذلك نفس شأنها وازدهارها فى جميع الأقطار العربية، وتدل على ذلك دلالة بيّنة كثرة الشعراء فى كل بلد بالأندلس حتى فى الريف وبين أهل القرى، وهى كثرة تأخذ فى الاتضاح منذ القرن الثالث الهجرى، وتتسع سعة شديدة فى عصر أمراء الطوائف، إذ تعدّد الأمراء الذين يغدقون عطاياهم على الشعراء. ويظلون يتكاثرون فى اطراد طوال العصور التالية.
واستطاعت الأندلس فى أثناء هذا النشاط الشعرى الواسع أن تنفذ إلى ابتكار فن شعرى جديد هو فن الموشحات، وحاول بعض المستشرقين الإسبان مثل غرسية غوميس أن يقولوا إنها نشأت من المزج بين الشعر العربى وبين بعض الأغانى الرومانسية فى اللاتينية الإسبانية الشعبية، وليس فى أيديهم أغنية رومانثية واحدة يستطيعون أن يثبتوا عن طريقها هذا المزج. والصحيح-كما أثبتنا بأدلة متعددة-أن الموشحات إنما هى صورة أندلسية تطورت عن أصول مشرقية هى المسمطات، وكان أول من أحدثها عربى هو مقدم بن معافى، وأعطاها صورتها النهائية بعده عربيان هما الرمادى الكندى وعبادة ابن ماء السماء الأنصارى. وعرضنا أو أشرنا إلى طرائف من الموشحات على مر الأزمنة مع الترجمة لثلاثة من الوشاحين البارعين هم ابن عبادة القزاز ويحيى بن بقى وابن زهر، وألممنا بالأزجال وذهبنا مع ابن خلدون إلى أنها نشأت بعد الموشحات مع الاستشهاد ببعض روائعها ومع الترجمة للزجال الفذ ابن قزمان. ثم أخذنا فى دراسة أغراض الشعر دراسة تاريخية نقدية تحليلية تعقبنا فيها كل غرض وأهم شعرائه على مر التاريخ، وبدأنا بشعراء المديح مع نماذج من مدائحهم ومع الترجمة لسبعة من أعلامهم، وصنعنا نفس الصنيع بشعراء الفخر مع الترجمة لثلاثة من أفذاذهم، وبالمثل لشعراء الهجاء مع الترجمة لأربعة من كبار الهجائين، ولأصحاب الشعر التعليمى مع الترجمة لعلمين من أعلامهم.
وعلى نحو ما عرض من روائع الأغراض الشعرية السالفة عرضت روائع الغزل على مر العصور مجسّدة الشأو البعيد الذى بلغته الأندلس فى تلك الروائع، إذ تمثل شعراؤها إلى أقصى حد ما فى الحب العذرى العربى القديم من حنين ملتاع وحب ظامئ لا ينطفئ أواره، مع ما يلاحظ من أن ناظميه يعكسون مشاعرهم على عناصر الطبيعة من حولهم.
وتبادلهم المرأة الأندلسية-مع ما يحفها من عفة ووقار-حبا بحب. ويشترك معهم فى الغزل الفقهاء والفلاسفة هناك، مما أتاح للغزل فى الأندلس سموا بعيدا على نحو ما يتضح عند من ترجمنا لهم وخاصة ابن زيدون وولادة. ونلتقى بشعراء الطبيعة والخمر، وتبلغ الأندلس فى شعر الطبيعة ذروة لعل إقليما عربيا لم يبلغها على مر العصور، وتوضح ذلك غاية التوضيح النصوص والتراجم المختارة وخاصة تراجم ابن مقانا وابن خفاجة وابن سفر. ويلقانا شعراء الرثاء للأفراد وفى مقدمتهم ابن وهبون وتأملاته البديعة فى حقائق الحياة والموت، وشعراء الرثاء للدول الغاربة فى الأندلس وفى مقدمتهم ابن اللبانة وابن عبدون. ونقرأ خواطر بديعة لشعراء الزهد والتصوف، وتتيح الأندلس للتصوف الفلسفى ازدهارا عظيما على نحو ما هو معروف عن متصوفها ابن عربى. وتزدهر فيها
المدائح النبوية ازدهارا رائعا على نحو ما يلقانا عند ابن جابر الوادى آشى. ومنذ سقطت طليطلة فى القرن الخامس يستصرخ الشعراء العرب ومواطنيهم لاستنقاذ مدنهم من أيدى حملة الصليب، ويتعالى الصراخ فى القرن السابع الهجرى وبعده، على نحو ما يلقانا عند ابن الأبار وأبى البقاء الرندى.
وازدهر النثر فى الأندلس ازدهارا لا يقل عن ازدهار الشعر فيها، ويتضح ذلك فى كثرة كتاب الرسائل الديوانية على مر العصور، وفى مقدمتهم البزليانى وأبو محمد بن عبد البرّ وابن القصيرة وابن أبى الخصال وابن الخطيب، كما يتضح فى كثرة كتّاب الرسائل الشخصية وفى مقدمتهم حبيب وابن الدباغ وابن طاهر وابن الجد. ونفذ الكتاب المبدعون هناك إلى رسائل أدبية بارعة، منها رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد المستوحاة من إحدى مقامات بديع الزمان، مع بث روح وفكر جديدين فيها، ومنها رسائل ابن برد الأدبية، وإحداها وهى فى تفضيل أهب (جلود) الشياه على البسط مستوحاة من رسالة سهل ابن هرون فى فاتحة كتاب البخلاء للجاحظ التى يحتج فيها للبخل ضد الكرم، ومنها الرسالة الهزلية لابن زيدون وأختها الجدية، وأولاهما مستوحاة من رسالة التربيع والتدوير للجاحظ مع اختلاف الموضوع، ومنها رسالة ابن غرسية الذميمة فى الشعوبية والردود عليها، ومنها الرسائل النبوية البديعة على نحو ما يلقانا عند ابن الجنان، ومنها مواعظ مؤثرة مثل مواعظ منذر بن سعيد وأبى بكر الطرطوشى. ونلتقى بأعمال نثرية متنوعة وفى مقدمتها كتاب طوق الحمامة لابن حزم الفقيه المبدع، وهو يكتظ بتجاربه وتجارب معاصريه فى الحب العذرى مع الشهادة الناطقة بازدهار هذا الحب العفيف الطاهر فى الأندلس. ونلتقى بالمقتبس لابن حيان وهو طراز فى الكتابة التاريخية لا نظير له فى كتابة التاريخ عند العرب، ومثله الذخيرة لابن بسام فى كتابة التراجم الأدبية وعرض ما لأصحابها من روائع شعرية ونثرية. وتلقانا مذكرات لأمير غرناطى هو عبد الله بن بلقّين، كما تلقانا قصة حىّ بن يقظان لابن طفيل، وهى قصة طفل ألقى به بعد مولده فى جزيرة مهجورة، فتبنته ظبية فقدت رضيعها وأرضعته، ونما وأخذ عقله ينمو معه ويرصد كل ما حوله حتى إذا بلغ الثلاثين أخذ يدرك حقائق الأشياء شأن الفلاسفة، وشعر أن للكون خالقا وأخذ يشعر برغبة شديدة للاتصال به، وبعد محاولات شتى استطاع الاتحاد بربه. وبذلك يثبت ابن طفيل أن التأمل العقلى الخالص المفضى إلى الفلسفة مثله مثل الإيمان عن طريق الأنبياء فى أن كلا منهما يؤدى إلى نفس الغاية وهى الاتحاد الصوفى بخالق الكون ومنشئه. وقد ثبت ثبوتا بيّنا أن عناصر القصة عناصر
عربية إسلامية خالصة، وقد أثرت فى الأدب الإسبانى إذ استوحيت منها قصة موريسكية هى قصة الصنم والملك وابنته وقصة (الكريتيكون) للكاتب الإسبانى اليسوعى جراثيان المنشورة فى منتصف القرن السابع عشر، وأثرت القصة آثارا مختلفة فى الآداب العالمية على نحو ما هو معروف عن قصة روبنسن كروزو لكاتبها الإنجليزى دانييل ديفو.
ويعرض الفصل بعد ذلك فن المقامات فى الأندلس وسلوك بعض أصحابه مسلك الحريرى فى مقاماته القائمة على الكدية والشحاذة والتفاصح بالسجع والتعبيرات الأنيقة، مع عرض المقامات اللزومية للسرقسطى وبيان التزامه فيها ما لا يلزم من تعدد الحرف فى قوافى السجع محاكاة لأبى العلاء فى لزومياته، وتغلغله ببطل مقاماته فى أعماق المحيطات بالإضافة إلى ما تنقل بينه من البلدان العربية. وذكر-فى إجمال-ما أثرّ به فن المقامات فى الأدب الأندلسى إذ نشأت على غراره فى القرن السادس عشر للميلاد وخلال القرن السابع عشر قصص سميت بالقصص البيكارسية، وبطلها «البيكارو» يتجرّع-كبطل المقامات-آلام البؤس والفقر، ويعيش على التسول والشحاذة متوسلا إلى ما يكتسبه عن طريقهما بحيل وخدع شتى يستحوذ بها على إعجاب الناس فيوسعونه حفاوة وعطاء.
وتحدث الفصل عن رحلات الأندلسيين وبواعثها الكثيرة لأداء فريضة الحج والزيارة النبوية، وللإلمام بمراكز الثقافة فى المشرق والأخذ عن الشيوخ: أخذ المؤلفات والإجازات، وللسفارة إلى ممالك النصارى فى الشمال وأصحاب الإمارات المختلفة فى الأندلس ولمرافقه حكام غرناطة وسلاطين المغرب فى رحلاتهم، وللفرجة على ما وراء البلاد العربية فى آسيا وشرقى أوربا واكتشاف المجهول فى تلك الديار النائية من الأمم وظواهر الكون. ومن أطرف تلك الرحلات رحلة أبى حامد الغرناطى إلى بلاد البلغار والصقالبة وروسيا، ورحلة ابن جبير فى البلدان العربية، وتتميز بدقة الوصف وجمال السرد والأسلوب المرسل العذب.