الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صور من التكلف الشديد، وقد أصبح التصنع بدع العصر للإتيان بمحسنات البديع من جناس وطباق ولف ونشر وتوريات وبذلك لم يعد الشعر فى جمهوره يعبر عن عواطف ومشاعر صادقة للشاعر، وربما كانت أجمل مقطوعة غزلية لابن خاتمة قوله:
زارت على حذر من الرّقباء
…
والّليل ملتفّ بفضل رداء
تصل الدّجى بسواد فرع فاحم
…
لتزيد ظلماء إلى ظلماء
فوشى بها من وجهها وحليّها
…
بدر الدّجى وكواكب الجوزاء
أقسمت لولا عفّة عذريّة
…
وتقى علىّ له رقيب رائى
لنقعت غلّة لوعتى برضابها
…
ونضحت ورد خدودها ببكائى
ومع ذلك فإننا نشعر بغير قليل من التكلف فى المقطوعة على نحو ما نرى فى الشطر الثانى من البيت الثانى، والصور فى البيت الثالث متراكمة، وقسمه الذى مهّد به لعفته وتقاه الذى يراقبه فى حبه، كل هذه صور من التكلف الشديد فى الغزل. ويخف هذا التكلف فى موشحاته بحكم القصر الشديد فى شطورها، وبذلك لا تظهر فيها هلهلة النسيج التى تلاحظ بوضوح فى كثير من أبيات شعره.
2 - شعراء الطبيعة والخمر
تتميز الأندلس بطبيعة فاتنة فى سهولها ووديانها وأنهارها وجبالها وغاباتها وأشجارها وأزهارها وبساتينها ومتنزهاتها، وهى طبيعة خلبت ألباب الشعراء هناك فتغنوا بمفاتنها ومشاهدها دائما باثّين فيها عواطفهم ومشاعرهم. وكان مما زادهم شغفا بها ما مرّ بنا من اختلافهم إلى المتنزهات والحدائق المحيطة ببلدانهم مع صواحبهم، ولذلك كثر عند شعراء الأندلس المزج بين الطبيعة والغزل، وأيضا كثر عندهم المزج بين الطبيعة والخمر، ونظن ظنا أن إقبالهم على الخمر إنما كان بسبب مزاجهم الحاد العنيف الذى ولدته فيهم حربهم الدائمة لنصارى الشمال، إذ تقوم حياة المحارب دائما على الحدة والعنف والإقبال على فنون المتاع. وكان من آثار ذلك أن كثر عندهم شعر الخمر مقرونا بالطبيعة أو بها وبالحب، وكثيرا ما يسوقون ذلك فى مقدمات مدائحهم، ولا نستطيع الحديث عن شعراء الطبيعة والخمر فى قسمين متقابلين كما صنعنا فى حديثنا عن شعراء الفخر والهجاء، إذ هما
ممتزجان، مما يجعلنا نسوق الحديث عنهما معا. وقد يكون من الطريف أن نلتقى عند عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية فى تلك الديار بمقطوعة له فى وصف نخلة ببستان قصره فى قرطبة المسمى منية الرّصافة، وهى تمضى على هذا النمط (1):
تبدّت لنا وسط الرّصافة نخلة
…
تناءت بأرض الغرب عن بلد النّخل
فقلت: شبيهى فى التغرّب والنّوى
…
وطول التنائى عن بنىّ وعن أهلى
نشأت بأرض أنت فيها غريبة
…
فمثلك فى الإقصاء والمنتأى مثلى
وكأن هذه النخلة رمز العرب هناك، وكأن هذه القطعة الشعرية أيضا بدورها رمز لهم بما تحمل من حنين لا ينقطع إلى الوطن البعيد، حنين مبثوث فى هذه النخلة الغريبة التى نقلها العرب إلى تلك الديار النائية القاصية البعيدة. وكما نقلوا النخلة معهم نقلوا إلى أشعارهم كل العناصر البدوية النجدية من أطلال وغير أطلال، ونقلوا ما استحدثه العباسيون فى وصف الطبيعة وسكبوا عليه من بيئتهم ومشاعرهم وأخيلتهم ما بث فيه الحياة والحيوية على نحو ما نجد فى هذه الأبيات البديعة المبكرة، وكأنها إرهاص لما يستشعره الشاعر الأندلسى من تمثل عناصر الطبيعة لمشاعر الإنسان. ونقلوا- بجانب ذلك-ما استحدثه العباسيون فى الخمر وخاصة أبا نواس، وممن حاول محاكاته مبكرا يحيى الغزال الذى ترجمنا له بين الهجائين، وله قصيدة على طريقة أبى نواس تصور مغامرة له فى حان من حانات الخمارين وفيها يقول (2):
ولما أتيت الحان ناديت ربّه
…
فثاب خفيف الروح نحو ندائى
فقلت أذقنيها فلما أذاقها
…
طرحت عليه ريطتى وردائى (3)
وهو يقول إنه حين ذاق خمر صاحب الحان بلغ من نشوته بها أن خلع ملابسه. وحرى بنا أن لا نأخذ مثل هذه الخمرية عند الغزال مأخذ الجد، فكثير من شعر الخمر-لا فى الأندلس وحدها بل فى كل البلدان العربية-كان يقال محاكاة لأبى نواس على سبيل الفكاهة فى المجالس، ومثل ذلك ما يقال فى وصف سقاتها والغزل بهم، فأكثر ذلك وجمهوره، إنما كان يقال على سبيل التندير والمداعبة، ولا يمثّل حقيقة ولا ما يشبه
(1) الحلة السيراء 1/ 37.
(2)
الديوان ص 43.
(3)
الريطة: الثوب الرقيق تحت الرداء.
الحقيقة. ويقول عباس بن ناصح فى قطع مفازة ليلا (1):
ومخوفة تنفى مخافتها
…
نوم الفتى ذى المرّة النّدب (2)
للجنّ فى أجوازها لغط
…
بالليل مثل تنازع الشّرب
وترى بها جون النّعام إذا
…
أشرفن كالمهنوءة الجرب (3)
وهو يصف سرى الليل فى فلاة مخوفة حتى ليخاف السرى فيها الشجاع شديد المضى. ويستلهم ما كرره طويلا ذو الرمة فى وصف الفلوات ليلا وعزيف الجن بها الذى يشبه كما يقول عباس بن ناصح لغط الشّرب، ويشبّه ما بها من النعام الأسود بالإبل الجرب المطلية بالقطران، وكأننا لا نقرأ لشاعر أندلسى فى القرن الثالث الهجرى وإنما نقرأ لشاعر نجدى من أمثال ذى الرمة. ويقول ابن عبد ربه فى وصف نهار ممطر (4):
نهار لاح فى سربال ليل
…
فما عرف الرّواح من البكور
وعين الشمس ترنو من بعيد
…
رنوّ البكر من خلف السّنتور
فالسحب منعقدة فى السماء والجو مظلم، ولا يدرى ابن عبد ربه هل الناس السائرون فيه باكرون أو مبكرون صباحا قبل طلوع الشمس أو هم رائحون أو راجعون، وأحيانا تتراءى عين الشمس رانية من بعيد، ولكن سرعان ما تختفى وراء السحب اختفاء الفتاة الرانية خلف الستور خجلا واستحياء. ونتقدم فى القرن الرابع الهجرى ونلتقى بيحيى بن هذيل وله أشعار كثيرة فى الربيع وأزهاره. وله فى وصف حمامة وأنينها محزونة لفراق صاحبها أو هديلها (5):
ومرنّة والدّجن ينسج فوقها
…
بردين من طلّ ونوء باك (6)
مالت على طىّ الجناح وإنما
…
جعلت أريكتها قضيب أراك (7)
وترنّمت لحنين قد حلّتهما
…
بغناء مسمعة وأنّة شاك
ففقدت من نفسى لفرط تلهّفى
…
نفس الحياة وقلت من أبكاك
وهو يقول إن الحمامة ترن وتصدح والغيم يملأ أقطار الأرض والسماء ناسجا فوقها
(1) كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس لابن الكتانى (تحقيق د. إحسان عباس) ص 173.
(2)
ذو المرة: القوى الشجاع. الندب: الماضى.
(3)
جون: سود. المهنوءة: الإبل المطلية بالهناء وهو القطران.
(4)
الذخيرة 1/ 779.
(5)
الذخيرة 3/ 346.
(6)
الدجن: الغيم يعم أطباق الأرض والسماء. النوء: المطر.
(7)
الأريكة: المقعد. قضيب: غصن.
رداءين من طل ومطر تذرفه السحب، وهى محزونة قد مال رأسها على طى الجناح متخذة من غصن الأراك أريكة لها ومقعدا، وشجاها فراق صاحبها فهى تترنم بغناء ممزوج بأنين، مما جعله يذكر حبه ويملؤه تلهفا لرؤية صاحبته حتى لكأنما يوشك أن يفقد الحياة. ويبكى من حرق هواه بصاحبته، ويسأل الحمامة سؤال العارف من أبكاك؟ فنحن فى الهوى سواء.
وتكثر أشعارهم فى الأزهار، وكثيرون منهم يردون على ابن الرومى فى تفضيله النرجس على الورد، ولسعيد بن فرج فى الرد عليه قصيدة يقول فيها:(1)
أزعمت أن الورد من تفضيله
…
خجل وناحله الفضيلة عاند
إن كان يستحيى لفضل جماله
…
فحياؤه فيه جمال زائد
فهو يجعل خجل الورد لاحمرار وجنته من جوهر حسنه يزيده جمالا على جمال، فهو ليس احمرارا ولا خجلا عارضا أمام النرجس، بل هو جزء لا يتجزأ من جماله. ونزل الرمادى ضيفا على صحب له فى مدينة وادى آش إلى الشمال الشرقى من غرناطة، وكان الوقت شتاء، وقدموا له احتفالا به باقة من الورد كانوا اجتلبوها من بجّانة فى الجنوب الشرقى، فتعجب من وجود الورد فى وادى آش شتاء، فقالوا له إنه من بجّانة، فأخلد إلى الصمت ولم يلبث أن لثمها وأنشد (2)
يا خدود الحور فى إخجالها
…
قد علتها حمرة مكتسبه (3)
اغتربنا أنت من بجّانة
…
وأنا مغترب من قرطبه
واجتمعنا عند إخوان صفا
…
بالنّدى أموالهم منتهبه
إنّ لثمى لك قدّامهم
…
ليس فيه فعلة مستغربه
لاجتماع فى اغتراب بيننا
…
قبّل المغترب المغتربه
والمقطوعة مع سهولة ألفاظها تفيض بالعاطفة، وكأنه أعاد لنا حديث عبد الرحمن الداخل السابق إلى النخلة، فهو والوردة متماثلان فى الغربة، وأضاف إلى ذلك حبا للوردة ولثما وتقبيلا عند إخوان صفاء كرام كرما فيّاضا. وكان للمنصور بن أبى عامر الحاجب ثلاث جوار سماهن بأسماء الأزهار: بهار ونرجس وبنفسج، ونرى عبد الملك بن إدريس
(1) الحميدى 212.
(2)
البديع فى وصف الربيع لأبى الوليد إسماعيل بن عامر الحميرى (تحقيق هنرى بيريس-طبع الرباط) ص 122.
(3)
الحور جمع حوراء: المرأة البيضاء.
الجزيرى يجعل كلا منهن تخاطب مولاها متمثلة زهرتها ومحاسنها بين الأزهار فى مقطوعات (1) شعرية بديعة. ويقول الشريف الطليق فى نفس قصيدته الفريدة السالفة فى ترجمته (2):
وغمام هطل شؤبوبه
…
نادم الروض فغنّى وسقى (3)
فى ليال ضلّ سارى نجمها
…
حائرا لا يستبين الطّرقا
أوقد البرق لها مصباحه
…
فانثنى وجه دجاها مشرقا
وشدا الرّعد حنينا فجرت
…
أكؤس المزن عليه غدقا (4)
وغدت تحنو له الشمس وقد
…
ألحفته من سناها نمرقا (5)
وقد بثّ الشريف الطليق فى الغمام الممطر والروض مشاعر مجلس أنس وطرب بما فيه من مغن وساق فى ليلة داجية، أمسى النجم فيها حائرا لا يتبين طريقه، وسرعان ما أشعل البرق لها مصابيحه، فاستحال وجهها الداجى المظلم مشرقا مضيئا، وأخذ الرعد يشدو ويغنى، فجرت أكؤس المزن غزيرة حتى انتشى الروض، وأصبح، فرأت الشمس ما أصاب الغصون وبعض الأزهار من المطر المنهمر ليلا، فعطفت على الروض وأشفقت عليه وكسته من سناها وضوئها طنافسها الذهبية، حتى يسرى فيه الدّفء.
ولم نقف حتى الآن عند الخمريات لا لأنها كانت قليلة، فلم يكد يخلو شاعر ممن سميناهم فى هذا العصر الأموى من أشعار له فى الخمر، غير أنها فى جملتها تعد محاكاة وتقليدا لما قال المشارقة فيها. وربما كان الشريف الطليق أول شاعر نقرأ له فى الخمر أشعارا فيها شئ من الطرافة لملكاته الخيالية الخصبة من مثل قوله فى نفس القصيدة السالفة:
ربّ كأس قد كست جنح الدّجى
…
ثوب نور من سناها يققا (6)
بتّ أسقيها رشا فى طرفه
…
سنة تورث عينى أرقا (7)
خفيت للعين حتى خلتها
…
تتّقى من لحظه ما يتّقى
(1) راجع هذه المقطوعات فى الذخيرة 4/ 47 وانظر فى ترجمة الجزيرى الجذوة 261 والمطمح 13 والصلة 350 والمغرب 1/ 221.
(2)
الحلة السيراء 1/ 223.
(3)
شؤبوب المطر: أول دفعة منه.
(4)
المزن: السحاب. غدقاء: غزيرة.
(5)
النمرق: الطنفسة من القطيفة أو الصوف.
(6)
الأبيض اليقق: الناصع البياض جنح: ظلام.
(7)
الرشأ: ولد الظبية.
أشرقت فى ناصع من كفّه
…
كشعاع الشمس لاقى الفلقا (1)
طلعت شمسا وفوه مغربا
…
ويد الساقى المحيّى مشرقا
فإذا ما غربت فى فمه
…
تركت فى الخدّ منه شفقا
والاستعارات فى الخمرية جيدة، فالكأس كست ظلام الدجى ثوب نور من ضوئها ناصع البياض، وقد بات يسقيها رشأ عيناه ذا بلتان كأن بهما سنة من النوم، وإن فتورهما وجماله ليؤرقه. ويقول إنها خمر روحانية، حتى إنها لا تكاد ترى، وكأنها تتوارى من لحظ هذا الرشأ خشية أن تصيبها سهامه، ويجعل يد الساقى مشرقا لتلك الشمس أو تلك الخمر، كما يجعلها تغرب فى فم الرشأ أو فم صاحبته. وكل ذلك فيه أصداء من خمريات أبى نواس، وقد نفذ إلى إضافة حين جعل يد الساقى مشرقا وجعل الخمر حين تغرب فى فم صاحبته تتحول فى الخد منها شفقا. ويتصور معاصره الفقيه سليمان بن محمد البطليوسى الأرض فى الربيع كأنها مجلس أنس كبير، يقول (2):
تبدت لنا الأرض مزهوّة
…
علينا ببهجة أثوابها
كأنّ أزاهرها أكؤس
…
حوتها أنامل شرّابها
كأن الغصون لها أذرع
…
تناولها بعض أصحابها
كأن تعانقها بالجنوب
…
تعانق خود لأترابها
كأنّ ترقرق أجفانها
…
بكاها لفرقة أحبابها
فالأرض قد ازدهت بأبهج أثوابها لهذا الاحتفال الكبير، وكأنما أزهارها تحولت إلى كئوس فى أنامل الشاربين تمدها لهم أذرعها من الغصون، مبتهجة فرحة بلقائهم، وريح الجنوب تعانق الغصون عناق خود أو شابة فاتنة لأترابها الفاتنات، ويتلفت فيجد النّدى على وجنات الأزهار وفى عيونها فيقول إن الدموع تترقرق فى أجفانها لفرقة أحبابها.
ونلتقى بعده بعبادة بن ماء السماء، وسنخصه بكلمة. وكان يعاصره ابن شهيد بأخرة من العصر الأموى، وله فى زيارة دير أيام شبابه مع صحبه فى طلب الخمر واللهو:(3)
ولربّ حان قد شربت بديره
…
خمر الصّبا مزجت بصفو خموره
فى فتية جعلوا الزّقاق تكاءهم
…
متصاغرين تخشّعا لكبيره
(1) الفلق: الصباح.
(2)
ابن الكتانى ص 41 والبديع فى وصف الربيع ص 14 وانظر فى ترجمة الفقيه الحميدى 206 وبغية الملتمس رقم 762.
(3)
الديوان ص 115.
يهدى إلينا الرّاح كلّ معصفر
…
كالخشف خفّره التماح خفيره (1)
وترنّم الناقوس عند صلاتهم
…
ففتحت من عينى لرجع هديره
وهو يقول إنه بات مع بعض رفاقه فى حانة دير اصطفت فيها الدنان وأخذوا يعبّون من الخمر متخذين من زقاقها متكئا لهم، كأنما يريدون أن لا يتركوا فيها بقية، وغلمان الدير يدورون عليهم بكئوسها وعين القسيس ترصدهم وترعاهم. وأخذتهم سنة من النوم، ودقّ ناقوس الكنيسة فى الصباح فأيقظهم من رقادهم. وحرى بنا أن نشير هنا إلى كتاب التشبيهات لابن الكتانى المتوفى حوالى سنة 420 للهجرة، فكل ما فيه من عرض للشعراء مع طرائف تشبيهاتهم هو من إنتاج العصر الأموى بالأندلس، وقد خص شعر الطبيعة بنحو ستين صفحة وشعر الخمر بنحو عشرين صفحة، تتوالى فيها جميعا تشبيهات طريفة لكثرة من الشعراء الذين أظلهم هذا العصر ونالوا شيئا من الشهرة فيه، وقد بلغوا فى الكتاب جميعه نحو مائة شاعر، مما يدل بحق على أن الشعر نشط فى الأندلس لعصر بنى أمية-كما قلنا فى غير هذا الموضع-نشاطا عظيما.
ونمضى إلى عصر أمراء الطوائف ونلتقى فى أوائله بأبى عبد (2) الله محمد بن السراج شاعر بنى حمود بمالقة فى الجنوب الشرقى للأندلس على البحر المتوسط، وكان صبّا بمن اسمها حسن الورد وله فيها وفى الورد وفى الطائر المسمى حسّونا ويسمى عندهم أم الحسن أشعار كثيرة نذكر منها قوله:
ذكرت بالورد حسن الورد شقّته
…
حسنا وطيبا وعهدا غير مضمون
هيفاء لو بعت أيامى لرؤيتها
…
بساعة لم أكن فيها بمغبون
فاشرب على ذكرها خمرا كريقتها
…
وخصّنى بهواها حين تسقينى
فورد الربيع على أغصانه يذكّره باسم صاحبته وبالورد المطبوع على خديها، ويقول إنها صنو للورد طيبا وحسنا وقصرا إذ أيامه قليلة. ويذكر لقاءات له معها، فيطلب إلى الساقى كأسا يشربه على ذكرها، وذكرى الأيام التى نعم فيها بقربها. وكان يزامله فى مديح بنى حمود أصحاب مالقة عبد الرحمن بن مقانا وسنخصه بكلمة ونلتقى
(1) معصفر: مصبوغ بالعصفر وهو صبغ أحمر. ويريد السقاة من غلمان القسس. الخشف: ولد الظبية. خفره: حماه. خفيره: حارسه.
(2)
انظر فى ترجمة ابن السراج وشعره الذخيرة 1/ 870 وما بعدها والحميدى 56 والبغية رقم 144 والمغرب 1/ 434.
بأبى عامر بن مسلمة صاحب كتاب حديقة الارتياح فى وصف حقيقة الراح الذى ألفه للمعتضد عباد أمير إشبيلية، وله فى وصف الخمر (1):
خمرة ماتت زمانا
…
بحجاب يحتويها
لبثت فى بطن أمّ
…
غيّبتها عن بنيها
ألحدتها الدّنّ دهرا
…
ثم عاد الرّوح فيها
فانبرى منها سراج
…
رائق من يجتليها
وهو يقول إنها ماتت زمانا طويلا وراء حجاب دنّها أو سداده، ويزعم أنها ظلت فى بطن أمها حقبا لا تبرزها لبنيها من الكئوس، وما زالت الدن مدفونة، أو بعبارة أدق ما زالت الخمر مدفونة لا حياة فيها ولا روح، ثم قدّر لها أن يعيد الماء لها روحها وحياتها حين وضع فيها وامتزج بها، ولم تلبث أن بدا فيها سراج يروق الناظرين. وكان يعاصره فى إشبيلية أبو الوليد إسماعيل بن عامر الحميرى الملقب بحبيب المتوفى سنة 440 عن اثنين وعشرين عاما، وله كتاب البديع فى وصف الربيع الذى تحدثنا عنه فى الفصل الثانى، وهو أحد مصادرنا المبثوثة فى الهوامش، وقد جمع فيه روائع مما للأندلسيين فى صفة الربيع وأزهاره ونواويره، وهو دليل واضح على كثرة ما نظم الأندلسيون فى الطبيعة مما أتاح له أن يؤلف فيها منتخباته البديعة فى مائة وستين صفحة، مما نظموه فيها. ولابن عمار أبيات فى الخمر والطبيعة اشتهرت قدّم بها مدحة للمعتضد عباد، وهى تمضى على هذا النمط (2):
أدر الزّجاجة فالنسيم قد انبرى
…
والنّجم قد صرف العنان عن السّرى
والصّبح قد أهدى لنا كافوره
…
لما استردّ الليل منّا العنبرا
والرّوض كالحسنا كساه زهره
…
وشيا وقلّده نداه الجوهرا
روض كأن النهر فيه معصم
…
صاف أطلّ على رداء أخضرا
وموسيقى القصيدة وصياغتها وصورها على هذه الشاكلة من التفنن، وكأنما تحولت الدنيا والطبيعة إلى محفل راقص، حتى النجم كأنما ثبت فى مكانه لا يريم، واسترد الليل المرح الذى قضوه عنبره وسواده منهم، فأهداهم الصباح كافوره وضياءه المشرق، وتبرّج الروض فى وشيه وجواهره، وكأن النهر الذى يجرى فيه معصم صاف متلألئ بمياهه يشرف
(1) الذخيرة 2/ 108.
(2)
الذخيرة 2/ 384 ومغرب 1/ 391.
على بساط بل على رداء سندسى أخضر. وتتداخل صور الطبيعة فى مديح القصيدة ومعانيها مرارا كقوله السالف فى المعتضد:
أندى على الأكباد من قطر النّدى
…
وألذّ فى الأجفان من سنة الكرى
وكان يعاصره بإشبيلية على بن حصن الماجن، وسنفرد له كلمة. ونمضى إلى عصر المرابطين، ونلتقى بعبد الله بن سارة، وله أشعار كثيرة فى الأزهار: النرجس وغيره وفى الخمر ومجالسها، ومن قوله فى النارنج (1):
أجمر على الأغصان زادت نضارة
…
به أم خدود أبرزتها الهوادج
كرات عقيق فى غصون زبرجد
…
بكفّ نسيم الرّيح منها صوالج
نقبّلها طورا وطورا نشمّها
…
فهنّ خدود بيننا ونوافج
وابن سارة لا يدرى أيرى على الأغصان جمرا ناضرا أم خدودا لحسان تومض من بعيد على الهوادج، بل هى كرات من عقيق أحمر تتوّج غصونا من زبرجد أخضر، بل هى صوالج يرسلها النسيم بكفه إلى أعالى أشجارها حتى إذا تناولها بيده مضى يقبل فيها خدود الحسان ويشم أريجها العطر، وكأنها طورا خدود وطورا نوافج مسك ذكى الرائحة.
ولهم شعر كثير فى الفواكه والثمار نكتفى منه بهذا المثال. ولأبى طالب عبد الجبار المترجم له بين أصحاب الشعر التعليمى خمرية نواسية، وصف فيها زيارته لإحدى الحانات، يقول فيها (2):
وخمّار أنخت به مسيحى
…
رخيم الدّلّ ذى وتر فصيح (3)
سقانى ثم غنّانى بصوت
…
فداوى ما بقلبى من جروح
وفضّ فم الدّنان على اقتراحى
…
ففاح البيت منها طيب ريح
فقلت له لكم سنة تراها
…
فقال: أظنّها من عهد نوح
ولما أن شدا الناقوس صوتا
…
دعانى: أن هلمّ إلى الصّبوح
فهو قد نزل بخمار مسيحى يحسن الغناء على العود بصوت رقيق، وسقاه وغناه وشفى-كما يقول-ما بقلبه من جروح، وأخذ يفضّ له باقتراحه دنّا وراء دن، وسأله عن عمرها فقال له إنها عتيقة وأظنها من عهد نوح، ودقّ الناقوس، فنبّهه إلى الصبوح أو
(1) الذخيرة 2/ 840 ومغرب 1/ 420.
(2)
الذخيرة 1/ 918 والمغرب 2/ 372.
(3)
رخيم: رقيق.
شربها فى الصباح. ولابن الزقّاق يصف أمسية وقد غربت الشمس وخلّفت وراءها على أفق السماء الغربى الشفق البهيج (1):
وعشيّة لبست رداء شقيق
…
تزهو بلون للخدود أنيق
أبقت بها الشمس المنيرة مثلما
…
أبقى الحياء بوجنة المعشوق
لو أستطيع شربتها كلفا بها
…
وعدلت فيها عن كئوس رحيق
وهو يتصور العشية كأنما أعارها زهر شقائق النعمان الأحمر رداء أو كأنما اكتست بحمرة الخدود الفاتنة أو كأنما خلّفت الشمس المضيئة عليها ما يخلّفه الخجل على وجنة المعشوق. وإنه ليفتن بتلك العشية وما يلابس الأفق من أضواء الشفق الوردية والياقوتية التى تفوق نشوته برؤيتها نشوته بالكئوس من رحيق الخمر، حتى ليتمنى- لو استطاع-أن يشربها هانئا بها هناءة ما بعدها هناءة. وابن الزقاق ينتشى دائما بمناظر الطبيعة الساحرة وله بجانب شعره فيها خمريات كثيرة، ولكن تظل نشوته بالطبيعة أشد أو أكثر شدة. وكانت فتنة خاله ابن خفاجة بالطبيعة أعمق أو أكثر عمقا وسنخصه بكلمة عما قليل.
ونظل فى عصر الموحدين نلتقى بكثيرين مفتونين بمناظر الطبيعة الأندلسية الخلابة، وفى مقدمتهم الرصافى الذى ترجمنا له بين شعراء المديح، وله يصف نهر الوادى الكبير الذى يمر أمام إشبيلية وما يحيط به من أشجار ونباتات قائلا (2):
ومهدّل الشّطّبن تحسب أنّه
…
متسايل من درّة لصفائه
فاءت عليه مع الهجيرة سرحة
…
صدئت لفيئتها صفيحة مائه (3)
وتراه أزرق فى غلالة سندس
…
كالدّارع استلقى بظلّ لوائه
فالنهر تتهدلّ على شطيه أغصان الأشجار، وهو يجرى تحتها صافيا متلألئا كأنه يسيل من درة أو درر نفيسة وقد بسطت شجرة ضخمة على مائه ظلها، وكأنما ألقت صدأ على صفيحته أو وجهه العريض، وهى صورة بديعة. ولم يلبث النهر أن تراءى له مع حفافيه من النباتات والزروع كأنما يرتدى غلالة سندسية، وأيضا تراءى له مع ما تلقى عليه السرحة
(1) الديوان ص 206 والمغرب 2/ 334.
(2)
رايات المبرزين (طبع القاهرة) ص 119 والإحاطة 2/ 514.
(3)
فاءت سرحة: بسطت ظلها. السرحة: الشجرة الضخمة. الهجيرة: نصف النهار عند اشتداد الحر.
من ظل كدارع محارب استلقى يستريح مستظلا بلوائه. والرصافى لا يبارى فى روعة تصاويره، وله يصف أمسية قضاها مع بعض رفاقه منتشيا بشرب الخمر وبرؤية مغرب الشمس والطير تصدح من حوله، يقول (1):
وعشىّ رائق منظره
…
قد قطعناه على صرف الشّمول (2)
وكأنّ الشمس فى أثنائه
…
ألصقت بالأرض خدّا للنزول
والصّبا ترفع أذيال الرّبى
…
ومحيّا الجوّ كالسّيف الصّقيل
حبّذا منزلنا مغتبقا
…
حيث لا يطربنا غير الهديل
طائر شاد وغصن منثن
…
والدّجى يشرب صهباء الأصيل (3)
وهو يقول إنه ظل فى هذه الأمسية يتمتع بشراب الخمر الصافى وبمنظر الطبيعة الخلاب والشمس تودع الأرض وتلصق بها خدها إعزازا ومحبة، ونسيم الصّبا العليل يحرك النباتات والغصون أو كما يقول أذيال الربى والمرتفعات، ويثنى على منزلهم واغتباقهم أو احتسائهم للخمر فيه مساء على سماع الهديل وهديره وما يحمّله من أنغامه وأشجانه.
ويبلور روعته بالمنظر فى طائر شاد وغصن منثن، ويحلق خياله، إذ يجعل الدجى ينتشى مثله ومثل رفاقه بما يشرب من صهباء الأصيل ورحيقه الهنئ. وكانوا كثيرا ما يتنزهون فى الأنهار والخلجان ويركبون لها الزوارق ذات الأشرعة والأخرى ذات المجاديف، وأحيانا كانوا يجرون فيها سباقا على نحو ما كانوا يصنعون بسباق الخيل، ويتحدث الفقيه أبو الحسن على بن لبّال قاضى شريش عن أحد هذه السباقات فى نهرها قائلا (4):
بنفسى هاتيك الزوارق أجريت
…
كحلبة خيل أولا ثم ثانيا
وقد كان جيد النّهر من قبل عاطلا
…
فأمسى بها فى ظلمة الليل حاليا
عليها لزهر الشّمع زهر كواكب
…
تخال بها ضمن الغدير عواليا (5)
وربّ مثار بالجناح وآخر
…
برجل يحاكى أرنبا خاف بازيا
وهو يقول إن الزوارق أجريت فى النهر على دفعات تزينها شموع أصبح بها جيد النهر
(1) رايات المبرزين ص 119.
(2)
صرف الشمول: خالص الخمر.
(3)
الصهباء: الخمر.
(4)
رايات المبرزين ص 53 وانظر فى ترجمة ابن لبال وشعره المطرب ص 97 والمغرب 1/ 303 والتكملة ص 673 وصلة الصله ص 109. توفى سنة 583.
(5)
العوالى: الرماح. زهر جمع أزهر: مشرق مضئ.
حاليا بعد أن كان عاطلا من الحلى والزينة. ويخال الشموع فى النهر كأنها رماح مشرعة، بينما الزوارق منها ذات الشراع أو الجناح ومنها ذات المجاديف، وتسرع كأنما هى أرانب تخاف أن يصيدها البزاة والصقور. ومن شعراء الطبيعة المبدعين حينئذ محمد بن سفر، وسنخصه بكلمة. ونلتقى بأخرة من أيام الموحدين بالهيثم بن أبى الهيثم حافظ إشبيلية بل الأندلس جميعها فى عصره، وكان أعجوبة دهره، كان يحفظ ديوان ذى الرمة الشاعر الأموى، ومن عجائبه أنه كان يملى على شخص شعرا-كما يقول ابن سعيد-وعلى ثان موشحة وعلى ثالث زجلا، وكل ذلك يمليه ارتجالا دون توقف، وله فى فرس أصفر (1):
أطرف فات طرفى أم شهاب
…
هفا كالبرق ضرّمه التهاب (2)
أعار الصّبح صفحته نقابا
…
ففرّ به وصحّ له النّقاب
فمهما حثّ خال الصّبح وافى
…
ليطلب ما استعار فما يصاب
إذا ما انقضّ كلّ النّجم عنه
…
وضلّت عن مسالكه السّحاب
وللأندلسيين شعر كثير فى وصف الخيل لأنهم كانوا يحاربون عليها دائما، وكانوا يعقدون أحيانا بينها سباقات. ويتشكك الهيثم حين رأى هذا الفرس يعدو عدوا سريعا كأنه يبارى به الرياح، فيقول أهذا طرف أى حصان أو هو شهاب سقط من أحد أركان السماء، وكأنه برق مضطرم لهيبا. ويظن كأن الصبح أعاره نقابا أصفر، ففرّ به، وهو دائما لا يتوقف كأنه يظن الصبح فى إثره يطلب نقابه الذى اقترضه منه. ويقول إنه إذا انقضّ وراء فريسة أعيا النجم أن يلحق به وضلّت السحب عن معرفة مسالكه. ويلقانا أبو جعفر أحمد بن طلحة، وله (3):
أدرها فالسماء بدت عروسا
…
مضمّخة الملابس بالغوالى (4)
وخدّ الروض خفّره أصيل
…
وجفن النهر كحّل بالظلال
وجيد الغصن يشرف فى لآل
…
تضيئ بهنّ أكناف الليالى
وهو يقول لصاحبه: دعنا نتناول خمر الغبوق المسائية، فالسماء قد بدت عروسا
(1) الرايات ص 47 وانظر فى الهيثم وترجمته وشعره المغرب 1/ 263 واختصار القدح المعلى ص 158 والتكملة ص 716. توفى سنة 630.
(2)
طرف بكسر الطاء: حصان. هفا: أسرع.
(3)
اختصار القدح المعلى ص 14 وانظر فى ترجمة ابن طلحة أيضا المغرب 2/ 364 والتحفة رقم 96.
(4)
الغوالى: جمع غالية: المسك.
مبتهجة مضمخة أو معطرة بالمسك فى منظر الروض البهيج، وكأنما سكب الأصيل على خد الروض حياء وخفرا فاصفرّ لونه، بينما كحّل جفن النهر بالظلال، وقد أضاءت على جيد الغصن أزهار كاللآلئ تضئ الليالى المظلمة.
ويلقانا مرج الكحل: محمد بن إدريس الذى نشأ بائعا متجولا فى الأسواق يتعيش ببيع السمك ثم ترقت به همته إلى الأدب قليلا قليلا-كما يقول ابن سعيد-إلى أن نظم الشعر ثم ارتفعت فيه طبقته، وله خمرية يمزج فيها بين نشوته بالطبيعة ونشوته بالخمر يقول فيها (1):
عرّج بمنعرج الكثيب الأعفر
…
بين الفرات وبين شطّ الكوثر (2)
ولتغتبقها قهوة ذهبية
…
من راحتى أحوى المراشف أحور (3)
والروض بين مفضّض ومذهّب
…
والزّهر بين مدرهم ومدنّر (4)
والورق تشدو والأراكة تنثنى
…
والشمس ترفل فى قميص أصفر (5)
ما اصفرّ وجه الشمس عند غروبها
…
إلا لفرقة حسن ذاك المنظر
وهو يدعو صاحبه أن ينزل معه بطريق الكثيب المشرب بحمرة فى تلك الجنّة البعيدة بين الفرات والكوثر ليتمتعا هناك بالغبوق أو خمر المساء، وبمناظر الأزهار المفضضة والمذهبة، والورق أو الحمام يشدو ويهدر وأغصان الأراكة تنثنى، يثنيها النسيم العليل والشمس تتبختر فى قميصها الأصفر الرقيق، ويقول إن صفرتها عند الغروب بسبب فراقها ووداعها لمنظر هذا الروض الفاتن. ويقول أبو الحجاج يوسف بن عتبة الإشبيلى المتطبب فى خاتمة موشح له يصور شرب الخمر والصباح يطل على الطبيعة (6):
فقم نباكرها للاصطباح
…
والشّهب تنثر من خيط الصباح
(1) مغرب 2/ 373 وانظر فى ترجمة مرج الكحل وشعره أيضا زاد المسافر ص 27 والوافى بالوفيات 2/ 181 والتكملة ص 344 والاحاطة 2/ 343 حمل عنه ديوان شعره وتوفى سنة 634.
(2)
منعرج الكثيب الأعفر: طريق الكثيب المخالط لونه حمرة. الكوثر: نهر بالجنة ولعله يريد دجلة.
(3)
القهوة: الخمر. اغتباقها: شربها فى المساء. المراشف: الشفاه.
(4)
المدرهمة: الفضية من الدرهم. والمدنرة: الذهبية من الدينار.
(5)
ترفل: تتبختر.
(6)
مغرب 1/ 282 وانظر فى ترجمة أبى الحجاج وشعره أيضا اختصار القدح المعلى لابن سعيد ص 161.
والقضب ترقص فى أيدى الرّياح
…
على غناء الحمام
والكاس ذات ابتسام
والظلام قتيل
…
والصّبح دامى الحسام
وإنما ذكرنا هذا الدور الختامى لإحدى موشحات أبى الحجاج لنشير بوضوح إلى أننا إذا كنا قد أغفلنا فى حديثنا عن أغراض الشعر ذكر الموشحات فليس معنى ذلك أنها انفصلت فى أغراضها عن الأغراض العامة للشعر فقد كانت هى نفسها أغراض الموشحات ولهم فيها ما لا يحصى من الأخيلة البديعة، على شاكلة ما نرى فى هذا الدور من تمثيل غياب النجوم مع تباشير النهار، فقد جعلها أبو الحجاج تنثر من خيط الصباح وكأنها دنانير تنثر فى عرس والغصون راقصة متشابكة ومتلاعبة مع الرياح، والحمام يشدو ويغنى والخمر فى كئوسها تبتسم ثغورها. ولا يلبث أبو الحجاج أن يعرض علينا هذا المشهد الدرامى البديع فالظلام طريح قتيل، إذ سفك الصبح دمه، ولا تزال حمرته القانية تلطّخ سيفه. ويقول ابن الأبار مستلهما الرصافىّ فى وصف نهر (1):
ونهر كما ذابت سبائك فضّة
…
حكى بمحانيه انعطاف الأراقم (2)
إذا الشّفق استولى عليه احمراره
…
تبدّى خضيبا مثل دامى الصّوارم (3)
وتحسبه سنّت عليه مفاضة
…
لإرهاب هبّات الرياح النواسم (4)
وتطلعه فى دكنة بعد زرقة
…
ظلال لأدواح عليه نواسم
وهو يجعل ما فى النهر سبائك فضة سائلة، ويشبهه فى انعطافاته يمينا ويسارا بانعطافات الأفاعى، حتى إذا سقط عليه الشفق تصوّره سيفا داميا، وسقط عليه الظل فتصوره درعا لبسه النهر لإرهاب الرياح، وإنها لتحيل لونه داكنا بعد أن كان أزرق صافيا. ويقول إبراهيم (5) بن سهل الإشبيلى:
الأرض قد لبست رداء أخضرا
…
والطلّ ينثر فى رباها جوهرا
(1) أزهار الرياض 3/ 223.
(2)
الأراقم: الأفاعى.
(3)
خضيبا: ملونا. الصوارم: السيوف.
(4)
سنت: صبّت. مفاضة: درع.
(5)
انظر فى ابن سهل وترجمته وشعره المغرب 1/ 269 واختصار القدح ص 73 والفوات 1/ 23 والمنهل الصافى 1/ 51 وهو يهودى أسلم فى شبابه توفى سنة 646. طبع ديوانه محققا ببيروت.
فاحت فخلت الزهر كافورا بها
…
وحسبت فيها التّرب مسكا أذفرا (1)
وكأن سوسنها يصافح وردها
…
ثغر يقبّل منه خدّا أحمرا
وهو يقول إن الأرض لبست خضرة الربيع، وكأنما الطل ينثر فى رباها كل ما فى حجره من جوهر، وسطعت رائحة كافور زهرها الأبيض حتى خلت التراب فيها مسكا أذفر أو عاطرا، وكأن سوسنها الأبيض الجميل حين يصافح وردها ثغر يقبل خدا ياقوتيا.
ويقول أبو الوليد (2) بن الجنان:
هات المدام وقد ناح الحمام على
…
هذا الظلام وجيش الصّبح فى الطلب
والسّحب قد بدّدت فى الأرض لؤلؤها
…
تضمّه الشمس فى ثوب من الذهب
وقد جعل ابن الجنان الحمام ينوح على الظلام وجيش الصبح فى إثره، وهو ينسحب بسرعة أمامه، بينما السحب تمطر لآلئها وقطراتها الفضية، ولم تلبث شمس الصباح أن التقطت كل هذه اللآلى؛ ولّمتها أو جمعتها فى ثوبها الذهبى. ولابن خاتمة فى بلبل وردية اللون تغنى فى روض مكتظ بالورود والأزهار (3):
وورديّة الجلباب أعجبها الورد
…
فغنّت وما بالغانيات لها عهد
أتت وبطاح الأرض تجلى عرائسا
…
وفى كل غصن من أزاهره عقد
وقد أبدت الدنيا محاسن وجهها
…
فمن زهرة ثغر ومن وردة خدّ
فغنّت غناء الشّرب أنشتهم الطّلا
…
وحنّت حنين الصبّ باح به الوجد (4)
وهو يصور البلبل الوردية قد أعجبها ورد الروض وخلبها، فتغنّت له غناء ساحرا لم تعهده الغانيات الجميلات، ويقول إنها أتت الروض فى وقت الربيع، وقد ازدانت بطاح الأرض حتى لكأنها عرائس وازدانت غصون الأشجار بعقود الأزهار وأبدت الدنيا محاسن وجهها فمن زهرة-مثل زهرة الأقحوان-ثغر، ومن وردة-وما أكثر الورود- خد. وأسكر البلبل المنظر الرائع فانتشت وغنت وحنت حنين الصب المغرم الولهان.
ولابن زمرك فى وصف زهر القرنفل بجبل الفتح أو جبل طارق (5):
(1) أذفرا: عطرا.
(2)
راجع فى ابن الجنان وترجمته وشعره المغرب 2/ 383 واختصار القدح ص 206.
(3)
الديوان ص 98.
(4)
الطلا: الخمر.
(5)
أزهار الرياض 2/ 40.
رعى الله زهرا ينتمى لقرنفل
…
حكى عرف من أهوى وإشراق خدّه (1)
ومنبته فى شاهق متمنّع
…
كما امتنع المحبوب فى تيه صدّه
أميل إذا الأغصان مالّت بروضة
…
أعانق فيها القضب شوقا لقدّه (2)
وأهفو لخفّاق النسيم إذا سرى
…
وأهوى أريج الطّيب من عرف ندّه (3)
وهو يدعو لزهر القرنفل أن يرعاه الله لأنه يحكى عرف من يهواها وطيبها، ويقول إن منبته فى أعالى جبل الفتح الممتنع على غزاته امتناع المحبوب فى صدّه وتيهه وخيلائه، كما يقول إنه كلما رأى الأغصان فى روضة عانقها شوقا لعناق محبوبه، ويقول أيضا إنه يحنّ إلى خفّاق النسيم مساء يظنه من قبل محبوبه، ويهوى أريج الطيب يظنه من أريجه الذكىّ العطر. وحرى بنا أن نلم إلمامات قصيرة بمن وعدنا بالحديث المجمل عنهم من شعراء الطبيعة والخمر، وهم عبادة بن ماء السماء وعبد الرحمن بن مقانا وعلى بن حصن وابن خفاجة ومحمد بن سفر.
عبادة (4) بن ماء السماء الأنصارى
هو عبادة بن عبد الله الأنصارى من ذرية سعد بن عبادة الخزرجى أحد النقباء الذين اختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى العقبة الثالثة، وقيل له عبادة بن ماء السماء انتماء إلى جد الخزرج الأول، ولسنا نعرف شيئا واضحا عن نشأته إلا ما يذكر مترجموه من أنه تلميذ الزبيدى تلميذ أبى على القالى وأهم اللغويين بعده. ولم تلبث موهبته الشعرية-على ما يبدو-أن تفتحت، ومدح المنصور بن أبى عامر الحاجب (366 - 392 هـ) فأعجب به وأسبغ عليه جوائزه، وسجّل اسمه فى ديوان الشعراء وأعليت مرتبته فيه وأعلى عطاؤه.
وتدور الأيام وتكون فتنة قرطبة التى ظلت نحو عشرين عاما، ويعتلى عرش الخلافة على بن حمود من سلالة الحسن بن على بن أبى طالب سنة 407 ويدور العام فيقتل ويخلفه أخوه القاسم حتى سنة 412 ويخلعه يحيى ابن أخيه على. وعاد القاسم فانسحب يحيى إلى مالقة، ولم تلبث الخلافة أن عادت إلى الأمويين بقرطبة سنة 414. ولعبادة مدائح فى هؤلاء الحموديين الثلاثة، وفى مديحه لهم غير قليل من مبالغات الشيعة فى مديح
(1) العرف: الشذا وطيب الرائحة.
(2)
القضب: الغصون.
(3)
سرى: سار ليلا. أريج: فائح. الند: عود طيب الرائحة.
(4)
انظر فى ترجمة عبادة وشعره الذخيرة 1/ 468 وما بعدها والجذوة 274 والمطمح 84 والبغية رقم 1123 والصلة رقم 963 والفوات 1/ 425.
أئمتهم، غير أنهم جميعا لم يكونوا يستظهرون شيئا من العقيدة الشيعية. ويبدو أن عبادة تبع يحيى إلى مالقة يمدحه ويسبغ عليه يحيى من نواله، حتى إذا كانت سنة 419 ضاعت منه عطايا يحيى وأهل بيته له، وكانت مائة مثقال ذهبا فاغتم غما شديدا، وكان ذلك سبب وفاته.
ويشيد ابن بسام بعبادة، ويقول إنه كان شيخ الصناعة وإمام الجماعة بزمنه فى قرطبة معللا ذلك بأنه سلك إلى الشعر مسلكا سهلا، فقالت له غرائبه: مرحبا وأهلا. ولم يكن شاعرا فحسب، بل كان أيضا مؤرخا أدبيّا إذ كان له كتاب فى أخبار شعراء الأندلس، وعنه ينقل ابن سعيد فى المغرب بعض أخبارهم. وأهم من ذلك ما ذكره ابن بسام-على نحو ما مر بنا فى حديثنا عن الموشحات-من أنه هو الذى «نهج لأهل الأندلس طريقتها-وكأنها لم تسمع بالأندلس إلا منه ولم تؤخذ إلا عنه» . ومر بنا أن مقدّم بن معافى القبرى-وهو عربى-أول من ابتكرها وأن الرمادى الكندى-وهو أيضا عربى-تطور بها بعض التطور، ثم خلفه عبادة الخزرجى الأنصارى فأعطاها شكلها النهائى. ومرّ بنا نقض دعوى أنها نشأت على غرار أغان رومانسية إسبانية فقد نشأت وتطورت وأخذت صيغتها النهائية على أيدى عرب تطويرا منهم-كما ذكرنا فى حديثنا عن الموشحات-لفن المسمطات المشرقية.
وكان عبادة-بحق-إمام الشعراء فى زمنه، وما رواه ابن بسام له منه-يتميز بمتانة العبارة ونصاعتها وبحسن الأداء الموسيقى وبجمال الأخيلة، وله مبهورا بجمال صاحبته وجمال أناملها التى شبهها بالعنّاب:
سقى الله أيّامى بقرطبة المنى
…
سرورا كرىّ المنتشى من شرابه
وكم مزجت لى الراح بالرّيق من يدى
…
أغرّ يرينى الحسن ملء ثيابه
تعلّلنى فيه الأمانى بوعدها
…
وهيهات أن أروى بورد سرابه (1)
سل العنم البادى من السّجف دالفا
…
لتعذيب قلبى هل دمى من خضابه (2)
وهو يذكر أيام شبابه الماضية بقرطبة، ويدعو لها أن تسقى سرورا ترتوى به وتنتشى كانتشاء صاحب الخمر من شرابه، ويذكر كم شرب الخمر فيها من يد حسناء وكيف كان يعلل نفسه بلقائها ووعدها، غير أنه كان دائما سرابا لا يتحقق، ويتساءل هل خضاب
(1) الورد: الماء الذى يرده الناس، وقد أضافه إلى السراب تخيلا.
(2)
العنم: الخضاب الأحمر وأراد به الأنامل. السجف: ستر الخيمة بجانب بابها. دالفا: مقبلا.