الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو يقول: يا أيها الغافل عن ذكر ربه، فرّ من عقابه إلى ثوابه والجأ إليه واسأله من فضله تنج من عذاب النار، وتهجّد فى آناء الليل، واتل من القرآن ولو آية يسبغ الله نورها عليك، ومرّغ وجهك فى العفر ووجه الأرض ساجدا لربك متذللا له، فعزّ وجه يتضرع إليه ويخضع وينقاد. وتمضى القصيدة بهذه الروعة فى الصياغة، وكل بيت يدل دلالة جديدة، ومعه جوهرة لفظ الجلالة تضئ جوانبه، وتنزل منه منزلا محكما.
(ب) شعراء التصوف
ألممنا فى الفصل الأول بنشأة التصوف فى الأندلس وأنها ترتبط بمحمد بن عبد الله بن مسرة المتوفى سنة 319 وكان يجمع فى عقيدته بين التصوف على طريقة ذى النون المصرى كما يقول ابن الفرضى وبين آراء المعتزلة فى القول بخلق القرآن الكريم وإنفاذ الوعد والوعيد والاستطاعة مع التأويل لبعض آى الذكر الحكيم والأحاديث النبوية. (1) وقاوم عبد الرحمن الناصر هذه العقيدة، كما مرّ بنا، كما قاومها ابنه الحكم والمنصور بن أبى عامر حاجب ابنه هشام المؤيد، وظلت مكتّنة فى كثير من الصدور وظل لها أنصار فى عهد أمراء الطوائف، ويذكر ابن حزم منهم-كما مرّ فى غير هذا الموضع- إسماعيل الرّعينى.
ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن أول شاعر صوفى استظهر فى وضوح عقيدة التصوف مقترنة بعقيدة الاعتزال هو أبو عمر (2) أحمد بن يحيى بن عيسى الإلبيرى الأصولى المتوفى سنة 429 للهجرة، ويقول عنه تلميذه أبو المطرف الشعبى الذى روى عنه تآليفه «إنه كان متكلما دقيق النظر عارفا بالاعتقادات على مذاهب أهل السنة» . ويذكر ابن بسام أن أمر مدينة إلبيرة كان دائرا عليه مع زهده وورعه، بينما يذكر أبو المطرف أنه لقيه بغرناطة وفيها أخذ عنه مصنفاته، وأكبر الظن أنه ظل بإلبيرة حتى خرّبتها قبيلة صنهاجة فى عهد الزيريين كما مر بنا، فانتقل عنها-مع أكثر سكانها إلى غرناطة. وأشاد ابن بسام بنثره
(1) راجع تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضى رقم 1202 والجزء الخامس من المقتبس لابن حيان (طبع مدريد) ص 20 وما بعدها.
(2)
انظر فى أبى عمر أحمد بن عيسى الإلبيرى وترجمته وشعره الذخيرة 1/ 847 وما بعدها والمغرب 2/ 95 والصلة رقم 89 وقد أسنّ تلميذه أبو المطرف عبد الرحمن ابن قاسم الشعبى واشتهر بالعلم والفضل، توفى سنة 497. انظر الصلة:329.
وشعره وروى له رسالة كتبها سنة 419 إلى بعض إخوانه وفيها نزعة صوفية واضحة، وسنلم بها فى الفصل التالى، وينشد له ابن بسام:
شربت بكأس الحبّ من جوهر الحبّ
…
رحيقا بكفّ العقل فى روضة الحبّ
وخامر ماء الرّوح فاهتزّت القوى
…
قوى النّفس شوقا وارتياحا إلى الرّبّ
ونادى حثيثا بالأنين حنينها
…
إلهى إلهى من لعبدك بالقرب
وخاطبه وحيا إليه مليكه:
…
سأكشف-يا عبدى لعينك-عن حجبى
فأعلن بالتسبيح: مثلك لم أجد
…
تعاليت عن كفء يكافيك أو صحب
وهو يقول إنه شرب فى روضة الحب الإلهى رحيقا مصفّى من جوهر الحب امتزج بروحه، فحنّت قوى نفسه شوقا إلى مشاهدة ربه، ونادى-وأنّ فى ندائه-متلهفا على قربه من ربه، وتجلّى له الله رافعا ما بينه وبين عبده من حجبه، فسبّح بحمده منزها له عن أن يكون له كفء أو صحب، وكأنه يشير إلى الآيتين:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} - {أَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ} . والتصوف فى الأبيات-كما ذكر تلميذه أبو المطرف-تصوف سنى، فيه إشارة إلى وحدة الشهود، وليس فيه إشارة إلى الاتحاد بالذات العلية الذى يؤمن به أصحاب التصوف الفلسفى. وكان يقرن إلى تصوفه إيمانه بعقيدة الاعتزال فى مثل قوله:
يا محدثا للكلّ كنت ولم تزل
…
وكذاك ربّى لا يزال بلا مكان
وقوله:
جلّت صفات جلاله، فجلاله
…
قد جلّ عن تحديد كيف ومن وما
وهو يشير بذلك إلى ما يؤمن به المعتزلة من تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين فلا يحدّه مكان ولا زمان ولا تحصره كيفية ولا جوهر ولا عرض، تعالى جلال الله عن ذلك علوا كبيرا.
ويذكر آسين بلاسيوس-ويتابعه بالنثيا-أن مدينة المرية على البحر المتوسط فى الجنوب الشرقى للأندلس أصبحت فى القرن الخامس الهجرى-بتأثير آراء ابن مسرة-مركزا مهما من مراكز الصوفية القائلين بوحدة الوجود، فظهر فيها محمد بن عيسى الإلبيرى الصوفى وأبو العباس بن العريف (1)، وما ذكرناه آنفا عن أحمد بن
(1) انظر فى ذلك بالنثيا ص 329 وما بعدها وكتاب ابن سبعين وفلسفته الصوفية للدكتور أبى الوفا التفتازانى طبع دار الكتاب اللبنانى) ص 76.
عيسى الإلبيرى المتوفى قبل ابن العريف بأكثر من قرن يدل على أن اسمه حرّف عند بلاسيوس، فأصبح محمدا بدلا من أحمد، ونفس لقبه الإلبيرى يدل بوضوح على أنه ليس من أهل المرية إنما هو من إلبيرة بجوار غرناطة، وفيها قضى حياته كما مرّ بنا، وكان من أصحاب التصوف السنى بشهادة أشعاره وتلميذه أبى المطرف الشعبى.
أما أبو العباس بن العريف المتوفى سنة 536 للهجرة فكان من أهل المرية حقا غير أنه لم يكن من أصحاب التصوف الفلسفى على نحو ما سيتضح فى ترجمتنا له عما قليل. وكان يعاصره فى إشبيلية ابن (1) برّجان عبد السلام بن عبد الرحمن اللخمى المتوفى سنة 536 وفيه يقول ابن الأبار: «كان من أهل المعرفة بالقراءات والحديث والتحقق بعلم الكلام والتصوف مع الزهد والاجتهاد فى العبادة وله تآليف مفيدة، منها تفسير للقرآن لم يكمله وشرح الأسماء الحسنى» وله فى التصوف كتاب عين اليقين. وكان يعاصره أبو القاسم (2) أحمد بن قسى، ويقول ابن حجر فى لسان الميزان إنه رحل إلى ابن العريف فى المرية، وعاد إلى موطنه فى مارتلة بقرب باجة فى غربى الأندلس وكثر أتباعه من المريدين. وحين احتدمت الثورة على المرابطين فى أواخر العقد الرابع من القرن السادس الهجرى ثار عليهم مع مريديه وغلب على شلب ولبلة، وكاتب عبد المؤمن سلطان الموحدين ودخل فى طاعته وانقلب على واليه، وحاول الاستعانة بالنصارى، وشعر بحركته بعض من معه فقتل سنة 546. وينسب ابن حجر إليه-كما ينسب إلى ابن برّجان-تحريفهما لمعانى النصوص القرآنية وتأويلها بخلاف الظاهر، وله كتاب خلع النعلين وشرحه فيما بعد ابن عربى. وكان تصوفه هو وابن برّجان-مثل تصوف ابن العريف-تصوفا سنيا، إذ لم ينسب إليهم جميعا مترجموهم كلاما فى وحدة الوجود. وفى رأينا أن اعتناق بعض المتصوفة الأندلسيين لهذه الوحدة تأخر إلى عصر الموحدين. وممن اعتنقها حينئذ أبو عبد الله الشوذى الإشبيلى الملقب بالحلوى، ولى القضاء بإشبيلية فى دولة الموحدين، ثم خلص للتصوف ومزجه بالفلسفة، وقال بوحدة الوجود (3)، وأهم تلاميذه ابن دهاق إبراهيم بن يوسف الأوسى المالقى المتوفى سنة 611 وفيه يقول ابن الأبار: «كان فقيها مشاورا غلب عليه علم الكلام، فرأس فيه واشتهر به، وله تآليف منها شرح الإرشاد فى علم الكلام
(1) انظر فى ابن برجان التكملة ص 625 وابن شاكر فى الفوات 1/ 569 ولسان الميزان لابن حجر (طبع حيدر آباد) 4/ 13.
(2)
راجع فى ابن قسى لسان الميزان 1/ 247 وبالنثيا ص 332، 373.
(3)
انظر فى الشوذى وطريقته الصوفية وقوله بوحدة الوجود كتاب ابن سبعين 71 - 75.
لأبى المعالى الجوينى إمام الحرمين، وكتاب فى مسائل الإجماع وشرح على محاسن المجالس لابن العريف، سكن مرسية وتجول فى غير بلد، وكان يعتنق رأى أستاذه فى وحدة (1) الوجود.
ونلتقى بمحيى الدين بن عربى، وهو أشهر متصوفة الأندلس، وسنخصه بترجمة قصيرة، وظهر فى إثره ابن سبعين (2) عبد الحق العكى المولود بمرسية سنة 614 لأسرة كانت على حظ من الجاه والنعمة، وأكب فى بدء حياته على علم المنطق والفلسفة الإلهية والعلوم الطبيعية والرياضية ونظر فى أصول الدين على طريقة الأشعرية كما نظر فى كتب التصوف لابن دهاق وغيره، وانتقل إلى سبتة سنة 640، وبها أخذ يدعو لعقيدته الصوفية، وتبعه كثير من الفقراء والعبّاد، وتصادف أن أرسل فردريك الثانى صاحب صقلية إلى علماء سبتة أسئلة فلسفية آملا منهم فى الإجابة عليها، وانتدب ابن سبعين للرد عليها، وكانت ردوده مقنعة حاسمة، مما جعل فردريك يشكره عليها، وظل علماء الغرب يهتمون بها اهتماما واسعا، وأكبّ حينئذ على كتب المتصوفة يستوعبها، واستقامت له فى التصوف عقيدة ظل يدافع عنها بقية حياته، دافع عنها أمام علماء سبتة، حتى إذا ضيّقوا عليه الخناق غادر سبتة إلى بجاية وأقام بها فترة ثم نزل تونس وجادله علماؤها حتى اضطر إلى مغادرتها. ونزل القاهرة، ولم يطب له المقام-على ما يبدو-فى مصر، فغادرها فى أوائل العقد السادس من القرن السابع، ونزل مكة وجاور بها بقية حياته إلى أن توفى سنة 669 وبها عقدت صلة وثيقة بينه وبين حاكمها الشريف أبى نمىّ محمد الأول (654 - 702 هـ). وألف ابن سبعين مصنفات ورسائل متعددة، وأهم مصنفاته: الإحاطة وبدّ العارف وسماه صاحب الفوات: «ما لا بد للعارف منه» وكأنه أراد أن يشرح المراد بالعنوان، وله بجانب ذلك مصنفات فى آداب السلوك والرياضات العملية، ومن أهمها رسالة العهد ورسالة الفقيرية التى يصور فيها معانى الفقر الصوفى وآدابه، وله رسائل فى علم الحروف. وهو بدون ريب صاحب عقيدة صوفية تابعه فيها فرقة صوفية نسبت إليه فسميت السبعينية، وتهمنا عقيدته فيما يتصل بوحدة الوجود إذ غالى فيها غلوا مفرطا بإيمانه بالوحدة المطلقة، بمعنى أنه لا وجود سوى وجود الله فهو عين الخلق وهو عين
(1) راجع فى ابن دهاق التكملة (البقية المطبوعة فى الجزائر) ص 200 والإحاطة وراجع كتاب ابن سبعين (انظر الفهرس) ومقدمة ابن خلدون 3/ 1106
(2)
انظر فى ابن سبعين فوات الوفيات 1/ 516 والبداية والنهاية 13/ 261 ولسان الميزان 3/ 392 والنفح 2/ 196 والعقد الثمين فى تاريخ البلد الأمين للفاسى 5/ 326 وشذرات الذهب 5/ 329 وكتاب ابن سبعين وفلسفته الصوفية للدكتور أبى الوفا التفتازانى.
الكون والسموات والأرض، وهو صورة كل موجود. وهو ما جعل الفقهاء والعلماء فى كل مكان يأخذون على يده إذ يجعل حقيقة الوجود بين الله وعباده واحدة، فالله فقط وليس فى الكون سواه، وفى ذلك يقول فى كتابه الإحاطة:
من كان يبصر شأن الله فى الصّور
…
فإنّه شاخص فى أنقص الصّور
بل شأنه كونه، بل كونه كنهه
…
لأنّه جملة من بعضها وطرى
إيه فأبصرنى إيه فأبصره
…
إيه فلم قلت لى: ذا النّفع فى الضّرر
والأبيات تحمل فكرته، فالله ترى صوره فى كل شئ: جميل وقبيح وضخم وصغير، وشأنه أو وجوده الكون، والكون كونه وحقيقته، وابن سبعين صورة منه، وكل ما فى الكون من نفع وضرر وخير وشر من صور الله المنبثة فى الوجود وكل موجود. وهو غلو مفرط يباعد بين صاحبه وبين الدين الحنيف مما جعل العلماء والفقهاء فى عصره وبعد عصره يردون عليه ردودا عنيفة مثبتين عليه الإلحاد والزندقة. وحاول كثيرون من أتباعه الدفاع عنه وأن لكلامه ظاهرا وباطنا وأنه ينبغى أن لا يحكم عليه بظاهر أقواله. وممن اشتهر بأنه من أتباعه أبو الحسن الششترى الصوفى المعروف، وسنرى فى ترجمتنا له أنه ينفصل عنه فى اعتقاده بوحدة الوجود. وكأنما بلغت هذه النظرية الذروة عند ابن سبعين، وأخذت سريعا فى الانكسار، فإننا نجد كثرة المتصوفة-وخاصة فى الأندلس والمغرب- تعتنق التصوف السنى.
ومن أهم المتصوفة الأندلسيين بعده ابن عباد (1) الرّندى أبو عبد الله محمد بن إبراهيم النفزى المولود برندة سنة 733 وبها منشؤه ومرباه. ورحل منها مبكرا وتجوّل فى بلدان المغرب، وأقام فى سلا على المحيط سنوات طويلة ملازما للشيخ الزاهد الصوفى ابن عاشر أحمد بن عمر، وتحول عنه إلى فاس فاختير فيها إماما وخطيبا لجامع القرويين، ويقول صاحب نفح الطيب إنه كان صوفيا على طريقة الشاذلية، وهى من طرق التصوف السنى، وفى الجزء السادس من هذه السلسلة بمصر حديث مفصل عن هذه الطريقة وأستاذها أبى الحسن الشاذلى وتلميذه أبى العباس المرسى ومريده أو تلميذه ابن عطاء الله السكندرى. ومن أكبر الدلالة على أن ابن عباد الرندى كان شاذليا أن أهم مصنفاته شرحه كتاب الحكم لابن عطاء الله السكندرى، وهى أقوال وخواطر وعظية بليغة. وكان يعاصره لسان الدين بن الخطيب، وله كتاب روضة التعريف بالحب الشريف، وفيه يعرض
(1) انظر فى ابن عباد الرّندىّ الإحاطة 3/ 252.