المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(ب) شعراء الهجاء - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٨

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - التكوين الجغرافى والبشرى

- ‌2 - الفتح-عصر الولاة

- ‌(أ) الفتح

- ‌3 - الدولة الأموية

- ‌4 - أمراء الطوائف-المرابطون-الموحدون-بنو الأحمر فى غرناطة

- ‌(أ) أمراء الطوائف

- ‌(ب) المرابطون

- ‌(ج) الموحدون

- ‌5 - المجتمع

- ‌ الحضارة

- ‌الغناء

- ‌المرأة

- ‌6 - التشيع-الزهد والتصوف

- ‌(أ) التشيع

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-الفلسفة-علم الجغرافيا

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) الفلسفة

- ‌(ج) علم الجغرافيا

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب الأندلس-كثرة الشعراء

- ‌(أ) تعرب الأندلس

- ‌(ب) كثرة الشعراء

- ‌2 - الموشحات والأزجال

- ‌(أ) الموشحات

- ‌ ابن عبادة القزاز

- ‌ يحيى بن بقى

- ‌(ب) الأزجال

- ‌ابن قزمان

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ابن عبد ربه

- ‌ ابن عمار

- ‌ابن الحداد القيسى

- ‌الأعمى التّطيلى القيسى

- ‌الرّصافى محمد بن غالب

- ‌ابن زمرك

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌ عبد الملك بن هذيل

- ‌يوسف الثالث

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌ يحيى الغزال

- ‌السّميسر

- ‌اليكّىّ

- ‌5 - الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ حازم القرطاجنى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ابن خاتمة

- ‌2 - شعراء الطبيعة والخمر

- ‌ عبد الرحمن بن مقانا

- ‌ على بن حصن

- ‌ ابن خفاجة

- ‌ محمد بن سفر

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌ محمد بن سوار

- ‌ ابن وهبون

- ‌(ب) رثاء الدول

- ‌ المعتمد بن عباد

- ‌ابن اللبانة

- ‌ابن عبدون

- ‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ ابن العريف

- ‌ ابن عربى

- ‌الششترى

- ‌(ج) شعراء المدائح النبوية

- ‌5 - شعراء الاستنفار والاستصراخ

- ‌ ابن الأبار

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌1 - الرسائل الديوانية

- ‌ البزليانى

- ‌ابن أبى الخصال

- ‌ابن عميرة المخزومى

- ‌2 - الرسائل الشخصية

- ‌حبيب

- ‌ابن الدباغ

- ‌ سهل بن مالك

- ‌3 - الرسائل الأدبية

- ‌رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد

- ‌(أ) رسالة السيف والقلم

- ‌(ب) رسالة النخلة

- ‌(ج) رسالة أهب الشّاء

- ‌رسالتا ابن زيدون: الهزلية والجدية

- ‌رسالة ابن غرسية فى الشعوبية والردود عليها

- ‌رسائل نبوية ومواعظ

- ‌(أ) رسائل نبوية

- ‌ ابن الجنان

- ‌(ب) مواعظ

- ‌منذر بن سعيد البلّوطى

- ‌4 - أعمال نثرية

- ‌طوق الحمامة لابن حزم

- ‌كتابة التاريخ والتراجم الأدبية

- ‌(أ) المقتبس لابن حيان

- ‌(ب) الذخيرة لابن بسام

- ‌مذكرات عبد الله بن بلقّين

- ‌ قصة حى بن يقظان لابن طفيل

- ‌5 - المقامات والرحلات

- ‌(أ) المقامات

- ‌المقامات اللزومية للسّرقسطى

- ‌(ب) الرحلات

- ‌رحلة ابن جبير

- ‌خاتمة

الفصل: ‌(ب) شعراء الهجاء

لنا المنصب الأعلى على كل منصب

لنا العزّة القعساء والغرر الغرّ (1)

لنا الهضبة الشّمّاء سامية الذّرى

لنا الرّاية الحمراء يهفو بها النّصر (2)

مكارم أعيت كلّ من رام حصرها

وهيهات ما للشّهب فى أفقها حصر

وهو يفتخر بأنه سليل أصحاب الحول والطّول من حمير، إذ أصل الأنصار من اليمن، وأن لهم المنصب أو المقام الرفيع والعزة الوطيدة والأعمال العظيمة المشهورة والهضبة الضاربة فى السماء التى لا يمكن لأحد بلوغ ذراها السامقة والراية الحمراء رمز إمارتهم وانتصاراتها الماحقة، وهى مكارم يعزّ حصرها، وهل يمكن أن تحصر أو تحصى الشهب والنجوم فى السماء. ووراء ما اخترناه ليوسف الثالث من أشعار فى الفخر والحماسة أشعار ذات نسيج ضعيف، وهى طبيعية ممن ينشأ مثله فى الملك والترف والنعيم.

(ب) شعراء الهجاء

الهجاء قديم فى الشعر العربى، ومرّ بنا-فى كتابنا عن العصر الجاهلى-أنه كان فى الأصل لعنات يصبها الأفراد على أعدائهم وأعداء قبائلهم آملين أن تنزلها بهم المقادير، وأخذ يتحول من لعنات خالصة إلى سباب وتهوين للمهجوّين على ألسنة شعراء الجاهلية، ومضوا يتقاذفونه ويسلّونه كما يسلون سيوفهم فى حروبهم، وبقيت منه بقايا غير قليلة فى الإسلام بين شعراء المدينة ومكة لعهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يلبث أن احتدم بالعراق فى العصر الأموى ونشأت عنه مناظرات هجاء حادة بين جرير والفرزدق سمّيت بالنقائض. وظل التهاجى مضطرما بين الشعراء فى العصر العباسى، وسقطت منه شعل كثيرة إلى الأقاليم، وبمجرد أن نشط الشعر فى الأندلس لعهد عبد الرحمن الأوسط (206 - 238 هـ) نشط الهجاء وأخذ شعراؤه يتكاثرون، وفى مقدمتهم يحيى الغزال، وسنخصه بكلمة، ومن هؤلاء الهجائين المبكرين عبد الله (3) بن الشّمر المتفنن فى العلوم منجم الأمير عبد الرحمن الأوسط، ويذكر ابن حيان (4) عن قاض اسمه يخامر بن عثمان كانت فيه غفلة أن ابن الشمر استغلّ ذلك يوما-وهو فى مجلس القضاء-فألقى بين البطاقات التى كان ينادى بها الخصوم للتقدم إليه بطاقة مكتوبا عليها: يونس بن متى،

(1) القعساء: الوطيدة. الغرر: الأعمال العظيمة. الغر: المشهورة.

(2)

الشماء: السامقة: يهفو: يخفق.

(3)

مرت مصادر ابن الشمر فى الحديث عن علوم الأوائل فى الفصل الثانى.

(4)

المقتبس (تحقيق د. مكى-طبع بيروت). ص 65 - 66.

ص: 222

المسيح بن مريم. وحين وقعت البطاقة فى يده أمر أن يدعى له بمن فيها، فهتف الهاتف:

يونس بن متى والمسيح بن مريم وكرّر الهاتف النداء خارج مجلس القاضى ولا مجيب إلى أن صاح ابن الشمر: إن نزولهما من علامات الساعة! وتناول بطاقة وكتب فيها مع بيتين آخرين:

يخامر ما تنفكّ تأتى بفضحة

دعوت ابن متّى والمسيح بن مريما

قفاك قفا جحش ووجهك مظلم

وعقلك ما يسوى من البعر درهما

فتألب الفقهاء على يخامر وأجمعوا على ذمه والقدح فيه، وثارت به العامة لفقده حسن المعاملة ولقلة درايته. ومن الهجائين المعاصرين لابن الشمر مؤمن (1) بن سعيد الملقب بدعبل الأندلس، وكان يهاجى ثمانية عشر شاعرا رموه عن قوس واحدة لتمزيقه أعراض الناس. وكان هاشم بن عبد العزيز وزير الأمير محمد بن عبد الرحمن يقرّبه ويجزل له النوال، وأسرته النصارى فى إحدى المواقع، فقال يخاطب أبا حفص ابن عمه وعدوّه شامتا به فى قصيدة طويلة:

تصبّح أبا حفص على أسر هاشم

ثلاث زجاجات وخمس رواطم (2)

وبح بالذى قد كنت تخفيه خفية

فقد قطع الرحمن دولة هاشم

وافتدى الأمير محمد هاشما فلما عاد إلى وزارته وعلم بالقصيدة نصب لمؤمن حبائل السعاية عند أميره فحسبه، وطال حبسه حتى توفى سنة 267. ومن كبار الهجائين فى عهد الأمير عبد الله (275 - 300 هـ) القلفاط (3) محمد بن يحيى المتوفى سنة 302 وكان يسلّ لسانه على الناس جميعا حتى على الأمير عبد الله وفيه يقول:

ما يرتجى العاقل فى مدّة

ألرّجل فيها موضع الراس

وكان صديقا لابن عبد ربه، وبدرت منه بادرة له، فتوجّس منه شرا، وتهاجيا وأقذع كل منهما فى هجاء صاحبه. وتخف حدة الهجاء لعهد عبد الرحمن الناصر،

(1) انظر فى ترجمة مؤمن بن سعيد وشعره الحميدى، 330 والجزء السابق من المقتبس فى مواضع مختلفة (راجع الفهرس) وقضاة قرطبة للخشنى 103 - 105 والحميدى ص 330 وبغية الملتمس ص 456 والمغرب 1/ 132.

(2)

رواطم لعلها من آنية الخمر فى الأندلس.

(3)

انظر فى القلفاط وشعره الزبيدى 301 والحميدى 91 وبغية الملتمس 134 والمغرب 1/ 111 وابن عذارى 2/ 193 وإنباه الرواة 3/ 231 والمقتبس الجزء الخاص بالأمير عبد الله.

ص: 223

(300 - 350 هـ) حتى إذا أمر المستنصر ابنه (350 - 366 هـ) بإراقة الخمر وتشدد فى ذلك تعرضت له جماعة من الشعراء بذمه، من بينهم الرمادى: يوسف بن هرون، فأمر بسجنه حتى إذا توفى عادت إليه حريته، واشتهر له قوله فى طفل حلق أهله شعره خوفا عليه من الحسد (1):

حلقوا رأسه ليكسوه قبحا

خيفة منهم عليه وشحّا

كان قبل الحلاق ليلا وصبحا

فمحوا ليله وأبقوه صبحا

ونمضى إلى عصر أمراء الطوائف وفيه يشتد التنافس بين الشعراء، ويشتد معه الهجاء ولو أن ابن بسام عنى فى الذخيرة بعرضه لأورد منه عشرات بل مئات من الصحف، ولكنه عاهد نفسه أن لا يعرض منه إلا القليل الأقل. وأخذ حينئذ يتخصص بعض الشعراء بنظمه، فهم لا يكادون يطرقون بابا سواه وفى مقدمتهم السّميسر وسنفرد له ترجمة وكان على شاكلته أبو تمام غالب (2) الملقب بالحجّام شاعر قلعة رباح غربى طليطلة وقد سقطت فى حجر ألفونس السادس سنة 467 وغالبا لا يذكر ابن بسام من يهجوهم وخاصة إذا كانوا من رجال الأندلس أو علية القوم، ولعل ذلك ما يجعله يختار له الأبيات العامة التى تصيب كل مذموم كقول غالب مما أنشده صاحب الذخيرة:

صغار الناس أكثرهم فسادا

وليس لهم لصالحة نهوض

ألم تر فى سباع الطير سرّا

تسالمنا ويؤذينا البعوض

وقوله:

فيا للملك ليس يرى مكانى

وقد كحلت لواحظه بنورى

كذا المسواك مطّرحا هوانا

وقد أبقى جلاء فى الثغور

وأخذ يظهر من حينئذ شعراء يطوفون بمدن الأندلس، ويتغنون على كل باب يظنون منه خيرا، وقد يتعثر الخير، وقد يشعرون بشئ من الاستطالة مع الإقلال والجدب فيمن يقصدونهم، فيتركونهم إلى غيرهم ممن يحسنون بهم الظن، فيجدونهم أكثر إقلالا وإجدابا، ومن أشهر هؤلاء الشعراء الجوالين أبو عامر (3) الأصيلى، وهو كثير الذم والهجاء للناس

(1) رايات المبرزين (طبعة القاهرة) ص 78.

(2)

راجع فى أبى تمام غالب الحجام وشعره الذخيرة 3/ 821 وما بعدها والمغرب 2/ 40 ورايات المبرزين ص 82.

(3)

انظر فى أبى عامر الأصيلى وشعره الذخيرة 3/ 857 والمغرب 2/ 444 والخريدة 2/ 308.

ص: 224

بمثل قوله مما اختار له ابن بسام:

أرى الأوغاد يعتمرون دورا

ومالى فى بلاد الله دار

أجول فلا أرى إلا رعاعا

كبارهم إذ اختبروا صغار

ونشبت لعهد أمراء الطوائف أكبر (1) معركة للهجاء ضد يهود غرناطة، ذلك أن كورة إلبيرة كانت قد وقعت من نصيب زاوى بن بن زيرى الصنهاجى زمن الفتنة، فاتخذ غرناطة قاعدة له حتى سنة 420 إذ رحل عنها إلى بلاده بإفريقية وتركها لابن أخيه حبوس بن ماكسن، واتخذ وزيره أبو القاسم بن العريف كاتبا له يهوديا يسمى إسماعيل (صمويل) ويلقّب بابن النّغريلّه، وكان داهية خبيثا درس بقرطبة الديانة اليهودية وكل ما اتصل ببحوثها التلمودية مع ما درس من الثقافة والآداب العربية. وتوفى حبوس سنة 429 وخلفه باديس حتى سنة 467 وفى عهده أصبح ابن النغريلة رئيس وزرائه أو وزيره الأول بحسن تدبيره لشئون المال، وبالغ باديس فى الثقة به، بينما هو كان يعد نفسه حاميا لليهود فى الأندلس، فجاءوه من كل بلد، وأخذ يعهد إليهم بكثير من وظائف الحكم والضرائب، كما أخذ يرعى مصالحهم الاقتصادية والتجارية. ودفع باديس إلى أن يعيش بين كاس وطاس لا يدرى شيئا من شئون الحكم، وبلغ من عدائه للإسلام أن كان لا يجد حرجا من استهزائه به، وأقسم أن ينظم القرآن فى أشعار، وتوفى سنة 456 وكان قد أعدّ ابنه يوسف ليخلفه فى وزارته لباديس، وسرعان ما أخذ الناس يعلنون ضيقهم به وبسيطرة اليهود على شئون الدولة من ضرائب وغير ضرائب، وأخذ غير شاعر يستثير العامة للثورة على اليهود وزعيمهم يوسف وفى مقدمتهم السّميسر وأبو الحسن يوسف بن الجد القائل فى سخط وغضب (2):

تحكّمت اليهود على الفروج

وتاهت بالبغال وبالسّروج

وقامت دولة الأنذال فينا

وصار الحكم فينا للعلوج (3)

فقل للأعور الدّجّال هذا

زمانك إن عزمت على الخروج

(1) انظر فى هذه المعركة والثورة على يهود غرناطة الذخيرة 2/ 766 وما بعدها وانظر المغرب 2/ 114 وأعمال الأعلام ص 264 والبيان المغرب 3/ 264 والإحاطة 1/ 439 وتاريخ ابن خلدون 4/ 161 وراجع مقدمة د. إحسان عباس على رسالة الرد على ابن النغريلة لابن حزم (طبع القاهرة) ص 9 - 18.

(2)

الذخيرة 2/ 562

(3)

العلوج: جمع علج: الفظ.

ص: 225

وأصبح المسلمون فى غرناطة، يموجون بالحنق والغيظ من يوسف واليهود الذين اعتصروا طيبات الأرض وعرق الكادحين باسم الضرائب، وقد اختلت الموازين فبعد أن كان المسلمون هم الذين يجبون الضرائب من اليهود وأهل الذمة أصبح اليهود هم الذين يجبونها، وبينما كان الناس ينتظرون شعلة لتثير بركان الثورة الكامن، إذا أبو إسحق الإلبيرى الذى سنترجم له بين الزهاد يمدهم بقصيدة حماسية ملتهبة، بل بالشعلة الشعرية المضطرمة شواظا ونارا حامية، وإنه ليهتف فى مطلعها برجال صنهاجة الحاكمين (1):

ألا قل لصنهاجة أجمعين

بدور النّدىّ وأسد العرين (2)

لقد زلّ سيّدكم زلّة

تقرّ بها أعين الشامتين

تخيّر كاتبه كافرا

ولو شاء كان من المسلمين

فعزّ اليهود به وانتخوا

وتاهوا وكانوا من الأرذلين (3)

ونالوا مناهم وجازوا المدى

فحان الهلاك وما يشعرون

ويتساءل ألم يكن من الواجب على باديس أن يبقيهم-كما أبقاهم حكام المسلمين قبله-باعة جوّالين يحملون أخراجهم على ظهورهم فى صغار وذل وهوان باحثين فى المزابل عن خرق من الثياب ملوّثة يتخذونها أكفانا لموتاهم. ويتجه إلى باديس مادحا مثنيا حتى يتنبه ليوسف وأعوانه وما يدبرون من الكيد له بينه وبين شعبه، وما كنزوا وبنوا من القصور الباذخة. وما يزال يستثير باديس حتى إذا ظن أنه بلغ به الغاية من الثورة على اليهود وحاميهم يوسف أفتاه-كفقيه-بسفك دمه ودماء أعوانه من اليهود، يقول:

فبادر إلى ذبحه قربة

وضحّ به فهو كبش ثمين

ولا تحسبن قتلهم غدرة

بل الغدر فى تركهم يعبثون

وقد نكثوا عهدنا عندهم

فكيف تلام على الناكثين

وأخذ سكان غرناطة يتناسخون القصيدة وينشدونها فى الطرقات، وغلت نفوسهم وصمموا على الانتقام، وحانت الفرصة إذ كان يوسف قد اتفق مع المعتصم بن صمادح أن يرسل إليه جنودا إلى غرناطة أملا فى أن تخلص له بعد خلوصها من باديس. وفى مساء يوم السبت لعشر خلون من صفر سنة 459 تسوّر كثيرون من الرعية قصره حين تبينت

(1) ديوان الإلبيرى (طبع مدريد) ص 151.

(2)

الندى: مجلس القوم. العرين: غيل الأسد ومأواه.

(3)

انتخوا: تعاظموا وتكبروا.

ص: 226

لهم جليّة نواياه مصممين على قتله، فاختبأ منهم فى بيت فحم، فقبضوا عليه وقتلوه وصلبوه على باب المدينة، ونهبوا متاجر اليهود ومنازلهم وقتلوا منهم نحو أربعة آلاف.

ومن كبار الهجائين فى عصر المرابطين عبد الله (1) بن سارة الشنترينى المتوفى سنة 517 ويقول ابن بسام عنه: «رأيت له عدة مقطوعات فى الهجاء تربى على حصى الدّهناء، وهو فيه صائب السهم نافذ الحكم» ويقول إنه أضرب عن ذكرها إلا لمعا قليلة لمنهجه الذى اتخذه فى الذخيرة، وهو أن ينحىّ عنها الهجاء وخاصة المفحش منه، وكان ابن سارة مقترّا عليه فى الرزق، فتنقل طويلا فى بلدان الأندلس، ثم استوطن إشبيلية واحترف فيها الوراقة، وفيها يقول ذامّا هاجيا:

أما الوراقة فهى أنكد حرفة

أغصانها وثمارها الحرمان

شبّهت صاحبها بإبرة خائط

تكسو العراة وجسمها عريان

ويكثر فى زمن المرابطين هجاء الفقهاء لما حازوا لأنفسهم فيه من مال وسلطان، وابن سارة أحد من تعرض لهم هاجيا، ومثله ابن خفاجة وابن البنّى وفيهم يقول مخاطبا لهم:

أهل الرّياء لبستم ناموسكم

كالذئب أدلج فى الظلام العاتم

فملكتم الدنيا بمذهب مالك

وقسمتم الأموال بابن القاسم

وركبتم شهب الدوابّ بأشهب

وبأصبغ صبغت لكم فى العالم

وهو يتهمهم بالمراءاة وأكل الأموال بالباطل ويزعم أنهم ملكوا الدنيا بمذهب مالك وأئمته المصريين الذين تتلمذ عليهم فقهاء الأندلس واتخذوا كتبهم مصدرا لفتاويهم وأحكامهم، وهم ابن القاسم المتوفى سنة 191 وأشهب بن عبد العزيز المتوفى سنة 204 وأصبغ بن الفرج المتوفى سنة 225. وممن عنف بالفقهاء فى الهجاء الأبيض (2) محمد بن أحمد المتوفى حول سنة 525 وولع بهجاء الزبير المرابطى حاكم قرطبة بمثل قوله:

عكف الزّبير على الضلالة جاهدا

ووزيره المشهور كلب النّار

ما زال يأخذ سجدة فى سجدة

بين الكئوس ونغمة الأوتار

(1) انظر فى ترجمة عبد الله بن سارة وشعره الذخيرة 2/ 834 والخريدة 2/ 315 والقلائد 260 والتكملة 816 والبغية رقم 896 والمغرب 1/ 419 وابن خلكان 3/ 93 والمطرب 78، 138، 235.

(2)

راجع فى ترجمة الأبيض وشعره المغرب 2/ 127 وزاد المسافر ص 66 ونفح الطيب 3/ 489 وما بعدها.

ص: 227

فإذا اعتراه السّهو سبّح خلفه

صوت القيان ورنّة المزمار

وكانت فى الأبيض جرأة شديدة، وأفحش فى بعض هجائه للزبير فاستدعاه وقال له:

ما دعاك إلى هذا الهجاء؟ حتى إذا أخذ يقرّعه ويوجعه باللوم قال له هازئا به: إننى لم أر أحق بالهجو منك ولو علمت ما أنت عليه من المخازى لهجوت نفسك إنصافا ولم تكلها إلى أحد. وقامت قيامة الزبير حين سمع منه ذلك وأمر بقتله، وهو حمق منه ما بعده حمق.

وكان معاصره اليكّى يهجو المرابطين مثله، غير انه لم يبلغ مبلغه فى الإقذاع وهو من كبار الهجائين، وسنخصه بكلمة. وكانت بين المتفلسفين أبى العلاء بن زهر وابن باجة- بسبب المشاركة فى مهنة الطب كما يقول المقرى-ما يكون بين النار والماء، والأرض والسماء، فقال فيه ابن (1) باجة:

يا ملك الموت وابن زهر

جاوزتما الحدّ والنهايه

ترفّقا بالورى قليلا

فى واحد منكما الكفايه

وهى فى رأينا دعابة وممازحة، لا هجاء ذميم كما ظن المقرى، مما جعله يعقّب لأبى العلاء بن زهر ببيتين يصف فيهما شخصا بالزندقة وأنه لا بد أن يصلب والجذع والرمح حاضران، إلا أن يكون ذلك بقصد الدعابة. ومن الهجائين المخضرمين الذين عاشوا فى عصر المرابطين، ولحقوا عصر الموحدين الأعمى (2) المخزومى أبو بكر محمد، وأنشد له ابن سعيد فى المغرب هجاء كثيرا، من ذلك قوله فى إحدى مقطوعاته يهجو قوما لقوه لقاء قبيحا:

وأنتم سننتم كلّ محدث سبّة

ولم تتركوا فيها لحاقا لآخر

فقد جمعوا-غير مسبوقين-كل مسبّة وكل مذمّة وكل قبيحة، وقطعوا الطريق فيها على كل لاحق، حتى استحقوا لعنة تزرى سوءا وعارا بلعنات كل من فى المقابر كما يقول. ولم يسلم أحد من هجائه حتى تلميذته الشاعرة نزهون (3) -وكانت من بيت فضل وعلم-هجاها قائلا:

ألا قل لنزهونة مالها

تجرّ من التّيه أذيالها

(1) نفح 3/ 434 وما بعدها.

(2)

انظر فى ترجمة الأعمى المخزومى وشعره المغرب 1/ 228 والإحاطة 1/ 424 3/ 216.

(3)

تأتى فى الفصل التالى مراجع نزهون.

ص: 228

فردّت عليه بهجاء موجع أخرسه. وكما هجا تلميذته التى كانت حرية بكل ثناء على الأقل لخصب ملكتها الشعرية هجا ابنا له بقوله:

الحقّ أبلج لست أنت وحقّ من

أحيا بك الأجلاف ممّن يفلح (1)

لا تهتدى بفضيلة لا ترعوى

بملامة لا أنت ممن يصلح

يزداد عقلك ما كبرت تناقصا

وتلجّ فى صمم إذا ما تنصح (2)

وبدلا من أن يتعاطف مع ابنه فلذة كبده ويصوغ له النصح برفق يجرح مشاعره بهذه السهام المصمية. ويقول ابن سعيد عنه فى مطلع ترجمته نقلا عن الحجارى: «بشار الأندلس انطباعا ولسنا وأذاة، وهو الذى أحيا سيرة الحطيئة بالأندلس فمقت، وكان لا يسلم من هجوه أحد» . ويروى ابن سعيد أن جده عبد الملك كان يبرّه ويكرمه وأنه قصده مرة فأنزله فى دار تلطفا، وقال لغلام له: اسأل فى الموضع الذى نزل فيه المخزومى متى يرحل وكان يريد أن يرسل إليه حين يهم بالرحيل زادا وينظر له فى دابة تحمله، وأساء الغلام الطريقة إذ ضرب على المخزومى فخرج إليه، فقال له: يقول لك صاحبك متى ترحل؟ فقال له انتظر حتى أكتب لك الجواب وكتب له أبياتا منها:

لا ترجونّ بنى سعيد للنّدى

فالظلّ أفيد منهم للسائل

قوم مصيبتهم بطلعة وافد

وسرورهم أبدا بخيبة راحل

ومن كبار الهجائين فى عصر الموحدين على بن حزمون وسنفرد له ترجمة، وكان يعاصره محمد (3) بن الصفار الأعمى القرطبى المتوفى سنة 639 وكان قد أخذ نفسه بالوقوع فى الأعراض، وكان لا يزال يتناول أعراض الأمراء ووجوه القوم، ويروى ابن سعيد أنه لما قال أبو زيد الفازازى كاتب أبى العلاء المأمون الموحدى (624 - 629 هـ) ابن يعقوب المنصور قصيدته التى أولها:«الحزم والعزم منسوبان للعرب» يشير بذلك إلى أنصاره من عرب جشم ناقضه ابن الصفار بقصيدة فى مديح يحيى بن الناصر الموحدى أخى المأمون مخاصمه على إمارة الموحدين، أشار فيها إلى عمه المأمون هاجيا له بقوله:

وإن ينازعك فى المنصور ذو نسب

فنجل نوح ثوى فى قسمة العطب

وإن يقل أنا عمّ فالجواب له

؟ ؟ ؟ امّ النبىّ بلا شكّ أبو لهب

(1) أبلج: مضيئ.

(2)

تلج: تتمادى.

(3)

انظر فى ترجمة ابن الصفار الأعمى وشعره 1/ 117 واختصار القدح المعلى ص 203 ص 313.

ص: 229