الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرّابع
طوائف من الشعراء
1 - شعراء الغزل
لا نبالغ إذا قلنا إن الغزل أهم موضوع شغل شعراء العرب فى جميع عصورهم وأقاليمهم، وقد ظلوا يصورون فيه عاطفة الحب الإنسانى الخالدة، ويضيفون فيه من الأحاسيس والخواطر ما يملأ مجلدات فى كل عصر على حدة، بل أيضا فى كل إقليم. ودائما الشاعر موزع بين وصال ولقاء وبين وداع وفراق، تارة هانئ بحبه وتارة شقى محروم يشكو الهجران، ويتمنى لمحة خاطفة ولو من بعيد، حتى إذا أقبلت عليه صاحبته أحسّ بفرحة لا تماثلها فرحة، فإذا انصرفت عنه أظلمت الدنيا فى عينيه، واحتمل ما لا يطاق من الآلام والعذاب، ومضى يئن بالشكوى ويتضرع ويستعطف. والغزل من قديم يتفرع عند العرب فرعين كبيرين: فرعا ماديا حسيا، يصدر فيه الشاعر عن الغريزة النوعية أحيانا، إذ مأربه منه اللذة الحسية، وهو لذلك قد يعنى بتصوير متاعه المادى فيه تصويرا مزريا وفرعا ثانيا عذريا عفيفا يتسامى فيه الشاعر عن الحس والمادة إلى النقاء والصفاء والطهر، وكأنه يحب صاحبته لمعانى الحب والوجد فى ذاتها، لا لشئ حسى وراءها، وهو الفرع الذى نمتلئ به إعجابا عند شعراء العرب، ممن أحبوا واستأثر الحب بقلوبهم وأفئدتهم، حتى كأنما أصبح نارا فى صدورهم لا يمكن إطفاؤها، وهم يتعذبون بتلك النار وما تذيقهم من العذاب واجدين فيها متاعا لا يفوقه متاع، متاع يرافقه دائما الحرمان والدموع والآلام. وهذان الفرعان من الحب العذرى والحب المادى يكتظ بهما الشعر الأندلسى ولأولهما دائما الغلبة والرجحان، ونشعر كأنما أصبح الناس جميعا شعراء ينظمون فى الغزل والحب وبيان دقائقه ومشاعره، سواء فى ذلك أمراء البيت الأموى وحكامه أو أبناء الشعب عربا وبربرا ومسالمة ومولدين، من ذلك قول الحكم الربضى فى جوار غاضبنه وهجرنه (1):
(1) انظر فى مقطوعة البيتين الحلة السيراء 1/ 50 والبيان المغرب لابن عذارى 2/ 79.
قضب من البان ماست فوق كثبان
…
أعرضن عنى وقد أزمعن هجرانى
ملكننى ملك من ذلّت عزائمه
…
للحب ذلّ أسير موثق عان
وهو يشكو من هجر هؤلاء الجوارى، ويعترف بأنهن يملكنه، بل يأسرنه بأغلال الحب، ويستعطفهنّ متذللا. وكانت طروب زوجة ابنه الأمير عبد الرحمن الأوسط قد شغفت زوجها حبا، غير أنه كان يعرف واجبه من قيادة الجيش فى الدفاع عن الأندلس ضد أعدائه الشماليين، مما جعله يمزج غزله فيها ببيان شجاعته مثل قوله (1):
إذا ما بدت لى شمس النها
…
ر طالعة ذكّرتنى طروبا
عدانى عنك مزار العدا
…
وقودى إليهم لهاما مهيبا (2)
سموت إلى الشّرك فى جحفل
…
ملأت الحزون به والسّهوبا
وقد استهل القصيدة بستة أبيات فيي الغزل بطروب ثم خلص إلى بيان بأسه وقوة جيشه واقتحامه معه للحزون والسهوب أو للمرتفعات والفلوات وكيف ظل طويلا يدّرع غبار القتال حتى استحالت نضرة وجهه شحوبا ابتغاء ما عند الله من ثواب المجاهدين عن حمى الإسلام، ويفتخر بنسبه الأموى وأنه لا يزال يضرم ويطفئ حروبا فى سبيل نصرة الدين الحنيف واستئصال أعدائه من أهل الصليب. وحسبنا ذلك من أمراء البيت الأموى فى القرنين الثانى والثالث للهجرة على لسان الحكم وابنه عبد الرحمن. ولمؤمن بن سعيد شاعر عبد الرحمن (3):
حرمتك ما عدا نظرا مضرّا
…
بقلب بين أضلاعى مقيم
فعينى منك فى جنّات عدن
…
مخلّدة وقلبى فى الجحيم
والبيتان تلاعبا بالمقابلة بين جنات عدن والجحيم أكثر منهما غزلا يعبر عن عاطفة حارة، وللقلفاط الهجّاء غزل يروى فى ترجمته بالكتب الأدبية من مثل قوله (4):
يا غزالا عنّ لى فاب
…
تزّ قلبى ثم ولّى
أنت منى بفؤادى
…
يا منى نفسى أولى
وهما بيتان رقيقان ولغتهما عذبة. ولابن عبد ربه شاعر الأمير عبد الله وحفيده
(1) راجع فى قصيدة هذه الأبيات الحلة السيراء 1/ 114. والمغرب 1/ 47 والبيان المغرب 2/ 85.
(2)
لهاما: جيشا كثيفا.
(3)
المغرب 1/ 133.
(4)
طبقات النحويين واللغويين للزبيدى ص 302 ومرت فى الحديث عن الهجاء مصادر ترجمته.
عبد الرحمن الناصر غزليات فيها جمال فى التصوير ورشاقة فى التعبير كقوله (1):
يا لؤلؤا يسبى العقول أنيقا
…
ورشا بتعذيب القلوب رفيقا
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله
…
درّا يعود من الحياء عقيقا
وإذا نظرت إلى محاسن وجهه
…
أبصرت وجهك فى سناه غريقا
يا من تقطّع خصره من رقّة
…
ما بال قلبك لا يكون رقيقا
والصور متناسقة تناسقا بديعا فاللؤلؤ الأبيض تتضرج الخدود منه بحمرة الحياء فيصبح عقيقا أو ياقوتا، والبصر يغرق فى محاسن الوجه وسناها أو ضوئها المتوهج جمالا وفتنة، والخصر رقيق رقة شديدة، واللغة فيها انسياب وصفاء وسلاسة، وللحكم المستنصر (2):
عجبت-وقد ودّعتها-كيف لم أمت
…
وكيف انثنت بعد الوداع يدى معى
فيا مقلتى العبرى عليها اسكبى دما
…
ويا كبدى الحرّى عليها تقطّعى
والبيتان ينمان عن شعور مرهف رقيق، ولغتهما سلسة. ومن كبار الشعراء لعهد الحكم المستنصر الرمادى وسنفرد له كلمة، ومنهم أحمد بن فرج الجيانى وقد زجّ به المستنصر فى سجن ببلدته جيّان لما رفع له من أنه هجاه، فسجنه ومات فى سجنه، ولم يشفع له تأليفه كتاب الحدائق الذى تحدثنا عنه فى غير هذا الموضع، وهو يعد بحق حامل لواء الشعر العذرى فى الأندلس، كما يتضح فى قوله (3):
وطائعة الوصال عففت عنها
…
وما الشيطان فيها بالمطاع
بدت فى الليل سافرة فباتت
…
دياجى الليل سافرة القناع
وما من لحظة إلا وفيها
…
إلى فتن القلوب بها دواع
فملّكت النّهى جمحات شوقى
…
لأجرى فى العفاف على طباعى
وبتّ بها مبيت السّقب يظما
…
فيمنعه الكعام من الرّضاع (4)
كذاك الروض ما فيه لمثلى
…
سوى نظر وشمّ من متاع
(1) النفح 3/ 564.
(2)
مغرب 1/ 187.
(3)
انظر فى ترجمة أحمد بن فرج الجيانى وشعره الحميدى ص 97 والقلائد ص 79 والبغية ص 140 والمغرب 2/ 56 والمطرب ص 4 ومعجم الأدباء 4/ 236.
(4)
السقب: ولد الناقة. الكعام: ما يجعل على فمه لمنعه من الرضاع.
ولست من السّوائم مهملات
…
فأتخذ الرّياض من المراعى (1)
وابن فرج الجبانى يصف لنا جمال صاحبته الخلاب وأنها كانت طوع وصاله وحبه، وكيف أنه أمضى معها ليلة سافرة فاتنة فؤاده، وفى كل لحظة تتجدد فتنتها، ومع ذلك ظل معتصما بالعفاف المفطور عليه، يردّ بعنف جمحات عواطفه وغرائزه، ساميا بنفسه عن عالم الحيوانية والغريزة النوعية إلى عالم كله سمو وصفاء ونقاء وطهر ما وراءه طهر. ويصور نفسه مثل سقب يظمأ والكعام على فمه، بل إنه ليكفيه من صاحبته النظر، يشفى به غليله إذ ليس كغيره ممن حوله المشبهين للحيوانات المرسلة فى المراعى ترعى كل ما تلقاه.
ولا نشك فى أن هذا التسامى اقترن بالحب والغزل فى الأندلس منذ أول الأمر، غير أن ابن فرج الجيانى عبّر عنه فى لوحة بديعة، وكأنما رسمه فيها وجسّده تجسيدا قويا. ولجعفر المصحفى وزير الحكم المستنصر (2):
كلّمتنى فقلت: درّ سقيط
…
فتأمّلت عقدها هل تناثر
فازدهاها تبسّم فأرتنى
…
عقد درّ من التبسمّ آخر
واستعارة الدر للكلام وللثغر قديمة، غير أن المصحفى عرف كيف يحورها ويعرضها عرضا بديعا، حتى ظن من حسن كلام صاحبته أنها تلفظ دررا حقيقية أو أن عقدها تناثرت درره وحباته. وللشريف الطليق حفيد الناصر غزليات كثيرة، وسنخصه بكلمة.
وتنشب الفتنة وتموج الأمور وتضطرب اضطرابا شديدا، ويتولى الخلافة ما يقرب من سبع سنوات سليمان الملقب بالمستعين أحد أحفاد عبد الرحمن الناصر، وكان يحسن نظم الشعر، وضاع شعره مع ما ضاع زمن الفتنة، إلا قصيدة نظمها معارضة لقصيدة هرون الرشيد:«ملك الثلاث الآنسات عنانى» وفيها يقول المستعين (3):
عجبا يهاب اللّيث حدّ سنانى
…
وأهاب لحظ فواتر الأجفان
وتملّكت نفسى ثلاث كالدّمى
…
زهر الوجوه نواعم الأبدان
فأبحن من قلبى الحمى وتركننى
…
فى عزّ ملكى كالأسير العانى
لا تعذلوا ملكا تذلّل للهوى
…
ذلّ الهوى عزّ وملك ثان
(1) السوائم: الحيوانات المخلاّة فى المراعى.
(2)
رايات المبرزين لابن سعيد (طبع القاهرة) ص 69 وانظر فى جعفر وشعره المطمح ص 4 والحلة السيراء 1/ 257 - 267 والذخيرة 4/ 58 وما بعدها.
(3)
الذخيرة 1/ 47.
والقصيدة غزلية بديعة. ولم يهنأ المستعين بخلافته إلا نحو سبع سنوات، وفتك به بنو حمود واستولوا على الخلافة، وعادت إلى أحفاد عبد الرحمن الناصر بعد سبعة أعوام، وتولاها عبد الرحمن بن هشام الملقب بالمستظهر سنة 414 لمدة شهرين إذ فتك به ابن عمه المستكفى. وكان المستظهر شاعرا وشغف بابنة عم من أعمامه، وروى له ابن بسام فيها أربع مقطوعات تصور حبه لها ومدى تعلقه بها من مثل قوله (1):
غزال براه الله من نور عرشه
…
لتقطيع أنفاسى وليس من الإنس (2)
وهبت له ملكى وروحى ومهجتى
…
ونفسى ولا شئ أعزّ من النّفس
وكثيرون من أبناء البيت الأموى تترجم لهم كتب الأدب وتذكر لهم غزليات وأشعارا مختلفة. ومن الشعراء المهمين الذين عاشوا بقرطبة زمن الفتنة عبادة بن ماء السماء الخزرجى الأنصارى الذى أعطى الموشحة صيغتها النهائية، ومن غزلياته قوله (3):
إذا رمت قطف الورد ساورنى الصّدغ
…
بعقرب سحر فى فؤادى له لدغ (4)
غزال بجسمى فترة من جفونه
…
وفى أدمعى من لون وجنته صبغ
زيارته أخفى خفاء من السّها
…
ودون فراغى من محبته الفرغ (5)
وهو يقول إنه إذا رام قطف الورد من خدود صاحبته ساوره أو وثب عليه ومنعه عقرب الصدغ، وإنه ليشعر بلدغاته فى فؤاده. وزعم أنها أعدت دموعه بلون خدودها الوردية كما أعدت جسمه بفتور جفونها وانكسارها البديع، ويقول إن زيارتها تتعذّر عليه حتى لتصبح كأنها نجم السّها الذى تتعذر رؤيته. ويقول ابن شهيد معاصره، وكان شاعرا بارعا وكاتبا مبدعا، وسنترجم له بين الكتّاب، ومن غزلياته قوله (6):
ولما فشا بالدمع من سرّ وجدنا
…
إلى كاشحينا ما القلوب كواتم (7)
أمرنا بإمساك الدّموع جفوننا
…
ليشجى-بما تطوى-عذول ولائم
فظلّت دموع العين حيرى كأنها
…
خلال مآقينا لآل توائم
وتصويره لدموعه ودموع صاحبته وإمساكهما بها تترقرق فى جفونهما ولا تسقط باللآلئ التوائم تصوير بديع.
(1) الذخيرة 1/ 57.
(2)
براه: خلقه.
(3)
الذخيرة 1/ 471.
(4)
ساوره: وثب عليه.
(5)
السها: نجم خفىّ. الفرغ هنا: الموت والهلاك.
(6)
ديوان ابن شهيد (تحقيق يعقوب زكى) طبع القاهرة ص 154.
(7)
الكاشحين جمع كاشح: العدو المبغض.
وتتكاثر سيول الغزل فى عصر أمراء الطوائف، عصر الغناء واللهو ومجالس الأنس، ونجده متداولا شائعا على ألسنة جميع الأمراء والوزراء والشعراء والفقهاء، وكأنه تمائم يضمونها جميعا الى صدورهم وفى مقدمتهم الفقيه ابن حزم، وسنفرد له ترجمة بين الكتّاب، وكان شاعرا وله غزليات كثيرة منها قوله (1):
وددت بأن القلب شقّ بمدية
…
وأدخلت فيه ثم أطبق فى صدرى
فأصبحت فيه لا تحلّين غيره
…
إلى مقتضى يوم القيامة والحشر
تعيشين فيه ما حييت فإن أمت
…
سكنت شغاف القلب فى ظلم القبر
وقوله متحولا بمحبوبه، أو محبوبته، إلى إدراك مجرد وراء صورته الحسية (2):
أمن عالم الأملاك أنت أم انسىّ
…
أبن لى فقد أزرى بتمييزى العىّ
أرى هيئة إنسيّة غير أنه
…
إذا أعمل التفكير فالجرم علوىّ
عدمنا دليلا فى حدوثك شاهدا
…
نقيس عليه غير أنك مرئىّ
ولولا وقوع العين فى الكون لم نقل
…
سوى أنك العقل الرفيع الحقيقىّ
فهو لا يدرى أمحبوبه إنسى أم ملاك طاهر، ويحار، وتعظم حيرته، فالهيئة إنسية، والجسد علوى، بل لكأنه تخلص من جسديته، ولولا أن العين تبصره وتشاهده لظن أنه العقل الرفيع الذى لا يحده مكان حسى. ونلتقى بابن برد الأصغر، وسنخصه أيضا بترجمة بين الكتاب، وكان مثل ابن حزم شاعرا، وله غزل بديع مثل قوله (3):
لما بدا فى لازور
…
دىّ الحرير وقد بهر
كبّرت من فرط الجما
…
ل وقلت: ما هذا بشر
فأجابنى: لا تنكرن
…
ثوب السماء على القمر
والأبيات تنم عن شعور رقيق مرهف مع عذوبة الألفاظ والصياغة وجمال الخيال والتصوير. ولأبى جعفر الخولانى أحد شعراء المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية: (4)
بدر ألمّ وبدر التّمّ ممتحق
…
والأفق محلولك الأرجاء من حسد (5)
أردت توسيده خدّى وقلّ له
…
فقال: كفّك عندى أفضل الوسد
(1) طوق الحمامة (تحقيق د. الطاهر مكى) طبع دار المعارف ص 92.
(2)
طوق الحمامة ص 25.
(3)
المغرب 1/ 90.
(4)
الذخيرة 2/ 136.
(5)
بدر التم: البدر فى تمامه واكتماله. ممتحق. مختف نوره. محلولك: شديد السواد.
فبات فى حرم لا غدر يذعره
…
وبتّ ظمآن لم أصدر ولم أرد
فكأنما بات بجوار صاحبته فى حرم مقدس ملتزما للعفاف لا ينقع غلّة حبّه برىّ منها ورشف والمنهل طوع يده وهو لا يرده ولا يصدر عنه، بل يكتفى بتكرار النظر للخدود والوجنات. وينشد له ابن بسام قطعا أخرى مماثلة فى العفاف مع ما يحمل من ألم الحب وأثقاله.
وشاع فى الأندلس-كما مر بنا فى الشواهد السابقة، وكما يلى فى شواهد مماثلة-هذا الغزل العذرى أو الروحى السامى الذى تعدّ العفة مقومه الأساسى والذى يجرى فيه هيام ليس بعده هيام مع الإجلال للمرأة والشعور بقدسيتها حتى ليشرد لبّ المحب والمحبوبة معه ويغيب عن حسه، مكتفيا منها-وهى طوع يديه-بنظراته وكأنه فى حلم-أو-كما يقول الخولانى-فى حرم مقدس.
وهذا الحب الأندلسى العذرى أو الروحى النقى تطاير شرر كثير منه إلى الأدبين الإسبانى والفرنسى، وهو يتضح عند الإسبان أشد الوضوح فى قصة دون كيشوت لسرقانتس (1547 - 1616 م) وهو يذكر فى سطورها الأولى أنه يقصّها عن عربى، وكأنه مترجم لها فحسب. ونمضى فى قراءتها فنشعر كأنما تجسد فى بطلها الفارس العاشق:
دون كيشوت الحب الروحى السامى الأندلسى، وهو يخرج فى حبه عن طوره ويصيبه الجنون أو ما يشبه الجنون، إذ يهيم-ومعه تابعه سانشو-على وجهه متنقلا فى إسبانيا مقتحما فى أوقات جنونه كل ما يصادفه-أو يظنه-من أخطار أملا فى رضا محبوبته.
وكلما تغلب على خطر تذكرها، إذ هى مثله الأعلى، وهو لذلك لا يزال يقدم إليها حبّه وشجونه فيه. وعلى نحو ما يتألق شعر الحب الروحى الأندلسى عند الإسبان فى قصة دون كيشوت يتألق عند الفرنسيين فيما نظمه شعراء التروبادور فى القرن الثانى عشر الميلادى، إذ تتشابه أشعارهم من حيث الشكل وطريقة النظم والعروض والأغصان والأقفال والقوافى مع الموشحات الأندلسية (1)، وأيضا فإنها تتشابه معها ومع الغزل الأندلسى العفيف فى المضمون: فى عذاب الحب وحرقة القلب والخشوع أمام المحبوبة والطاعة والتذلل بين يديها وأيضا فيما يجرى فى هذا الغزل من ذكر خداع المحبوبة أحيانا وذكر الرقباء والوشاة. ويقول عبد الرحمن بن مقانا (2):
(1) انظر الدكتور مكى فى كتاب أثر العرب والإسلام فى النهضة الأوربية (طبع الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر) ص 57 وما بعدها.
(2)
الذخيرة 2/ 788.
لمن طلل دارس بالّلوى
…
كحاشية البرد أو كالرّدا
رماد ونؤى ككحل العروس
…
ورسم كجسم براه الهوى
غدا موسما لوفود البلى
…
وراح مراحا لسرب المها
عجبت لطيف خيال سرى
…
من السّدر أنّى إلىّ اهتدى
وكيف تجاوز جوز الحجاز
…
وجوز البحار وسدر المنى
ولم يثنه حرّ نار الضلوع
…
وبحر الدموع وريح النّوى
فذكّر أيامنا بالعقيق
…
وليلتنا بهضاب الحمى
وقد ضمن الحديث عن الأطلال وطيف الخيال صورا وخواطر جديدة، فالطلل الدارس باللوى أو منقطع الرمل يشبه فى عين المحب الواله الرداء المعلم أو حاشيته المنمنمة، والرماد كأنه كحل العروس سوادا والتماعا. وقد أصاب الرسم أو الطلل- لفراق أحبائه-ضنا المحبين، ولم يكتف بأن جعله مسرحا لبقر الوحش مثل امرئ القيس فى مطلع معلقته فقد جعله أيضا موسما لوفود البلى، وأيضا لم يكتف فى ذكر المواضع بموضع شجر السدر فى حمى صاحبته، فقد أضاف اليه مواضع أخرى من الجزيرة: جوز (وسط) الحجاز والعقيق أحد وديانه. وكل ذلك ليجلب إلى قصيدته جوّ بوادى الحجاز وحبّها العذرى الملتاع، وصوّره مضطرما فى حنايا ضلوعه. وعجب أن يصل إليه طيف الخيال ولا تثنيه النار الصاعدة من صدره ولا بحار الدموع المنهمرة من عينيه، ولا ريح النّوى العاصفة، وبذلك مزج الغزل الأندلسى بروح الغزل العذرى الظامئ المتلهف أبدا.
ويقول محمد بن البين وزير يحيى الوالى على يابرة لأبيه المظفر أمير بطليوس (430 - 460 هـ) فى إحدى قصائده (1):
غصبوا الصّباح فقسّموه خدودا
…
واستوهبوا قضب الأراك قدودا
ورأوا حصى الياقوت دون محلّهم
…
فاستبدلوا منه النجوم عقودا
واستودعوا حدق المها أجفانهم
…
فسبوا بهنّ ضراغما وأسودا
لم يكف أن سلبوا الأسنّة والظّبا
…
حتى استعانوا أعينا ونهودا
وتضافروا بضفائر أبدوا لنا
…
ضوء النهار بليلها معقودا
وهى قطعة من الغزل الفريد بروعة تصاويره، وهى مثل سابقتها من أطرف ما يصور تواصل الشعر الأندلسى مع أصوله الشعرية العربية، فكل ما فى القطعة من صور طالما
(1) الذخيرة 2/ 802 والمغرب 1/ 370.
كرره العرب فى غزلياتهم، فقالوا إن الخدود مشرقة كالصباح، والقدود أو القامات كغصون الأراك، وجواهر العقود على الترائب كالنجوم، والحدق تسبى الضراغم والأسود، وكأنما الأعين والنهود أسنّة وظبا سيوف، وكأنما الضفائر ليال حالكة السواد. وكل ذلك صاغه ابن البين هذه الصياغة الرائعة، فإذا كل هذه الصور تأخذ نسقا أندلسيا جديدا، ينعش الفكر بعبقه. ومن أصحاب الغزل المبدعين المعاصرين لابن البين ابن زيدون وسنفرد له ترجمة مع صاحبته ولادة.
ونلتقى بابن الحداد الذى ترجمنا له بين شعراء المديح، ويقول ابن بسام فى ترجمته (1) له:«كان قد منى فى صباه بصبية نصرانية ذهبت بلبه كل مذهب. . وكان يسميها نويرة كما صنع الشعراء الظرفاء قديما فى الكناية عمن أحبوه» . . وكان اسمها الحقيقى جميلة» وإنما اختار لها هذا الاسم تصغيرا لكلمة «نار» التى أشعلها حبها فى قلبه» وأنشد ابن بسام له فيها إحدى عشرة منظومة بين قصيدة ومقطوعة، وفيها يعرض مرارا لعقيدة التثليث المسيحية وللقسس والصلوات فى الكنائس، وهو يستهلها بتائية يذكر فيها حضوره لرؤية فتاته المسيحية الاحتفال بعيد فصح فى إحدى الكنائس وقد تراءى الأسقف ممسكا بمصباح وعصا ومن حوله القسس وعينه تسرح-كما يقول-فى الحسناوات المسيحيات، والجميع يتلون صحف الإنجيل، ويخلص من ذلك إلى وصف مشاعره تلقاء فتاته فيقول (2):
الشمس شمس الحسن من بينهم
…
تحت غمامات اللّثامات
وناظرى مختلس لمحها
…
ولمحها يضرم لوعاتى
وفى الحشا نار نويريّة
…
علّقتها منذ سنيّات
لا تنطفى وقتا وكم رمتها
…
بل تلتظى فى كل أوقاتى
وفى ذكر ابن الحداد لغمامات اللثامات فى البيت الأول ما قد يشير إلى أن فتاته كانت راهبة، ويؤكد ذلك أنه دائما فى أشعاره لها لا يراها إلا فى الكنائس وبين القسس فى أثناء التراتيل والصلوات مع تكراره لذكر الصلبان وعقيدة التثليث. وكان حبا فى صباه كما يقول ابن بسام-أو فى بواكير شبابه، وكان من جانب واحد إذ لا وصف فيه للقاء ولا لوداع.
(1) الذخيرة 1/ 691 وما بعدها.
(2)
الذخيرة 1/ 705.
وكان فى هذا العصر كثيرات من الحرائر والجوارى يحسنّ نظم الشعر، إذ كان الآباء -أمراء ووزراء وعلماء وأدباء-يعنون بتثقيف فتياتهم، كما مر بنا فى غير هذا الموضع، وبالمثل كانت هناك عناية واسعة بتثقيف الجوارى، وكانت تستيقظ فى أثناء هذا التثقيف ملكات بعضهن الشعرية، واشتهرت من دانية «العبادية» (1) التى أهداها أميرها مجاهد العامرى إلى المعتضد أمير إشبيلية بأنها كانت أديبة ظريفة كاتبة شاعرة مع معرفة دقيقة باللغة، واقترن بها المعتضد، وتصادف أن سهر ليلة لأمر شغله، وكانت نائمة، فقال:
تنام ومدنفها يسهر
…
وتصبر عنه ولا يصبر
فأجابته بديهة بقولها:
لئن دام هذا، وهذا به
…
سيهلك وجدا ولا يشعر
وكانت لا تقل عنها إجادة للشعر مع سرعة البديهة «اعتماد» (2) الملقبة بالرّميكيّة زوجة المعتمد ابنه، وهى إشبيلية، ويقال إن سبب معرفته بها أنه ركب نهر إشبيلية فى نزهة مع ابن عمار وزيره، وقد أحالت الريح سطح النهر إلى ما يشبه زرد الدّرع: فقال المعتمد لابن عمار: أجز
صنع الريح من الماء زرد
فأطال ابن عمار التفكير ولم تسعفه بديهته، فقالت فتاة من الغسّالات على حافّة النهر:
أىّ درع لقتال لو جمد
فعجب ابن عباد من حسن ما أجازت به الفتاة الشطر الذى صاغه، مع عجز ابن عمار الشاعر النابه، والتفت إليها، فأعجبته، فسألها: أأنت متزوجة؟ فقالت: لا. فتزوجها وهى أم أولاده النجباء: الراضى وإخوته وأختهم بثينة وكانت شاعرة. وعلى شاكلة الرّميكية والعبادية «غاية (3) المنى» جارية المعتصم بن صمادح أمير المرية، وكانت قينة مغنية وتجيد نظم الشعر، وعرضت عليه، فلما مثلت بين يديه قال لها: ما اسمك؟ قالت:
غاية المنى، فقال لها: أجيزى:
سل هوى غاية المنى
(1) انظر فى العبادية والخير المذكور عنها نفح الطيب 4/ 283.
(2)
راجع فى اعتماد الرميكية النفح 4/ 211.
(3)
انظر فى غاية المنى القسم الثانى من السفر الثامن للمراكشى ص 488 وما بعدها.
فقالت بديهة:
من كسى جسمى الضّنا
…
وأرانى مدّلها
سيقول الهوى أنا
وأعجب بها، واستبقاها بين جواريه، وربما كانت أم ابنته أم (1) الكرم، وكان أبوها المعتصم قد اعتنى بتأديبها، لما رأى من ذكائها، حتى نظمت الشعر والموشحات وأحبّت- كما يقول ابن سعيد-الفتى المشهور بالسمار، وأنشد لها:
ألا ليت شعرى هل سبيل لخلوة
…
ينزّه عنها سمع كلّ مراقب
ويا عجبا أشتاق خلوة من غدا
…
ومثواه ما بين الحشا والتّرائب
والصورة فى البيت الثانى تدل على أنها كانت شاعرة تجيد نظم الشعر، ولعلها كانت تجيد أيضا نظم الموشحات.
ونمضى إلى عصر المرابطين، ويلقانا غزل كثير على ألسنة الشعراء، إذ لا يكاد يوجد شاعر فذ إلا وهو ينظم فيه معبرا عن مشاعره الوجدانية، من ذلك قول الأعمى التطيلى (2):
أريق ثغرك أم بنت الزّراجين
…
وعرف نشرك أم مسك لدارين (3)
جسم براه الإله حين صوّره
…
من ماء لؤلؤة والناس من طين
وحاش لله أن يعزى إلى بشر
…
أو أن يضاف لحسن الخرّد العين (4)
يدير لى مقلا مرضى بلا سقم
…
يميتنى تارة فيها ويحيينى
كم زفرة تستعير النار وقدتها
…
ولوعة طىّ أضلاعى تناجينى
وهو يقرن ريق صاحبته إلى الخمر ورائحتها الطيبة الذكية إلى مسك دارين: مرفأ لسفن الهند على الخليج العربى كانت تحمل إليه أنواع المسك والطيب، طالما أشاد بطيبه ومسكه شعراء العرب. ويجعل صاحبته ملاكا صوّره الله-حين خلقه-من ماء لؤلؤة
(1) راجع فى أم الكرم المغرب 2/ 202 وما بعدها.
(2)
الديوان ص 211.
(3)
الزراجين جمع زرجون: شجرة العنب. بنت الزراجين: الخمر. العرف والنشر: الرائحة الذكية الطيبة.
(4)
الخرد جمع خريدة: الحسناء. العين جمع عيناء: واسعة العين الفاتنة.
إشادة بجمالها الخلاب الذى لا يقاس به-ولا يمكن أن يقرن به-جمال الخرّد العين أو الفاتنات ساحرات العيون من البشر، ويشعر فى حرارة زفراته كأنها أنفاس نار متقدة وتكتظ أضلاعه بلوعات محرقة ممضة. وسنخص معاصره ابن الزقاق بكلمة أو ترجمة مختصرة، ولابن عبدون (1):
وما أنس ليلتنا والعنا
…
ق قد مزج الكلّ منا بكلّ
إلى أن تقوّس ظهر الظلام
…
وأشمط عارضه واكتهل (2)
ومسّ رداء رقيق النّسيم
…
على عاتق الفجر بعض البلل
وقد صوّر هرم الليل وشيخوخته وهو يكاد يلفظ أنفاسه لتفلّت أضواء الفجر وحواشيه بعجوز تقوس ظهره ووهنت عظامه من الهرم والشيخوخة، واشتعلت صفحة خدّه شيبا. والتفت إلى ما يحدث من برودة الجو فى أخريات الليل، فتخيل النسيم العليل حينذاك رداء رقيقا على منكب الفجر مسّه بعض البلل، وهى صورة بديعة. ويقول ابن خفاجة فى وصف صاحبة له (3):
غزاليّة الألحاظ ريميّة الطّلى
…
مداميّة الألمى حبابيّة الثّغر (4)
ترنّح فى موشيّة ذهبيّة
…
كما اشتبكت زهر النجوم على البدر (5)
تلاقى نسيبى فى هواها وأدمعى
…
فمن لؤلؤ نظم ومن لؤلؤ نثر
وقد خلعت ليلا علينا يد الهوى
…
رداء عناق مزّقته يد الفجر
والأبيات-مثل أشعار ابن خفاجة-تكتظ بالصور، فصاحبته مثل الغزال فى سحر عيونه والظّبى فى طول جيده أو عنقه وجماله، أما شفتاها فمبسم دنّ خمرى، وأما ثغرها فعلى حفافيه حباب هذا الدنّ المسكر، ومن حولها وشى ثوبها الذهبى يتجمع كنجوم مشرقة مضيئة حول القمر المنير. ويبدع ابن خفاجة حين يتصور-فى البيت الأخير- يد الحب والهوى تنسج حوله هو وصاحبته رداء غريبا، هو رداء العناق، ويأسى لأن يد الفجر امتدت له ممزقة إيذانا بالوداع. ويقول يحيى (6) بن بقى المارة ترجمته بين الوشاحين:
(1) الذخيرة 2/ 715 والمغرب 1/ 375.
(2)
أشمط العارض: شابت صفحة الخد.
(3)
الديوان ص 24.
(4)
الريم: الظبى خالص البياض. الطّلى: العنق. المدام: الخمر. الألمى: الشفة تضرب خفيفا إلى السمرة. الحباب: الفقاقيع على وجه الكأس.
(5)
زهر النجوم: النجوم المشرقة المضيئة.
(6)
الذخيرة 2/ 636 والمغرب 2/ 21.
بأبى غزال غازلته مقلتى
…
بين العذيب وبين شطّى بارق (1)
وسألت منه قبلة تشفى الجوى
…
فأجابنى فيها بوعد صادق (2)
بتنا ونحن من الدّجى فى لجّة
…
ومن النجوم الزّهر تحت سرادق
حتى إذا مالت به سنة الكرى
…
زحزحته شيئا وكان معانقى (3)
باعدته عن أضلع تشتاقه
…
كيلا ينام على وساد خافق
وهو يتخيل أنه لقى صاحبته بين موضعين من المواضع التى طالما لقى فيها شعراء الغزل العربى محبوباتهم، وهما العذيب وبارق، ويقول إنها واصلته ومدّت له فى الوصال واللقاء، وأنها باتت معه فى ليلة تحت سرادق النجوم المضيئة، معانقة له، حتى إذا ألم النوم بمعاقد أجفانها دفعه حنوّه عليها إلى أن يزحزحها قليلا عن صدره الذى توسدته، حتى لا تنام-كما يقول على وساد خافق بحبها نابض نبضا شديدا. ويقول ابن باجة المتفلسف (4):
هم رحلوا يوم الخميس غديّة
…
فودّعتهم لما استقلّوا وودّعوا (5)
ولما تولّوا ولّت النفس إثرهم
…
فقلت: ارجعى قالت إلى أين أرجع
ولى جسد ما فيه لحم ولا دم
…
ولا هو إلا أعظم تتقعقع (6)
وعينان قد أعماهما كثرة البكا
…
وأذن عصت عذّالها ليس تسمع
وهو يقول إن صاحبته وأهلها رحلوا يوم الخميس صباحا فودّعوه وودّعهم ورحلت نفسه فى إثرهم، وعبثا يدعوها إلى الرجوع وهى تردد إلى أين أرجع؟ وقد ضنى جسدى ونحل حتى لم يبق فيه لحم ولا دم، إذ أصبح أعظما فوق أعظم. وحين تتحرك أى حركة تسمع قعقعتها وأصواتها، فقد صار جلدا على عظم كما يقولون، وابيضّت عيناه من كثرة البكاء وصارت أذنه صماء لا تسمع ما يقوله العذال من لغو وهراء.
ومن الشاعرات البارعات اللائى أظلّهن عصر المرابطين ولحقن-فى أغلب الظن- عصر الموحدين نزهون وحمدة الغرناطيتان، أما نزهون (7) فيقول ابن الأبار أحسب أن
(1) العذيب: ماء. بارق: جبل. وهما بنجد.
(2)
الجوى. الوجد.
(3)
الكرى: النوم.
(4)
الخريدة 2/ 333.
(5)
استقلوا: رحلوا.
(6)
تتقعقع: تتحرك مع صوت.
(7)
انظر فى نزهون وأخبارها وشعرها المغرب 1/ 121 وتحفة القادم لابن الأبار رقم 100 مكررا والذيل والتكملة للمراكشى (القسم الثانى من السفر الثامن، نشر بنشريفه بالمغرب ص 493 والبغية ص 530 والنفح 4/ 295 والإحاطة وانظر 1/ 424، 3/ 344 وراجع فى أبيها التكملة رقم 515.
أباها محمد بن أحمد الملقب بالقليعى قاضى غرناطة إلى أن توفى سنة 510 وإذا صح ذلك كانت من بيت فقه وقضاء. وعلى كل حال تدل أخبارها أنها كانت من بيت نابه، إذ نجد أهلها يلاحظون ذكاءها، فيعنون بتخريجها فى الأدب، ويقال إنه كان بين من قرأت عليهم -كما مر بنا-المخزومى الذى مر ذكره بين شعراء الهجاء. ونجد لها مطارحات ونوادر مع الشعراء، مما يدل-من بعض الوجوه-على أنها اتخذت لنفسها ندوة كانت تلقى فيها الشعراء، ويقال إن الكتندى الشاعر الغرناطى دخل يوما مجلسا كانت تقرأ فيه بعض الشعر على المخزومى فقال له-وكان أعمى-أجز:
لو كنت تبصر من تكلّمه
فأفحم الأعمى ولم تسعفه بديهته، فبادرت نزهون قائلة ومثنية على نفسها فى سرعة خاطفة.
لغدوت أخرس من خلاخله
…
البدر يطلع من أزرّته
والغصن يمرح فى غلائله
ويروى أنه لقيها ابن قزمان الزجال وعليه غفارة صفراء، وكان قبيح المنظر، فقالت له: أصبحت كبقرة بنى إسرائيل ولكن لا تسرّ الناظرين، تشير إلى وصف القرآن الكريم لبقرتهم: بأنها (صفراء فاقع لونها تسر الناظرين). ومر بنا فى حديثنا عن المخزومى بين شعراء الهجاء أنه لم يسلم منه أحد، حتى تلميذته نزهون، وأنها ردت عليه وألقمته حجرا أخرسه. وأما حمدة (1) فكانت ابنة مؤدب فاضل يسمى زياد بن بقىّ ربّاها هى وأختها زينب تربية فاضلة تثقفا فيها ثقافة أدبية واسعة، حتى أحسنتا نظم الشعر وصوغه. ويترجم ابن الأبار لحمدة فى التكملة وفى التحفة ويقول: من أهل مدينة وادى آش (بالقرب من غرناطة) وإحدى الأديبات المتظرفات العفيفات، وفى كتاب المغرب أنها حسناء المغرب وشاعرة الأندلس. وينقل المقرى عن ابن سعيد أنها هى وأختها زينب من نساء غرناطة المشهورات بالحسب والجلالة. ويذكر الرواة أنها خرجت مع صواحب لها إلى النهر فى مدينة وادى آش، وهو يجرى بين بساتين ورياض، ولما خلعن
(1) راجع فى ترجمة حمدة بنت زياد وأختها زينب المغرب 2/ 145 وتحفة القادم رقم 100 والتكملة رقم 2120 والمطرب ص 11 والذيل والتكملة للمراكشى 2/ 8/485 والإحاطة 1/ 489 ونفح الطيب 4/ 287.
ثيابهن ونظرت إلى صاحبة لها من بينهن كانت تهواها، وألقين بأنفسهن فى النهر سابحات متلاعبات قالت فى محبوبتها:
أباح الدّمع أسرارى بوادى
…
له فى الحسن آثار بوادى (1)
فمن نهر يطوف بكلّ روض
…
ومن روض يرفّ بكل وادى
ومن بين الظباء مهاة إنس
…
لها لبّى وقد سلبت فؤادى (2)
لها لحظ ترقّده لأمر
…
وذاك الأمر يمنعنى رقادى
إذا سدلت ذوائبها عليها
…
رأيت البدر فى جنح الدآدى (3)
كأنّ البدر مات له شقيق
…
فمن حزن تسربل بالسّواد
والأبيات بالغة الروعة، وبدون ريب كانت صاحبتها فى منتهى الفتنة والحسن والجمال، وكانت السباحة فى النهر والأشجار مصطفة من حوله متحلية بالورود عبقة بالرياحين، وصاحبتها التى خلبت لبها تلعب معها ومع صواحبهما فى المياه، ولطالما سهرت الليالى تفكر فى سحر عينيها، وها هى تسدل أحيانا ضفائرها على جوانب من وجهها، ويطل وجهها من خلالها، وكأنما ترى قمرا يطل فى جنح الليالى الحالكة أو كأنما مات له شقيق فهو يلبس السواد عليه. وتقول أختها زينب (4):
ولما أبى الواشون إلا فراقنا
…
وما لهم عندى وعندك من ثار
وشنّوا على أسماعنا كلّ غارة
…
وقلّ حماتى عند ذاك وأنصارى
غزوتهم من مقلتيك وأدمعى
…
ومن نفسى بالسّيف والماء والنار
وواضح ما فى البيت الأخير من تشبيه للمقلة والدموع والنفس الحار على الترتيب بالسيف والسيل والنار، وهى مقابلة بديعة، ويسمى البلاغيون هذا الصنيع باسم اللف والنشر، وهو كثير فى الشعر العربى من قديم، ومنه أمثلة كثيرة فى الشعر الأندلسى قبل زينب.
وتظل سيول هذا الغزل الرائع تتدفق من كل بلدة أو مدينة أندلسية فى عصر الموحدين، ويلقانا فى صدره محمد بن عياض صاحب المقامة العياضية، وهى مقامة غزلية،
(1) بوادى الأخيرة: ظاهرة.
(2)
المهاة: بقرة الوحش واسعة العينين.
(3)
الدآدى: الليالى الأخيرة فى الشهر القمرى. وهى حالكة السواد. جنح الليل: ظلامه.
(4)
نفح 3/ 208 وفى المغرب أن الأبيات لأختها حمدة.
ولذلك تتضمن بعض مقطوعات فى الغزل، ومن أروعها قوله (1):
أنكرت إلا سقام طرف
…
وأىّ سيف بلا ذباب (2)
إن أنا لا حظته توارى
…
من دمعة العين فى حجاب
أبصرته جدولا وورقا
…
من دمع عينىّ وانتحابى (3)
وتشبيه العين بالسيف القاتل تشبيه متداول فى الشعر العربى من قديم، ولكن ترقرق الدموع فى عينيه بالبيت الثانى حتى لتصبح حجابا بينه وبين رؤية صاحبته تشبيه طريف لم يسبق إليه. أما تشبيه الدموع بالجدول وتشبيه انتحابه بهدير الحمام فكلاهما متداول قديما، وإن كان قد أخرجهما إخراجا طريفا. والغزل فى الأندلس يتشابك بقوة مع الغزل العربى الطاهر العفيف، ومن أهم ما يلاحظ فيه الارتباط الوثيق بالعناصر البدوية القديمة على نحو ما يلقانا فى غزلية لمتفلسف الأندلس أبى بكر محمد بن طفيل الذى تحدثنا عنه فى نشاطها الفلسفى، إذ يستهلها على هذا النمط (4):
ألمّت وقد نام الرقيب وهوّما
…
وأسرت إلى وادى العقيق من الحمى (5)
وجرّت على ترب المحصّب ذيلها
…
فما زال ذاك التّرب نهبا مقسّما (6)
تناقله أيدى التّجار لطيمة
…
ويحمله الدارىّ أيّان يمّما (7)
ولما رأت أن لا ظلام يجنّها
…
وأن سراها فيه لن يتكتّما (8)
أزاحت غمام العصب عن حرّ وجهها
…
فأبدت شعاعا يرجع الصّبح مظلما (9)
فكان تجلّيها حجاب جمالها
…
كشمس الضّحى يعشى بها الطّرف ساهما
ولو أننا لم نعرف صاحب هذه الأبيات وأنه أندلسى لظنناه أمويا من شعراء نجد العذريين أو عباسيا ممن كانوا يتمثلون العناصر البدوية مثل أبى تمام متخذين منها رموزا لإسباغ العذرية والعفاف الملتاع على غزلهم، وها هو الشاعر الأندلسى بدوره يتخذ تلك العناصر
(1) مغرب 1/ 345.
(2)
ذباب السيف: حده القاطع.
(3)
ورق جمع أورق: ما لونه رمادى من الحمام.
(4)
مغرب 2/ 85 والمعجب ص 316 وتحفة القادم رقم 43.
(5)
هوم: مال رأسه فى النعاس. أسرت: سارت ليلا. وادى العقيق: مواضع كثيرة بالمدينة وبالطائف ونجد.
(6)
المحصب: موضع رمى الجمار بمنى.
(7)
اللطيمة: وعاء المسك. الدارى: العطار نسبة إلى دارين: فرضة أو مرفأ كان يحمل إليه قديما المسك من الهند. يمّم: قصد.
(8)
يجنها: يسترها، سراها: سيرها ليلا.
(9)
العصب: العصابة على الرأس وطرف الوجه. حر ظاهر.
رموزا تصور كيف أن جذوة الحب العذرى الطاهر لا تزال متقدة فى نفوس الشعراء هناك، مما جعل ابن طفيل يستعير من المدينة وادى العقيق ومن مكة المحصّب، وجعل التراب الذى يمر عليه ذيل ثوب صاحبته مسكا، يتقاسمه الناس وينهبونه، ولمعت فى ذهنه ذكرى العطار الذى ذكره الغزلون القدماء مرارا فى مثل قول الشاعر العربى القديم متحدثا عن ولع صاحبته بالمسك والتعطّر به:
إذا التاجر الدارىّ جاء بفأرة
…
من المسك راحت فى مفارقها تجرى (1)
ويفضى إلى الحديث عن جمال صاحبته الذى بهره، ويقول إنها بلغت من إشراقها ما جعلها ترى الظلام لا يسترها مهما صنعت، فأزاحت العصابة عن رأسها وجوانب وجهها فأبدت من أشعة ضوئها ما يفوق أشعة الشمس فى الصباح، بل إن ضوء الصباح ليبدو مظلما بالقياس إلى ضوئها، ولعله فى ذلك نظر إلى قول أبى تمام:
بيضاء تسرى فى الظلام فيكتسى
…
نورا وتمشى فى الضياء فيظلم
وما يلبث ابن طفيل أن يحلق فى خياله، إذ يتصور جمال صاحبته حجابا لها يعشى الناظرين فيدفعهم عن النظر إليها، وهو حجاب أروع من حجاب الدموع المار بنا آنفا عند محمد بن عياض. وكان يعاصر ابن طفيل أبو جعفر بن سعيد وسنفرد له كلمة مع صاحبته حفصة الركونية. ونلتقى فى مدينة الجزيرة الخضراء بشاعر من بيت نباهة وثراء هو ابن أبى روح، وله يصف ليلة (2) قضاها مع صاحبته فى متنزه على ضفة نهر الجزيرة الخضراء المسمى وادى العسل لحلاوته (3) كما يقول ابن سعيد:
عرّج بوادى العسل
…
وقف عليه واسأل
عن ليلة قطعتها
…
صبحا برغم العذّل
أرشف خمر الرّيق أو
…
أقطف ورد الخجل
وقد تعانقنا اعتنا
…
ق القضب فوق الجدول (4)
(1) فأرة المسك: وعاؤه. الدارى: العطار.
(2)
رايات المبرزين لابن سعيد (تحقيق د. النعمان القاضى طبع القاهرة) ص 54.
(3)
المغرب 1/ 320 إذ يقول ابن سعيد عندما يخرج الإنسان من باب الجزيرة الخضراء يجد المياه الجارية والبساتين النضرة، ونهرها يعرف بوادى العسل لحلاوته وعليه حاجب مشرف على النهر والبحر فى نهاية من الحسن يسمى الحاجبية، ومن متنزهاتها النقا.
(4)
القضب: الغصون.
والشّمع فى درع الغدير
…
كعوالى الأسل (1)
بتنا إلى أن حثّنا
…
إلى النّوى برد الحلى
وابن أبى روح يتمثل فى البيت الأخير من المقطوعة ما جاء فى كتاب الأمالى من أن عربية سئلت كيف تعرفين الفجر؟ فقالت: أعرفه ببرد الحلى. وهو يصور ليلة هنيئة له قضاها مع صاحبته متعانقين يقطف من ورد الخجل ويجنيان معا من زهرات حبهما، وكأنما كانت ليلة من ليالى العرس، فالشموع متقدة متلألئة على سطح الغدير وعادة يشبهه العرب بالدرع لما تحدثه الرياح فيه من غضون. ويقول محمد بن سفر المترجم له بين شعراء الطبيعة (2):
وواعدتها والشمس تجنح للنّوى
…
بزورتها ليلا وبدر الدّجى يسرى
فجاءت كما يمشى سنا الصّبح فى الدّجى
…
وطورا كما مرّ النسيم على النّهر
فعطّرت الآفاق حولى فأشعرت
…
بمقدمها والعرف يشعر بالزّهر (3)
فتابعت بالتّقبيل آثار سعيها
…
كما يتقصّى قارئ أحرف السّطر
فبتّ بها والليل قد نام والهوى
…
تنبّه بين الغصن والحقف والبدر (4)
أعانقها طورا وألثم تارة
…
إلى أن دعتنا للنّوى راية الفجر
ففضّت عقودا للتعانق بيننا
…
فيا ليلة القدر اتركى ساعة النّفر
والمعانى والأخيلة بديعة، فقد زارته وتارة كأنها سنا الصبح يتخلل الظلام أو كأنها النسيم العليل الذى يحيى النفوس، وعطرت الأرجاء بعرفها أو نشرها، وكأنما استحال الثرى تحت أقدامها طيبا ذكى الرائحة وهو ما ينى يقبّل مواضع خطوها، وكانت ليلة سعيدة نام فيها الليل واستيقظ الحب حتى كان الفجر وحتى كان الوداع، بل لكأنما كانت ليلة القدر الهنيئة، وإنه ليهتف بها أن لا تنفر وتقبض أجنحتها عن الكون، حتى يؤجّل الوداع ولو إلى حين.
ونلتقى بصفوان بن إدريس المتوفى سنة 598 قبل إكماله الأربعين صاحب كتاب زاد المسافر فى شعراء زمانه المتردد ذكره فى الهوامش، وله يصف ليلة أنس عفيفة وصفا
(1) الأسل: الرماح: عواليها: أطرافها القاطعة.
(2)
النفح 3/ 199.
(3)
العرف: الرائحة العطرة.
(4)
الحقف: الكثيب من الرمل.
بديعا (1):
يا حسنه والحسن بعض صفاته
…
والسّحر مقصور على حركاته
بدر لو آنّ البدر قيل له: اقترح
…
أملا لقال أكون من هالاته
صاحبته والّليل يذكى تحته
…
نارين من نفسى ومن وجناته (2)
وضممته ضمّ البخيل لماله
…
أحنو عليه من جميع جهاته
أوثقته فى ساعدىّ كأنّه
…
ظبى أخاف عليه من فلتاته
وأبى عفافى أن أقبّل ثغره
…
والقلب مطوىّ على جمراته
فاعجب لملتهب الجوانح غلّة
…
يشكو الظّما والماء فى لهواته (3)
وصفوان يقول إن محبوبته جميلة جمالا خلب لبّه، حتى ليتصور أن كل أمل للبدر أن يكون من هالات جمالها الفاتن. ويكون لقاء ذات ليلة، وهو يكاد يحترق من حبه المتقد فى جوانحه، كما يقول، ويأخذها بين ساعديه ويضمها إلى صدره ويعف عن تقبيلها، وهى طوع يديه، وهو ظامئ ظمأ شديدا، والماء فى أعالى حلقه، ويجاهد حتى لا ينزلق إلى صدره الملتهب ويطفئ غلته. وعلى هذا النحو يردّنا غزلون أندلسيون إلى نجد وغزلها العذرى عند مجنون ليلى وأضرابه بمثل هذا التصوير الرائع للعفاف الملتاع، بجانب ما استشعروه من العناصر البدوية وعرض صورها البديعة على نحو ما رأينا عند ابن طفيل. ونلتقى فى عهد الناصر الموحدى (595 - 610 هـ) بشاعره أحمد بن شطريّة الذى اختطفه الموت فى ريعان شبابه، ومن غزله الطريف (4):
ستر الصّبح بطرّه
…
وجلا الليل بغرّه
كعبة للحسن فى كلّ فؤاد منه جمره
…
جاءنى كالظّبى فى أشراكه إذ حلّ شعره (5)
ومضى عنّى ولكن
…
بعد ما خلّف نشره (6)
ويقول على بن حريق (7):
(1) انظر فى ترجمة صفوان وشعره المغرب 2/ 260 ورايات المبرزين ص 111 والتكملة ص 429 والتحفة رقم 52 الإحاطة 3/ 349 ومقدمة كتابه زاد المسافر لعبد القادر محداد.
(2)
يذكى: يضرم ويوقد.
(3)
لهوات جمع لهاة: أعلى الحلق.
(4)
انظر المغرب 1/ 140.
(5)
أشراك جمع شرك: حبالة الصائد.
(6)
نشره: عطره.
(7)
المغرب 2/ 319.
كلّمته فاصفرّ من خجل
…
حتى اكتسى بالعسجد الورق
وسألته تقبيل وجنته
…
فأبى وقال: أخاف أحترق
حتى زفيرى عاق عن أملى
…
إن الشقىّ بريقه شرق
وهو يشبه صفرة الخجل التى كست خد صاحبته بالعسجد أو الذهب ووجنتها بالورق أو الفضة، ويقول إن أنفاسه بلغ من حرارتها أن صاحبته خشيت لو قبّلها أن يحترق خدها من زفيره، ويقول إن الشقىّ بريقه شرق أو غاصّ. ومن الغزلين بأخرة من عصر الموحدين سهل بن مالك الذى مر ذكره بين شعراء الفخر، وله متغزلا (1):
ولما بدا ضوء الصّباح رأيتها
…
تنفّض رشح الطلّ عن ناعم صلت (2)
فقلت: أخاف الشمس تفضح سرّنا
…
فقالت: معاذ الله تفضحنى أختى
وسهل يتصور صاحبته زهرة جميلة تنفض عن وجهها الناعم المضئ فى الصباح ندى العرق، ويخوّفها من إذاعة الشمس لسرهما، وتطمئنه، فهى أختها ولن تذيع لها سرا.
ويقول ابن سعيد (3) صاحب كتاب المغرب المبثوث فى الهوامش المتوفى سنة 685 بتونس (4):
وهبت فؤادى للمباسم والحدق
…
وحكّمت فى جفنى المدامع والأرق
ولم أستطع إلا الوفاء لغادر
…
ويا ليتنى لما وفيت له رفق
ومن أجله قد رقّ جسمى صبابة
…
ويا ليته لما رآه عليه رقّ
ومنذ أواسط القرن السابع الهجرى-بل منذ هزيمة العقاب سنة 609 نشعر أن نبع الغزل الذى كان متدفقا فى بلدان الأندلس أخذ يغيض وتغيض معه البهجة عن نفوس الأندلسيين لسقوط مدنهم واحدة إثر أخرى فى حجر نصارى الشمال، ولم يبق لهم سوى إمارة غرناطة التى ظلوا ثابتين فيها ثبوت الجبال الراسية، ولكن مع غير قليل من الأسى والإحساس بمستقبل مفجع ملبد بالغيوم. وطبيعى أن يعم الغزل فى تلك الإمارة غير قليل من التكلف وأن يصاغ كثير منه للتعبير عن جناس أو تورية أو غيرهما من محسنات البديع، ومع ذلك لا يزال هناك من يتخففون من هذه المحسنات محاولين التعبير عن شئ من الوجد، ونشعر دائما عندهم بغير قليل من التصنّع وأنهم يبدئون ويعيدون فى خواطر
(1) رايات المبرزين ص 86.
(2)
الجبين الصلت: الجبين الوضيئ المشرق.
(3)
انظر مصادر ترجمة ابن سعيد بين المؤرخين فى الفصل الثانى.
(4)
المغرب 2/ 178.
الغزلين قبلهم وأخيلتهم، على نحو ما سنرى فى الكلمة التى سنسوقها للحديث عن ابن خاتمة وغزله. ويشيد ابن الخطيب بما فى قصيدة لابن جزىّ من وجد قائلا إنها من الغراميات التى سلك فيها مسلك مجنون ليلى، وربما كان أجمل ما فيها قوله:(1)
تباعدت لما زادنى القرب لوعة
…
لعل فؤادى من جواه يفيق
ولا سلوة ترجى ولا الصبر ممكن
…
وليس إلى وصل الحبيب طريق
شجون يضيق الصّدر عن زفراتها
…
وشوق نطاق الصبر عنه يضيق
فيا غائبا عن ناظرىّ أما يرى
…
لشمسك من بعد الغروب شروق
وواضح أن الأبيات ليس فيها لوعة أمثال مجنون ليلى من أصحاب الحب العذرى، ولا فيها حرارة هذا الحب ولا ما يتّقد فى أفئدة العذريين من نيرانه. ويلقانا ركام هائل فى الغزل من زخارف البديع وكأنما أصبحت هى-لا الغزل ووجد المحب-الغاية فى هذا الغرض القديم من أغراض الشعر على نحو ما نرى فى قول ابن جزىّ (2):
أبح لى يا روض المحاسن نظرة
…
إلى ورد ذاك الخدّ كنت لك الفدا
وبالله لا تبخل علىّ بقطفة
…
فإنّى عهدت الروض يوصف بالنّدى
وليس المراد بالندى المعنى القريب وهو قطراته الملائمة للروض وإنما المعنى البعيد وهو الكرم والسماح بما يريد، وهو-فى الواقع-لا يريد بالبيتين التعبير عن عاطفة حب، وإنما يريد التعبير عن تورية وهو لذلك يتكلف لها استعارة الروض والورد كما يتكلف طلب الإباحة، وكأنه بإزاء مسألة فقهية!
ويموج ديوان يوسف الثالث أمير غرناطة-المترجم له فى الفصل السابق-بالغزل، بل إنه محوره، إذ كثرة قصائده ومقطوعاته تدور عليه، وهو يكثر فيه من ذكر العفاف والعناصر البدوية كبارق وسلع والجرعاء والعذيب والرقمتين والغزال والرّيم والقباب والخيام والإبل المودّعة. وحقا هذا كله يطبع به الغزلون الأندلسيون أشعارهم وصلا محكما لها بالشعر العذرى ودقائقه الشعورية، غير أن حب يوسف الأمير حب سطحى متكلف أو هو حب مترف لا ينبع من القلب، مع أنه يكثر من ذكر الشريف الرضى ومهيار غير أن غزله ينقصه ما عندهما من الرقة والوجد واللوعة وأيضا ما عندهما من صفاء التعبير وعذوبته، ومن أجمل ما نقرأ له فى غزلياته قوله:
(1) الكتيبة الكامنة للسان الدين بن الخطيب ص 225.
(2)
الكتيبة الكامنة ص 227.
هل البان يحكى من معاطفك القدّا
…
أو الورد فى توريده يشبه الخدّا
لقد أخطأ التشبيه من حسب السّها
…
يقاوم فى آفاقه القمر السّعدا
وهل لحلى ليلى نظير وإن هم
…
يظنون منها الثّغر قد أشبه العقدا
هى الغاية القصوى محاسن لم تجد
…
شبيها لها فى الغانيات ولا ندّا
وهو يريد أن يقول إن قدّ ليلى أرشق من قدّ البان وحمرة خدها تفوق حمرة الورد جمالا وبهاء، ومثل أترابها منها مثل نجم السها الخافت الذى لا يكاد يبين سناه بالقياس إلى ضوء البدر الذى يملأ الآفاق نوره، وثغرها فى بياضه وصفائه يشبه درر العقد المتلألئة.
وكل هذه التشبيهات مرت بنا فى أخيلة بديعة تصور انبهار الغزلين بجمال صواحبهن، وقد أضعفها عنده أيضا عرضها فى صور من الاستفهام واقترانها بالحسبان والظن.
ولعله يحس بنا أن نتوقف قليلا عند نفر من شعراء الغزل الأندلسيين المبدعين وهم:
الرمادى، والشريف الطليق، وابن زيدون وولادة، وابن الزقاق، وأبو جعفر بن سعيد وحفصة الركونية، وابن خاتمة.
الرّمادى (1) الكندى
هو أبو عمر يوسف بن هرون الكندى المعروف بالرمادى، ويقول مترجموه إن نسبته إلى قبيلة كندة جعلت كثيرين من شيوخ الأدب فى زمنه، يقولون: فتح الشعر بكندة وختم بكندة يعنون امرأ القيس الكندى فى الجاهلية والمتنبى والرمادى القرطبى الكنديين.
أما لقبه الرمادى فيقول ابن بشكوال فى الصلة إنه تعريب لكنية إسبانية هى:
«أبو جنيس» ويبدو أنه كناه بها أحد معاصريه على نحو ما مرّ فى كنيات وألقاب شعراء آخرين مثل البلّينة أى الحوت. وقال ابن سعيد فى المغرب إنه منسوب إلى رمادة من قرى مدينة شلب فى الجنوب الغربى للأندلس، وربما كان قول ابن سعيد أكثر دقة لأنه أعرف بشلب وقراها، ولو كانت الكلمة نقلا لكنية:«أبى جنيس» الإسبانية أو
(1) انظر فى ترجمة الرمادى وشعره الجذوة ص 346 والمطمح ص 69 والبغية ص 478 والصلة ص 613 والمغرب 1/ 392 والمطرب لابن دحية ص 66 وما بعدها وابن خلكان 7/ 225 واليتيمة 2/ 14، 99 وما بعدها ومعجم الأدباء 20/ 62 والذخيرة 1/ 322 و 2/ 141 و 3/ 346، 821 و 4/ 120 وانظر تاريخ الأدب الأندلسى عصر سيادة قرطبة للدكتور إحسان عباس ص 155.
الرومانثية لقيل: «أبو الرماد» لا الرمادى. وقد تتلمذ لأبى على القالى وروى عنه كتاب النوادر الملحق بالأمالى، وله فيه مدحة بديعة. ويبدو أنه درس كتبه بعده للطلاب إذ يذكر ابن سعيد بين طلابه بقرطبة أميرا من بنى ذى النون الطليطليين. وأخذ يشتهر فى الشعر منذ عصر الحكم المستنصر، ويقول الفتح بن خاقان فى المطمح إنه: شاعت عنه أشعار فى دولة الحكم ورجالها سدّد إليهم سهاما فأوغرت عليه الصدور، وسجنه الحكم دهرا، ثم ردّت إليه حريته بعد وفاته، وفى سجنه ألف كتابا عن الطير ختم كل حديث له فى طائر بأبيات فى مديح الحكم ولكنها لم تلن قلبه، ويبدو أنه بدأ اللمز له ولرجاله حين أمر بإراقة الخمور فى جميع الجهات بالأندلس، إذ نرى للرمادى قصيدة يتوجع فيها متألما لشاربيها.
وفى أشعاره بعض خمريات وبعض غزل فى الغلمان ولا ندرى أكان ينظم فى ذلك عن عاطفة حقيقية أو محاكاة لأبى نواس وأضرابه من المشارقة، إذ نراه يصرح مع خمرياته وغزلياته فى السقاة بمثل قوله:
فتّحت الجنّة من جيبه
…
فبتّ فى دعوة رضوان (1)
مروّة فى الحبّ تنهى بأن
…
يجاهر الله بعصيان
وقوله:
وما بى فخر بالفجور وإنما
…
نصيب فجورى الرّشف والشّفتان
وأكبر الظن أنه لم يكن ماجنا. ويقال إنه كما مدح الحكم المستنصر مدح المنصور بن أبى عامر حاجب ابنه المؤيد، ولم يصلنا شئ من مدائحه لهما، وعاش عشر سنوات بعد ابن أبى عامر إذ توفى سنة 403. وقد سقط ديوانه من يد الزمن غير أن الذخيرة والجذوة والمغرب واليتيمة للثعالبى تحتفظ جميعا بغزل له غير قليل، وهو يطبع بطابعين: طابع الرقة البيّن فى مثل قوله:
هو ظالمى لكن أرقّ عليه
…
من أن أجيل اللحظ فى خدّيه
أعفيت رقّة وجنتيه من أذى
…
عينى وما أعفيت من عينيه
ومع ما يحمل البيتان من رقة متناهية إذ يقول إنه يخاف على خدود صاحبته من نظراته أو كما يسميها أذى عينه يحملان أيضا الخاصة الثانية فى غزله، وهى البعد فى التصور حتى ليصبح وهما من الأوهام على نحو ما أصبحت نظراته أذى يوشك أن يلم بالخدود، ولعله
(1) جيب الثوب: فتحته العليا.
يشير بذلك إلى الحياء والخجل الذى يلم بصاحبته فتحمر وجنتاها حين تلاحظ نظراته.
ومن ذلك ما أنشده الحميدى فى الجذوة من قوله:
غدا يرحلون فيا يوم رسل
…
ك كن بالظلام بطئ الّلحاق (1)
ويا دمع عينى سدّ الطّريق
…
وأفرغ عليهم نجيع المآقى (2)
ويا نفسى جئهم من أمام
…
وقابلهم بنسيم احتراق
ويا همّ نفسى بهم كن ظلاما
…
وقيّدهم عن نوى وانطلاق
ويا ليل من بعد ذا إن ظفر
…
ت بالصّبح فاقذف به فى وثاق
فصاحبته سترحل مع أهلها غدا، وهو يتضرع لليوم أن يتريث فى مسيرته، حتى يتأخر ليل الغد المؤذن بالفراق، ويتجه لدموعه يأمل أن تستحيل جدولا من الدم القانى، فتسد الطريق على هذا الركب، كما يتجه إلى نفسه الحارّ بالحب وشراره أن يلفح الركب بلهيبه المشتعل حتى لا يستطيع مسيرا، وبالمثل يتجه إلى هموم نفسه مبالغا فى وهمه إذ يطلب إليها أن تنشر ظلامها، بحيث لا يستطيع الركب انطلاقا، وحتى الليل يبالغ فى وهمه إزاءه، فيطلب إليه إن ظفر بالصبح أن يأسره ويشد من حوله الوثاق. وكل ذلك إغراق فى الوهم ما بعده إغراق، وعلى شاكلته قوله:
على كمدى تهمى السحاب وتذرف
…
ومن شجنى تبكى الحمام وتهتف
فالسحاب إنما يذرف دموعه لما يرى من كمده وهمّه وضناه، والحمام إنما يبكى وينوح لما يرى من شجنه وحزنه، ومن طريف صوره الغزلية قوله:
وإذا أراد تنزّها فى روضة
…
أخذ المراة بكفّه فأدارها (3)
وهى مبالغة واضحة فى الوهم. إذ صاحبة هذا الوجه الفاتن فى رأيه لا تحتاج إلى روضة. تقضى فيها نزهة تمتع به نفسها، إذ حسبها أن تنظر فى مرآتها فترى أروع روضة، ومن الممكن أن يكون قد أراد أن وجه صاحبته بالقياس إليه كأنه مرآة بديعة لروضة فاتنة. وكل ذلك شاهد على أن الرمادى الكندى كان شاعرا متفننا، فلا غرو أن يتفنن فى الموشحة الساذجة عند القبرى، ويتيح لها-كما مر بنا-تطورا جديدا بالغ الأهمية.
(1) رسلك: تمهل.
(2)
نجيع: دم. . مؤق العين: طرفها من جهة الأنف، وهو مجرى الدمع.
(3)
المرأة: المرآة.
الشريف (1) الطليق المروانى
هو أبو عبد الملك مروان بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الرحمن الناصر، قيل إنه كان يعشق جارية رباها أبوه معه، فنشأ يصبو إليها، وكانت تصبو إليه، وذكر ذلك لأبيه، ولم يحترم رغبته، فاستأثر بها من دونه، واشتدت غيرته من أبيه، فانتضى يوما سيفا وانتهز فرصة منه، فقتله، وكانت سنة إذ ذاك ست عشرة سنة، فزجّ به المنصور بن أبى عامر فى السجن وظل به ست عشرة سنة، ثم أطلقه، فسمى الطليق لذلك، وعاش بعد إطلاقه ورد حريته إليه ست عشرة سنة ثالثة، وهو من نادر الاتفاق، وتوفى قريبا من سنة أربعمائة.
ويقول ابن حزم فى كتاب الحلة السّيراء: «أبو عبد الملك هذا فى بنى أمية كابن المعتز فى بنى العباس ملاحة شعر وحسن تشبيه» . ويقول فى جمهرة أنساب العرب: «مروان هذا من الشعراء المفلقين المحسنين» . ويروون له أشعارا نظمها فى السجن وينقصها الإحساس بالمرارة، وكأنما يشعر بعظم ذنبه تلقاء أبيه. وله وراءها أشعار كثيرة فى الغزل والخمر ووصف الطبيعة، وهو فيها يعبر عن مشاعر صادقة، وتتضح فيها ثقافته بالشعر العربى، وتمثله للصياغة الشعرية الرصينة المونقة، مع العناية بالأخيلة والتصاوير، من ذلك قوله متغزلا فى قافيّة له مشهورة:
غصن يهتزّ فى دعص نقا
…
يجتنى منه فؤادى حرقا (2)
أطلع الحسن لنا من وجهه
…
قمرا ليس يرى ممّحقا
ورنا عن طرف ريم أحور
…
لحظه سهم لقلبى فوّقا (3)
باسم عن عقد درّ خلته
…
سلبته لثتاه العنقا
سال لام الصّدغ فى صفحته
…
سيلان التّبر وافى الورقا (4)
ونشعر بجمال موسيقاه وعذوبة ألفاظه وأنه يعرف كيف يضم اللفظة إلى اللفظة فى نسق صوتى بلذ الأسماع والألسنة، وحقا تشبيه قامة المرأة بالغصن النابت فى كثيب نقا أو رملة متداول وكذلك تشبيهها بالقمر وبظبى أحور، وهى تسدّد السهام إلى قلوب
(1) انظر فى ترجمة الشريف الطليق وشعره الحلة السيراء 1/ 220 والمغرب 1/ 191 والحميدى ص 321 والبغية ص 447 والمعجب ص 285 وما بعدها ونفح الطيب 3/ 586 وما بعدها والذخيرة 1/ 563 وما بعدها وجمهرة الأنساب لابن حزم ص 102.
(2)
دعص: كثيب. نقا: رملة.
(3)
ريم: ظبى. فوّق: سدّد.
(4)
الصدغ: الشعر المسدل بين الأذن والعين. الورق: الفضة.
المفتونين بها وأيضا تشبيه الأسنان فى اللثة بعقود در وصدغ الشعر المسدل بين الأذن والعين باللام وأن الأشقر منه يسيل سيلان التبر على الورق أو الفضة، كل ذلك ردده الشعر قبل الطليق ولكنه عرف كيف يصوغه ويحوّر فيه تحويرات تروع قارئه. ومن غزله قوله:
ودّعت من أهوى أصيلا ليتنى
…
ذقت الحمام ولا أذوق نواه
ووجدت حتى الشمس تشكو وجده
…
والورق تندب شجوها بهواه (1)
وعلى الأصائل رقّة من بعده
…
فكأنها تلقى الذى ألقاه
وغدا النسيم مبلّغا ما بيننا
…
فلذاك رقّ هوى وطاب شذاه (2)
ما الرّوض قد مزجت به أنداؤه
…
سحرا بأطيب من شذا ذكراه
ولذاك أولع بالرياض لأنها
…
أبدا تذكّرنى بمن أهواه
وهو يصور وجده والتياعه بذكرى من يهواها من خلال عناصر الطبيعة، فالشمس فى وداعها للأفق أصيلا وما يصيبها من شحوب وصفرة كأنما تشكو وجدها بحبها، وبالمثل تندب الورق الرمادية من الحمام لوعتها بهواها، وكأنما سكبت على الأصيل والنسيم رقة الوجد وأريجه العطر، وإن شذى ذكراه لصاحبته ليفوق شذى أى روض تتفتح أزهاره الندية سحرا، وهو ما يجعله صبّا بالرياض إذ تمثّل عناصرها صاحبته له وتجسمها بكل ما فيها من حسن وجمال وفتنة. ودائما نشعر عند الطليق بروعة الموسيقى مع ما تمتاز به صياغته ولغته من صفاء وسلاسة.
ابن (3) زيدون وولاّدة (4)
هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن زيدون المخزومى الأندلسى ولد بقرطبة سنة 394 فى بيت علم وفقه، لأب فقيه كان من هيئة الفقهاء المشاورين لعهد الخليفة المستعين
(1) الورق: الحمام الرمادى اللون
(2)
الشذى: رائحة الطيب والمسك.
(3)
انظر فى ترجمة ابن زيدون وشعره الذخيرة 1/ 336 وما بعدها والحميدى ص 121 والقلائد ص 70 والمطرب ص 166 والمعجب للمراكشى ص 162 والمغرب 1/ 63 والخريدة 2/ 48 وابن خلكان 1/ 139 والبغية رقم 426 ومقدمتى سرح العيون وتمام المتون لرسالتيه الهزلية والجدية وكتابنا عنه طبع دار المعارف وديوانه وقد نشر مرات آخرها سنة 1957 بتحقيق الدكتور على عبد العظيم.
(4)
راجع فى ولادة وأخبارها مع ابن زيدون وشعرها الذخيرة 1/ 429 وما بعدها والصلة ص 657 والمغرب 1/ 65، 66، 143، 180 والمطرب ص 7 والوافى للصفدى 4/ 251 ونفح الطيب 4/ 205 وما بعدها.
(399 - 407 هـ) وكان جده لأمه صاحب الأحكام بقرطبة، فهو من بيت حسب ونسب وثراء، وعنى أبوه بتربيته إلى أن توفى سنة 405 وظل بعده ينهل من العلوم والمعارف بقرطبة وخاصة من الآداب العربية. وليس لدينا أخبار واضحة عنه فى شبابه إلا ما انعقد بينه وبين ولادة بنت الخليفة المستكفى من حب، وقد توفى أبوها سنة 416 وما توافى سنة 422 حتى تسقط دولة الخلافة الأموية فى قرطبة، ويتولى أبو الحزم جهور مقاليد الحكم وجعله حكما شوريا ديمقراطيا من خلال مجلس كان يرجع إليه فى سياسته وتدبير شئون حكمه. وأكبر الظن أن ابن زيدون كان ممن انتظموا حوله فى حاشيته، ودسّ عليه حوالى سنة 430 أنه يشترك فى مؤامرة ضد أبى الحزم جهور، وتصادف أن اتّهم بالاستيلاء على عقار لبعض مواليه، وزج به أبو الحزم فى السجن، واستعطفه برسالته الجدية وبقصائد مختلفة، غير أنه ظل يصمّ أذنيه عنه إلى أن توسط له ابنه أبو الوليد-وكان صديقا له- فرد إليه أبو الحزم حريته. ويتوفى سنة 435 ويخلفه ابنه أبو الوليد فيعهد لصديقه ابن زيدون بالنظر على أهل الذمة، ثم يتخذه وزيرا له، ويوفده فى عدة سفارات إلى أمراء الطوائف، وتدبّر فى سنة 440 مؤامرة ضد أبى الوليد وتفشل المؤامرة، ونجد ابن زيدون بعدها مضطربا ويرسل إلى المعتضد عباد أمير إشبيلية أن يلجأ إليه، ويرحب بمقدمه عليه سنة 441 ويتخذه وزيرا له حتى وفاته سنة 461 ويظل وزيرا لابنه المعتمد إلى أن يلبى نداء ربه سنة 463.
وابن زيدون من أعلام الشعر والنثر فى الأندلس، وله مدائح رائعة فى أبى الحزم بن جهور وابنه أبى الوليد والمعتضد عباد، وله أيضا مراث بديعة. غير أن القطعة الأرجوانية فى حياته وشعره هى كلفه بولادة وما نظمه فيها من غزل، وكانت أديبة شاعرة، واتخذت لها مجلسا أو ندوة بقصرها تخالط فيها الشعراء وتساجلهم وتفوق أحيانا البارعين منهم، وفيها يقول ابن بسام:«كانت فى نساء أهل زمانها واحدة أقرانها حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعبا لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرّتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتّاب على حلاوة عشرتها، إلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب» .
وولادة-بذلك-تكون قد سبقت سيدات الصالونات الأدبية فى فرنسا اللائى نسمع بهن بعدها بستة قرون أو سبع ممن كن يتخذن-على شاكلتها-ندوات يختلف
إليها بعض الشباب والكهول من الأدباء والمتفلسفة لما يمتزن به من رجاحة العقل وخفة الروح والقدرة على إدارة الحديث والمشاركة فيه مع شئ من الحسن والجمال. ولو أن الأمور والأحوال السياسية استقامت واطردت استقامتها فى الأندلس لوجدنا كثيرات مثل ولادة، لهن مثل مجلسها ومنتداها على نحو ما مرّ بنا من حديث عن السيدة حواء زوجة حاكم إشبيلية المرابطى سير بن أبى بكر وممدوحة الشاعر الأعمى التطيلى، وكما سنرى عما قليل مثيلتها حفصة الرّكونيّة فى عهد الموحدين، ومن المؤكد أن كثيرات من الشاعرات اللائى ترجم لهن المقرى واللائى يبلغن أربعا وعشرين كان لهن مجالس ومنتديات على شاكلة ولادة. وهى ثمرة الحرية التى استمتعت بها المرأة فى الأندلس والتى أشرنا إليها مرارا. وينبغى أن نفرق دائما بين الحرية والمجون، فلم تكن ولادة ومثيلاتها فى الأندلس ماجنات إنما كن سيدات فضليات قدن فى المجتمع الأندلسى نهضة أدبية وفكرية، وقد أشار ابن بسام إلى عفة ولادة فقال «مع طهارة أثواب» ، كما أشار إلى استشعارها لكرامتها بقوله:«مع علو نصاب، وكرم أنساب» وكذلك كانت مثيلاتها من ذوات الحسب والنسب، على نحو ما صورنا ذلك عند السيدة حواء فيما أسلفنا من حديث.
وكان ممن اختلف إلى مجلس ولادة أو منتداها الفتى الشاعر النابغ ابن زيدون، وظل مواظبا على ذلك أياما وشعر أنها تؤثره، فوقعت فى قلبه كما وقع فى قلبها، واتصل بينهما الود، ويروى أنها كتبت إليه بعد طول تمنع لما أولع بها:
ترقّب إذا جنّ الظلام زيارتى
…
فإنى رأيت الليل أكتم للسّرّ
وبى منك ما لو كان بالشمس لم تلح
…
وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر
واتصل بينهما اللقاء فى منتداها وفى حدائق قرطبة، تغمرهما نشوة الحب، وتارة ينشدها من أشعاره فيها وتارة ينشدها من أشعار الغزلين من أمثاله، وحدث أن غاب عنها لأمر عرض له، فكتبت إليه:
ألا هل لنا من بعد هذا التفرّق
…
سبيل فيشكو كلّ صبّ بما لقى
تمرّ الليالى لا أرى البين ينقضى
…
ولا الصبر من رقّ التشوّق معتقى
غير أنها لم تلبث أن تبدلت، فأذاقته بعد نعيم حبها وقربها جحيم هجرها وبعدها، ويقال إن سبب هذا الهجر أنها لا حظت مغازلته لإحدى جواريها، ويقال: بل لأنه نقد لها بعض
شعرها، وسواء كان هذا أو ذاك هو السبب فإن ابن زيدون أخطأ فى حقها أو فى حقّ شعرها خطأ كبيرا. ويقال إنها صبت إلى أديب نابغ ثرى ممن كانوا يختلفون إلى منتداها هو ابن عبدوس وصبا إليها، فطار صواب ابن زيدون، وكتب إليه رسالته الهزلية ساخرا منه كما كتب إليه قصائد مهددا متوعدا، غير أن ولادة لم تصفح عنه، وظل مبعدا محروما.
وغزله فيها-كما صورنا ذلك فى كتابنا عنه-يصور ثلاث مراحل: مرحلة وصله، ومرحلة هجره، ومرحلة يأسه، وغزل المرحلة الأولى فيه بهجة وفرحة، إذ ينعم بقرّة عينه ويسعد سعادة لا حدود لها. أما غزل المرحلة الثانية ففيه الشكوى والحرقة والالتياع العميق والحسرة على فردوسه المفقود. بينما غزل المرحلة الثالثة غزل المبتئس الباكى النادب لحظه. وغزله يعدّ فى الذروة من الغزل العربى وخاصة غزل المرحلتين الثانية والثالثة، لما يصور فيهما من لوعاته المحرقة الممضة، ومن أروع قصائده الغزلية فى صاحبته قافيته التى يستهلها بقوله:
إنى ذكرتك بالزّهراء مشتاقا
…
والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا
وهو يذكر منتداها فى قصرها بضاحية الزهراء وما تموج به من رياض وبساتين، وتغمره اللوعة واللهفة على لقائها ويشرك الرياض التى طالما جاسا معا خلالها وتجوّلا بين أشجارها وأزهارها وطيرها ومياهها فى أحاسيسه ومشاعره، وكأنها تشاركه همومه، وأروع من هذه القصيدة قصيدته:
أضحى التّنائى بديلا من تدانينا
…
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
حالت لبعدكم أيامنا فغدت
…
سودا وكانت بكم بيضا ليالينا
بالأمس كنا وما يخشى تفرّقنا
…
واليوم نحن وما يرجى تلاقينا
يا جنّة الخلد أبدلنا بسلسلها
…
والكوثر العذب زقّوما وغسلينا (1)
والقصيدة تكتظ بالحنين وبلوعات قلب محترق وزفراته، ولعل يأسه من ولادة هو الذى دفعه إلى مغادرته قرطبة مسقط رأسه إلى إشبيلية، لعله يستطيع أن ينسى حبه أو يسلوه، ويقول صاحب الصلة إنها عمرت عمرا طويلا ولم تتزوج قط، وتوفيت سنة 484 بعد أن خلدت اسمها فى تاريخ الشعر العربى وتاريخ المرأة الأندلسية.
(1) السلسل: الماء العذب. الكوثر: نهر فى الجنة. الزقوم والغسلين: طعامان من أطعمة أهل النار.
ابن الزّقاق (1) اللّخمى
هو أبو الحسن على بن إبراهيم بن عطية اللخمى البلنسى المعروف باسم ابن الزّقاق، وهو ابن أخت الشاعر الأندلسى المشهور ابن خفاجة، رزق به أبوه فى أواخر العقد التاسع من القرن الخامس الهجرى، ويصل بعض مترجميه بين أبيه وبين أسرة المعتمد بن عباد أمير إشبيلية فى عصر أمراء الطوائف، ويقولون إنه حين خلع يوسف بن تاشفين المعتمد من إمارة إشبيلية اختفى الأب وهاجر إلى بلنسية، واستوطنها، وعمل بها مؤذنا بمسجدها الكبير. وفى نفح الطيب رواية تزعم أن أباه كان فقيرا جدا وأنه كان صاحب حانوت يكبّ فيه على صناعة الزّقاق، وأنه كان يتلوم ابنه لسهره ليلا يشتغل بالآداب، لما يكلفه ذلك من الزيت الكثير لمصباحه، ويقال إنه نال بأولى قصائده فى أمير بلنسى ثلاثمائة دينار، فأتى بها إلى أبيه ووضعها فى حجره، وقال له: اشتر بها زيتا، ونظن ظنا أن هذا الخبر غير صحيح وأن صاحبه حاول به تفسير لقب أبيه المتصل باسمه: ابن الزقاق. ولا نعرف أهذا اللقب كان لأبيه أو لأحد أجداده، ويغلب أن لا يكون له أى صلة بزقاق الخمر وأن هذا الأب أو الجد لقب «زقّاقا» لسمنه الزائد وانتفاخ كرشه، كما أشارت إلى ذلك عفيفة ديرانى محققة ديوانه. وعنى الأب بتربية ابنه لما رأى فيه من مخايل الذكاء حتى إذا شبّ لزم دروس ابن السيد البطليوسى وعلى يديه درس العربية والآداب. وتفتحت موهبته مبكرا، وأخذ يلفت نظر الشعراء والأدباء فى بلدته. وامتدح بعض الكبراء من بنى عبد العزيز أمراء بلنسية قديما قبل مولده وبعض القضاة ويحيى بن غانية أمير بلنسية ومرسية لعهد على بن يوسف بن تاشفين. وكان قليلا ما يمدح أميرا أو كبيرا، إذ كان يترفع عن المديح، ونوه بذلك مرارا فى شعره من مثل قوله:
أنا من تمنّته الملوك فلم أعج
…
منها على ذى طارف وتلاد (2)
فالملوك لزمنه كانت تتمنى أن يصوغ لهم شيئا من مدائحه، وكان يتمنّع عليهم لإباء نفسه وشعوره العميق بكرامته. وفى الديوان مراث مختلفة وبينها مرثية حارة فى سيدة
(1) انظر فى ترجمة ابن الزقاق وشعره المغرب 2/ 323 والتكملة ص 663 والمطرب ص 100 وما بعدها. والنفح 3/ 199 و 289. والديوان تحقيق عفيفة محمود ديرانى (طبع دار الثقافة ببيروت) ومقدمتها له وما بها من مصادر.
(2)
أعج من عاج: التفت. تلاد: قديم ضد طارف.
لعلها زوجته كما ترجح محققة الديوان، وقد رزق منها بنجلين: محمود وإبراهيم، ويصور حبه لهما وعاطفته الأبوية نحوهما بإحدى قصائده. والديوان موزع بين موضوعين كبيرين هما الغزل وحب الطبيعة، والغزل تارة يقدم به إحدى قصائد المديح، وتارة ثانية يخلطه بالطبيعة مضيفا إلى النشوة بها النشوة بالخمر، ومن بواكير غزله قوله فى مقدمة إحدى مدائحه:
يا شمس خدر ما لها مغرب
…
أرامة خدرك أم يثرب (1)
ذهبت فاستعبر طرفى دما
…
مفضّض الدّمع به مذهب
ناشدتك الّله نسيم الصّبا
…
أنّى استقرّت بعدنا زينب
لم تسر إلا بشذى عرفها
…
أولا فماذا النّفس الطيّب (2)
إيه وإن عذّبنى حبّها
…
فمن عذاب النفس ما يعذب
وتتضح فى هذه الأبيات المبكرة-كما يقول الرواة-الخاصة الفنية الرائعة التى أشار إليها أبو الوليد الشقندى فى بيانه براعة الأندلسيين فى الشعر، وهى أن ابن الزقاق يتناول فى أشعاره الصور والأخيلة التى تداولها الشعراء قبله مرارا وتكرارا حتى غدت كالثوب الخلق البالى، فإذا هو يبثّ فيها حياة وحيوية فتصبح جديدة نضرة مغربا فى ذلك أحسن إغراب وأطرفه، على نحو ما يتضح فى تلك الأبيات، فقد أخذ عن الشعراء استعارة الشمس لصاحبته فى البهاء والجمال، وأضاف إليها أنها شمس لا تغرب، إذ ما تنى طالعة فى خدرها مشرقة، ويناشد نسيم الصبا أين مستقر صاحبته؟ ويذكر أن شذاها يفوح لا من حولها فحسب، كما يقول الشعراء، بل فى النسيم ذاته بدليل أنفاسه المحملة بأريج هذا الشذى، ويقول:
سل الرّيح عن نجد تخبّرك أنها
…
معطّرة الأنفاس مذ سكنت نجدا
وأنّ الغضا والسّدر مذ جاورتهما
…
بطيب شذاها أشبها البان والرّندا
فصاحبته منذ سكنت نجدا أحالت الريح فيها إلى أنفاس معطرة، بل لقد أحالت الغضا والسدر من أشجار البادية العادية إلى أشجار البان والرند التى طالما ذكرها الغزلون واستدارت من حولها فى أخيلتهم هالات الجمال لمحبوباتهم. ومن قوله فى مقدمة إحدى مدائحه:
(1) الخدر: البيت. رامة: موضع بنجد. يثرب: المدينة.
(2)
شذى العرف: رائحة الطيب العطرة.
ولقد مررت على الكثيب فأرزمت
…
إبلى ورجّعت الصّهيل جيادى (1)
ما بين ساحات لهم ومعاهد
…
سقيت من العبرات صوب عهاد (2)
والورق تهتف حولهم طربا بهم
…
وبكل محنية ترنّم شادى (3)
والبيت الأول يكتظ بالحنين لصواحبه وراء الكثيب وحوله، حتى الإبل جمدت فى مكانها ولا تريد أن تفارقه، وتجاوبت الخيل بصهيلها، فهى لا تريد أن تبرحه. ويدعو لساحاتهن ومعاهدهن أن تظل تسقى بعبرات المحبين، ويسوق الحمام الورق لا ليصور فيه حنينه وأنينه لفراق صواحبه على عادة الشعراء، بل ليصور بهجته، فهو يشدو لهن طربا.
وتكثر فى غزله مثل هذه الصور الطريفة من مثل قوله فى وصف دقة الخصر:
أسائلها أين الوشاح وقد أتت
…
معطّلة منه معطّرة النّشر
فقالت وأومت للسّوار نقلته
…
إلى معصمى لما تقلقل فى خصرى
وقوله:
وقفت على الربوع ولى حنين
…
لساكنهنّ ليس إلى الرّبوع
ولو أنى حننت إلى مغانى
…
أحبّائى حننت إلى ضلوعى
وقوله:
تحاذر من عمود الصبح نورا
…
مخافة أن يلمّ بنا افتضاح
ولم أر قبلها واللّيل داج
…
صباحا بات يذعره صباح
والتعبير عن نحول الخصر بنقل السوار إليه تعبير طريف، وبالمثل تعبيره عن أضلاعه بأنها غدت معاهد وربوعا لمحبوباته، وتصويره لما جال فى نفس صاحبته من خوف بل من ذعر حين أخذت تتفلّت فى الأفق تباشير الصباح، ويعجب لفزع صباح إنسى من صباح كونى. وقد توفى ابن الزقاق سنة 528 ولم يبلغ الأربعين من عمره، ولعل فيما قدمنا ما يكفى للدلالة على خصب شاعريته وأخيلته.
(1) أرزمت: حنّت.
(2)
العهاد: المطر فى أول الشتاء. وصوبه: الساقط منه.
(3)
الورق: الحمام. محنية: منعطف.
أبو جعفر (1) بن سعيد وحفصة الرّكونيّة
هو أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد، من سلالة عمار بن ياسر، نزل أسلافه قلعة فى إقليم غرناطة نسبت إليهم، وحين نشبت فتنة قرطبة فى نهاية القرن الرابع وظلت إلى نحو الربع الأول من القرن الخامس الهجرى استقلت بها هذه الأسرة، وعادت إلى الاستقلال بها فى نهاية عصر المرابطين حين نشبت عليهم الفتنة فى الأندلس. ثم دان زعيمهم عبد الملك بن سعيد للموحدين وكان قبل إعلان ولائه لهم حاول أن يتخذ من ابنه أبى جعفر أحمد وزيرا له يدبر معه شئون القلعة، وكان شاعرا وفى ريعان شبابه فاعتذر له بأنه صاحب لهو وطرب، ولا يصلح لوزارته، فأعفاه، ومضى يعيش للهوه مع رفاقه، حتى إذا نزل عبد المؤمن بجبل الفتح سنة 556 وأقبلت إليه وفود الأندلس تعلن ولاءها له رأيناه يفد عليه مع أبيه ويقدم إليه بعض مدائحه. وولّى عبد المؤمن على بلدان الأندلس بعض أبنائه وقواده، وكانت غرناطة من نصيب ابنه أبى سعيد عثمان، وكانت فيه صرامة مع محبته للآداب وإسباغ المكافآت والنوال على الشعراء. وطلب وزيرا أديبا من أهلها يستعين به ووصف له أبو جعفر وحسبه وأدبه فاستوزره، وحاول أن يستعفيه، فأبى، وتقلد وزارته.
وكان أبو جعفر قد كلف بفتاة شاعرة ذات جمال وحسب وثراء هى حفصة الرّكونيّة، وكان أبوها قد لفته ذكاؤها، فعنى بتربيتها، وأتاح لها من الحرية ما جعلها تلقى الأدباء والشعراء وتحاورهم، وتأخذ سريعا مكانة رفيعة فى بلدتها، ويبلغ من مكانتها أن تفد على عبد المؤمن بجبل الفتح وأن تنشده متلطفة:
يا سيّد الناس يا من
…
يؤمّل الناس رفده
امنن علىّ بطرس
…
يكون للدّهر عدّه
تخطّ يمناك فيه
…
الحمد لله وحده
مشيرة بالشطر الأخير إلى العلامة السلطانية عند الموحدين، إذ كان سلطانهم يكتب
(1) انظر فى ترجمة أبى جعفر بن سعيد وشعره المغرب 2/ 164 والإحاطة 1/ 214 والنفح 4/ 173 - 204. وراجع فى ترجمة حفصة وأشعارها المغرب 2/ 138 - 139 و 2/ 166 والمطرب ص 10 والإحاطة 1/ 491 وانظر ص 220 والتحفة رقم 100 ومعجم الأدباء 10/ 219 والنفح 4/ 171 - 179.
بخط يده فى رأس كل منشور: الحمد لله وحده. وأعجب بها عبد المؤمن واستنشدها من شعرها وأنشدته ما زاده إعجابا، ويبدو أن ابنه عثمان الذى تولى غرناطة بعد ذلك رآها حينئذ وبهره جمالها. فلما ولى غرناطة حاول القرب منها عن طريق وزيره أبى جعفر، ولا بد أنه عرف ما كان قد انعقد بينهما من حب وهو ليس حب مجون، بل حب طهارة وعفاف على نحو ما عرف عن فتيات الأندلس وسيداتها من تحرر ومن لقاءات بينهن وبين الشعراء فى قصورهن، وفى الحدائق والرياض، إذ كن أحيانا يمضين فيها بعض الليالى مع من يهواهن وظلت ذكرى ليلة قضاها أبو جعفر مع حفصة فى بستان بمتنزه يسمى «حور مؤمّل» عبقة فى نفسه حتى ليكتب إليها:
رعى الله ليلا لم يرح بمذمّم
…
عشيّة وارانا بحور مؤمّل
وقد خفقت من نحو نجد أريجة
…
إذا نفحت هبّت بريّا القرنفل
وغرّد قمرىّ على الدّوح وانثنى
…
قضيب من الريحان من فوق جدول
فهو يدعو لليل الذى نعم فيه مع حفصة باللقاء بين نسيم الرياض ونفحاتها التى تحيى القلوب أن يسبغ الله دائما عليه رعايته. وتجيبه:
لعمرك ما سرّ الرياض بوصلنا
…
ولكنّما أبدت لنا الغلّ والحسد
ولا صفّق النّهر ارتياحا لقربنا
…
ولا غرّد القمرىّ إلا لما وجد
وكأنها تحدث عن حسد الناس لهما وأنهما لن يتركوهما ينعمان بحبهما، ويقطفان من أزهاره ما يعنّ لهما وما يمتعان به روحاهما، واتصل بينهما الحب واللقاء فكتبت إليه وقد استبطأت لقاءه:
أزورك أم تزور فإنّ قلبى
…
إلى ما تشتهى أبدا يميل
فعجّل بالجواب فما جميل
…
أناتك عن بثينة يا جميل
وهى تشير إلى حب جميل لبثينة حبا عذريا شاع ذكره فى بوادى نجد والحجاز لعصر بنى أمية. وأجابها مصورا ولعه بها وتوقيره لها:
أجلّكم مادام بى نهضة
…
عن أن تزوروا إن وجدت السّبيل
ما الرّوض زوّارا ولكنما
…
يزوره هبّ النسيم العليل
فالروض لا يزور ومثله الفاتنة التى ملكت قلب صاحبها وخلبت لبه، وإنما يزوره
النسيم العليل يستشفى بشذاه وأريجه. ويبدو فى أشعارها له أنه استأثر بقلبها وأنه لم يدع فيه مكانا لسواه حتى لتنشده ملتاعة بحبه ناعمة به سعيدة، غير منكرة غيرتها عليه:
أغار عليك من عينى ومنّى
…
ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أنى خبأتك فى عيونى
…
إلى يوم القيامة ما كفانى
فهى تغار عليه غيرة لا تماثلها غيرة، حتى لتغار منه هو ومن كل ما يحيطه به من زمان ومكان، وتقول لو أنها خطفته ووضعته وراء جفونها فى عيونها إلى يوم القيامة ما كفاها.
وبينما هى تنعم بهذا الحب مع أبى جعفر إذا عثمان بن عبد المؤمن صاحب السلطان فى غرناطة ومن له كل الأمر والتدبير يعترض طريقهما المفروش بالورود والرياحين، وتخشى حفصة العاقبة، وتحاول أن تناوره وتداوره فتستأذن عليه فى يوم عيد كاتبة إليه:
يا ذا العلا وابن الخلي
…
فة والإمام المرتضى
يهنيك عيد قد جرى
…
منه بما تهوى القضا
وافاك من تهواه فى
…
طوع الإجابة والرّضا
ويمتلئ قلب عثمان على كل من العاشقين موجدة وغيظا، وتزيده الوشايات موجدة على موجدة وغيظا على غيظ، إذ يقال له إن أبا جعفر قال لحفصة عنه: ما تحبين فى ذلك الأسود-وكان لون بشرته مائلا إلى السواد-فأسرّها فى نفسه، ونقلوا إليه أنه قال:
فقل لحريص إذ يرانى مقيّدا
…
بخدمته لا يجعل الباز فى القفص
وواتت عثمان الفرصة للانتقام، فإن أخا أبى جعفر عبد الرحمن فرّ إلى ابن مردنيش الثائر فى شرقى الأندلس على الموحدين، ويبدو أن أبا جعفر فكر فى الانضمام إلى أخيه، فأمر عثمان بقتله، وقتل صبرا فى مالقة سنة 559 للهجرة. وبكته حفصة طويلا وندبته ندبا حارّا ولبست عليه السواد، وهجرت غرناطة لغريمها عثمان إلى مراكش ولقيت أخاه سلطان الموحدين يوسف، وأنشدته من الشعر ما جعله يعطف عليها ويفسح لها فى قصره معلمة لفتياته، وتظل معززة مكرمة فى عاصمة الموحدين إلى أن لبت نداء ربها سنة 586 الهجرة.