الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو يشيد بابن تاشفين صاحب موقعة الزلاقة التى أجّلت استرداد الإسبان للأندلس العربية مئات السنين. ويقول إنه ناصر الدين الذى يفديه كل مسلم بروحه ودمه، ويدعو الله أن يجزيه خير الجزاء عما بذل لرعيته فى جهاده المستميت للإسبان وغزواته المتعاقبة واصلا الجهاد بالجهاد، إعلاء لكلمة الله فى تواضع حميد. ويتوفى القاضى على بن القاسم بعد ابن تاشفين بعامين، فيقول فيه من مرثية طويلة:
العيش بعدك يا علىّ نكال
…
لا شئ منه سوى العناء ينال
يا عصمة الفقراء بل يا مالهم
…
هيهات ما للناس بعدك مال
قد كنت آمالى التى أنا طالب
…
جهدى ومتّ فماتت الآمال
لا الظلّ ظلّ بعد فقدك يا أبا
…
حسن ولا الماء الزّلال زلال
وهو يقول إن العيش بعد ابن عشرة نكال وعقاب وعناء وعذاب، ويسميه عصمة الفقراء بما كان ينثر عليهم من أمواله، كما يقول إن آماله ماتت بموت ابن عشرة. ولم يعد الظل ظلا باردا بل أصبح يحموما، ولم يعد الماء الزلال زلالا عذبا، بل أصبح مرا لا يساغ. وخلف القاضى فى القضاء ابنه أبو العباس أحمد، فرعاه ووالى عليه نواله، ووالى ابن سوار له مديحه. وينشد ابن بسام له قطعة من مرثيته فى صبى يسمى محمدا لعله كان ابنا لأبى العباس، كما ينشد له أبياتا فى رثاء قاضيين، وربما كانا من بنى عشرة. ولعل فيما قدمنا ما يدل بوضوح على موهبته الشعرية الخصبة. .
ابن (1) وهبون
هو أبو محمد عبد الجليل بن وهبون، مولده ومنشؤه بمرسية على البحر المتوسط، وهى من بنيان الأمير عبد الرحمن الأوسط وكانوا يسمونها بستان شرقىّ الأندلس، واشتهرت بما كان يصنع فيها من أصناف الحرير والديباج. وكانت بها حركة علمية وأدبية نشطة، ويكفى أن تكون هى التى أنتجت ابن سيدة أكبر لغوى أندلسى صاحب المخصص والمحكم المتوفى سنة 458 للهجرة وكان مع إتقانه للعربية متوفرا على علوم الحكمة والفلسفة، وأكبر الظن أن ابن وهيون تتلمذ له، وقد يكون هو الذى دفعه للقراءة فى كتب
(1) انظر فى
ابن وهبون
وترجمته وشعره الذخيرة 2/ 473 والقلائد ص 242 والخريدة 2/ 95 والمطرب 118 وبغية الملتمس رقم 1101 والمعجب للمراكشى 159 وفوات الوفيات لابن شاكر 1/ 513.
الفلسفة. وكانت شهرة المعتمد بن عباد قد طبقت الآفاق برعايته للشعراء، ونراه يفد على إشبيلية يريد أن يحظى بشئ من هذه الرعاية، ويلزم الأعلم الشنتمرى ويختلف إلى حلقته، ويعجب به ابن وهبون، وكان فيه-مثل ابن سيده-نزوع إلى الفلسفة، فلعله أيضا كان من أسباب اهتمامه بها. وقدّم الأعلم قصيدة له إلى المعتمد بن عباد فطار بها وزيره ابن عمار، ووصله بالمعتمد، وأعجب به بدوره، فقصره على هواه، ولم يرحل إلى أمير من أمراء الطوائف سواه، وظل عنده إلا أياما كان يرحل فيها كل سنة إلى مرسية مسقط رأسه يتعهد فيها أهله، حتى إذا استنزل يوسف بن تاشفين أمير المرابطين المعتمد من عرش إمارته ونفاه إلى أغمات خرج من إشبيلية متجها إلى مرسية، وبالقرب منها سنة 484 للهجرة لقى قطعة من خيل النصارى فاشتبك معهم، وكتبت له-على ايديهم- الشهادة. ويتميز شعره بمسحة التأمل والبعد فى الفكر والعمق فيه بتأثير قراءاته الفلسفية، وتوفى أستاذه الأعلم الشنتمرى سنة 476 فبكاه بمرثية حارة استهلها بتأملات عميقة فى الحياة والموت منشدا:
نفسى وجسمى إن وصفتهما معا
…
آل يذوب وصخرة خلقاء (1)
لو تعلم الأجبال كيف مآلها
…
علمى لما امتسكت لها أرجاء
إنا لنعلم ما يراد بنا فلم
…
تعيا القلوب وتغلب الأهواء
طيف المنايا فى أساليب المنى
…
وعلى طريق الصحّة الأدواء
وهو يقول ما الحياة؟ إن نفوسنا فيها سراب يذوب وأجسامنا صخرات ملساء لا تلبث أن تمسّها يد الفناء، وحتى صخرات الجبال لو علمت حقيقة أنها لا بد أن تتداعى يوما لما تماسكت لها أرجاء، ويقول إنا نعلم مصيرنا إلى الموت والفناء فلم نكلف قلوبنا ما تعيا به وتشقى؟ ولم تغلبنا الأهواء والشهوات؟ ، وتلك أطياف الموت وأشباحه تتراءى لنا فيما نحاول ونحقق من أمانى، وتلك الأدواء والأمراض كأنها تنتظر الأصحّاء. ويستمر فى إنشاده:
ماذا على ابن الموت من إبصاره
…
ولقائه هل عقّت الأبناء
لم ينكر الإنسان ما هو ثابت
…
فى طبعه لو صحّت الآراء
دنف يبكّى للصحيح وإنما
…
أمواتنا-لو تشعر-الأحياء
ما النفس إلا شعلة سقطت إلى
…
حيث استقلّ بها الثّرى والماء
(1) خلقاء: مصمتة ملساء.