الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وللسان الدين بن الخطيب مقدمات جغرافية فى وصف غرناطة لكتابيه: الإحاطة فى تاريخ غرناطة واللمحة البدرية فى الدولة النصرية. وحرىّ بنا أن نذكر محمد (1) بن عبد المنعم الحميرى المتوفى سنة 900 للهجرة وكتابه الروض المعطار فى خبر الأقطار، وهو معجم جغرافى نشر منه بالقاهرة المادة الخاصة بالأندلس.
3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد
كان طبيعيا أن تعنى الأندلس مبكرة بقيام مؤدبين على تعليم الناشئة الفصحى وقواعدها وتحفيظها القرآن الكريم أو سورا منه وبعض الأحاديث النبوية، وبالمثل تعليم من دخلوا فى الدين الحنيف من الإسبان وأبنائهم حتى يستطيعوا جميعا النطق بالفصحى وببعض آيات القرآن الكريم فى صلاتهم. ونلتقى فى القرنين الثانى والثالث للهجرة بكثير من هؤلاء المؤدبين، وهم يعدون بالعشرات فى كتاب طبقات النحويين واللغويين للزبيدى، ومن أوائلهم الغازى (2) بن قيس المؤدب بقرطبة حين دخلها عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية هناك سنة 138 للهجرة وتوفى الغازى سنة 199 ونراه يرحل إلى المشرق، ويلتقى بالأصمعى ونظرائه فى اللغة بالبصرة ويأخذ عن مالك الموطأ فى الفقه، وهو إشارة واضحة إلى أن المؤدبين بالأندلس فى القرن الثانى والثالث للهجرة كانوا يأخذون أنفسهم بثقافة لغوية ودينية واسعة، وكانوا يرحلون للقاء أئمة اللغة والدين فى القراءات والفقه والحديث النبوى. وعلى شاكلته فى الرحلة والأخذ عن الأصمعى ومالك وغيرهما من الأئمة معاصره أبو موسى (3) الهوارى، وله كتاب فى القراءات وكتاب ثان فى التفسير. ومن معاصريهما جودى الراحل إلى المشرق المتوفى سنة 198 وهو تلميذ الكسائى إمام النحو الكوفى وأول من أدخل كتابه إلى قرطبة، وله تأليف فى النحو، وكان يعاصره محمد (4) بن عبد الله مؤدب أبناء الحكم الربضى الراحل بدوره إلى المشرق.
(1) راجع فى الحميرى كراتشكوفسكى ص 295 وبالنثيا ص 311 ود. مؤنس ص 529.
(2)
انظر فى الغازى كتاب طبقات النحويين واللغويين للزبيدى بتحقيق الأستاذ محمد أبى الفضل إبراهيم (طبع ونشر الخانجى) ص 276.
(3)
انظر فى الهوارى الزبيدى ص 275.
(4)
راجع الزبيدى ص 306.
ويذكر الزبيدى فى طبقاته عشرات من لغويى الأندلس فى القرن الثالث الهجرى، منهم عثمان (1) بن المثنى القيسى تلميذ ابن الأعرابى، لقى أبا تمام وأخذ عنه ديوانه وأقرأه بقرطبة، ومنهم الرشاش سعيد (2) بن الفرج وكان من أقوم العلماء فى زمانه على لسان العرب وأحفظهم للغة وأعلمهم بالشعر وكان يحفظ أربعة آلاف أرجوزة، ومنهم محمد بن عبد الله حفيد الغازى السالف ذكره، تتلمذ للغويى العراق من أمثال الرياشى وأبى حاتم وجلب إلى الأندلس علما كثيرا من اللغة والعربية، وعنه روى الأندلسيون الأشعار المشروحات كلها، ومنهم ثابت (3) بن عبد العزيز وابنه قاسم وهما أول من أدخل معجم العين المنسوب إلى الخليل بالأندلس، وأدخله بعدهما القاضى منذر بن سعيد بسماعه من أبى العباس بن ولاد المصرى المتوفى سنة 332 ويبدو أنه كانت قد وصلت إلى الأندلس نسخ مختلفة من هذا المعجم مما جعل الحكم المستنصر يكلف أربعة من العلماء اللغويين بمقارنة هذه النسخ من العين بعضها على بعض لاستخلاص نسخة دقيقة الضبط (4).
وينزل قرطبة أبو على (5) القالى اللغوى الكبير سنة 330 لعهد عبد الرحمن الناصر، فيكون نزوله فيها فاتحة عهد لغوى عظيم، ويستقبله الناصر استقبالا كريما، ويوالى هو وابنه الحكم رعايته وإغداق المال عليه، ونشط فى التأليف والتدريس بقرطبة وضاحيتها الزهراء حتى وفاته سنة 356 وكان مما أملاه على الطلاب من مؤلفاته كتابه «الأمالى» وهو مجلدان من مختارات شعرية ونثرية مع شرح ما جاء فيها من الغريب، وأتبع هذا الكتاب بكتاب على شاكلته سماه «ذيل الأمالى والنوادر» وأملى أيضا من تأليفه كتابه المقصور والممدود والمهموز وكتابا فى الأمثال سوى مؤلفات أخرى، وأهم من ذلك شروحه للمعلقات وروايته هناك للمفضليات والنقائض وشعر الهذليين وإدخاله دواوين النابغة الذبيانى وعلقمة والأعشى والحطيئة والشماخ والنابغة الجعدى وأوس بن حجر والقطامى
(1) انظر فى ابن المثنى الزبيدى ص 288 وابن الفرضى 1/ 88 والمغرب 1/ 112.
(2)
راجع فى الرشاش الزبيدى ص 284 وابن الفرضى ص 141 والحميدى ص 211 والمغرب 1/ 114.
(3)
انظر فى ثابت وابنه قاسم الزبيدى ص 309 وابن الفرضى 1/ 88 وبغية الملتمس للضبى 238 وإنباء الرواة للقفطى (تحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم) 1/ 262.
(4)
الحميدى ص 47.
(5)
راجع فى القالى الزبيدى ص 202 وابن الفرضى 1/ 83 والقفطى 1/ 204 وبغية الملتمس 216 ومعجم الأدباء 7/ 25 والأنساب للسمعانى 437 ب وابن خلكان 1/ 226 والحميدى فى الجذوة 154 وفهرسة ابن خير ص 395 وفى مواضع مختلفة وشذرات الذهب 3/ 18.
والأخطل وذى الرمة إلى غير ذلك من دواوين الجاهليين والإسلاميين سوى معجمه «البارع» وإن لم يتمه. وهو بذلك كله دفع الأندلس إلى حركة لغوية خصبة، وكانت قد بدأت هذه الحركة وأخذت فى النمو أثناء القرن الرابع الهجرى على نحو ما يشهد بذلك ابن القوطية محمد بن عمر المتوفى سنة 367 وقد امتدحه القالى فى اللغة، ومن مؤلفاته فيها كتاب تصاريف الأفعال طبعه؟ ؟ ؟ جويدى فى ليدن باسم كتاب الأفعال وتصاريفها ويقول ابن خلكان هو الذى فتح للعلماء الكتابة فى هذا الموضوع، وله كتاب فى المقصور والممدود يقول ابن خلكان جمع فيه ما لا يحد ولا يوصف، وفاق من تقدمه. وأهم من ابن القوطية فى القرن الرابع الزبيدى (1) محمد بن الحسن تلميذ القالى المتوفى سنة 379 وفيه يقول ابن خلكان:«كان واحد عصره فى حفظ اللغة وعلم النحو وكان أخبر أهل زمانه بالإعراب والمعانى والنوادر ولم يكن بالأندلس فى فنه مثله فى زمانه» واختاره الحكم المستنصر لتأديب ابنه وولى عهده المؤيد، وولاه القضاء، وولاه المؤيد الشرطة، ونال فى عهدهما دنيا عريضة، وفى مقدمة كتبه اللغوية مختصر معجم العين للخليل ويشهد له القدماء بأنه يفضل أصله لحذفه منه الأبنية المصحفة والمختلة وزيادته فيه كثيرا من المواد التى يفتقر إليها المعجم مع استدراكه الأخطاء الواقعة فيه، وقد ذهب إلى أن هذا المعجم ليس من صنع الخليل، لما فيه من رواية عن أناس متأخرين عن الخليل بحيث لا يمكن أن يروى عنهم، ولأن جميع ما فيه من مسائل النحو إنما هو على مذهب الكوفيين والخليل نحوى بصرى، بل هو إمام المدرسة النحوية البصرية. وله فى لحن العوام من أهل الأندلس مصنف طريف نشره الدكتور رمضان عبد التواب، وهو لا يقصد بالعوام الدهماء من الناس وإنما عوام المثقفين، وما يجرى فى ألسنتهم من أخطاء. ومن لغويى القرن الرابع السرقسطى (2) سعيد المعافرى المتوفى بعد سنة 400 للهجرة، وهو تلميذ أبى بكر ابن القوطية، وقد روى عنه كتابه الأفعال، ورأى أن يبسطه فى كتاب مطول ويزيد فيه بنفس اسمه وقد نشره مجمع اللغة العربية فى أربعة مجلدات. ومن تلاميذ الزبيدى ابن الإفليلى (3) إبراهيم بن محمد المتوفى سنة 441 روى عن أستاذه كتاب الأمالى للقالى، وله
(1) انظر فى الزبيدى ابن الفرضى 2/ 92 والحميدى 43 والمغرب 1/ 255 وبغية الملتمس رقم 80 وإنباه الرواة 3/ 109 ومعجم الأدباء 18/ 180 وابن خلكان 4/ 372. وكتابه طبقات النحويين واللغويين من مراجعنا فى الهوامش.
(2)
راجع فى السرقسطى الصلة رقم 474 ومقدمة نشرة كتابه الأفعال.
(3)
انظر فى ابن الإفليلى الذخيرة لابن بسام (طبعة إحسان عباس) 1/ 281 والصلة 94 والإنباه 1/ 183 ومعجم الأدباء 2/ 4 وابن خلكان 1/ 51.
شرح جيد على ديوان المتنبى. ومن لغويى القرن الخامس ابن سيده (1) على بن إسماعيل الضرير المتوفى سنة 458 وفى المغرب لابن سعيد: «لا يعلم بالأندلس أشد اعتناء من هذا الرجل باللغة ولا أعظم تأليفا، تفخر مدينة مرسية به أعظم فخر» وله معجمان ضخمان:
المحكم وهو على شاكلة كتاب العين مرتب حسب مخارج الحروف، والمعجم الثانى المخصص وهو موزع على الموضوعات والمعانى فى سبعة عشر مجلدا، ويذكر فى مقدمته مصادره، وهى تتوالى بالعشرات، حتى ليخيل إلى الإنسان أنه لم يبق فى اللغة كتاب لعالم لغوى قبله إلا اطلع عليه، وقد تنبه ابن سيده فى هذا المعجم بوضوح إلى القرابة اللغوية بين بعض اللغات السامية وبين العربية، إذ يقول:«كنعان بن سام بن نوح، إليه ينسب الكنعانيون، وكانوا أمة يتكلمون بلغة تضارع (تشابه) العربية» . (2) وهو ما قرره علماء اللغات السامية حديثا من أن الكنعانية تعد إحدى اللغات السامية المتفرعة-مثل العربية-من أم واحدة. ونجد ابن حزم معاصره يتنبه بقوة إلى أن السريانية والعبرية والعربية بينها جميعا لحمة قرابة وثيقة كقرابة اللهجات فى لغة واحدة، يقول فى كتابه الإحكام فى أصول الأحكام:«إن الذى وقفنا عليه وعلمناه يقينا أن السريانية والعبرانية والعربية التى هى لغة مضر وربيعة-لا لغة حمير-هى لغة واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها، فحدث فيها جرس كالذى يحدث من الأندلسى إذا رام نغمة أهل القيروان ومن القيروانى إزا رام نغمة الأندلسى. . وهكذا فى كثير من البلاد، فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدّل لغتها تبدلا لا يخفى على من تأمله. . فمن تدبر العربية والعبرانية والسريانية أيقن أن اختلافها إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم وأنها لغة واحدة فى الأصل (3)» . وواضح أن ابن حزم يرى أن العربية والعبرانية والسريانية كانت جميعا لغة واحدة، وبتفرق أهلها وهجرتهم من الجزيرة شمالا وغربا أخذت تحدث عند كل قوم تغيرات أعدت لحدوث لغاتهم، وهو نفس ما يقرره علماء اللغات السامية حديثا، وكأن ابن حزم وابن سيده وأمثالهما من الأندلسيين هم الذين نبهوا الأوربيين-بذلك-إلى علم فقه اللغات السامية وما يطوى فيه من مناهج لغوية علمية مقارنة. وبذلك كانوا المكتشفين لفقه
(1) راجع فى ابن سيده الحميدى وبغية الملتمس رقم 205 والمطمح 60 والصلة ص 410 ومعجم الأدباء 12/ 231 وابن خلكان 3/ 330 والإنباء 2/ 225 ونكت الهميان 204 وشذرات الذهب 3/ 305 والديباج المذهب 204 والمغرب 2/ 259.
(2)
انظر المخصّص لابن سيده 13/ 167.
(3)
راجع الإحكام فى أصول الأحكام لابن حزم (طبع القاهرة) 1/ 30.
اللغات المقارن بين اللغات السامية التى ترجع إلى أم أو لغة واحدة. وقد مضى الأوربيون يطبقونه على مجموعات اللغات اللاتينية والسكسونية وغيرها من الأسر اللغوية، شأنهم فى ذلك نفس شأنهم الذى مر بنا فى قيام علومهم وفلسفاتهم الحديثة على أساس الفلسفات والعلوم الأندلسية. وكان يعاصر العلمين الأندلسيين السابقين: ابن حزم وابن سيده الأعلم الشنتمرى (1) يوسف بن سليمان المتوفى سنة 476 شارح الدواوين؟ ؟ ؟ لأعلام الشعر الجاهلى: امرئ القيس والنابغة وزهير وطرفة وعنترة وعلقمة بن عبدة، وهو يحتفظ فى شرحه لتلك الدواوين برواية الأصمعى، وبعد أن ينتهى منها فى كل شاعر يضيف إليها بعض الزيادات من روايات أخرى. وعلى هداه كتب أبو بكر عاصم (2) بن أيوب البطليوسى المتوفى سنة 494 شرحا لنفس الشعراء الستة المذكورين، وكان يعاصره أبو عبيد البكرى المذكور بين الجغرافيين، وله كتاب اللآلى فى شرح أمالى القالى نشره عبد العزيز اليمنى بالقاهرة، وكتاب فصل المقال فى شرح كتاب الأمثال لأبى عبيد القاسم بن سلام نشره إحسان عباس وعبد المجيد عابدين بالخرطوم. ومن لغويى الأندلس المهمين ابن السيد (3) البطليوسى عبد الله بن محمد المتوفى سنة 521 وله الاقتضاب فى شرح أدب الكتاب لابن قتيبة وشرح سقط الزند لأبى العلاء وهو منشور مع مجموعة شروح السقط طبع دار الكتب المصرية وأيضا شرح على مختارات من لزوم ما لا يلزم لأبى العلاء نشره بالقاهرة الدكتور حامد عبد المجيد، وكان يعاصره الأشتركونى أبو الطاهر محمد بن يوسف المتوفى سنة 538 وله كتاب المسلسل فى الألفاظ العربية وهو منشور بالقاهرة، ويلقانا فى أوائل القرن السابع الشريشى أحمد بن عبد المؤمن المتوفى سنة 619 وشرحه لمقامات الحريرى منشور بمصر.
ونشاط الأندلس فى النحو لا يقل عن نشاطها فى اللغة إن لم يتفوق عليه إذ كان المؤدبون فى القرنين الثانى والثالث للهجرة كما يعلمون الناشئة اللغة كانوا يعلمونها العربية أو النحو، ومرّ بنا أن جوديا المتوفى سنة 198 أدخل إلى الأندلس كتاب الكسائى، وله تأليف فى النحو، ويروى أن للفقيه عبد الملك بن حبيب السلمى المتوفى سنة 238 كتابا فى إعراب القرآن، ونلتقى فى أواخر القرن الثالث الهجرى بالأقشتين (4)
(1) انظر فى الشنتمرى الصلة رقم 1391 والمطمح 64 وابن خلكان 7/ 81 ومعجم الأدباء 20/ 60 ونكت الهميان 313 وكتابنا المدارس النحوية ص 293.
(2)
راجع فى عاصم الصلة رقم 966.
(3)
انظر مصادره فى ص 84 وكتابنا المدارس النحوية (طبع دار المعارف) ص 294.
(4)
انظر فى الأقشتين الزبيدى ص 305 وابن الفرضى 1/ 329 والإنباه 3/ 216.
محمد بن موسى المتوفى سنة 307 وله رحلة إلى المشرق أخذ فيها بالفسطاط عن أبى جعفر الدينورى كتاب سيبويه، وكان يدرس فى قرطبة لطلابه. ونلتقى بعده بمحمد (1) بن يحيى الرباحى المتوفى سنة 358 تلميذ أبى جعفر النحاس بالفسطاط، وعليه درس كتاب سيبويه، وحذق مسائله ومشاكله وعاد إلى قرطبة يدرسه لطلابه، وهو يفتتح فى الأندلس دراسة كتاب سيبويه والنحو دراسة تستوفى دقائق العربية وغوامضها والتعليل لمسائلها كما يقول الزبيدى، وهو أستاذه فى النحو وعليه درسه وتمثله وألف فيه كتابه الواضح الذى نشره بالأردن الدكتور عبد الكريم خليفة. وكان ابن الإفليلى المار ذكره بين اللغويين يقرئ تلاميذه-مع ما يهتم به من شرح الشعر-كتاب سيبويه رواية عن العاصمى عن الرباحى. ولابن سيده الذى تحدثنا عنه آنفا بين اللغويين شرح مشكل أبيات المتنبى، وينوه فى مقدمة معجميه: المخصص والمحكم بأنه أودع فيهما مواد نحوية كثيرة من كتابات النحاة، ويذكر من بينهم خاصة أبا على الفارسى وابن جنى، مما يدل على أن نحاة الأندلس أخذوا يتعمقون-بجانب تعمقهم فى نحو المدرستين البصرية والكوفية-فى نحو المدرسة البغدادية وينهجون نهجها من المزج بين آراء المدارس النحوية المختلفة.
ومن النحاة الشنتمرى الذى عرضنا له بين اللغويين ويقول ابن مضاء إنه كان شغوفا بعلل النحو المعقدة، وقد روى كتاب سيبويه عن ابن الإفليلى وأقرأه لطلابه مذللا لهم صعابه ومشاكله، وتوفّر الأندلسيون-بفضل نسخة الرباحى من كتاب سيبويه التى ذكرناها آنفا-على الكتاب يدرسونه ويفسرون غوامضه واشتهروا بذلك شهرة جعلت الزمخشرى يرحل فى شبابه من خوارزم إلى مكة لقراءة الكتاب على نحوى أندلسى كان مجاورا بها هو عبد الله (2) بن طلحة المتوفى سنة 518. ونلتقى بابن السيد البطليوسى المار ذكره بين اللغويين، وكان يعنى بشرح كتاب الجمل للزجاجى، وله كتاب فى النحو سماه المسائل والأجوبة، وهو فى آرائه النحوية بغدادى الاتجاه، يختارها أحيانا من المدارس النحوية السابقة وأحيانا ينفذ إلى آراء جديدة، ومثله فى ذلك معاصره ابن (3) الباذش
(1) راجع فى الرباحى الزبيدى ص 335 وابن الفرضى 1/ 314 والإنباه 3/ 229 وابن خلكان 4/ 372.
(2)
انظر فى ابن طلحة تفسير البحر المحيط لأبى حيان 4/ 372 وبغية الوعاة للسيوطى ص 284 وانظر التكملة رقم 1330 والعقد الثمين فى تاريخ البلد الأمين للفاسى (طبع القاهرة 5/ 182).
(3)
راجع فى ابن الباذش بغية الملتمس ص 406 والإنباه 2/ 227 وطبقات القراء لابن الجزرى 1/ 518 والديباج المذهب 2/ 107 وكتابنا المدارس النحوية ص 295 والإحاطة 4/ 100.
على بن أحمد المتوفى سنة 528 وله شروح على كتاب سيبويه والمقتضب للمبرد والأصول لابن السراج والإيضاح لأبى على الفارسى، وعلى شاكلته وشاكلة صاحبه ابن الطراوة (1) سليمان بن محمد معاصرهما المتوفى سنة 528.
ويسود هذا الاتجاه فى النحو الأندلسى من انتخاب أفذاد النحاة لآرائهم من آراء نحاة المدارس المختلفة مع النفوذ إلى بعض الآراء المبتكرة على نحو ما نرى عند السهيلى (2) عبد الرحمن بن عبد الله المتوفى سنة 581 فى كتابه «نتائج الفكر» وكان يشغف بمحاولة الإكثار من العلل النحوية كما يقول ابن مضاء، وعلى شاكلته عيسى (3) الجزولى المتوفى سنة 607 وله مقدمة فى النحو وحواش على كتاب الجمل للزجاجى، ومثله ابن خروف (4) على بن يوسف المتوفى سنة 610 ويشتهر بشرح له على سيبويه وشرح ثان على كتاب الجمل للزجاجى، وحرى بنا أن نذكر ابن مضاء أحمد (5) بن عبد الرحمن القرطبى قاضى قضاة دولة الموحدين المتوفى سنة 592 وهو صاحب كتاب الرد على النحاة الذى نشرته مع تحليل لآرائه التى هاجم فيها نظرية العامل عند النحاة وما انطوى فيها من تعليلات وتقديرات، ومع محاولة لوضع أسس فى تيسير النحو وتبسيطه للناشئة على هدى آرائه. ومن أهم نحاة القرن السابع الأندلسيين الشلوبين (6) عمر بن محمد المتوفى سنة 645 وله شرح على مقدمة الجزولى المسماة بالجزولية وكتاب فى النحو سماه التوطئة، وكان يعاصره ابن عصفور (7) على بن مؤمن المتوفّى سنة 663 حامل لواء العربية فى زمنه بالأندلس، وله الممتع فى التصريف والمقرب فى النحو وهما منشوران،
(1) انظر فى ابن الطراوة بغية الملتمس ص 290 والتكملة لابن الأبار ص 704 والمغرب 2/ 208 وكتابنا المدارس النحوية ص 296.
(2)
راجع فى السهيلى بغية الملتمس ص 354 والإنباه 2/ 162 وطبقات القراء 1/ 371 وابن خلكان ص 143 والمدارس النحوية ص 299.
(3)
انظر فى الجزولى الإنباه 2/ 378 وابن خلكان 3/ 488 والمدارس النحوية ص 300.
(4)
راجع فى ابن خروف التكملة ص 676 ومعجم الأدباء 15/ 75 وابن خلكان 3/ 335 والذيل والتكملة للمراكشى 5/ 319 والفوات 2/ 160 وصلة الصلة (طبع الرباط) 122 وكتابنا المدارس النحوية ص 301.
(5)
انظر فى ابن مضاء بقية التكملة رقم 234 وبغية الملتمس ص 192 والديباج المذهب لابن فرحون 1/ 208 والمدخل لتحقيقنا كتابه الرد على النحاة.
(6)
راجع فى الشلوبين التكملة ص 658 والمغرب 2/ 129 والإنباء 2/ 332 وابن فرحون فى الديباج 2/ 78 وابن خلكان 3/ 451 وكتابنا المدارس النحوية ص 302.
(7)
انظر فى ابن عصفور بغية الوعاة للسيوطى ص 357 وعرضنا لآرائه فى كتاب المدارس النحوية ص 306
وكانت له ثلاثة شروح على كتاب الجمل للزجاجى. ونلتقى بعده بابن (1) مالك محمد بن عبد الله إمام النحاة المتوفى بدمشق سنة 672 وهو صاحب الألفية المشهورة فى النحو وله مصنفات نحوية كثيرة منها التسهيل وشرحه وشرح الكافية لابن الحاجب المصرى وشرح الجزولية وإعراب مشكل صحيح البخارى سوى مصنفات أخرى فى النحو تبلغ نحو الثلاثين، وكان يعاصره ابن الضائع (2) على بن محمد المتوفى سنة 680 وله شروح مختلفة على كتاب سيبويه والإيضاح لأبى على الفارسى والجمل للزجاجى، وخاتمة أئمة النحو فى الأندلس أبو حيان (3) محمد بن يوسف تلميذ ابن الضائع المتوفى بالقاهرة سنة 745 وعلى يديه تخرج جيل من النحاة المصريين وله شروح على كتاب سيبويه وكتابى ابن عصفور: المقرب والممتع وألفية ابن مالك وكتابه التسهيل، وله أيضا فى النحو كتاب ارتشاف الضّرب أى عسل النحل فى ستة مجلدات، وصنع له مختصرا فى مجلدين، ويقول السيوطى فى البغية:«لم يؤلف فى العربية أعظم من هذين الكتابين ولا أجمع ولا أحصى للخلاف بين النحاة» .
وبجانب علوم النحو واللغة عنيت الأندلس بالبلاغة العربية، وظلت حتى نهاية القرن الرابع الهجرى تعتمد فى ذلك على رواية النصوص الأدبية للناشئة والتعرف على كتابات المشارقة فى البيان العربى، واستطاع المؤدبون فى أثناء ذلك أن يدفعوا الناشئة للإكباب على الأدب الجاهلى والإسلامى والعباسى بفرعيه من الشعر والنثر حتى استقامت لهم ألسنتهم وحتى تمثّل كثيرون خصائص البيان العربى، وأصبحوا شعراء وكتابا نابهين.
ويبدو-بوضوح-أنهم ظلوا يكتفون بكتابات الجاحظ والمبرد وابن قتيبة وابن المعتز وأضرابهم من أصحاب الاتجاه العربى فى البلاغة وبذلك ظلوا-آمادا-بعيدين عن مناحى الاتجاه البلاغى المجدد الغالى فى التجديد (4) والذى كان يتخذ من البلاغة اليونانية-كما يمثلها كتابا الخطابة والشعر لأرسطو-معايير للبلاغة العربية.
(1) راجع فى ابن مالك طبقات الشافعية لسبكى 5/ 28، 257 وفوات الوفيات 2/ 227 وطبقات القراء لابن الجزرى 2/ 180 والنجوم الزاهرة 7/ 243 وبغية الوعاة ص 53 وشذرات الذهب 5/ 339 وفى كتابنا المدارس النحوية ص 309 وما بعدها عرض لآرائه النحوية.
(2)
انظر فى ابن الضائع الإحاطة 4/ 120 وبغية الوعاة ص 354 والمدارس النحوية ص 318.
(3)
راجع فى أبى حيان طبقات الشافعية للسبكى 9/ 31 وطبقات القراء 2/ 285 والإحاطة 3/ 43 والدرر الكامنة لابن حجر 4/ 302 وفوات الوفيات 2/ 352 ونكت الهميان ص 282 وبغية الوعاة ص 121 والشذرات 6/ 145 والمدارس النحوية ص 320 وما بعدها.
(4)
انظر فى هذا الاتجاه وسابقه كتابنا البلاغة: تطور وتاريخ طبع دار المعارف ص 62 - 66.
ويلقانا فى مطالع القرن الخامس الهجرى كتابان عن التشبيه أحدهما سقط من يد الزمن واسمه «الفوائد فى التشبيه من الأشعار الأندلسية» لعلى (1) بن محمد بن أبى الحسين المتوفى قريبا من سنة 430 ويدل اسمه على أنه كان مختارات من التشبيهات لشعراء الأندلس، والثانى على شاكلته، واسمه «كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس» لابن الكتانى (2) أبى عبد الله محمد المتطبب المتوفى سنة 420 وكان من أهل المنطق والفلسفة، ومع ذلك لم يعن بدراسة تلك التشبيهات دراسة علمية على نحو ما صنع ابن طباطبا المشرقى المتوفى سنة 332 فى كتاب «عيار (3) الشعر» وتقسيمه للتشبيه فيه من حيث المادى الحسى والمعنوى الذهنى ومن حيث الصورة واللون والهيئة والتركيب، إنما عنى بعرض أبيات مختارة للشعراء الأندلسيين حتى زمنه، وهى موزعة على أكثر من ستين بابا، استهلها بأبواب فى وصف الطبيعة من سماء ونجوم وكواكب ورياح وأمطار ورياض، وأتبع تلك الأبواب بأبواب فى وصف الخمر والغناء والمغنين وآلاتهم فأبواب للجمال الإنسانى والحب ومشاعره، ثم أبواب تتضمن صور الصراع بين الإنسان والطبيعة من مثل قطع المفاوز والبحار وصيد الحيوان وكذلك الصراع بين الإنسان والإنسان فى الحرب وما يتصل به من آلات الحضارة ومن الأخلاق الفردية والاجتماعية مع العبرة بالشيخوخة والفناء.
وتعرض فى كل ذلك التشيبيهات الطريفة فى رأى ابن الكتانى لشعراء الأندلس. وعلى شاكلة هذا الكتاب كتاب البديع فى وصف الربيع لأبى الوليد إسماعيل بن حبيب الحميرى الملقب بحبيب (4) المتوفى بعد ابن الكتانى بنحو عشرين عاما قريبا من سنة 440 للهجرة، وكلمة البديع فى العنوان لا تعنى البديع بمعناه البلاغى الاصطلاحى، وإنما تعنى المستطرف المستحسن من الشعر والنثر للأندلسيين من أهل عصره مما يتصل بالربيع ويتفوق به الأندلسيون على أهل المشرق، كما يقول فى مقدمة الكتاب «لما لهم فيه من الاختراع الفائق والابتداع الرائق وحسن التمثيل والتشبيه ما لا يقوم أهل المشرق مقامهم فيه» . وحقا للأندلسيين أشعار بديعة فى وصف الربيع والطبيعة، أما أنهم يتفوقون
(1) راجع فى ابن أبى الحسين واسم كتابه الحميدى 290 والصلة رقم 880 وبغية الملتمس رقم 1193 والحلة السيراء طبعة حسين مؤنس بالقاهرة 1/ 224.
(2)
انظر فى ابن الكتانى طبقات الأمم لصاعد ص 125 وابن جلجل ص 109 وابن أبى أصيبعة ص 491 ومقدمة الدكتور إحسان عباس لتحقيقه لكتابه (طبع دار الثقافة ببيروت).
(3)
انظر تحليلنا لهذا الكتاب وحديثنا عن التشبيه فى كتاب البلاغة: تطور وتاريخ ص 123.
(4)
انظر فى حبيب ومصادره وترجمته الفصل الخامس. وكتابه البديع نشر فى الرباط بتحقيق هنرى بيريس وفى السعودية بتحقيق د. عبد الله عسيلان.
فيهما على المشارقة فقول يحتاج إلى نظر، ويكفى المشارقة أن يكون من بينهم ابن الرومى أكبر مبدع فى وصف الطبيعة والربيع. ويورد الحميرى فى كتابه مختاراته الشعرية والنثرية فى ثلاثة أبواب: باب جعله فى وصف الربيع ورياحينه وباب ثان فى وصف أزهاره، وباب ثالث فى وصف كل زهرة منفردة على حدة، ويشفع ذكره لبعض القطع بمثل قوله مقدما لها:«ومن غريب الرصف فى عجيب الوصف» وقوله: «ومن جيد التشبيه وحسن التمثيل» وقوله: «ومن السحر المنتحل والكلام المنتخل» . وتلى مثل هذه التعبيرات المقطوعات الشعرية. والكتاب بذلك-مثل سابقه-كتاب مختارات من النثر والشعر الأندلسيين وليس كتاب بلاغة. وكأن الأندلس حتى عصر أمراء الطوائف لم تكن تعنى بالكتابة فى البلاغة، إنما كانت تعنى بعرض المختارات الشعرية، وقد أكبّت كما مر بنا على دواوين الجاهليين والإسلاميين والعباسيين وأخذت فى أواخر العصر تعنى بمختارات للأندلسيين أنفسهم، مكتفية بما نقل إليها من كتابات المشارقة فى البلاغة، وكان مما نقل إليهم كتاب العمدة فى صناعة الشعر ونقده لابن رشيق القيروانى سنة 463 وفيه دراسة مفصلة عن فنون البديع ومحسناته وهى تضم عنده الصور البيانية من تشبيه واستعارة ومجاز وكناية، ويبدو أنهم عكفوا عليه بالدرس، يدل على ذلك من بعض الوجوه أن نجد محمد (1) بن عبد الملك الشنترينى المتوفى سنة 545 للهجرة يصنع تلخيصا له مع بيان أغلاط فيه.
وربما كان أول كتاب للأندلسيين عنى بمباحث أساليب الكتابة البلاغية وفصّل القول فيها كتاب إحكام صنعة الكلام للكلاعى (2) أبى القاسم محمد بن عبد الغفور المتوفى حوالى منتصف القرن السادس الهجرى، وقد جعل كتابه فى مقدمة تحدث فى فصولها عن صور من محاكاته لأبى العلاء ومضى يعلى النثر على الشعر ثم أفاض القول فى بابين: باب خصه بالكتابة وآدابها، وباب خصه بضروب الكلام قدم له بحديث مفصل عن الإيجاز والإطناب والمساواة، وهو باب كبير من أبواب علم المعانى، ومن الطريف أنه نفذ إلى مصطلح المساواة المتوسطة بين الإيجاز والإطناب على نحو ما شاع ذلك بعده عند المشارقة منذ بدر (3) الدين بن مالك المتوفى سنة 686 كما نفذ إلى تقسيم الإيجاز إلى إيجاز قصر وإيجاز حذف، ويبدو أنه رأى أن يعدل عن الحديث فى الصور البيانية والمحسنات البديعية لأنها
(1) راجع التكملة ص 191 رقم 660.
(2)
انظر فى الكلاعى المطمح ص 29 وابن الأبار فى التكملة ص 187 والمغرب 1/ 242 ومقدمة كتابه إحكام صنعة الكلام طبع بيروت بتحقيق محمد رضوان الداية.
(3)
انظر كتابنا البلاغة تطور وتاريخ ص 315.
قتلت بحثا عند المشارقة وأيضا عند ابن رشيق، فأفرد فصولا لأنواع الأسلوب فى الكتابة وهى عنده سبعة: الأسلوب العاطل وهو الخالى من الأسجاع، والحالى وهو المحلى بالسجع والصور البيانية، والمصنوع وهو المسجوع الموشح بمحسنات البديع، والمرصع وهو ما حلّى بالأخبار والأمثال والأشعار والآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والمغصّن وهو ما تتضمن فيه السجعتان المتقابلتان سجعات داخلية تتقابل فى كل سجعة طويلة مع قرينتها فى السجعة الطويلة التالية، وكأنما أصبح للسجعتين الأساسيتين فى الأسلوب أغصان وفروع مثل:«ومن السلام سلام وإن لاح جوهرا، ومن الكلام كلام وان فاح عنبرا» والمفصّل وهو ما تعقب فيه الأبيات الشعرية الجمل النثرية على شاكلة كتاب ملقى السبيل لأبى العلاء ولبديع الزمان الهمذانى رسالة مشهورة من هذا النوع، والأسلوب السابع المبتدع وهو ما تقرأ فيه سطور الكلمات والكلمات نفسها من جهتين أو أكثر، وهى صورة من التعقيد ليس فيها فن ولا جمال. وبعد فراغه من كل ذلك يتحدث عن فنون الكتابة من التوقيعات والخطب والحكم والأمثال والمقامات والحكايات والتوثيقات والمؤلفات، وهى أول مرة يتحدث فيها ناقد بإفاضة عن فنون النثر المختلفة.
وكان يعاصره المواعينى محمد (1) بن إبراهيم بن خيرة المتوفى سنة 564 وله كتاب ريحان الألباب وريعان الشباب، جمع فيه ما يحتاج إليه الشاعر والكاتب من فنون وجعلها فى سبعة مراتب وتهمنا فى حديثنا عن مباحث البلاغة بالأندلس المرتبة الرابعة من هذه المراتب إذ جعلها للفصاحة والبلاغة وإنشاء الصناعة، وفيها أسهب فى بيان شروط الفصاحة مستمدا من كتابات المشارقة فيها وخاصة ابن سنان الخفاجى فى كتابه «سر الفصاحة» واستمد منه ومن الجاحظ فى حديثه عن عيوب الكلام من المعاظلة وغيرها، ويتحدث عن أنواع البديع متأثرا فيها بقدامة فى كتابه نقد الشعر والحاتمى فى كتابيه:
حلية المحاضرة وسر الصناعة.
ونمضى فى النصف الثانى من القرن السادس الهجرى فنرى البلاغة تلتحم فى الأندلس بالفلسفة عند ابن رشد إذ يتصدّى لكتابى الخطابة والشعر لأرسطو، فيلخصهما ويشرحهما بفكره العبقرى الناصع، وكان ابن سينا قد وضع لكتاب الخطابة تلخيصا، وتحول ابن رشد بهذا التلخيص إلى شرح موسع للكتاب ونصوصه موردا لكل مبدأ بلاغى فيه أمثلة من الشعر العربى على نحو ما يتضح فى قسمه الثالث الخاص بالعبارة
(1) راجع فى المواعينى ابن الأبار فى التكملة رقم 763 ص 233 والمغرب 1/ 247
وهو فيه يفصل الحديث فى أبواب علم البيان المعروفة: التشبيه والاستعارة والكناية، أما التشبيه (1) فيتحدث فيه عن أدواته وأن لكل أمة تشبيهاتها المستمدة من بيئتها، ويحذّر من التشبيهات النابية ملاحظا أن التشبيه ينبغى أن ينعقد بين أشياء متجانسة، ويلم بالتشبيهات التمثيلية المركبة، ويتحدث عن الاستعارة ويلاحظ-متأثرا بأرسطو-أن الاستعارة المكنية لا تقوم-مثل التصريحية-على التشبيه، ويعرض صورا مختلفة من الكناية. ويلاحظ أن الصور البيانية تتفاوت حسنا وقبحا كقول القائل فى وصف امرأة مخضوبة اليد بالحناء إنها وردية اليد وقول آخر إنها دموية اليد، فشتان-فى رأيه-بين الوصفين، ويلاحظ أيضا تفاوت البيان فى التعبيرات الحقيقية، وأن صور البيان البارعة تعرض مشاهد تامة، بل حية نابضة. وكل ذلك لم يفد منه البلاغيون بعد ابن رشد، ويتحدث عن الايجاز والإطناب والطباق والمقابلة وعن المبالغة ويقول إنها تقبل فى الشعر ولا تقبل فى النثر خطابة ورسائل، ومثلها الألفاظ الغريبة. وكان ابن سينا قد صنع قبل ابن رشد تلخيصا لكتاب الشعر، فعمد ابن رشد إلى إعادة تلخيصه وشرحه، بحيث أصبح عمله فى هذا الكتاب أشبه بتعريب له، ووقف فيه عند التشبيه وأنه قد يكون تشبيه محسوس بمحسوس أو تشبيه معنوى بمحسوس ملاحظا أنه ينبغى أن لا يكون بالأشياء الخسيسة، ويعرض أمثلة للاستعارة المكنية عند أبى تمام، ويهاجمها متأثرا بالآمدى فى كتابه الموازنة بين الطائيين أبى تمام والبحترى. ويعود إلى فكرة الصورة أو الصور المتكاملة فى بيتين أو ثلاث مما يصور مشاهد حية حافلة بالحركة والحياة، وعرض للكناية وللجناس التام والناقص وللطباق ولمراعاة النظير، وهاجم المبالغة فى الشعر التى تخرج إلى حد الاستحالة، بخلاف المبالغة المحمودة التى تعتمد على أصل من الواقع والحقيقة. ولم ينتفع البلاغيون بعده بملاحظاته الدقيقة.
ويجئ بعد ابن رشد بنحو قرن أبو البقاء (2) صالح بن شريف الرندى المتوفى سنة 684 للهجرة، وله كتاب مخطوط فى المكتبة التيمورية، يسمى:«الوافى فى نظم القوافى» وهو فى أربعة أجزاء أولها فى فضل الشعر، والشعراء وطبقاتهم، وعمل الشعر وأغراضه
(1) انظر فى آراء ابن رشد البلاغية مقالنا: البلاغة عند ابن رشد فى الجزء الثانى والأربعين من مجلة مجمع اللغة العربية ص 15. وراجع فى الحركة النقدية وأعلامها التالين بالأندلس كتاب تاريخ النقد الأدبى عند العرب للدكتور إحسان عباس ص 470 وما بعدها.
(2)
انظر فى مصادر أبى البقاء الرندى ترجمته فى الفصل الرابع ص 388 وانظر تحليل كتابه: الوافى فى كتاب تاريخ النقد الأدبى فى الأندلس للدكتور محمد رضوان الداية (طبع بيروت) ص 433 وما بعدها وقد لا حظ تأثره الشديد بابن رشيق فى كتابه العمدة وراجع د. إحسان عباس ص 538.
وآدابه، وهو يتأثر فيه بابن رشيق فى كتابه العمدة، والجزء الثانى فى محاسن الشعر وبديعه ومعانيه، والثالث فى سرقات الشعراء، والرابع فى حد الشعر والعروض. والجزء الثانى فى الكتاب يلتقى فى وضوح بمباحث البلاغة المعروفة عند المشارقة، إذ يتناول فيه الصور البيانية من تشبيه واستعارة وغيرهما، كما يتناول المحسنات البديعية، وقد أضاف اليها نحو ثلاثين محسنا. ومن أهم ما تحدث عنه من المحسنات الطباق والمقابلة والتجنيس والتصدير والتضمين والتتميم والتسهيم والترصيع والمبالغة، وفى كل ذلك يتأثر بابن رشيق وكتابه العمدة. وقلما نلتقى بعد الرندى فى الأندلس بكتب مستقلة فى علوم البلاغة، وكأنها ارتضت أن تعيش فيها على ما يكتبه المشارقة.
وأخذت الكتابات النقدية تنشط فى الأندلس منذ القرن الخامس الهجرى على نحو ما يتضح فى رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد المتوفى بقرطبة سنة 426 للهجرة وسنفصل القول فى هذه الرسالة (1) فى الفصل الأخير وبها كثير من الآراء النقدية، ونحن نسوقها مرتبة بترتيب ابن بسام لها، فمن ذلك ذهابه إلى أن اللغويين والنحاة القائمين على تعليم الناشئة البيان لا يصلحون للقيام على هذا التعليم ويهاجم فى رسالته شيخهم ابن الإفليلى، لأنهم يفقدون فى رأيه الملكة الأدبية أو كما يقول الطبع والذوق الأدبى، وينوه بروعة الكلام وجمال نسقه قائلا:«إن للحروف أنسابا وقرابات تبدو فى الكلمات فإذا جاور النسيب النسيب ومازج القريب القريب طابت الألفة وحسنت الصحبة» .
ويلاحظ على أبى تمام كثرة الجناسات ويرى من الخير للشاعر أن لا يغرق فيها، بل ينحو منحى الاعتدال، ويشيد بالطبع وحسن البديهة والجمع بين المعانى الخفية الدقيقة والأساليب الناصعة البيّنة. ويعرض لسرقات الشعراء للمعانى بعضهم من بعض، وينصح الشاعر إذا أخذ معنى سبقه إليه غيره أن يحسن صياغته، ونحس دائما عنده رهافة الذوق الأدبى ودقة الإحساس بالجمال الفنى. ويعرض ابن حزم بعده لمراتب البلاغة، وينوه بالبلاغة المكونة من الألفاظ المألوفة عند عامة المثقفين كبلاغة الجاحظ كما ينوه بالبراعة فى الشعر ويقصد بها إيراد المعانى الدقيقة البعيدة ويقول إن الشعر مبنى على الإغراق والمبالغة.
ونمضى إلى القرن السادس الهجرى ونلتقى بابن خفاجة ومقدمته لديوانه، وفيها ينوّه
(1) انظر فى الرسالة وآراء ابن شهيد ترجمته فى الذخيرة لابن بسام (تحقيق د. إحسان عباس) 1/ 191 وراجع كتابه تاريخ النقد الأدبى عند العرب ص 475.
بالتخييل فى الشعر ويعيب على نقاد عصره تمسكهم بالجزالة حتى فى الغزل مع أن الرقة مستحسنة فيه على نحو ما يلاحظ فى شعر عبد المحسن الصورى والشريف الرضى ومهيار. وكان يعاصره الأشتركونى الذى مر ذكره بين اللغويين وله مقامات سنعرض لها فى غير هذا الموضع ونراه فى مقامتين من مقاماته يصدر أحكاما سريعة على أعلام الشعر المشرقى حتى زمن مهيار، وهى أحكام منثورة فى كتب النقد عند المشارقة وليس فيها نظرات جديدة. ويلقانا ابن بسام بكتابه الضخم:«الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة» من الشعراء والكتاب، وصفحات مجلداته الثمانية تكتظ تراجم الشعراء فيها ببيان كثرة ما أخذوا من المعانى المبثوثة فى أشعار المشارقة، وبذلك يفتح دراسة واسعة لتحويرات شعراء الأندلس لمعانى الشعر المشرقى وصوره وأخيلته، ونراه يحمل (1) على من يضمن شعره بعض ألفاظ فلسفية مثل المتنبى أو بعض معان إلحادية مما نسب إلى أبى العلاء، كما يحمل على الاستعارات البعيدة مما يؤكد نزعته المحافظة. ويلقانا عند الكلاعى الذى تحدثنا عنه بين البلاغيين كتاب له باسم الانتصار لأبى الطيب غير أنه مفقود. ويخرج المواعينى فى كتابه ريحان الألباب شعر المواعظ والحكم من الشعر بمعناه الدقيق.
وكل ما قدمنا من نشاط نقدى كان يرتكز على نقد المشارقة، وقلما التحم منه شئ بالنقد المشوب بالفلسفة اليونانية وما نقل عن اليونان فى كتابى الشعر والخطابة لأرسطو، وكأنما احتفظ النقد الأندلسى بذلك لناقد متأخر هو حازم (2) القرطاجنى المتوفى بتونس سنة 684 وسنترجم له بين أصحاب الشعر التعليمى وهو فى النقد الأندلسى يقابل ابن رشد فى البلاغة الأندلسية الذى سبقه بنحو قرن، وقد ولد حازم-ونشأ-بقرطاجنة شرقى الأندلس، وهاجر منها-حين سقطت فى حجر الروم-إلى المغرب وعاش فى ظل الدولة الحفصية. وله فى النقد كتاب يسمى «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» ، سقط منه قسمه الأول وكان يتناول-كما ذكر محققة-القول وأجزاءه والأداء وطرقه وأثر الكلام فى السامعين، وسلمت منه ثلاثة أقسام تتناول صناعة الشعر وطريقة نظمه وتتعمق فى بحث المعانى والمبانى والأسلوب، وكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة موزع على أربعة أبواب، ويسمى حازم كلا منها باسم منهج وكل باب أو منهج يتألف من فصول اختار لكل منها
(1) الذخيرة 2/ 479 وما بعدها تحقيق د. إحسان عباس ص 503 وما بعدها.
(2)
انظر فى كتابه منهاج البلغاء ومصادره وآرائه النقدية مقدمة محققه الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة، وانظر تاريخ النقد الأدبى عند العرب للدكتور إحسان ص 539.
اسم معلم أو معرف، ويعنى المعلم بالتفريعات المنطقية غالبا بينما يعنى المعرف بالدلالات النفسية، وكل فصل يختم بملاحظات سماها مأمّا أى مقصدا، وكل فصل تتناثر فيه كلمات إضاءة وتنوير، والإضاءة بسط لفكرة فرعية، والتنوير بسط لفكرة جزئية. وقد حقق الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة الأقسام الثلاثة الباقية من الكتاب تحقيقا علميا سديدا وقدم لها بمدخل علمى قيم تناول فيه مصادر حياة حازم وحياته ومصنفاته وتحليل كتابه ومميزاته ومنزلته بين كتب النقد العربية.
وحازم فى كتابه يمزج بين قواعد النقد والبلاغة عند العرب وقواعدهما عند اليونان، وقد ذكر من أصحاب البلاغة والنقد العربى الجاحظ صاحب البيان والتبيين أربع مرات، وذكر ابن سنان الخفاجى صاحب سر الصناعة مرارا وأكثر من ذكر قدامة صاحب نقد الشعر. وأما اليونان فعوّل فيهم على أرسطو من خلال تلخيص ابن سينا لكتابه عن الشعر فى الفن التاسع من كتاب الشفاء وقد أشار إليه فى الكتاب أربع عشرة مرة كما أشار إلى تلخيص الفارابى للكتاب مرتين، ويصرح بأنه ذكر من تفاصيل صنعة الشعر ما جاء عند ابن سينا خاصة عنه. وهو فى أكثر كتابه يعد شارحا لما جاء عنده من أقاويل أرسطو، وقد سيطرت عليه فكرة أرسطو المشهورة؛ أن الشعر محاكاة لأعمال الناس، وغاب عنه أنه كان يتحدث عن الشعر اليونانى والمأساة فيه وأنها تمثل أعمالا وأفعالا للناس. وجعله ذلك يظن أن المحاكاة هى تشبيه الأشياء. ومع سيطرة هذه الفكرة فى الكتاب نفذ حازم إلى كثير من الآراء البصيرة الدقيقة عن الشعر. وهو فى القسم الثانى أول الأقسام المنشورة من كتابه يبحث فى الشعر وقيامه على التخييل فى المعانى والتصرف فيها وطرق اجتلابها وتأثيرها فى النفوس دافعا عن معانى الشعر ما لا يلائمها من المعانى العلمية مع بيان طريقة انتقاء الشعراء لمعانيهم ووجوه تأليفها وبيان ما ينبغى لكل عمل فنى من مهيآت وأدوات وبواعث، وألم بما رآه فى البلاغة والنقد العربيين من الحديث عن المطابقة والمقابلة والتقسيم والتفسير والتفريع، ويقول إنه لا بد فى الشعر من إثارة الإغراب والتعجب، ونفى عن الشعر ما يقال بسبب المبالغة فيه من انطوائه على الكذب، ويقول إنه أكثر صدقا من الخطابة القائمة على إيقاع الظن إيقاع اليقين، وينبه على أهمية الاستعارة والتشبيه، وينوّه بآراء علماء البلاغة والنقد من العرب. وفى القسم التالى يبحث فى الملكة الشعرية ومقوماتها وفى أوزان الشعر واستخدامها وأعاريضها ويحاول أن يصور مدى تناسبها مع الأغراض الشعرية، ويقول إنه لا بد فى القصيدة من ترابط أجزائها ويشيد بالمتنبى وصنيعه المحكم فى قصائده. وفى القسم الأخير قسّم الشعر