الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن عميرة المخزومى
(1)
هو أبو المطرف أحمد بن عبد الله المخزومى من سلالة خالد بن الوليد، ولد سنة 582 بجزيرة شقر بين شاطبة وبلنسية، ونهرها يحيط بها من جميع الجهات، ولذلك سميت جزيرة، وطالما تغنى أبناؤها-من أمثال ابن خفاجة-بجمال طبيعتها.
وعنى به والده منذ نعومة أظفاره، فأدخله كتابا حفظ فيه القرآن الكريم وبعض الشعر، ثم دفعه إلى حلقات بعض الشيوخ، حتى إذا أيفع وشبّ أرسل به إلى بلنسية لينهل من حلقات حافظها وفقيهها وقاضيها أبى الربيع الكلاعى، وفيها أخذ يختلف إلى حلقات غيره من العلماء وخاصة حلقة ابن نوح الغافقى شيخ العربية وقواعدها النحوية. ودفعه شغفه بالاستزادة من العلم إلى الرحلة فى طلبه عند بعض العلماء المشهورين لأيامه، فرحل إلى شاطبة ونهل من حلقتى شيخها أبى عمر الشاطبى وقاضيها أبى الخطاب بن واجب، ورحل إلى دانية للأخذ عن ابن حوط الله الأنصارى، ونزل مرسية وأخذ عن شيخها عزيز بن خطاب، وسمع عليه كتاب المستصفى فى علم الأصول للغزالى وبعض كتب الصوفية. وطمحت نفسه مبكرا إلى أن يكون من أصحاب الجاه، وكانت فيه نزعة أدبية هيأته ليكون شاعرا، ولم يلبث أن عمل بديوان أبى عبد الله بن أبى حفص الموحدى حاكم بلنسية حوالى سنة 607 وهو فى نحو الخامسة والعشرين من عمره.
وظل بهذا الديوان سنوات متعاقبة، ونراه فى سنة 617 بإشبيلية، ولعله كان يريد العمل بدواوينها، وظل بها فترة اختلف فيها إلى حلقة الشلوبين إمام العربية بالأندلس فى عصره. وعاد إلى بلنسية، وكان قد وليها للموحدين سنة 620 أبو زيد بن أبى عبد الله بن أبى حفص فألحقه بديوانه مع صديقه ابن الأبار، حتى إذا كانت سنة 626 ثار على أبى زيد زيان بن أبى الحملات بن مردنيش واستولى منه على بلنسية، وظل ابن عميرة يعمل فى ديوان زيان حتى أواخر سنة 628 وأحسّ من زيان شيئا من
(1) انظر فى ابن عميرة وترجمته ورسائله معجم أصحاب الصدفى ص 163 وتحفة القادم رقم 92 واختصار القدح المعلى ص 42 والمغرب 2/ 363 وجذوة الاقتباس لابن القاضى ص 72 وعنوان الدراية للغبرينى ص 178 والإحاطة 1/ 173 ونفح الطيب 1/ 272 وصبح الأعشى 6/ 534، 7/ 37، 94، 98، 110، 116، 8/ 149، 150، 152، 153، 156، 9/ 301، 10/ 306 وراجع كتاب «أبو المطرف أحمد بن عميرة المخزومى: حياته وآثاره» لمحمد بن شريفة (طبع الرباط) وتحتفظ الخزانة العامة فى الرباط بمخطوطتين من رسائله.
الوحشة، فترك بلنسية إلى بلدته جزيرة شقر، وكان سلطان ابن هود أمير مرسية قد اتسع، فكتب له فى سنة 629 وعيّنه ابن هود قاضيا فى شاطبة، جامعا له بين القضاء والكتابة كما تدل على ذلك بيعة طويلة كتبها باسم ابن هود عن نفسه وعن أهل شاطبة فى الأندلس للمستنصر العباسى مع بيعة الناس فيها أيضا له ولابنه وليا للعهد من بعده.
وابن هود فيها يعلن ولاءه وطاعته للخليفة العباسى استكمالا لثورته على الموحدين وما يدّعون من خلافتهم. وربما ظل يجمع بين عمله فى الكتابة لابن هود وقضاء شاطبة. وتوفى ابن هود سنة 635 وخلفه عمه واستولى منه على الحكم عزيز بن خطاب، واتخذ ابن عميرة كاتبا له، وقتل ابن خطاب. وكان ملك أراجون قد استولى على بلنسية، وقبله بقليل استولى ملك قشتالة على قرطبة، وشعر ابن عميرة أن مستقبل الأندلس مظلم، فرأى الهجرة منها إلى المغرب، وعبر الزقاق، ونزل سبتة عند واليها ابن خلاص فرحب به، ولم يلبث أن لقى الخليفة الموحدى الرشيد فى مدينة الرباط حين زارها، وصحبه معه إلى حاضرة مملكته:«مراكش» وألحقه بدواوينه، ولبث بها ابن عميرة قليلا، إذ عينه الرشيد قاضيا فى؟ ؟ ؟ سلا والرباط. وتوفى الرشيد سنة 640 فأقرّه أخوه السعيد على عمله، ثم نقله إلى مكناسة، ونراه فيها يكتب باسم أهلها بيعة لسلطان تونس أبى زكريا الحفصى، ويبدو أنه إنما أغراه بذلك أنه رأى بوضوح أن دولة الموحدين تحتضر، وتكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة. وعاد إلى سبتة يكتب لحاكمها. وفى سنة 646 تحوّل إلى أبى زكريا سلطان تونس ودولته الحفصية، ونزل بجاية وأفضال أبى زكريا تتوالى عليه. ولم يلبث أبو زكريا أن توفى سنة 647 وخلفه ابنه المستنصر، فاستقدمه إلى تونس، وولاه القضاء فى قسنطينة وغيرها، ثم استخلصه لنفسه مستشارا وأنيسا، وغمره بأفضاله إلى أن توفى سنة 658 للهجرة.
وطبيعى أن تكون لابن عميرة رسائل ديوانية كثيرة، إذ كتب لحكام بلنسية من الموحدين وخاصة لأبى زيد الموحدى، وكتب بعده لحكامها: زيان بن مردنيش الثائر عليه وابن هود أمير مرسية وعزيز بن خطاب صاحبها والرشيد الموحدى، ومن أقدم رسائله رسالة كتبها عن أبى زيد الموحدى أمير بلنسية إلى المستنصر الموحدى سنة 620 يستأذنه فى وفود أمير نصرانى عليه من أراجون يسمى:«بلاسكو أرطال» كان وصيا على ملكها خايمى، ولما استبد بالملك اختلف معه ونفاه فلجأ إلى بلنسية، واستقبل بالترحيب على أمل كاذب أن يكون فيما بعد عونا لحاكم بلنسية فى حروبه ضد ملك أراجون. وصوّر ابن عميرة هذا الأمل المخطئ وأمر هذا اللاجئ فى رسالته، وقد احتفظ القلقشندى فى الجزء
السادس من صبح الأعشى بشطر كبير منها، وفيها يقول عنه ابن عميرة:
وكأن أبا زيد ومن حوله لم يأخذوا درسا من التجاء ألفونس القشتالى إلى طليطلة حين حاربه أخوه شانجه وانتصر عليه وفرّ منه إلى دير، ولجأ إلى المأمون أمير طليطلة فرحب به وبالغ فى إكرامه تسعة شهور متعاقبة، عرف فيها مداخل حصن طليطلة العتيد ومخارجه، فلما توفى أخوه وأصبح ملكا على قشتالة لم يكن له هم إلا الاستيلاء على طليطلة، واستولى عليها، وكان ذلك بدء ضياع الأندلس منذ هذا التاريخ، وهو درس كان ينبغى أن لا ينساه أبو زيد، وخطأ أكبر الخطأ أن يفتح حكام بلدة صدورهم وبلدهم لأعدائهم ظانين أنهم يستطيعون أن يحيلوهم أصدقاء أو ما يشبه الأصدقاء، وما أبعده وهما أن يصبح العدو صديقا فما بالك إذا كان العدو محاربا لك، ولكن هكذا قدّر لبلنسية أن يحكمها غرّ ليس عنده بصر بالأمور وأن يجد فى كنفه «بلاسكو» الأرجونى عدوه الأمان والضيافة لمدة عامين متعاقبين، ويرجع إلى بلده، ويعود منها بعد قليل مع ملكها بجيش يستولى به على بلنسية بعد تنكيله بأهلها تنكيلا شديدا.
ونقف قليلا عند البيعة للخليفة العباسى المستنصر التى أشرنا إليها والتى كتب فيها ابن عميرة رسالة طويلة بعقد ابن هود على أهل شاطبة الولاء لهذا الخليفة والبيعة لنفسه ولابنه وليا للعهد من بعده، وهو يستهلها بحمد الله والصلاة على رسوله بهذا النمط:
«الحمد لله الذى جعل الأرض قرارا، وأرسل السماء مدرارا، وسخّر ليلا ونهارا، وقدّر آجالا وأعمارا، وخلق الخلق أطوارا، وجعل لهم إرادة واختيارا، وأوجد لهم تفكّرا
(1) شأوها هنا: سلطانها.
(2)
يقال حطب فى حبله إذا آعانه ونصره.
واعتبارا، وتعاهدهم برحمته صغارا وكبارا، نحمده حمد من يرجو له وقارا، ونبرأ ممن عانده استكبارا، وألحد فى آياته سفاهة واغترارا، وصلّى الله على سيدنا محمد الشريف نجارا، السامى فخارا، رفع الله من شريعته للأمة منارا، وأطفأ برسالته للشّرك نارا، حتى علا الإسلام مقدارا، وعزّ جارا ودارا، وأذعن له الكفر اضطرارا، واستسلم ذلّة وصغارا، فمضى وقد ملأ البسيطة أنوارا، وعمّها بدعوته أنجادا وأغوارا، وأوجب لولاة العهد بعده طاعة وائتمارا. فجزى الله أفضل ما جزى نبيّا مختارا، ورسولا اجتباه اختصاصا وإيثارا، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين آثارا واختبارا، وعلى أصحابه الكرام مهاجرين وأنصارا، صلاة نواليها إعلانا وإسرارا، ونرجو بها مغفرة ربّنا إنه كان غفارا»
وواضح أن ابن عميرة التزم فى سجع هذه القطعة التى استهل بها البيعة حرف الراء، وهو جانب يشيع شرقا وغربا حتى لنجد الرسالة يختار لها أحيانا حرف بعينه، وكان الحريرى قد ابتدأ ذلك برسالتين التزم فى إحداهما السين وفى الثانية الشين، فأخذ الحصكفى وبعض الكتاب فى الشرق يحاكيه فى هذا الصنيع، وبالمثل أخذ بعض الكتاب فى الأندلس يحاكونه فيه ببعض رسائلهم الشخصية دلالة منهم على مهارتهم الفنية، وسنعود إلى الحديث عن هذا الجانب فى عرضنا للرسائل الشخصية عند ابن عميرة وغيره من الكتاب. وله فصول وكلمات وعظية على طريقة ابن الجوزى كما ذكر ذلك ابن عبد الملك فى ترجمته له بكتابه «الذيل والتكملة، وله مؤلفات مختلفة منها تعليقات على كتاب المعالم للفخر الرازى وتعقيب على كتاب التبيان فى البلاغة لابن الزملكانى، ومنها كتاب فى تاريخ ثورة المريدين على دولة المرابطين وكتاب عن كائنة ميورقة واستيلاء ملك أراجون عليها. وبالخزانة العامة بالرباط مخطوطتان من رسائله.
لسان (1) الدين بن الخطيب
أكبر كتاب غرناطة والأندلس فى أزمنتها الأخيرة، وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد، ولد سنة 713 للهجرة لأسرة يمنية بلوشة على نهر شنيل بالقرب من غرناطة، وكان أبوه من أهل العلم والأدب، فعيّن بدواوين غرناطة عند أمرائها بنى
(1) انظر فى ترجمة لسان الدين التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص 155 وما بعدها وصبح الأعشى للقلقشندى 6/ 536 وتاريخ ابن خلدون 7/ 332 وأزهار الرياض 1/ 186 وما بعدها والجزءين الخامس والسادس من نفح الطيب وكتاب الاستقصا للسلاوى (طبع الدار البيضاء) 4/ 12 وفى مواضع متفرقة وراجع كتابه: أعمال الأعلام: =
الأحمر، وبها نشأ لسان الدين، وعنى أبوه بتربيته، فبعد حفظه للقرآن الكريم ألحقه بحلقات علماء العربية والدراسات الإسلامية، وطمحت نفسه لمعرفة علوم الأوائل فلزم يحيى بن هذيل أهم علمائها فى زمنه. وتفتحت موهبته الشعرية مبكرة، وأخذ فى مديح السلطان أبى الحجاج يوسف (733 - 755) وهو أهم سلاطين بنى الأحمر فى القرن الثامن الهجرى، ويعدّ مؤسس قصر الحمراء المشهور بما أضاف إليه من غرفه وأبهائه الفخمة. وأعجب السلطان بأشعار لسان الدين فألحقه بدواوينه، وأخذ يلزم أبا الحسن بن الجياب رئيس ديوان الكتاب وشيخ العدوتين: الأندلس والمغرب فى النثر والنظم وسائر العلوم الأدبية، وعنى بالأديب الشاب، وما زال يعمل معه حتى توفى سنة 749 فولاه السلطان أبو الحجاج رياسة ديوان الكتّاب بعده، وتوفى السلطان سنة 755 وخلفه ابنه الغنى بالله، فازدادت حظوته عنده ورفعه إلى مرتبة. الوزارة. ونشبت ثورة ضد سلطانه واضطر إلى اللجوء إلى السلطان أبى عنان المرينى بفاس سنة 760 وصحبه لسان الدين هناك ولم يلبث أن جال فى بلاد المغرب واستقر بمدينة سلا زمنا، وعاد سلطانه إلى عرشه بغرناطة سنة 763 فاستدعاه وألقى إليه بمقاليد الحكم، ولقّبه بذى الوزارتين:
السيف والقلم، وانفرد بالحل والعقد فترة، ثم أخذ يشعر بدسائس كثيرة من حوله، فخشى على نفسه مغبة ذلك، فجمع حقائبه سنة 772 وتوجه إلى السلطان عبد العزيز المرينى بفاس فأكرمه. ولم يهدأ خصومه بغرناطة وفى مقدمتهم تلميذه ابن زمرك وقاضى غرناطة أبو الحسن النباهى ودسّوا عليه عند الغنى بالله أنه يحرض سلطان فاس على غزو الأندلس وضم غرناطة إليه ووصموه بالزندقة لما ذكر فى كتابه:«روضة التعريف» من عقيدة التصوف الفلسفية وما يتصل بها من الحلول وغير الحلول، ورفع ذلك إلى السلطان عبد العزيز المرينى فأبى تسليمه مبرّئا له مما وصموه به. . ولم يلبث السلطان أن توفى سنة 774 واضطربت الأمور فى فاس، وتولى سلطنتها-بمساعدة الغنى بالله-أبو سالم المرينى سنة 776 ولم يلبث أن أودع ابن الخطيب السجن إرضاء للغنى بالله. ولم يكتف تلميذه ابن زمرك بذلك، إذ قدم إلى فاس وعقد محاكمة لأستاذه فى مجلس السلطان
= القسم الثانى (طبع الرباط) ص 261 وما بعدها وكتابنا الفن ومذاهبه فى النثر العربى ص 333 وللسان الدين أعمال كثيرة منها الإحاطة فى أخبار غرناطة (طبع دار المعارف) والكتيبة الكامنة فى معاصريه بالمائة الثامنة تحقيق د. إحسان عباس (طبع بيروت) ونفاضة الجراب فى كتاب مشاهدات لسان الدين بن الخطيب فى المغرب والأندلس (طبع الإسكندرية) وكتابه فى التصوف: روضة التعريف بالحب الشريف (طبع بيروت) وديوانه الشعرى: الصيب والجهام (طبع الجزائر).
أبى سالم وعرض عليه بعض كلمات كتبها فى مصنفه «روضة التعريف» تتصل بآراء الصوفية المتفلسفة من مثل الحلول والاتحاد، وأعلن النكير عليه موبخا له، ونقل إلى السجن، وأخذ القوم يتشاورون فيه وأفتاهم بعض الفقهاء قصار النظر بقتله، ودسّ إليه فى السجن من قتلوه خنقا، وألقيت جثته على قبره، ويقال إنه أضرمت عليه نار فاحترق شعره واسودت بشرته، ووورى التراب. وعجب الناس فى فاس وفى غرناطة من هذا التمثيل الشنيع، وعدّوه من هنات ابن زمرك تلميذه العاق.
ولم يكن ابن الخطيب متصوفا فضلا عن أن يكون متصوفا فلسفيا كما حاول ابن زمرك أن ينعته بذلك كذبا عليه وافتراء، إنما كان كاتبا موسوعيا كما تشهد بذلك مصنفاته الكثيرة، وقد كتب فى التصوف كتابه «روضة التعريف» لشيوع التصوف فى زمنه بالأندلس وخاصة بالمغرب، ولو كان متصوفا حقا لهجر الدنيا وعاش فى زاوية- أو ضرب فى الأرض-ناسكا مثل ابن عربى وابن سبعين والششترى. ولا نخليه من ميول إلى الزهد والتصوف كما تدل على ذلك أشعاره ولكن هذا شئ والتصوف الحقيقى شئ آخر، وفيه يقول المقرى:«هو لسان الدين وفخر الإسلام بالأندلس فى عصره الطائر الصيت المثل المضروب فى الكتابة والشعر والمعرفة بالعلوم على اختلاف أنواعها» ويقول ابن خلدون فى وصف براعته الأدبية: «كان آية من آيات الله فى النظم والنثر والمعارف والأدب لا يساجل مداه، ولا يهتدى فيها بمثل هداه» . ومما قيل فيه: «كاتب الأرض إلى يوم العرض» . وله-بجانب ديوانه: الصيّب والجهام-مقامة بناها على المفاخرة بين سلا فى المغرب ومالقة فى الأندلس وثلاث رحلات منها رحلتان فى وصف البلدان وصف فيهما بلدان الأندلس والمغرب هما: «خطرة الطيف ورحلة الشتاء والصيف» فى وصف بعض البلدان الأندلسية الشرقية، و «معيار الاختبار فى ذكر أحوال المعاهد والديار» فى وصف بعض البلدان المغربية والأندلسية. وهذه الأعمال منشورة وكذلك رحلته نفاضة الجراب، وسنعرض لكل ذلك فى موضع آخر. ونقف قليلا عند رسائله الديوانية.
وعادة إذا كانت الرسالة الديوانية موجهة إلى أحد السلاطين ممن يلقبون أنفسهم بالخلافة مثل سلاطين تونس أو يكتفون بالسلطنة فقط مثل سلاطين بنى مرين أن تذكر لفظ الخلافة أولا أو يذكر لفظ المقام أو المقر ويطيل لسان الدين فى هذا الوصف، ثم يذكر ألقاب الخليفة أو السلطان المرسل إليه، كما يطيل فى الدعاء له ولدولته ويذكر السلطان
المكتوب عنه، ويتبع ذلك بالتحميد والصلاة على رسول الله والرضا عن صحابته، ويذكر المكان الذى كتبت فيه الرسالة ثم يأخذ فى بيان المقصود منها ويختمها بالدعاء. ومن خير ما يصور ذلك كله من رسائله الديوانية رسالة له عن سلطانه الغنى بالله إلى سلطان تونس الملقب بالخليفة، جوابا عن كتاب وصل منه مصحوبا بهدية من الخيل والرقيق، ولروعتها البيانية رواها ابن خلدون فى كتابه التعريف والقلقشندى فى صبح الأعشى، وهو يستهلها على هذا النمط:
ولعل بلاغة لسان الدين قد اتضحت فى هذه القطعة، إذ ينعت فيها الخلافة التونسية نعوتا بديعة، وبدعها لا يأتى من انتخاب ألفاظها ذات الرونق والحسن فحسب، بل يأتى أيضا من أسجاعها الطويلة التى يتلافى طولها بما يجرى فى تضاعيفها من أسجاع داخلية على نحو ما نرى فى تقابل السجعتين:«فخرها الشائع» و «عزها الذائع» فى السجعة الثانية وبالمثل تقابل السجعتين فى السجعة الطويلة الثالثة إذ يقول: «لحقّها الجازم، وفرضها اللازم» . وبنفس النمط تلاقى «المنيف والشريف» فى السجعة الخامسة، و «الكريم والعميم فى السجعة السادسة» . ويكثر ذلك فى الرسالة طلبا لاكتمال الجرس حتى تلذ الأسماع لذة موسيقية، وهى لذة تقترن بمحسنات البديع، إذ تتوالى الجناسات فى السجعات الداخلية، كما تتوالى التصاوير، ففضل الخلافة أصيل القواعد، ومبانى فخرها وعزها استقلت وارتفعت، وامتزاج السلطان الغنى بالله وحواشيه بشرفها امتزاج الماء بالسلاف، وثناؤهم عطر كشذى الرياض فى الأزهار غبّ الغيث المدرار. وأخذ بعد ذلك فى نعت الخليفة نفسه وآبائه الأمجاد، وامتد نعته نحو أربعة عشر سطرا، ثم ذكر الغنى بالله مع
(1) الأفواف: الزهر.
(2)
الوكّاف: المدرار.
طائفة من النعوت، ومع سلام كريم كما حملت أحاديث الأزهار نسمات الأسحار، وأطال فى التحميد والصلاة على رسول الله والدعاء للخلافة، كما أطال فى وصف الرسالة وحاملها والهدية النفيسة من الخيل فرسا فرسا، واستطرد إلى ذكر الخيول والأفراس المشهورة عند العرب، ويعود إلى ذكر رسول الخليفة أو سفيره مطريا مثنيا، ثم يأخذ فى وصف جهاد سلطانه الغنى بالله لنصارى الشمال ومنازلته لهم فى مدن كثيرة، من ذلك منازلته لهم فى جيّان وكانت قد سقطت فى أيديهم سنة 643 للهجرة ويصف تلك المنازلة بقوله:
«وهذه المدينة هى الأمّ الولود، والجنّة التى فى النار لسكّانها من الكفار الخلود، وكرسىّ الملك، ومجنّبته (1) الوسطى من السّلك، غاب الأسود، وجحر الحيّات السود. .
ولما أكثبنا (2) جوارها، وكدنا نلتمح، نارها، تحركنا إليها ووشاح الأفق المرقوم (3) بزهر النجوم قد دار دائره، واللّيل من خوف الصباح على سطحه المستباح قد شابت غدائره. . ولما فشا سرّ الصباح، واهتزّت أعطاف الرايات بتحيات مبشّرات الرياح، أطللنا عليها إطلال الأسود على الفرائس، والفحول على العرائس. . ودفعوا من أصحر (4) إليهم من الفرسان، وسبق إلى حومة الميدان، حتى أجحروهم (5) فى البلد، وسلبوهم لباس الجلد، فى موقف يذهل الوالد عن الولد، صابت (6) السهام فيه غماما، وطارت كأسراب الحمام تهدى حماما (7)، وأضحت القنا قصدا (8)، بعد أن كانت شهابا رصدا».
والقطعة زاخرة بالجناسات والتصاوير، فجيان أم ولود، وجنة من جنان الأندلس ولساكنيها النار وبئس القرار. وقد دنوا منها فى أخريات الليل ووشاح الأفق المرصع بالنجوم يوشك أن يغيب والليل من خوف الصباح يوشك أن يشيب، ولم يلبث الصباح أن أخذ يذيع أسراره بينما تهتز الأغصان بتحيات الرياح مبشرة لهم بالظفر على الأعداء، وهبطوا عليهم كالأسود الكواسر، ولم يلبثوا أن دخلوا فى جحورهم فرارا من الموت الزؤام وما ينزلون بهم من غمام السهام وصواعق الموت، وتكسرت الرماح التى كانت تحميهم، وخروا صرعى مجدّلين.
(1) مجنبة واسطة السلك: الجوهرة بجانب الجوهرة الوسطى الفريدة فى العقد.
(2)
أكثبنا: قاربنا.
(3)
المرقوم: الموسوم والمنقوش.
(4)
أصحر: برز.
(5)
أجحر: أدخل.
(6)
صاب: انصبّ.
(7)
الحمام بكسر الحاء: الموت.
(8)
قصد جمع قصدة: قطعة.