المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 - شعراء المديح - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٨

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - التكوين الجغرافى والبشرى

- ‌2 - الفتح-عصر الولاة

- ‌(أ) الفتح

- ‌3 - الدولة الأموية

- ‌4 - أمراء الطوائف-المرابطون-الموحدون-بنو الأحمر فى غرناطة

- ‌(أ) أمراء الطوائف

- ‌(ب) المرابطون

- ‌(ج) الموحدون

- ‌5 - المجتمع

- ‌ الحضارة

- ‌الغناء

- ‌المرأة

- ‌6 - التشيع-الزهد والتصوف

- ‌(أ) التشيع

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-الفلسفة-علم الجغرافيا

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) الفلسفة

- ‌(ج) علم الجغرافيا

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب الأندلس-كثرة الشعراء

- ‌(أ) تعرب الأندلس

- ‌(ب) كثرة الشعراء

- ‌2 - الموشحات والأزجال

- ‌(أ) الموشحات

- ‌ ابن عبادة القزاز

- ‌ يحيى بن بقى

- ‌(ب) الأزجال

- ‌ابن قزمان

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ابن عبد ربه

- ‌ ابن عمار

- ‌ابن الحداد القيسى

- ‌الأعمى التّطيلى القيسى

- ‌الرّصافى محمد بن غالب

- ‌ابن زمرك

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌ عبد الملك بن هذيل

- ‌يوسف الثالث

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌ يحيى الغزال

- ‌السّميسر

- ‌اليكّىّ

- ‌5 - الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ حازم القرطاجنى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ابن خاتمة

- ‌2 - شعراء الطبيعة والخمر

- ‌ عبد الرحمن بن مقانا

- ‌ على بن حصن

- ‌ ابن خفاجة

- ‌ محمد بن سفر

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌ محمد بن سوار

- ‌ ابن وهبون

- ‌(ب) رثاء الدول

- ‌ المعتمد بن عباد

- ‌ابن اللبانة

- ‌ابن عبدون

- ‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ ابن العريف

- ‌ ابن عربى

- ‌الششترى

- ‌(ج) شعراء المدائح النبوية

- ‌5 - شعراء الاستنفار والاستصراخ

- ‌ ابن الأبار

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌1 - الرسائل الديوانية

- ‌ البزليانى

- ‌ابن أبى الخصال

- ‌ابن عميرة المخزومى

- ‌2 - الرسائل الشخصية

- ‌حبيب

- ‌ابن الدباغ

- ‌ سهل بن مالك

- ‌3 - الرسائل الأدبية

- ‌رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد

- ‌(أ) رسالة السيف والقلم

- ‌(ب) رسالة النخلة

- ‌(ج) رسالة أهب الشّاء

- ‌رسالتا ابن زيدون: الهزلية والجدية

- ‌رسالة ابن غرسية فى الشعوبية والردود عليها

- ‌رسائل نبوية ومواعظ

- ‌(أ) رسائل نبوية

- ‌ ابن الجنان

- ‌(ب) مواعظ

- ‌منذر بن سعيد البلّوطى

- ‌4 - أعمال نثرية

- ‌طوق الحمامة لابن حزم

- ‌كتابة التاريخ والتراجم الأدبية

- ‌(أ) المقتبس لابن حيان

- ‌(ب) الذخيرة لابن بسام

- ‌مذكرات عبد الله بن بلقّين

- ‌ قصة حى بن يقظان لابن طفيل

- ‌5 - المقامات والرحلات

- ‌(أ) المقامات

- ‌المقامات اللزومية للسّرقسطى

- ‌(ب) الرحلات

- ‌رحلة ابن جبير

- ‌خاتمة

الفصل: ‌3 - شعراء المديح

‌3 - شعراء المديح

طبيعى أن يأخذ شعراء المديح فى الظهور منذ تأسيس عبد الرحمن الداخل للدولة الأموية بقرطبة، وهم يأخذون فى التكاثر منذ عهد عبد الرحمن الأوسط (206 - 238 هـ.) كما مرّ بنا، ويخلفه ابنه محمد ويظل من عاش فى عصره من الشعراء يدبج القصائد فى مديحه مثل مؤمن بن سعيد وطاهر بن حزم، وربما كان أهم مداحه عباس (1) بن فرناس ويقال إنه مدح أباه عبد الرحمن وجده الحكم، وينوه ابن حيان بإبداعه فى التفلسف وفنون التعاليم القديمة والحديثة وحذقه للموسيقى والضرب على العود وصوغه للألحان، وله فى تهنئة الأمير محمد عند قفوله مظفرا سنة 259 من غزوته الكبرى لأهل بنبلونة فى نبارّة بأقصى الشمال قصيدة بديعة، وكان صادف اقتران قفوله منها بعيد الفطر مما جعله يقول (2):

إنّ القفول الذى أوفى بعيدين

مكرّمين على الدنيا عزيزين

قدوم أكرم من فى الأرض قاطبة

قدوم فطر فكانا خير عيدين

طابا كتفّاحتى خدّى منعّمة

تورّدا فى بياض بين صدغين (3)

أو مقلتى رشأ فى طرفه حور

مكحولتين بسحر البابليّين (4)

ونلتقى بعده بشعراء ابنه الأمير عبد الله وفى مقدمتهم ابن عبد ربه، وعبيد (5) الله بن يحيى بن إدريس وهو من بيوتات الشرف فى المولدين. وللشعراء فيه مدائح كثيرة سجلها ابن حيان فى قسم المقتبس الخاص به، من ذلك قول عبيد الله بن يحيى بن إدريس يهنئه بفتح حصن لكّ:

(1) انظر فى عباس بن فرناس المقتبس لأبى حيان (تحقيق د. مكى-طبع بيروت) ص 279 والزبيدى ص 291 والحميدى رقم 371 والمغرب 1/ 333 وبغية الملتمس رقم 1247 وله وللشعراء المذكورين أشعار كثيرة فى المقتبس.

(2)

المقتبس ص 339.

(3)

الصدغ: الشعر على جانب الوجه من الأذن إلى العين.

(4)

البابليان: هاروت وماروت المشهوران بالسحر.

(5)

انظر فى ابن إدريس الحميدى رقم 582 وابن الفرضى رقم 765 والضبى رقم 974. واختار له ابن حيان فى الجزء الخاص بعبد الرحمن الناصر أشعارا كثيرة (انظر الفهرس) وبلغ من إعجاب الناصر به أن أسند إليه الوزارة، وكان متواضعا حتى قالوا إنه كان يؤذن فى مسجده وهو وزير.

ص: 172

قد جاءك الفتح فى العيد الكبير فما

رأيت مثلهما فى اليوم عيدين

يا فرحة من رأى فى الغزو طالعها

وشاهد الفتح لم يأسف على البين

ألذّ فى السمع من بشرى الحميم إذا

وافى ومن منظر المعشوق فى العين

وممدّح البيت الأموى الجدير بكل مديح وثناء عبد الرحمن الناصر الذى أعلن نفسه خليفة سنة 316 وقد ظل صولجان الحكم بيده خمسين سنة، كانت قرطبة فيها عاصمة الحضارة والثقافة فى أوربا، وعادت إلى الأندلس وحدتها التى تفككت فى عهد جده عبد الله، ودان حكام نبارّة وقشتالة وبرشلونة وليون له بالولاء، ومرّ بنا حديث ابن حيان عن كثرة الشعراء فى زمنه. وكانت غزواته طوال حكمه متصلة فاتصل مديح شعرائه جميعا بها وفى مقدمتهم ابن عبد ربه وسنفرده بكلمة، وبالمثل اتصل بها مديح عبيد الله بن يحيى بن إدريس وله يقول فى مدحة ميمية:(1)

يهنا الخلافة سعى خير إمام

لله مسعاه وللإسلام

ليعزّ دين الله فى كنف العلا

ويذبّ عن حرم الهدى ويحامى

مستنجزا وعد الإله بنصره

فى شيعة الإشراك والإجرام

وكان الناصر قد غزا نصارى الشمال فى شهر رمضان وأدركه عيد الفطر فى بلاد العدو فلم ينكل ولم يتراجع بل صمد-كما يقول ابن حيان-للقاء العدو ومزّق جموعه تمزيقا.

ولابن إدريس يذكر زيادته فى جامع قرطبة وبناءه لمدينة الزهراء بجوارها (2):

سيشهد ما شيّدت أنك لم تكن

مضيعا وقد مكّنت للدين والدّنيا

فبالجامع المعمور للعلم والتّقى

وبالزّهرة الزّهراء للملك والعليا

وقد استحال جامع قرطبة فى عهده إلى جامعة كبرى للعلوم والآداب، وإلى ذلك يشير ابن إدريس. ودائما يرفع شعراء الأندلس فى مدائحهم لأمراء البيت الأموى الدين الحنيف شعارا لهم فى غزواتهم للمسيحيين فى الشمال، فهم يحامون ويصولون تحت لوائه دفاعا عنه وانتصارا له زلفى لربهم. ويخلف الناصر ابنه الحكم المستنصر أكبر راع للعلوم والآداب فى الأندلس، بل فى جميع العالم العربى، لعصره، غير أنه لم يكن داهية فى السياسة، فقد رأى أباه الناصر يشعر بخطر نشوء الدولة الفاطمية فى تونس فيستولى على سبتة وطنجة ويرسل إعانات مالية كبيرة لزعيم الأدارسة يحيى بن إدريس ويمده بالسلاح

(1) المقتبس الجزء الخامس ص 42.

(2)

المغرب 1/ 180.

ص: 173

والعتاد لمقاومة الخطر الفاطمى، ويستطيع يحيى التغلب على نصير الفاطميين موسى بن أبى العافية ويعلن ولاءه للناصر. ولا يسلك الحكم المستنصر مسلك أبيه فى تلك السياسة إذ ألقى بخيرة قواده وجنوده فى الصراع مع المغرب، ولم يظفر من ذلك بطائل سوى إضعاف جبهته الشمالية فى حروبه مع نصارى الإسبان. وفى هذه الأثناء وفد عليه جعفر بن على أمير الزاب وأخوه يحيى معلنين الانفصال عن معدّ الفاطمى ودعوته وولاءهما له، وهلّل شعراؤه بوفادتهما طويلا، من ذلك قول شاعره محمد بن شخيص (1):

بأيمن إقبال وإسعاد طائر

تباشير محتوم من الأمر واقع

توافت بملك من معدّ مقوّض

لملك إلى مهدىّ مروان راجع

فيالك من بشرى سرور تضمّنت

بلوغ الأمانى عن سعود الطوالع

فجعفر يغنى عن جنود برأيه

ويحيى يلاقى حاسرا ألف دارع

وهو يقول إن وفودهما بشرى بأن ملك معد الفاطمى تقوض من أساسه للملك المروانى: الحكم، ويصفه بأنه مهدى منتظر على نحو ما كان معد يصف نفسه. ويتغنى بذلك شاعر الحكم محمد بن حسين الطّبنى وغيره من الشعراء. ويخلفه على العرش ابنه المؤيد وهو غلام فى الثانية عشرة من عمره ويحجب له المنصور بن أبى عامر وابناه المظفر والناصر، ويظل صولجان الحكم بيد المنصور نحو ربع قرن ويخلفه عليه ابناه نحو سبع سنوات وكان المنصور شجاعا فأكثر من غزوات النصارى فى الشمال حتى بلغت-فيما يقال-نيفا وخمسين غزوة، ومن أهمها غزوة جربيرة فى صيف سنة 390 وفيها هزم نصارى الشمال هزيمة ساحقة تغنى بها شعراؤه طويلا من مثل قول صاعد (2):

اليوم عاش الدّين وابتدأ الهدى

غضّا وعاد الملك عذب المورد

من فاته بدر وأدرك عمره

جربير فهو من الرّعيل الأسعد

وهو يجعل غزوة جربيرة أختا لغزوة بدر التى أعز الله بها الإسلام ورسوله والمؤمنين

(1) قطعة المقتبس الخاصة بالحكم المستنصر (طبع بيروت) ص 54. وانظر فى ترجمة ابن شخيص الحميدى فى الجذوة ص 84 وبغية الملتمس ص 119 واليتيمة للثعالبى (تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد-طبع دار الفكر) 2/ 22 وقال الضبى فى البغية: له على لسان رجل يعرف بأبى الغوث أشعار مشهورة فى أنواع الهزل.

(2)

انظر أعمال الأعلام للسان الدين بن الخطيب ص 72 - 73 وهو صاعد البغدادى اللغوى الشاعر الوافد على المنصور بن أبى عامر، وراجع ترجمته فى الذخيرة 4/ 1/8 وما بعدها والحميدى: 233 والبغية رقم 1523 والصلة رقم 536 ومعجم الأدباء 11/ 281 وإنباه الرواة 2/ 85 والمعجب للمراكشى ص 75 وابن خلكان 2/ 488.

ص: 174

مبالغة فى تمجيده لانتصار ابن أبى عامر فيها. وشاعره الفذ هو ابن درّاج القسطلى وسنخصه بكلمة. ويقول فيه وفى حجابته عبادة بن ماء السماء (1):

لنا حاجب حاز المعالى بأسرها

فأصبح فى أخلاقه واحد الخلق

فلا يغترر منه الجهول ببشره

فمعظم هول الرّعد فى أثر البرق

وعاصر عبادة زمن الفتنة بقرطبة (399 - 422 هـ) حتى إذا استولى على مقاليد الخلافة على بن حمود العلوى من أدارسة المغرب سنة 407 نجد عبادة يقدم له مدائحه متحزبا له متشيعا بمثل قوله (2):

أطاعتك القلوب ومن عصىّ

وحزب الله حزبك يا علىّ

وإن قال الفخور أبى فلان

فحسبك أن تقول أبى النبىّ

ويتوفى على سنة 408 ويخلفه أخوه القاسم فيقدم مدائحه إليه وينازعه الخلافة يحيى ابن أخيه، ويستولى على صولجان الحكم فترة سنة 412 ويفر عمه إلى إشبيلية، ويعود بجنود من البربر إلى قرطبة ويستردّ الحكم من يحيى سريعا، ويغادر قرطبة إلى الجزيرة الخضراء ويستولى عليها، وله يقول عبادة:

فها أنا ذا يابن النبوّة نافث

من القول أريا غير ما ينفث الصّلّ (3)

وعندى صريح فى ولائك معرق

تشيّعه محض وبيعته بتل (4)

وهو يقول إن ولاءه لآل البيت عريق ويمضى فيذكر أن جده كان مواليا لعلى مما جعل معاوية يبغضه بغضا شديدا. وكان ابن الحناط الكفيف القرطبى يتشيع مثله للحموديين وله مدائح متعددة فيهم وخاصة فى على بن حمود وفيه يقول: (5)

إمام أقام الدّين حدّ حسامه

طريرا ومنه فى يد الله قائم (6)

وكأنما كان الصوتان المتشيعان نشازا على أسماع الحموديين فى الأندلس، إذ لم يكونوا

(1) راجع ترجمة عبادة فى الذخيرة 1/ 475 وسنخصه بكلمة بين شعراء الطبيعة والخمر.

(2)

انظر فى هذين البيتين والأبيات التالية ترجمة عبادة فى الذخيرة 1/ 468 وما بعدها.

(3)

الأرى: عسل النحل. الصل: الحية.

(4)

بتل: حق.

(5)

انظر القصيدة فى ترجمة ابن الحناط بالذخيرة 1/ 437 وراجع ترجمته فى الجذوة ص 53 والبغية رقم 124 والصلة رقم 1435 والمغرب 1/ 121 والتكملة رقم 429 والوافى 3/ 124.

(6)

طريرا: له رواء وبهجة.

ص: 175

هم ولا آباؤهم الأدارسة فى المغرب دعاة نحلة أو عقيدة شيعية، لذلك ذهب هذان الصوتان أدراج الرياح.

وإذا مضينا فى عصر أمراء الطوائف وجدنا عواصم هؤلاء الأمراء تتحول إلى ساحات كبرى للمديح، فليس هناك أمير ولا وزير إلا وتدبّج فيه المدائح، إذ تكاثر الحبّ فى تلك الساحات وتكاثر الشعراء الذين يلتقطونه من داخل الإمارة ومن الوافدين على أمرائها، وقد استحالت قصورهم إلى ندوات واحتفالات لإنشاد الشعراء مع ما يتخلل ذلك من مجالس الأنس والطرب والغناء، مما أحدث فى الأندلس نهضة شعرية بأدق ما تؤديه كلمة نهضة من معان، وقد كتب ابن بسام فيها كتابه الذخيرة بمجلداته الثمانية الضخام متحدثا عن الشعراء البارعين بكل حاضرة فى هذا العصر وقد بلغوا أكثر من مائة شاعر فذ، ولكل منهم مدائح بديعة، من ذلك مدحة أبى زيد عبد الرحمن بن مقانا الأشبونى لإدريس بن يحيى الحمودى أمير مالقة جعل مقدمتها طبيعة وغزلا وخمرا وسنعرض لذلك فى ترجمته بين شعراء الطبيعة والخمر، وخرج إلى المديح، منشدا (1):

وكأنّ الشمس لما أشرقت

فانثنت عنها عيون الناظرين

وجه إدريس بن يحيى بن

علىّ بن حمّود أمير المؤمنين

كتب الجود على أبوابه

ادخلوها بسلام آمنين

انظرونا نقتبس من نوركم

إنّه من نور ربّ العالمين

وكان ابن مقانا بدأ إنشاد إدريس هذه القصيدة وهو محتجب على عادته، فلما سمع البيتين الأخيرين أمر برفع الحجاب حتى نظر إليه، وأضفى سابغ نواله عليه. وتغنى ابن زيدون مرارا بأمراء قرطبة بنى جهور، ولما ظنوا أنه مشترك فى مؤامرة ضدهم وزجّوا به فى غياهب السجن أخذ يعتذر إليهم بمثل قوله (2):

بنى جهور أحرقتم بجفائكم

جنانى فما بال المدائح تعبق

تظنوننى كالعنبر الورد إنما

تطيب لكم أنفاسه وهو يحرق

وردّت إليه حريته، فالتحق بالمعتضد بن عباد أمير إشبيلية، فاتخذه وزيرا له وأجزل له فى الراتب والعطاء، وفيه يقول ابن زيدون فى إحدى مدائحه (3):

(1) انظر القصيدة فى ترجمة ابن مقانا بالذخيرة 2/ 486.

(2)

ديوان ابن زيدون ومعه رسائله (تحقيق محمد سيد كيلانى) ص 60 والمغرب 1/ 69.

(3)

الديوان ص 112.

ص: 176

همام يزين الدهر منه وأهله

مليك فقيه كاتب متفلسف

يتيه بمرقاه سرير ومنبر

ويحمد مسعاه حسام ومصحف

جحيم لعاصيه يشبّ وقوده

وجنّة عدن للمطيعين تزلف (1)

ومرّ بنا أنه اجتمع للمعتضد وابنه المعتمد كثيرون من الشعراء الأفذاذ، والذخيرة تكتظ بما قدموه لهما من مدائح بديعة، وسنخص ابن عمار من بينهم بكلمة، ومنهم الشاعر ابن اللبانة، وسنترجم له فى الفصل التالى، ومن قصيدة له فى مديح المعتمد (2):

ملك إذا عقد المغافر للوغى

حلّ الملوك معاقد التيجان (3)

وإذا غدت راياته منشورة

فالخافقان لهنّ فى خفقان (4)

يا منشئ العلياء بعد مماتها

تفنى النجوم وما ثناؤك فان

الأرض حاجتها إليك بطبعها

كالعين حاجتها إلى الإنسان

وكانت سوق الشعر نافقة بالمرية فى عهد أميرها المعتصم بن معن بن صمادح وطالت إمارته إلى إحدى وأربعين سنة وكان شاعرا، فهتفت باسمه الشعراء فى إمارته ووفدوا عليه من بلدان الأندلس، وهو يغدق عليهم من أمواله، ولمواطنه أبى حفص بن الشهيد أمداح فيه كثيرة من مثل قوله (5):

وأحسن من روض تحلّى بنوره

محيّا ابن معن فى حلىّ الفضائل

جواد كأن الأرض جمعاء راحة

له وبحور الأرض خمس أنامل

جللت فجلّ القول فيك وإنما

يقدّ لقدر السيف قدر الحمائل

وشاعر المعتصم المبدع ابن الحداد، وسنفرد له كلمة، ولم يكن يقلّ عن المعتصم والمعتمد جودا وشعرا ولسنا وفصاحة المتوكل بن المظفر بن الأفطس أمير بطليوس، ولأبيه كتاب المظفرى فى الأدب والتاريخ نحو مائة مجلد، واستحالت بطليوس فى عهده إلى كعبة للشعراء تطوف بها آمالهم وتتلى فيها مدائحهم، وتغنى بمدح المتوكل الشاعر الفذ

(1) تزلف: تقدّم وتصبح زلفى ومنزلة

(2)

الذخيرة 3/ 687

(3)

المغافر: جمع مغفرة: زرد من الدروع على قدر الرأس يتقنع به المسلح للقتال. الوغى: الحرب

(4)

الخافقان: المشرق والمغرب. الخفقان: سرعة نبضات القلب.

(5)

انظر فى الأبيات ترجمة أبى حفص بن الشهيد فى الذخيرة 1/ 670 وما بعدها، وانظره فى الحميدى ص 283 والمغرب 1/ 209 وبغية الملتمس ص 394 وقال ابن سعيد: شاعر المرية فى زمانه وكان مقتصرا على أمير بلده المعتصم بن صمادح.

ص: 177

عبد المجيد بن عبدون مواطنه وقصر مدائحه عليه، وسنخصه بترجمة فى الفصل التالى، وفيه يقول (1):

طبّقت آفاق الكلام فلم أدع

زهرا يرفّ ولا جمانا ينظم

لله درّك هل لمجدك غاية

إلا وأنت بها معنّى مغرم

هزّتك أرواح السماحة بانة

ومن الرّجاحة فى حماك يلملم

وتعلّمت منك الغمامة شيمة

تهمى وفيها للبروق تبسّم

وجعل ابن عبدون المتوكل كالبانة التى يشبه بها الشعراء محبوباتهم فى الحسن سماحة وجودا، ومثل جبل يلملم فى رجاحة العقل وحلمه ورزانته، والصورة الأخيرة بديعة إذ جعله يغدق أمواله على الشعراء والمجتدين وهو يبتسم وكأنه غمامة تهطل والبروق فيها ماتنى تلمع كبسماته التى ترتسم دائما على وجهه.

وحرى بنا أن نقف قليلا عند موقعة الزلاقة فى أواسط سنة 479 وكانت الأندلس أصبحت أندلسات كثيرة، كما مر بنا فى الفصل الأول، إذ توزعت إلى عديد من الإمارات والعواصم لأمراء عاشوا للترف واللهو، وإن سدّدوا سيوفهم فإلى صدور جيرانهم فى الإمارات وإخوانهم فى الدين، بينما يدفعون الإتاوات للمسيحيين فى الشمال، وسقطت طليطلة فى حجر ألفونس السادس سنة 478. ويتأهب للاستيلاء على عواصم هؤلاء الأمراء المترفين المفكّكين المتطاحنين، مما جعلهم يجمعون وفى مقدمتهم المعتمد بن عباد أمير إشبيلية-وأجمع الشعب معهم وفى مقدمته الفقهاء-على استصراخ أمير المسلمين فى المغرب يوسف بن تاشفين ليدفع عنهم الكوارث الخطيرة الموشكة الوقوع، فعبر الزقاق، وانضمت إليه الجموع الأندلسية فى غرناطة وإشبيلية يتقدمها المعتمد بن عباد، والتقى يوسف بجموع ألفونس السادس فى الزلاقة بالقرب من بطليوس فى اليوم الثانى من رجب سنة 479 وصدق-ومعه المعتمد وجموع المسلمين-فى وطيس القتال، وسحقوا أعداء الله سحقا ذريعا، وكأنما استؤصل جيشهم استئصالا، إذ لم ينج منه إلا من سارع منهم إلى الفرار مخذولا مقهورا، وفرّ على وجهه ألفونس يتسنّم الجبال الشاهقة ويسلك الطرق الوعرة حتى دخل طليطلة، وهنأ الشعراء المعتمد بهذا النصر الحاسم من مثل قول ابن القزاز محمد بن عبادة الوشاح فى تهنئة له (2):

(1) الذخيرة 2/ 685.

(2)

الذخيرة 1/ 803 والمغرب 2/ 135 ومرت فى الحديث عن الموشحات مصادر ترجمة ابن القزاز.

ص: 178

ثناؤك ليس تسبقه الرّياح

يطير ومن نداك له جناح

تطيب بذكرك الأفواه حتى

كأن رضابها مسك وراح (1)

جلبت إلى الأعادى أسد غاب

براثنها الأسنّة والصّفاح (2)

وكان يوسف بن تاشفين والمرابطون ينسبون أنفسهم إلى العرب فى حمير وكان بنو عباد من قبيلة لخم اليمنية، وذكر ذلك عبد الجليل بن وهبون فى قصيدة يهنئ فيها يوسف بن تاشفين والمعتمد بهذا النصر المبين منشدا (3):

نمى فى حمير ونمتك لخم

وتلك وشائج فيها التحام

فيوسف يوسف إذ أنت منه

كيامن، لا وهى لكما نظام

فإن ينج الّلعين فلا كحرّ

ولكن مثلما ينجو اللئام

وصاروا فوق ظهر الأرض أرضا

كأن وهادها منهم إكام

وهو يجعل يوسف نفس سميه الصديق ويجعل المعتمد أخا له يشد أزره مثل يا من أخى الصديق وهو بنيامين. ويقول إن وهاد الأرض استحالت من جثث الأعداء إكاما أو أكمات وتلالا. وللشاعر يوسف بن عبد الصمد شاعر المرية تهنئة بديعة (4) للمعتمد بهذا النصر غير أنه خصه بها وحده. وعاد يوسف بن تاشفين إلى المغرب بعد أن نصح أمراء الطوائف بالوحدة، ولقّب بعد تلك الموقعة المظفّرة بأمير المسلمين، وبنى ألفونس حصنا ضخما بالقرب من مرسية فى موضع يسمى لييط، ليجدد إغاراته على أمراء الطوائف، فاستنجدوا بابن تاشفين، وعبر ثانيا الزقاق سنة 481 ووجّه قواته إلى حصن لييط، واضطر ألفونس إلى هدم الحصن وإخلائه. وسرعان ما عاد أمراء الطوائف إلى سابق العهد بهم من الانغمار فى الخلافات وفى الترف واللهو، فاستصرخ فقهاء الأندلس ابن تاشفين ليزيل-إلى غير رجعة-حكم هؤلاء الأمراء الذين يخربون بيوتهم وبيوت المسلمين فى الأندلس بأيديهم. وعبر يوسف الزقاق فى رجب سنة 483 وتقدم قائده ابن أخيه سير بن أبى بكر، فاستسلم طواعية عبد الله بن بلقّين أمير غرناطة، واستسلم المعتمد بن عباد فى إشبيلية كرها واستسلمت المرية ومرسية وشاطبة وبطليوس، وهلّل

(1) الرضاب: الريق المرشوف. راح: خمر

(2)

البراثن: جمع برثن: مخلب السبع. الصفاح: السيوف.

(3)

الذخيرة 2/ 245 وابن وهبون من شعراء المعتمد بن عباد، وسنفرد له ترجمة فى الفصل التالى.

(4)

انظر فى هذه التهنئة الذخيرة 3/ 814.

ص: 179

فقهاء الأندلس لزوال حكم هؤلاء الأمراء، ويصور ذلك أبو الحسن بن الجد فى مدحة لابن تاشفين متشفيا فيهم قائلا (1):

ناموا وأسرى لهم تحت الدّجى قدر

هوى بأنجمهم خسفا وما شعروا

وكيف يشعر من فى كفّه قدح

تحدو به مذهلات النّاى والوتر (2)

فقل لمن نام أصبحت انتبه فلقد

مضى لك الليل صرفا وانقضى السّحر

وانظر إلى الصبح سيفا فى يدى ملك

فى الله من جنده التأييد والظّفر

يرعى الرعايا بطرف ساهر يقظ

كما رعاها بطرف ساهر عمر (3)

ويظلّ الأندلس عهد المرابطين الذين أبلوا فى قتال النصارى ما أخّر استردادهم للأندلس جميعها قرونا بفضل جيوشهم وجيوش دولة الموحدين المغربية من بعدهم.

ويموج ديوان الأعمى التطيلى بمديح على بن يوسف بن تاشفين خليفة أبيه على المغرب والأندلس: وسنفرده بكلمة، وبالمثل يموج ديوان ابن خفاجة بمديح أخويه إبراهيم وتميم، وكان إبراهيم واليا له على شرقى الأندلس حتى وفاته سنة 515 وكان تميم واليا له على غرناطة منذ سنة 500 وولى مرسية شرقى الأندلس فترة، ولعل ذلك ما وصل ابن خفاجة به، وديوانه مفتتح بمدحة بديعة فيه استهلها بوصف الطبيعة والغزل، وفيها يقول (4):

وأبلج منصور الّلواء إذا سرى

أظلّت عقاب النّصر أجنحة النّسر

له فتكة لو زاحم الدهر تحتها

لعدّت به دهم الليالى من الشّقر

وعزم يردّ الطّود هدّا ونجدة

تهزّ قدود السّمر فى الحلل الحمر

تقسّمه جود يفيض وهمّة

فمن منهل غمر ومن جبل وعر

والمدحة على هذا النحو تلوينات وتوليدات فى معانى الشجاعة والكرم، ففتكته تحيل الليالى شقراء بما تلطخها من الدماء وبالمثل تحيل الرماح حلل الأعداء حمرا مما تلطخها به من الدم المسفوك، وجوده يفيض كمنهل عذب، وهمته لا تبارى كجبل وعر لا يساميه جبل فى وعورته. ولابن خفاجة قصيدة بديعة فى مديح زوجة تميم مريم، وكانت سيدة أديبة

(1) راجع القصيدة فى الذخيرة 2/ 256 وانظر فى ترجمة ابن الجد المغرب 1/ 340.

(2)

يشير ابن الجد إلى تهالك أمراء الطوائف على الملذات والخمر والغناء وكأنهم يعيشون فى دور ملاه لا فى دور حكم وسياسة.

(3)

يريد بعمر الفاروق عمر المشهور برعايته للدولة وعدله.

(4)

الديوان (تحقيق د. السيد مصطفى غازى) ص 25 وما بعدها.

ص: 180

فاضلة تحفظ جملة وافرة من الشعر، وكانت لها ندوة تحاضر به فيها وتستمع إلى الشعراء وتثيبهم على أشعارهم، وفيها يقول ابن خفاجة (1):

مشهورة فى الفضل قدما والنّهى

والجود شهرة غرّة فى أدهم

تولى الأيادى عن يد نزل النّدى

منها بمنزلة المحبّ المكرم

حمل الثناء بها القريض وإنما

حمل الحديث رواية عن مسلم

وابن خفاجة يجعل ما يحمله الشعر من الثناء على هذه السيدة عطرا عطر الحديث المروىّ عن مسلم فى صحيحه مبالغة منه فى بيان تقواها وما يحف بها من تجلة تغنى بها ابن خفاجة وغيره مادحين مطرين، وسنفرد لابن خفاجة ترجمة فى الفصل الثانى. وفى ابن تيفلويت والمرابطين يقول ابن باجة معللا لاسمهم «الملثمين» إذ كانوا يضعون لثاما على وجوههم (2):

قوم إذا انتقبوا رأيت أهلّة

وإذا هم سفروا رأيت بدورا

لا يسألون عن النّوال عفاتهم

شكرا ولا يحمون منه نقيرا (3)

لو أنهم مسحوا على جدب الرّبى

بأكفّهم نبت الأقاح نضيرا

وهو يجعل وجوههم أهلة حين ينتقبون ويخفون جزءا من وجوههم فإذا سفروا ورفعوا النقاب رأيتهم بدورا. ويمدحهم بالكرم الفياض وأنهم لا يسألون طلاب النوال والحاجات شكرا على ما يبذلون لهم، وهم يجودون بكل ما يملكون ولا يبقون منه لأنفسهم أى شئ. ولا يلبث ابن باجة بخياله الخصب أن يقول إنهم لو مسحوا على أرض مجدبة بأكفهم لا هتزّت وربت وأنبتت أزهارا وأقاحا ناضرا.

ولمحمد بن إبراهيم بن المواعينى المار ذكره بين البلاغيين فى الفصل الماضى مدحة فى الزبير بن عمر الملثم والى قرطبة يقول فى تضاعيفها مخاطبا الملثمين أو المرابطين (4):

جولوا وصولوا فالمناسب حمير

أهل المفاخر والنّدى والنادى

للقوم فى كل البلاد رياسة

تحكى بنى العباس فى بغداد

أضحت مجالسهم سروج جيادهم

إن السروج مجالس الأمجاد

(1) الديوان ص 97 - 98.

(2)

النفح 3/ 417.

(3)

النوال: العطاء. العفاة: السائلون طلاب المعروف. . النقير: الشئ المتناهى فى الصغر.

(4)

انظر الأبيات فى ترجمته بالمغرب 1/ 247.

ص: 181

والصورة فى البيت الأخير بديعة، ولليكّى يحيى بن سهل هجّاء الأندلس فى المرابطين معللا لتسميتهم بالملثمين بالغا بهم الغاية من المديح (1):

قوم لهم شرف العلا فى حمير

وإذا انتموا صنهاجة فهم هم

لما حووا إحراز كلّ فضيلة

غلب الحياء عليهم فتلثّموا

واشتهرت أسرة مغربية زمن المرابطين بأنها حامية للآداب وراعية للشعر والشعراء، وهى أسرة بنى عشرة أصحاب خطة القضاء فى مدينة «سلا» على شاطئ المحيط، وأول من رحل إليه شعراء الأندلس لمديحه أو أرسلوا إليه بمدائحهم القاضى على بن القاسم بن عشرة المتوفى سنة 502 وهو ممدوح يحيى بن بقى وعيسى بن وكيل الغرناطى ومحمد بن سوار الأشبونى المترجم له بين شعراء الرثاء، وكان قد خلصه من أسره عند النصارى بفدية كبيرة فأكثر من مديحه بمثل قوله (2):

لو أن رفقك فى القلوب مركّب

لم يلتقم فى البحر يونس حوت

ولقد حملت من الوقار سكينة

لم يحتملها قبلك التابوت

وهو يشير إلى الآية الكريمة عن الرسول يونس عليه السلام: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} وإلى آية سورة البقرة عن طالوت: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} . وخلف عليا فى القضاء ابنه أحمد وأنشد ابن بسام فى ترجمته بالذخيرة مدحه لابن سوار فيه، وكان هو وأخوه يحيى موئلا لشعراء الأندلس، وبنى أحمد قصرا، هنأته به الشعراء، وكان المتفلسف الشاعر أبو عامر محمد بن الحمارة حاضرا ولم يكن أعدّ شيئا ففكر قليلا، ثم أنشد (3):

يا أوحد الناس قد شيّدت واحدة

فحلّ فيها حلول الشمس فى الحمل (4)

فما كدارك فى الدنيا لذى أمل

ولا كدارك فى الأخرى لذى عمل

ومرّ بنا فى ترجمة يحيى بن بقى بين الوشاحين أنه خصّ القاضى أحمد وأخاه يحيى بدرر كثيرة من موشحاته وأشعاره بينما كانا يواليان إغداق نوالهما عليه، مما جعل لسانه

(1) المغرب 2/ 268 وسنفرد له ترجمة فى الفصل التالى بين الهجّائين.

(2)

البيتان فى ترجمته بالذخيرة 2/ 811.

(3)

انظر ترجمة أبى عامر فى النفح 4/ 13 و 140 وقد دعاه أبا الحسين على بن الحمارة وراجع ترجمته فى المغرب 2/ 120 وفى البغية ص 517.

(4)

الحمل: من منازل الشمس.

ص: 182

يلهج بمديحهما والثناء عليهما طويلا، من مثل قوله فى يحيى من مدحة طويلة (1):

ندب عليه من الوقار سكينة

فيها حفيظة كلّ ليث مخدر (2)

مثل الحسام إذا انطوى فى غمده

ألقى المهابة فى نفوس الحضّر

أزرى على البحر الخضمّ لأنه

فى كل كفّ منه خمسة أبحر

أقبلت مرتادا لجودك إنه

صوب الغمامة بل زلال الكوثر (3)

وانتهت دولة المرابطين وخلفتها دولة الموحدين منذ سنة 541 وأخذت المدن الأندلسية تستظلّ بلوائهم من مثل الجزيرة الخضراء ورندة ثم إشبيلية وقرطبة وغرناطة، وظل شرقى الأندلس: مرسية وجيّان وبلنسية بيد محمد بن سعد المشهور باسم ابن مردنيش حتى توفى سنة 567 فدخل كل ما بيده فى حوزة الموحدين. وأمر عبد المؤمن ببناء مدينة على جبل طارق، حتى إذا تم بناؤها عبر الزقاق إلى هذا الجبل بجموع غفيرة سنة 556 وسماه جبل الفتح، وأقام به شهرا يستقبل وفود الأندلس للبيعة من أهل مالقة وغرناطة وقرطبة وإشبيلية. واتخذ يوما لاستقبال الشعراء، وكانوا قد جاءوه من كل مدينة لاستقباله ومديحه، وكان يوما مشهودا، أنشده كثيرون منهم قصائدهم فيه، وفى مقدمتهم الأصم المروانى القرطبى الشاعر حفيد الشريف الطليق والرصافى البلنسى محمد بن غالب، وسنفرد له ترجمة عما قليل وأحمد بن سيد الإشبيلى وأخيل الرندى وأبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد الغرناطى، وأنشده مدحة يقول فى تضاعيفها (4):

دعانا نحو وجهك طيب ذكر

ويدعو للرياض شذا الرياح

وكنت كساهر ليلا طويلا

ترنّح حين بشّر بالصباح

ورتّب عبد المؤمن أمور الأندلس، واتخذ ولاة لمدنها الموالية له، وولّى مدينة إشبيلية وأعمالها ابنه يوسف ولى عهده، وبذلك كانت حاضرة الموحدين فى الأندلس، وولّى ابنه عثمان غرناطة وأعمالها، وكان محبّا للأدب والشعر، فاجتمع حوله شعراء أندلسيون كثيرون. وخلف يوسف (558 - 580 هـ) أباه وكان ممدحا، ومن مدّاحه أبو محمد المالقى وهو يستهل مدحة قدّمها له بأنه سيملك العالم بأقاليمه السبعة المعروفة لزمنه تسنده سور الحواميم القرآنية السبع التى يرددها هى وغيرها من سور القرآن الكريم آناء الليل

(1) ابن خلكان 6/ 204.

(2)

حفيظة: حمية. ليث مخدر: أسد فى خدره وغيله.

(3)

صوب: مطر. الكوثر: نهر فى الفردوس.

(4)

انظر مدحته فى المغرب 2/ 164 وسنخصه بكلمة فى الفصل التالى.

ص: 183

وأطراف النهار، ويقول إنه ستسنده وتنصره السبع المثانى وهى آيات سورة الفاتحة السبع التى يرددها كل يوم فى صلواته، وكذلك السور السبع الطوال من البقرة إلى نهاية التوبة بحسبان التوبة والأنفال سورة واحدة، ولهذا لم يفصل بينهما فى المصحف بالبسملة. ويجعله الجوهرة الواسطة أو الوسطى لسلك أو عقد يضم جواهر العلم والدين والدنيا وينوه بإحكامه لتدبيره السياسى. وكان سيوسا وعالما بالعربية وبالحديث ويقال انه كان يحفظ البخارى بأسانيده وجمع من كتب الفلسفة ما اجتمع للحكم المستنصر الأموى قبله، واتخذ الفيلسوف ابن طفيل جليسه ووزيره، وهو الذى نبّهه-كما مرّ فى الفصل السالف-إلى ابن رشد. وخلفه ابنه المنصور يعقوب الطائر الصيت (580 - 595 هـ.) وفى أيامه شرع فى بنيان مدينة الرباط إلى أن أتم سورها ومسجدها وكثيرا من قصورها، وفى سنة 590 نقض ألفونس ملك قشتالة العهد الذى بينه وبين الموحدين وأخذت خيله تغير على أطراف دولتهم فى الأندلس، فعبر إليه الزقاق فى جمادى الآخرة سنة 591 بجموع عظيمة نزل بها فى إشبيلية. وأخذ يعد العدة للقاء ألفونس وجنده، وتجهز ألفونس للقائه بدوره، والتقى الجمعان فى الثالث من شعبان فى الأرك بالقرب من قلعة رباح، فأنزل الله نصره على يعقوب، وسحق المسلمون أعداءهم ودقوا أعناق ستة وأربعين ألفا منهم، وأسروا ثلاثين ألفا، وفرّ ألفونس ومن بقى من جموعه على وجوههم إلى طليطلة وفرائصهم ترتعد رعبا وفزعا، وكان حريا بالمنصور أن يتعقبهم إلى طليطلة ويستنزلهم منها، غير أنه صنع ما صنعه يوسف بن تاشفين فى موقعة الزلاقة، فاكتفى بهذا النصر المبين، وقد تغنى به الشعراء، ومن أروع قصائدهم قصيدة على بن حزمون المرسى من وزن المتدارك ويستهلها بقوله مخاطبا المنصور (1):

حيّتك معطّرة النّفس

نفحات الفتح بأندلس

فذر الكفار ومأتمهم

إن الإسلام لفى عرس

أإمام الحقّ وناصره

طهّرت الأرض من الدّنس

وصدعت رداء الكفر كما

صدع الدّيجور سنا قبس (2)

ومضى يصور فى القصيدة هزيمتهم الماحقة وما سقيت به الوهاد والتلال من دمائهم، ويملؤهم هلعا قائلا إن خيل المنصور وراءهم وقد ملأ التوحيد أعنّتها وأغار بها روح

(1) القصيدة بتمامها فى المعجب ص 370 وما بعدها.

(2)

الديجور: الظلمة. قبس: ضوء.

ص: 184

القدس، وإن كان نجا ألفونس وبعض جنده فإلى عيش نكد تعس. وتوفى يعقوب بعد أربع سنوات، وخلفه ابنه الناصر محمد (595 - 610 هـ) وفى عهده استرد ألفونس وجنوده قواهم وأخذ يعدّ لمعركة فاصلة استصرخ لها الشعوب الأوربية حتى بلغ استصراخه إلى بيزنطة، وكأنما شعر الناصر بهذا الإعداد، فعبر إلى الأندلس واستقبله الشعراء بمثل قول أحمد بن شطريّة القرطبى (1):

كذا يشرف الطالع الأسعد

ويسمو لأملاكه السّيّد

ويرعى أقاصى أقطاره

قريب له عزمة تبعد

وأخذ الناصر يعدّ العدة للقاء ألفونس، بينما جاءه عباد الصليب من كل أركان أوربا وقد منحهم البابا الغفران. ولم تلبث رحى هذه الموقعة الصليبية أن دارت فى سهل يقع إلى الشمال الشرقى من قرطبة وجنوبى قلعة رباح، ومنى الناصر وجيش المسلمين بهزيمة فادحة، كانت نذيرا لانتهاء دولة الموحدين، واستولى ألفونس سريعا على قلعة رباح وبياسه وأبدة. وتوفى الناصر بعد نحو عام من الموقعة، وخلفه ابنه المستنصر (610 - 620 هـ) وتوفى، فخلفه عمه العادل فأخوه المأمون فالرشيد، والدولة تزداد وهنا على وهن، مما هيأ لملوك قشتالة وأراجون الاستيلاء على كثير من الحصون والمدن، وأخذت تسقط فى حجورهم العواصم الكبرى، وأصبح كل شئ يؤذن بخروج العرب من الأندلس، وأخذ كثيرون من علمائها وشعرائها يغادرونها الى المغرب والمشرق، واتصل ذلك طوال القرن السابع. وكان كثيرون منهم يمنون أنفسهم بأنهم سيعودون إلى وطنهم بجحافل الجيوش المغربية التى ترد الأمر إلى نصابه، ومنهم ابن الأبار وسنترجم له بين شعراء الاستصراخ، ومنهم حازم القرطاجنى الذى اتجه إلى أبى زكريا الحفصى، وقدم إليه مدحة يقول فيها (2):

أمير الهدى من يدن منك فإنه

بقربك عن صرف الحوادث قد أقصى

عسى الله أن ينتاش أندلسا بكم

ويأخذ فيها للهدى أخذ مقتصّ

وسنترجم له بين أصحاب الشعر التعليمى. وكان قد قيّض للأندلس منذ الثلاثينيات فى القرن السابع ابن الأحمر فأقام بغرناطة دولة أسرته التى استمرت نحو قرنين ونصف،

(1) انظر البيتين فى ترجمته بالمغرب 1/ 139 وله ترجمة فى تحفة القادم لابن الأبار رقم 61 ومعها بعض شعره.

(2)

ديوان حازم القرطاجنى (طبع بيروت) ص 66.

ص: 185

وطبيعى أن يتجمع حولها الشعراء وأن يقدموا لحكامها مدائحهم، وطبيعى أن يكون أول من أشادوا به مؤسس الدولة ابن الأحمر محمد بن يوسف وفيه يقول ابن سعيد: «كان من عجائب الدهر فى الفروسية والإقدام والسعادة فى لقاء العدو، ويفهم الشعر ويكثر مطالعة التاريخ، أنشدته قصيدة أولها:

لمثلك تنقاد الجيوش الجحافل

وتذخر أبناء القنا والقنابل» (1)

وما زال ينازل ملك قشتالة حتى اضطر إلى عقد معاهدة بينهما، ويتعاقب أبناؤه وأبناء أسرته على الحكم بعده منذ توفى سنة 671 وحكمهم صفحات مشرقة من جهاد النصارى الشماليين، وأرغم حفيده محمد على تسليم جبل طارق لملك أراجون سنة 707 واستولى على صولجان الحكم سنة 713 أبو الوليد إسماعيل، ونازله الجيش القشتالى سنة 718 فى مرج غرناطة، فهزم هزيمة ساحقة وقتل قائده، ويهنئه أبو عبد الله اللوشى بمثل قوله (2):

قصدوا العرين ليغلبوا آساده

فقضى عليهم بأسك الغلاّب

وقويت شوكة المسلمين فى عهد أبى الوليد وعهد ابنه أبى عبد الله محمد، وقد جمع رأيه على استعادة جبل طارق، وأعاده بعد موقعة بحرية عنيفة سحق فيها أسطول ملك أراجون ويهنئه بهذا الفتح المبين أبو العلاء محمد بن سماك العاملى منشدا (3):

فتح قضاه لملكك الرحمن

لم تأت قط بمثله الأزمان

فلأىّ يوم سعادة أولاكه

ذلّت بعزّة نصره الصّلبان

وخلفه أخوه أبو الحجاج يوسف الأول (733 - 755) وكان راعيا للآداب والفنون، وأضاف إلى قصر الحمراء المشهور بغرناطة منشآت كثيرة، ومدحه كثيرون فى مقدمتهم لسان الدين بن الخطيب، وله فيه نحو خمسين قصيدة بين مدح وتهنئات بالأعياد والمولد النبوى الشريف وإشادة بأعماله ومنها بناؤه للمدرسة التى تحدثنا عنها فى غير هذا الموضع، وفى ديوانه أنه أمره بنظم أبيات تزيّن بها قبّة العرض المطلة على مجلسه فى الحمراء، فنظم تسعة أبيات منها قوله على لسان القبة (4):

(1) المغرب 2/ 109.

(2)

انظر ترجمة أبى عبد الله اللوشى فى الكتيبة الكامنة فيمن لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة للسان الدين بن الخطيب تحقيق د. إحسان عباس (طبع بيروت) ص 175 وراجع فى ترجمة اللوشى الإحاطة 2/ 197 وكانت وفاته سنة 752.

(3)

راجع ترجمة ابن سماك العاملى فى الكتيبة الكامنة ص 198.

(4)

انظر ديوان ابن الخطيب المسمى: «الصيب والجهام والماضى والكهام» تحقيق الدكتور قاهر (طبع الجزائر) ص 261.

ص: 186

أأبصرت منّى فى المصانع قبّة

تأنّق فىّ السّعد من كل جانب

فتتلى سطور الكتب فوقى دائما

وتعرض من تحتى سطور الكتائب

والقطعة بديعة، ولابن جزىّ الغرناطى مؤلف رحلة ابن بطوطة مدحة بديعة فى أبى الحجاج من مثل قوله (1):

إن المعالى والعوالى والنّدى

والبأس طوع يدى أبى الحجاج (2)

ماضى العزيمة والسيوف كليلة

طلق المحيّا والخطوب دواجى

ليث الوغى والخيل تزجى بالقنا

والبيض تنهل من دم الأوداج (3)

وخلفه ابنه محمد الخامس الغنى بالله (755 - 793 هـ.) مكمل منشآت قصر الحمراء، وكان ممدّحا للشعراء، وأهم مادحيه منهم ابن زمرك، وسنفرد له ترجمة عما قليل. وكان حفيد الغنى بالله يوسف الثالث (810 - 820 هـ.) شاعرا، ولزمه ابن فركون الشاعر يمدحه واتخذه كاتب سره، وتستغرق ديوانه مدائحه فيه، حتى لتبلغ نحو مائة قصيدة ومقطوعة، إذ لم يترك مناسبة شخصية أو اجتماعية أو سياسية أو حربية إلا ونظم للسلطان فيها مدحة طنانة، ومن قوله فيه حين تقلّد السلطة (4):

إليك تباشير البشائر مقبله

تلوح بآفاق الهدى متهلّله

فهنّئت ما استقبلت يا ملك الهدى

من العزّ لا زالت سعودك مقبله

لقد قلّد الرحمن أمر عباده

إماما له فى العدل أرفع منزله

ويعدّ يوسف الثالث آخر أمراء بنى الأحمر المهمين، ويفضون بعده فى القرن التاسع الهجرى إلى خلافات، تقضى على الإمارة قضاء مبرما. وحرى بنا أن نتوقف قليلا لنتحدث عن أهم شعراء المديح فى الأندلس، وهم ابن عبد ربه وابن دراج القسطلى وابن عمار وابن الحداد والرّصافى وابن زمرك.

(1) انظر هذه القصيدة فى ترجمة ابن جزى الضافية فى أزهار الرياض 3/ 189 وترجم له ابن الأحمر إسماعيل بن يوسف فى كتابه نثير فرائد الجمان وابن الخطيب فى الكتيبة الكامنة ص 46.

(2)

العوالى: الرماح.

(3)

تزجى: تدفع. الأوداج جمع ودج وهو عرق فى العنق إذا قطعه الذابح لم تبق فى الإنسان حياة.

(4)

انظر ديوان ابن فركون بتحقيق د. محمد بن شريفة (طبع أكاديمية المملكة المغربية) ص 103.

ص: 187