الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرّصافى محمد بن غالب
(1)
ولد محمد بن غالب فى رصافة بلنسية، فنسب إليها، وقد رزقت به أسرة متواضعة إذ كان أبوه رفّاء، وكأنما كان مولده فى تلك الرصافة بشيرا بأنه سيكون من شعراء الطبيعة فى الأندلس لجمالها إذ كانت-كما يقول ابن سعيد فى ترجمته بالمغرب-مناظر وبساتين ومياها جارية، وفى بلنسية يقول:«خصّها الله بأحسن مكان، وحفّها بالأنهار والجنان. وحيث خرجت من جهاتها لا تلقى إلا منازه ومسارح ومن أبدعها وأشهرها الرصافة» . وفى هذه الجنة الفيحاء نشأ الطفل المرهف غير أنه لم يكتب له أن تتم له نشأته فيها، إذ اضطر أبوه-فيما يبدو-لمبارحتها إلى مالقة وهو لا يزال صغيرا فى نحو الثامنة أو التاسعة من عمره، مما جعله-فيما بعد-يكثر-كما قال ابن الأبار فى ترجمته بالتكملة-من الحنين إليها ويقصر أكثر منظومه عليها، وفى ذلك يقول عنها:
بلادى التى ريشت قويدمتى بها
…
فريخا وآوتنى قرارتها وكرا (2)
مهادى ولين العيش فى ريّق الصّبا
…
أبى الله أن أنسى لها أبدا ذكرا
وطار الطفل صغيرا من وكره مع أبيه إلى عشّ متواضع فى مالقة، وفيها أخذ أبوه يلقنه حرفته من رفو الملابس، وفسح له من الوقت ما مكنه من الاختلاف إلى كتّاب لحفظ القرآن الكريم ثم الاختلاف فيما بعد إلى حلقات الشيوخ لتعلم العربية والتزود من علوم الدين الحنيف ومن الأدب والشعر. وتفتحت ملكته الشعرية مبكرة، إذ يروى أنه خرج مع بعض رفاقه فى الدراسة إلى نزهة فى مالقة، وارتجل فى تلك النزهة بيتين أعجب بهما الشيخ المرافق، وتنبأ له أنه سيكون شاعر زمانه. ويقدم عبد المؤمن أمير الموحدين لزيارة الأندلس سنة 556 للهجرة، ويستدعى الشعراء من بلدان الأندلس لاستقباله فى جبل طارق أو جبل الفتح، وكان عبد المؤمن-كما مرّ بنا أمر ببناء مدينة على سفحه، وفيها أنشده شعراء الأندلس مدائحهم فيه، ومن بينهم الرصافى، وهو لا يتجاوز عشرين ربيعا كما يقول صاحب المعجب، وقصيدته أو مدحته تصوّر شاعرية
(1) انظر فى ترجمة الرصافى وأشعاره المغرب 2/ 342 والمعجب للمراكشى ص 286 والإحاطة 1/ 505 والتكملة لابن الأبار رقم 772 وكتابه تحفة القادم رقم 34 وابن خلكان 4/ 432 والوافى 4/ 309 وجمع د. إحسان عباس أشعاره ونشرها فى دار الثقافة ببيروت باسم ديوان الرصافى البلنسى مع مقدمة عن حياته وشعره.
(2)
قويدمة الطائر: الريشات فى مقدم الجناح
ناضجة، وقد تمثل فيها دعوة ابن تومرت مهدىّ الموحدين وإمامهم ونهوض عبد المؤمن بها من بعده كأنها نار شبّت فى جانب جبل الفتح كالنار التى جاء فى القرآن الكريم أنها شبت لموسى من جانب الطور الأيمن بسيناء {فَقالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدىً فَلَمّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اِخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} وتمثّل الرصافى الآيات الكريمة ومضى ينشد عبد المؤمن مفتتحا قصيدته بقوله:
لو جئت نار الهدى من جانب الطّور
…
قبست ما شئت من علم ومن نور
فيضيّة القدح من نور النّبوة أو
…
نور الهداية تجلو ظلمة الزّور
ما زال يقضمها التّقوى بموقدها
…
صوّام هاجرة قوّام ديجور (1)
نور طوى الله زند الكون منه على
…
سقط إلى زمن المهدىّ مذخور (2)
حتى أضاءت من الإيمان عن قبس
…
قد كان تحت رماد الكفر مكفور (3)
ويشيد الرصافى بعبد المؤمن وما يحمل من دعوة المهدى إمام الموحدين ابن تومرت وأضوائها التى طبّقت البلاد المغربية والأندلسية، ويصف عبور عبد المؤمن الزقاق على سفن تتهادى بين أيدى مجاذفها وكأنها تغرق فى ماء الورد الأرجوانى الصافى، وتسرع خائضة التيارات فى الزّقاق فيخال كأنها تطير بأجنحة النور الكاسرة. ويبدع الرصافى فى تصويره لجبل طارق الشامخ الصاعد فى عنان السماء بذراه حتى لتتوج النجوم مفرقه بأكاليلها المتألقة. ويقول إن الجبل مقيّد الخطو غير أنه جوّال الخواطر يواصل الصمت والتفكير فيما جاء بالذكر الحكيم عن يوم القيامة وتسيير الجبال ودكها دكّا، ويطمئنه على غده فقد زاره عبد المؤمن. ويعود إلى الإشادة به وبهدى دعوته وبسالة جيشه، وينهى القصيدة بتمثله فى جبل طارق والمهدى ابن تومرت وخليفته عبد المؤمن جبل الطور وموسى وفتاه يوشع قامع الجبابرة الذى تأخرت له الشمس عن مغربها، وكأن عبد المؤمن يوشع جديد.
والقصيدة رائعة بل أكثر من رائعة وانتظر الشاب الرصافى أن يقدرها عبد المؤمن
(1) يقضمها: يطعمها. الهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحر. الديجور: الظلمة.
(2)
الزند: الحجر الأعلى الذى تقدح به النار. السقط: شرر النار. مذخور: مخبوء.
(3)
مكفور: محجوب مستور.
وحاشيته حق قدرها فيعلن أنه الشاعر الرسمى للموحدين أو يسبغ عليه ولاية صغيرة أو جاها، وفوجئ بأن عومل معاملة غيره من الشعراء الكثيرين الذين زفّوا إلى عبد المؤمن مدائحهم، فكوفئ مثلهم على قصيدته بدنانير معدودات، وتحسّر على شعره وعلى نفسه وموهبته، ورجع إلى مالقة مصمما أن يهجر صنعة المديح إلى الأبد مكتفيا بصنعة رفو الملابس. وسكن غرناطة وقتا وانعقدت صداقة بينه وبين شاعرها أبى جعفر بن سعيد، ويبدو أنه ألحّ عليه فى امتداح أخيه محمد فامتدحه بقصيدة عادية، كأنه نظمها مجاملة لأبى جعفر. وفى بعض أشعاره ما يدل على أنه زار مكناسة والمسيلة فى المغرب، وعاد ثانية إلى مالقة وهو مصر على أن لا يمدح أحدا، وراجعه بعض الشعراء فى ذلك وألح عليه، فكتب إليه يراجعه:
يقول أناس لو رفعت قصيدة
…
لأدركت حتما فى الزمان بها أمرا
ومن دون هذا غيرة جاهليّة
…
وإن هى لم تلزم فقد تلزم الحرّا
وهى ليست غيرة جاهلية، بل هى غيرة شعرية، غيرة الشاعر الحر على شعره وفنه أن يسخره فى تملق الحاكم وأن لا يكون نصيبه من ذلك إلا أجرا زهيدا تأباه النفوس الحرة الكريمة. وكان ممن عرف قدره وروعة شعره أبو جعفر الوقّشى الشاعر وزير ابن همشك صهر محمد بن سعد بن مردنيش الثائر على الموحدين بمرسية وشرقى الأندلس (542 - 567 هـ.) فأخذ يرسل إليه بهدايا نفيسة، ولم ير الرصافى بدا من أن يشكره، ووالى الوقّشى هداياه فشكره بقصيدة بديعة، وفيها يقول:
رجل إذا عرض الرجال له
…
كثر العديد وأعوز النّدّ (1)
من معشر نجم العلاء بهم
…
زهر كما يتناسق العقد (2)
وكأنما فاق الأنام بهم
…
نسب إلى القمرين ممتدّ
فيرى وليدهم المنام على
…
غير المجرّة أنه سهد
هيهات يذهب عنك موضعه
…
هطل الغمام وجلجل الرّعد
وظل الرصافى بمالقة قانعا. بصناعة الرفو وما يكسبه منها بعرق جبينه، وهو مع ذلك ينظم الشعر لا فى المديح ولكن فى الطبيعة وفى بعض مجالس اللهو والخمر مع بعض رفاقه وأصدقائه محرّما على نفسه أن ينتجع أحدا بقصيدة أو يبتذل شعره بمدحة حاكم
(1) الند: النظير.
(2)
نجم: نشأ. زهر جمع أزهر: النجم والكوكب الساطع.