المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(أ) شعراء الزهد - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٨

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - التكوين الجغرافى والبشرى

- ‌2 - الفتح-عصر الولاة

- ‌(أ) الفتح

- ‌3 - الدولة الأموية

- ‌4 - أمراء الطوائف-المرابطون-الموحدون-بنو الأحمر فى غرناطة

- ‌(أ) أمراء الطوائف

- ‌(ب) المرابطون

- ‌(ج) الموحدون

- ‌5 - المجتمع

- ‌ الحضارة

- ‌الغناء

- ‌المرأة

- ‌6 - التشيع-الزهد والتصوف

- ‌(أ) التشيع

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-الفلسفة-علم الجغرافيا

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) الفلسفة

- ‌(ج) علم الجغرافيا

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب الأندلس-كثرة الشعراء

- ‌(أ) تعرب الأندلس

- ‌(ب) كثرة الشعراء

- ‌2 - الموشحات والأزجال

- ‌(أ) الموشحات

- ‌ ابن عبادة القزاز

- ‌ يحيى بن بقى

- ‌(ب) الأزجال

- ‌ابن قزمان

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ابن عبد ربه

- ‌ ابن عمار

- ‌ابن الحداد القيسى

- ‌الأعمى التّطيلى القيسى

- ‌الرّصافى محمد بن غالب

- ‌ابن زمرك

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌ عبد الملك بن هذيل

- ‌يوسف الثالث

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌ يحيى الغزال

- ‌السّميسر

- ‌اليكّىّ

- ‌5 - الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ حازم القرطاجنى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ابن خاتمة

- ‌2 - شعراء الطبيعة والخمر

- ‌ عبد الرحمن بن مقانا

- ‌ على بن حصن

- ‌ ابن خفاجة

- ‌ محمد بن سفر

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌ محمد بن سوار

- ‌ ابن وهبون

- ‌(ب) رثاء الدول

- ‌ المعتمد بن عباد

- ‌ابن اللبانة

- ‌ابن عبدون

- ‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ ابن العريف

- ‌ ابن عربى

- ‌الششترى

- ‌(ج) شعراء المدائح النبوية

- ‌5 - شعراء الاستنفار والاستصراخ

- ‌ ابن الأبار

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌1 - الرسائل الديوانية

- ‌ البزليانى

- ‌ابن أبى الخصال

- ‌ابن عميرة المخزومى

- ‌2 - الرسائل الشخصية

- ‌حبيب

- ‌ابن الدباغ

- ‌ سهل بن مالك

- ‌3 - الرسائل الأدبية

- ‌رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد

- ‌(أ) رسالة السيف والقلم

- ‌(ب) رسالة النخلة

- ‌(ج) رسالة أهب الشّاء

- ‌رسالتا ابن زيدون: الهزلية والجدية

- ‌رسالة ابن غرسية فى الشعوبية والردود عليها

- ‌رسائل نبوية ومواعظ

- ‌(أ) رسائل نبوية

- ‌ ابن الجنان

- ‌(ب) مواعظ

- ‌منذر بن سعيد البلّوطى

- ‌4 - أعمال نثرية

- ‌طوق الحمامة لابن حزم

- ‌كتابة التاريخ والتراجم الأدبية

- ‌(أ) المقتبس لابن حيان

- ‌(ب) الذخيرة لابن بسام

- ‌مذكرات عبد الله بن بلقّين

- ‌ قصة حى بن يقظان لابن طفيل

- ‌5 - المقامات والرحلات

- ‌(أ) المقامات

- ‌المقامات اللزومية للسّرقسطى

- ‌(ب) الرحلات

- ‌رحلة ابن جبير

- ‌خاتمة

الفصل: ‌(أ) شعراء الزهد

من للأسرّة أو من للأعنّة أو

من للأسنّة يهديها إلى الثّغر (1)

ويح السماح وويح البأس لو سلما

واحسرة الدّين والدنيا على عمر

وهو يقول لبنى المظفر بعد أن عدد لهم ما أبادته الليالى من الدول والعظماء تلك هى الأيام مراحل، وما أشبه الناس فيها بقوافل راحلة إلى عالم الموت والفناء، ويقول:

سحقا وبعدا لليوم الذى زالت فيه دولتكم ولا حملت بمثله ليلة تعسة من الليالى. ويبكيهم لعرش بطليوس وخيلها العادية وسيوفها الباترة، ويتوجع للسماح وللشجاعة، ويتحسر على ما خسر الدين من جهاد المتوكل للأعداء وخسرت الدنيا من مجده وأبهة إمارته.

والمرثية تعد من فرائد الشعر الأندلسى، بل الشعر العربى بعامة، وبدون ريب يعدّ ابن عبدون من أفذاذ الشعراء الأندلسيين.

‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

(أ) شعراء الزهد

الزهد من جوهر الدين الحنيف ومنذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم تتألق أسماء زهاد كثيرين، زهدوا فى متاع الحياة الدنيا، مؤثرين عليه ما عند الله من متاع الآخرة، مع وصلهم زهدهم بالعمل والكسب، حتى لا يعيشوا عالة على المجتمع. وتلقانا-على مر التاريخ- طوائف من هؤلاء الزهاد، وكثيرون منهم استحال زهدهم-على ألسنتهم-إلى مواعظ وأشعار كثيرة. وشركهم فى أشعارهم الزاهدة كثيرون من علماء التفسير والفقه والحديث النبوى وعلماء العربية، فضلا عن الشعراء الذين طالما حانت منهم التفاتات إلى مصيرهم وما ينتظرهم من الموت. ومن أجل ذلك كله أصبح الزهد غرضا كبيرا من أغراض الشعر العربى فى كل عصر وفى كل بلد عربى، وتلقانا منه سيول كثيرة فى الأندلس، ولن نستطيع أن نعرض منها إلا شيئا يسيرا وخاصة ما جاء على ألسنة الزهاد الحقيقيين الذين قصروا حياتهم-أو شطرا كبيرا منها-على النسك والعبادة. وأول من نذكره من هؤلاء الزهاد أبو وهب (2) عبد الرحمن العباسى القرطبى المتوفى سنة 344 لعهد عبد الرحمن الناصر،

(1) الثغر: جمع ثغرة: أعلى الصدر. يريد: طعنه بالأسنة صدور الأعداء.

(2)

انظر فى أبى وهب وترجمته وشعره المغرب 1/ 58 والتكملة ص 718 والنفح 3/ 207، 226.

ص: 347

ويقول ابن بشكوال: كان منقطع القرين فى الزهد والورع، ويذكر ابن سعيد أنه كان لا يكلم-ولا يجالس-أحدا، وكان أكثر دهره مفكرا وجهه على ركبته، ومن شعره:

أنا فى حالتى-التى قد ترانى

إن تأملت-أحسن الناس حالا

منزلى حيث شئت من مستقرّ ال

أرض أسقى من المياه زلالا (1)

ليس لى كسوة أخاف عليها

من مغير ولا ترى لى مالا

أجعل الساعد اليمين وسادى

ثم أثنى-إذا انقلبت-الشّمالا

وهو لا يملك منزلا يقيه البرد وينام فيه ليلا ولا ثوبا غير الثوب الذى يستر جسده ولا مالا يكنزه، ويرى نفسه بذلك أسعد الناس لأنه لا يملك شيئا يخاف عليه من مغير أو ناهب، وحسبه جرعات من ماء عذب، وإذا نام اتخذ يمينه وساده، فإن تعب ثنى الشمال وسادا. ويقول ابن سعيد: كان إذا أصبح ونظر إلى استيلاء النور على الظلمة رفع يديه إلى السماء قائلا: اللهم إنك أمرتنا بالدعاء إذا أسفرنا (2)، فاستجب لنا كما وعدتنا، اللهم لا تسلّط علينا فى هذا اليوم من لا يراقب رضاك ولا سخطك، اللهم لا تشغلنا فيه بغيرك، اللهم لا تجعل رزقنا فيه على يد سواك، اللهم امح من قلوبنا الطمع فى هذه الفانية كما محوت بهذا النور هذه الظلمة، اللهم إنا لا نعرف غيرك فنسأله، يا أرحم الراحمين، يا غياث من لا غياث له. ومن قوله:

تنام وقد أعدّ لك السهاد

وتوقن بالرحيل وليس زاد

وتصبح مثل ما تمسى مضيعا

كأنك لست تدرى ما المراد

أتطمع أن تفوز غدا هنيئا

ولم يك منك فى الدنيا اجتهاد

إذا فرّطت فى تقديم زرع

فكيف يكون من عدم حصاد

وهو يقول مخاطبا: كيف تنام وقد هيّئ لك سهاد، كى تعبد الله حق عبادته، وكيف توقن بأنك راحل عن دنياك وأنت لم تهيئ لنفسك زادا لرحلتك، وتصبح وتمسى لا تدرى من أمرك شيئا فكيف تطمع فى الفوز بقبول الله لك ورضاه عنك وأنت لم تؤد حقه من العبادة والنسك، وهل يمكن لشخص قصّر فى رعاية زرعه أن يحصد منه شيئا. ونلتقى فى عصر أمراء الطوائف بأبى إسحق الإلبيرى، وسنخصه بكلمة، وكان يعاصره الطّيطل (3)

(1) زلالا: عذبا.

(2)

أسفرنا: أصبحنا.

(3)

انظر فى الطيطل وترجمته وشعره الذخيرة 2/ 797 والجذوة 294 والبغية رقم 1212 والذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشى القسم الأول من الجزء الخامس ص 195.

ص: 348

على بن إسماعيل الفهرى القرشى الأشبونى، وفيه يقول ابن عبد الملك المراكشى، قرأ العلم بقرطبة ودرس على طائفة من علمائها وأكثر من حفظ الآداب والأشعار، وكان من الأدباء النبلاء والشعراء المحسنين سمح القريحة، مشاركا فى الحديث والفقه، أمضى فى ذلك صدرا من عمره، ثم مال إلى النسك والتقشف ونظم فى معانيهما أشعارا رائقة وضروبا من الحكم تناقلها الناس وحفظوها عنه. واتخذ لنفسه رابطة (1) فى رقعة من بستان له على بحيرة شقبان عرفت برابطة الطّيطل ولزم بها العبادة والنسك إلى أن توفى. ويقول ابن بسام: إن أهل أوانه كانوا يشبهونه بأبى العتاهية فى زمانه، ويذكر إنه نظم الدرّ المفصّل فى الزهد، ومن نظمه:

إذا سدّ باب عنك من دون حاجة

فدعه لأخرى ينفتح لك بابها

فإنّ جراب البطن يكفيك ملؤه

ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها (2)

ولاتك مبذالا لعرضك واجتنب

ركوب المعاصى يجتنبك عقابها

وهو يوصى صاحبه بأن لا ييأس أبدا، فإذا سدّ عنه باب فى الرزق فليتركه إلى باب آخر ينفتح له، وليكفه كفاف القوت فإن وعاء البطن حسبه أن يمتلئ، وما زاد عن ذلك لا يحتاجه الإنسان، وليغنه عن الأمور السيئة أن يجتنبها، حتى لا يعرّض نفسه لعقاب، وليصن عرضه وشرفه ويجتنب المعاصى حتى لا تصيبه أى عقوبة. ويقول:

الموت يرعاك كلّ حين

فكيف لم يجفك المهاد

ما حال سفر بغير زاد

والأرض قفر ولا مراد (3)

فابن بها للتّقى بروجا

تأمن إذا روّع العباد

وهو يقول إن جرس الموت يدق فى كل حين، فكيف لا تحيى الليل بالعبادة، وإنك لراحل مسافر إلى ربك، وهل يستطيع مسافر أن يسافر بغير مئونة وزاد، إنه يكون أشبه بمن يسافر فى صحراء مجدبة ولا مرعى ولا قوت، فاتخذ التقى والورع عدّتك تأمن حين يعصف بك الموت الذى لا بد منه للعباد. وله وصف دقيق للنملة يصور فيها خصرها الضامر، وكأنما آخرها قطرة من قطران أو حبر أسود، تحمل قوتها مدخرة له مهتدية فى ظلمة الليل إلى خرق كثقب الإبرة، لا يسمع لها أحد حركة، مسبّحة ربها، وسبحانه العالم وحده بتسبيحها.

(1) الرابطة: بيت للعبادة.

(2)

الجراب: وعاء الزاد.

(3)

مراد بفتح الميم: مرعى.

ص: 349

وولد فى عصر الطوائف سنة 440 بكار (1) بن داود المروانى، ولحق عصر المرابطين وعاش فيه فترة غير قصيرة، مولده فى شنترة من بلدان أشبونة بغربىّ الأندلس، درس فى قرطبة ثم استوطن أشبونة. ويروى ابن سعيد عن أبى عمرو بن الإمام صاحب سفط اللآلى فى أخبار شعراء عصره المتوفى بعد سنة 550 أنه لقيه وكان غاية فى الزهد مطّرحا لنفسه واستشهد فى جهاد العدو، ويقول إنه استنشده من شعره فأنشده:

ثق بالذى سوّاك من

عدم فإنّك من عدم

وانظر لنفسك قبل قر

ع السّنّ من فرط النّدم

واحذر-وقيت-من الورى

واصحبهم أعمى أصمّ

قد كنت فى تيه إلى

أن لاح لى أهدى علم

فاقتدت نحو ضيائه

حتى خرجت من الظّلم

وهو يقول: ضع ثقتك فى الله الذى سوّاك وخلقك من عدم، وفكر فى نفسك وما ينبغى أن تنهض به من عبادته قبل أن تعض على أصابعك نادما على ما فرطت فى جنب خالقك.

واحذر الناس واصحبهم كأنك لا تراهم ولا تسمعهم. ويقول إنه كان فى تيه ضلال وظلام حالك إلى أن لاح علم الهدى فاهتدى بضيائه. ومن الزهاد لعصر الموحدين أبو الحجاج يوسف (2) المنصفى، من قرية المنصف من قرى بلنسية فى شرقى الأندلس، ويقول المقرى: كان صالحا وله رحلة حجّ فيها، ومال إلى علم التصوف، وله أشعار حملت عنه، منها قوله:

قالت لى النّفس: أتاك الرّدى

وأنت فى بحر الخطايا مقيم (3)

هلا اتخذت الزاد قلت: اقصرى

هل يحمل الزاد لدار الكريم

فنفسه قالت له: أتاك الموت وأنت غارق فى الذنوب فهلا اتخذت زادا للمعاد؟ فقال لها إن الزاد لا يحمل لدار الجواد الكريم. ومن طريف ما قيل حينئذ فى الزهد والدعوة إلى العمل الصالح قول الفيلسوف أبى بكر بن طفيل (4):

يا باكيا فرقة الأحباب عن شحط

هلا بكيت فراق الروح للبدن (5)

(1) راجع فى بكار وترجمته وشعره المغرب 1/ 415 والنفح 3/ 334.

(2)

انظر فى أبى الحجاج المنصفى وترجمته وشعره المغرب 2/ 354 والتحفة رقم 37 والنفح 3/ 336.

(3)

الردى: الموت.

(4)

المعجب للمراكشى ص 313.

(5)

شحط: بعد.

ص: 350

نور تردّد فى طين إلى أجل

فانحاز علوا وخلّى الطين للكفن

يا شدّ ما افترقا من بعدما اعتلقا

أظنّها هدنة كانت على دخن (1)

إن لم يكن فى رضا الله اجتماعهما

فيالها صفقة تمّت على غبن (2)

وهو يقول لمن يبكى على أحبابه حين يختطفهم الموت أتبكى لفراقهم ولا تبكى لما ينتظرك من فراق الروح للبدن، وكأنما كانت الروح نورا تردد وقتا فى طين الجسد، ثم تسامى عنه علوا وخلاّه للكفن، وإنها لفرقة شديدة بعد امتزاجهما طول الحياة، وكأنما كانت بينهما هدنة غير صافية، ويقول إن اجتماعهما وامتزاجهما إن لم يكن فى رضا الله كان صفقة أو بيعة خاسرة.

وتكاثر الزهاد لعهد يعقوب الموحدى وكوّن منهم فرقة كبيرة جعلها بمقدمة جيشه فى غزوة الأرك المشهورة لسنة 591 وكان يشير إليهم فى الغزوة. ويقول: هؤلاء هم الجند، لا أولئك ويشير إلى العسكر. ويقول صاحب المعجب إنه حين رجع من المعركة أمر لهؤلاء الزهاد الصالحين بأموال عظيمة، ومنهم من رأى قبول العطية، ومنهم من ردّها، وتساوى عنده الفريقان وقال: لكل مذهب (3). ومن كبار الزهاد حينئذ أبو عمران (4) موسى بن عمران المارتلى وهو من مارتلة، حصن من حصون باجة، وعنه قال ابن الأبار فى التكملة:

كان منقطع القرين فى الورع والزهد والعبادة والعزلة، وله فى ذلك آثار معروفة مع الحظ الوافر من الأدب والتقدم فى قرض الشعر فى الزهد والتخويف، وكان ملازما لمسجده بإشبيلية، توفى سنة 604 عن اثنتين وثمانين سنة، ومن شعره:

إلى كم أقول ولا أفعل

وكم ذا أحوم ولا أنزل

وأزجر عينى فلا ترعوى

وأنصح نفسى فلا تقبل

وكم ذا أؤمّل طول البقا

وأغفل والموت لا يغفل

وفى كل يوم ينادى بنا

منادى الرحيل ألا فارحلوا

كأن بى وشيكا إلى مصرعى

يساق بنعشى ولا أمهل

وهو يتلوم نفسه فكم ينوى الخير ولا يفعل وكم يروم العمل الطيب ولا يعمل، وكم يزجر عينه أن لا تنظر إلى المحرمات ولا تزدجر، وكم ينصح نفسه أن ترعوى

(1) هدنة على دخن: هدنة على فساد وعدم صفاء.

(2)

الغبن فى البيع: الوكس والخسارة.

(3)

المعجب للمراكشى ص 313.

(4)

انظر فى ترجمة أبى عمران المارتلى المغرب 1/ 406 والنفح 3/ 225، 296 والتكملة ص 457 وتحفة القادم رقم 58 والغصون اليانعة ص 135.

ص: 351

ولا تنتصح، وكم يؤمل فى البقاء غافلا عن الموت والموت لا يغفل، وكأنه لا يسمع منادى الرحيل، مع أنه قريبا سيرحل، ويحمل فى نعشه ولا يمهل.

ومنذ عصر المرابطين نجد كثرة الزهاد تتحول إلى التصوف وعالمه، وتظل أسراب شعر الزهد الذى كان يجرى على ألسنة العلماء والشعراء تنطلق فى مجراها الذى بدأت مسيرتها فيه منذ عصر الدولة الأموية، من ذلك قول حازم القرطاجنى (1):

لم يدر من ظنّ الحياة إقامة

أنّ الحياة تنقّل وترحّل

فى كل يوم يقطع الإنسان من

دنياه مرحلة ويدنو المنهل

يحظى السعيد به بطول سعادة

وأخو الشقاوة للشقاوة ينقل

لا تبك إشفاقا لما استدبرته

ولتبك إشفاقا لما تستقبل

وهو يقول: من الخطأ أن يظن الإنسان أن الحياة دار إقامة، فإنها دار تنقل وارتحال، فى كل يوم يقطع الإنسان فيها مرحلة من حياته إلى أن تكون المرحلة الأخيرة، وينتقل إلى حياته الثانية فينتقل إما إلى سعادة ونعيم وإما إلى شقاوة وجحيم، ومن عجب أن يبكى المرء إشفاقا على ما خلّف منها وراء ظهره وحقه أن يبكى إشفاقا على ما يستقبله فى آخرته من مصير غير معروف: شقى أو سعيد. ويقول ابن خاتمة متشبثا بعفو الله ورحمته فى أول قصيدة بديوانه:

لقد فتح الرّحمن أبواب عفوه

لمن راجع الذّكرى وأقبل خاشيا

إلهى لا تفضح عوارا سترته

فما لى مأمول سواك إلهيا (2)

هلكت ردى إن لم أنل منك رحمة

تبعّد روعاتى وتدنى أمانيا

لعلّ الذى قام الوجود بجوده

يعيد بحسن اللّطف حالى حاليا (3)

وهو يقول إن الله-جلّ شأنه-فتح أبواب عفوه على مصاريعها لمن راجع نفسه وأقبل خاشيا منيبا، ويدعو الله أن يستر عيوبه ويرحمه رحمته الواسعة، ويرجوه بجوده الفياض على الوجود أن يعيد حاله حاليا مزدانا. ويستغيث لسان الدين بن الخطيب بربه منشدا (4):

(1) الديوان ص 97.

(2)

العوار: العيب.

(3)

حاليا: مزدانا.

(4)

أزهار الرياض 1/ 271.

ص: 352

إلهى بالبيت المقدّس والمسعى

وجمع إذا ما الخلق قد نزلوا جمعا (1)

وبالموقف المشهود-يا ربّ-فى منى

إذا ما أسال الناس من خوفك الدّمعا

وبالمصطفى والصّحب عجّل إقالتى

وأنجح دعائى فيك يا خير من يدعى (2)

صدعت وأنت المستغاث جنابه

أقل عثرتى يا مأملى واجبر الصّدعا (3)

وهو يتوسّل إلى الله بمقدساته: ببيت القدس والمسعى بين الصفا والمروة فى الحج وبجمع أو المزدلفة مجتمع الحجاج، وبموقفهم فى منى متبتلين إلى ربهم، وبالرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه أن يتجاوز عن سيئاته وأن يقبل منه دعاءه، فقد جهر بذنوبه ولاذ بجنابه، وإنه ليستغيث به ضارعا إليه أن يقيله من عثرته ويجبر الصدع أو الشّقّ البيّن فى أعماله. وحرىّ بنا أن نتحدث عن الزاهد الكبير الإلبيرى.

أبو إسحق (4) الإلبيرى

هو أبو إسحق إبراهيم بن مسعود بن سعد التّجيبى، من أهل حصن العقاب بالقرب من إلبيرة، ولزم فى نشأته فقيهها ومحدثها ابن أبى زمنين المتخلق بأخلاق الصالحين المتوفى سنة 399 ويقول بعض من ترجموا له إنه كان من البكّائين الورعين الخاشعين، ويقول ابن الأبار فى التكملة إن أبا إسحق روى مصنفاته عنه مما قد يدل على أنه جلس مجلسه لإفادة الطلاب فى إلبيرة. وخرّبت سريعا فى عهد زاوى بن زيرى الذى اتخذ غرناطة دار إمارة له (403 - 410 هـ) مما جعل كثرة أهلها تهاجر إلى غرناطة، وهاجر إليها أبو إسحق، غير أنا لا نعرف تاريخ هجرته إليها بالضبط، ونظن ظنا أنه ظل بها يروى لطلاب العلم كتب أستاذه ابن أبى زمنين. ونرى أبا الحسن على بن محمد بن توبة حين يتولى القضاء لباديس بن حبوس أمير غرناطة (429 - 467 هـ) يتخذ أبا إسحق كاتبا له. واصطحبه معه إلى المرية حين طلب إليه باديس حمل رسالة إلى أحمد بن عباس وزير

(1) جمع: المزدلفة.

(2)

الإقالة للشخص: العفو عنه والصفح والإعفاء.

(3)

صدعت: جهرت: الصدع: الشق والكسر.

(4)

انظر فى أبى إسحق وترجمته وشعره الحميدى فى الجذوة والضبى فى البغية ص 210 والتكملة لابن الأبار (البقية المطبوعة) ص 167 والمغرب 2/ 132 وفهرسة ابن خير 418. وقد نشر الديوان فى مدريد غرسية غومس وأعاد نشره وتحقيقه مع كتابة مقدمة له الدكتور محمد رضوان الداية (طبع دمشق).

ص: 353

زهير الصقلبى أميرها، مما يدل على حسن منزلته عند القاضى وأنه ظل كاتبا له إلى أن أخذ يحمل بعنف على إسماعيل بن النغريلة اليهودى وزير الأمير باديس لتسلطه-مع من عهد إليهم بالعمل معه من اليهود-على شئون الحكم. واستطاع إسماعيل أن يستصدر أمرا من باديس بنفى أبى إسحق من غرناطة إلى إلبيرة، وربما عاد حينئذ إلى مسقط رأسه فى العقاب. وتوفى إسماعيل بن النغريلة، وخلفه فى وزارة باديس ابنه يوسف فزاد الطين بلة، وضج الناس، وكان أبو إسحق قد عاد إلى غرناطة، فألقى فى أهلها قصيدة كانت أشبه بقنبلة، طالب فيها بقتل يوسف، وردّدها الناس فى الشوارع، وسرعان ما نشبت لسنة 459 ثورة ضارية على اليهود ألممنا بها فى حديثنا عن الهجاء، وكان أبو إسحق قد بلغ العقد التاسع من عمره فلبّى نداء ربه فى نحو سنة 460 للهجرة. ولم يحمل أبو إسحق عن أستاذه ابن أبى زمنين مصنفاته فى الفقه والحديث فقط. بل حمل عنه أيضا مصنفاته فى الوعظ وأخبار الصالحين. ولا يقل عن ذلك كله أهمية حمله عنه أشعاره الزهدية، مما غرس الزهد فى نفسه مبكرا، وأتيحت له ملكة شعرية خصبة، فاستغلها فى نظم أشعار زهدية كثيرة، ويقول ابن الأبار:«كان من أهل العلم والعمل شاعرا مجودا وشعره مدون وكله فى الحكم والمواعظ والأزهاد» ويقول ابن سعيد: «له ديوان ملآن من أشعار زهدية، ولأهل الأندلس غرام بحفظها» وهو غرام مرجعه إلى ما تمتاز به زهدياته من لغة ناصعة وخواطر منوعة تمس القلوب بما تحمل من فيض المشاعر الدينية، وكأنما يستمد من نبع حماسى يتدفق فى عذوبة. والديوان يستهل بتائية فى مائة بيت وسبعة يفتتحها بقوله:

تفتّ فؤادك الأيام فتّا

وتنحت جسمك الساعات نحتا

وتدعوك المنون دعاء صدق

ألا يا صاح: أنت أريد أنتا

ويمضى أبو إسحق فى القصيدة بهذه الصياغة والمعانى التى تؤثر فى الأفئدة تأثيرا يملك على قارئه وسامعه كل شئ من أمره، فالدنيا عروس غادرة، والعاقل يفصل نفسه منها دون رجعة، وويح الإنسان ينام ويستغرق فى نومه حتى إذا وافاه الموت انتبه بعد انخداعه.

ويقول إلى كم ينخدع ولا يرعوى، وكان أولى به أن يرفض متاع الحياة الدنيا وكل ما يتصل به من طعام وشراب، فالقوت الحقيقى هو قوت الروح، وحرى به أن لا يحفل بجاه ولا بمال ولا بقصور مشيدة. ولن يضره الفقر إذا ما عرف ربه، ويقول: ما الدنيا إنها تسوء حقبة وتسر وقتا، ويحبها الإنسان مع أنه مسجون فيها وهل يحب أحد سجنه، ولا يغره طعامه فيها فستأكله حطاما، وكل يوم يشهد فيها دفينا، وهو لم يخلق ليعمرها،

ص: 354

إنما خلق ليعبرها، وحرى به أن لا يحزن على ما فات منها وأن يفرح لما فاز به فى أخراه، وينصحه أن يلازم قرع باب الله فسيفتح له يوما، وينشد:

فلو بكت الدّما عيناك خوفا

لذنبك لم أقل لك قد أمنتا

ومن لك بالأمان وأنت عبد

أمرت فما ائتمرت ولا أطعتا

وتشفق للمصرّ على المعاصى

وترحمه، ونفسك ما رحمتا

تفرّ من الهجير وتتّقيه

فهلاّ عن جهنّم قد فررتا

فلو أن الإنسان لم يعمل الصالحات الباقيات وبكى وبالغ فى بكائه حتى بكى دما فإن ذلك لن يتيح له الأمان مادام لم يطع أوامر ربه. ومن عجب أن يشفق الإنسان على عاصى ربه ويرق له قلبه وقلبه لا يرق لنفسه، وعجب عجاب أن يفر من حرارة الهاجرة ولا يتخذ العدة للفرار من جهنم ولظاها المشتعل. وفى قصيدة كافية يقول للدنيا: لقد عهدنا الأم تعطف على أبنائها وأنت تعامليننا بكل قسوة ودون أى شفقة، وفرض على الأبناء أن يبروا أمهاتهم إلا أنت، فواجب عقوقك وبغضك أشد البغض. ودائما ينصح بعمل الخير والإحسان إلى الفقراء ويخوّف أشد التخويف من عذاب النار، وله قصيدة:

خمسة وثلاثون بيتا ختمها جميعا بكلمة النار وفيها يقول:

ويل لأهل النّار فى النّار

ماذا يقاسون من النّار

تنقدّ من غيظ فتغلى بهم

كمرجل يغلى على النار

ويستمر قائلا: لا تقبل التوبة فى النار، والشقى يفر من النار إلى النار، وويل له من النار، إذ لا راحة له فيها وكيف يرتاح وهو يشرب المهل فيها، ويطعم الزقّوم، وتتدافع سيول النار فى القصيدة حتى نصل إلى نهايتها فنطلب من الله مع أبى إسحق المعافاة والعتق من النار. ومن أروع قصائد الديوان قصيدة من ثلاثة وخمسين بيتا ختمها جميعا بلفظ الجلالة على هذا النحو:

يا أيها المغترّ بالله

فرّ من الله إلى الله

ولذ به واسأله من فضله

فقد نجا من لاذ بالله

وقم له والليل فى جنحه

فحبّذا من قام لله

واتل من الوحى ولو آية

تكسى بها نورا من الله

وعفّر الوجه له ساجدا

فعزّ وجه ذلّ لله

ص: 355