الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى الحق أنه كان صوفيّا كبيرا، وقد لقبه تلاميذه ومريدوه بالشيخ الأكبر، وسميت طريقته الطريقة الأكبرية.
الششترى
(1)
هو أبو الحسن على بن عبد الله النميرى، ولد بقرية ششتر من عمل مدينة وادى آش فى إقليم غرناطة لأسرة ذات جاه وثراء. بدأ حياته بحفظ القرآن الكريم وجوّده، وعنى بتفسيره والوقوف على معانيه، كما عنى بدراسة الفقه المالكى، حتى نعت بالفقيه وعروس الفقهاء. وأخذ يكبّ فى شبابه على دراسة التصوف ولقاء المتصوفة، حتى استوعب وتمثّل كثيرا من الرياضات الصوفية، وسرعان ما أخذ بمبادئهم فى السياحة والتجول فى البلدان، فطاف ببعض البلاد الأندلسية ثم عبر الزقاق إلى البلاد المغربية، وظل بها متجولا فترة غير قليلة، تلمذ فى أثنائها لأبى مدين المتوفى سنة 592 وربما لم يلقه، فأخذ طريقته عن تلاميذه ومريديه. وكان صوفيا سنيا، وشاعت طريقته الصوفية-منذ حياته-فى البلدان المغربية، وملأت-فيما يبدو-نفس الششترى فاعتنقها. ولقى ببجاية ابن سبعين وعرف منه ابن سبعين أنه ذاهب إلى أصحاب أبى مدين فقال له: إن كنت تريد الجنة فسر إليهم وإن كنت تريد رب الجنة فهلمّ إلىّ. وظل طويلا معجبا بابن سبعين حتى كان يعبر عن نفسه فى بعض منظوماته بعبد ابن سبعين، ويقال إن ابن سبعين قال له: لن تدخل فى طريق الصوفية إلا إذا تجردت من متاعك وثيابك ولبست قشبانية الصوفية (يريد رقعهتم البالية) وحملت فى يدك بنديرا (يريد علم الدراويش) ودخلت السوق بهذه الصورة وبدأت بذكر الحبيب. فصنع كما رسم له ابن سبعين، وظل فى السوق ثلاثة أيام يغنى بخواطر المتصوفة منشدا:
شويخ من أرض مكناس
…
فى وسط الأسواق يغنى (2)
اش علىّ من الناس
…
واش على الناس منى
واتجه إلى مصر، وأقام بالإسكندرية فترة تعرّف فيها على الشيخ أبى الحسن الشاذلى
(1) انظر فى الششترى وترجمته وأشعاره وموشحاته وأزجاله نفح الطيب 2/ 185، 205 والإحاطة 4/ 205 وعنوان الدراية للغبرينى ص 140 وما بعدها ونيل الانتهاج للتنبكتى والرسائل الكبرى لابن عباد الرندى (طبع فاس) ص 197 وراجع فى أشعاره وموشحاته وأزجاله ديوانه بتحقيق د. على النشار (طبع الإسكندرية).
(2)
مكناس: مدينة بالمغرب بينما بجاية مدينة ساحلية بالجزائر.
صاحب الطريقة الشاذلية وتلميذه أبى العباس المرسى وحمل عنهما طريقتهما، وبذلك يعترف فى بعض أزجاله قائلا:«شيوخى هم الشاذليّه» وحج مرارا وكان كلما حجّ طوّف فى العراق والشام ثم عاد إلى مصر. ويذكر مترجموه أنه لقى ابن إسرائيل تلميذ ابن عربى فى الشام سنة 650 كما لقى أصحاب عمر السهروردى البغدادى المتصوف السنى المشهور مؤلف كتاب عوارف المعارف. وفى أوبة له من الشام إلى ساحل دمياط سنة 668 توفّى بقربها ودفن بمقبرتها، وقبره بها. وعليه شاهد يحمل اسمه. وكان لقاؤه لابن سبعين وإعجابه به وذكره لاسمه فى موشحاته وأزجاله مثنيا منوها سببا فى أن يظن بعض معاصريه ومن جاء بعدهم أنه كان-مثله-يؤمن بوحدة الوجود المطلقة، وهو منها براء، إذ بدأ حياته على طريقة أبى مدين المغربى الصوفية السنية، وانتقل منها فى مصر إلى طريقة أبى الحسن الشاذلى الصوفية السنية، فهو صوفى سنى، وفيه يقول الغبرينى:
«الشيخ الفقيه الصوفى الصالح العابد، من الفقراء (يريد الصوفية) المنقطعين، له معرفة بالحكمة ومعرفة بطريقة الصالحين الصوفية» ونوّه به ابن عباد الرندى الشاذلى فى رسائله الكبرى، كما نوه به من صوفية الشاذلية أحمد زروق شارح قصيدته:
أرى طالبا منا الزيادة لا الحسنى
…
بفكر رمى سهما فعدّى به عدنا (1)
إذ نقل عنه التنبكتى فى كتابه نيل الابتهاج نعته له بقوله: «الشيخ العارف أحد الصوفية من أبناء الملوك ثم صار من سادات الصوفية، كان يقرأ عليه القرآن والسنن، عارفا بالحديث، وأما علم الأسرار والأنوار والحكم والأذواق فحاز فيه قصب السبق» .
ويقول المقرى فيه: عروس الفقهاء وإمام المتجردين وبركة لابسى الخرقة الصوفية. . كان مجوّدا للقرآن قائما عليه عارفا بمعانيه، من أهل العلم والعمل، جال فى الآفاق ولقى المشايخ، وحج حجات، وآثر التجرد والعبادات، وصنّف كتبا مختلفة، منها:«العروة الوثقى» و «المقاليد الوجودية فى الأسرار الصوفية» و «الرسالة القدسية فى توحيد العامة والخاصة» و «المراتب الإيمانية والإسلامية والإحسانية» . ومن شعره قوله:
لقد تهت عجبا بالتجرّد والفقر
…
فلم أندرج تحت الزمان ولا الدّهر
وجاءت لقلبى نفحة قدسيّة
…
فغبت بها عن عالم الخلق والأمر
وصلت لمن لم أنفصل عنه لحظة
…
ونزّهت من أعنى عن الوصل والهجر
(1) الحسنى وعدن: الجنة. الزيادة: مقام المحبة الصوفية.
وما الوصف إلا دونه غير أننى
…
أريد به التشبيب عن بعض ما أدرى
وذلك مثل الصّوت أيقظ نائما
…
فأبصر أمرا جلّ عن ضابط الحصر
فقلت له الأسماء تبغى بيانه
…
فكانت له الألفاظ سترا على ستر
وهو يتيه عجبا وزهوا بالاجتهاد فى العبادة والإمامة لفقراء الصوفية، فلا يهمه أى شئ مما يتعلق به الناس من جاه السياسة ومتاع الحياة، فحسبه نفحة قدسية امتزجت بقلبه، فغاب عن الكون وكل ما فيه من عالم الخلق والتدبير. ويقول وصلت إلى رضوان الله ومحبته، ويستدرك فإنه غنىّ عن الوصل والهجر ولا وصف يحيط به، وما تشبيبى وغزلى إلا بعض ما أشعر به، وكأنى مثل نائم أيقظه صوت فأبصر من جلال الله ما يجلّ ويعظم عن الحصر، وحتى أسماؤه الحسنى لا تجلو هذا الجلال، إذ لا تحيط به ألفاظ، بل لكأنما الألفاظ تضيف دونه حجابا إلى حجاب، وله فى إحدى موشحاته:
خلعت عذار عشقى فى غرامى
…
وهمت وقد حلا عندى هيامى
بمن أهوى وكاسات المدام
…
مذهبى دنّى
لائمى دعنى الهوى فنّى
ببذلى فى الهوى روحى ومالى
…
عشقت فما لعذّالى ومالى
وهو يقول إنه لم يعد يتحفظ أو يتحشم فى غرامه، بل لقد أصبح يتهتك فيه، لا يستحى ولا يخجل، إذ جمع به هيامه بمن يهوى بل لقد حلاله هذا الهيام كما حلاله الإكباب على كاسات المدام حتى ينتشى بشراب المحبة الإلهية إلى أقصى حد ممكن، وهو ليس شرابا عاديّا بل هو رحيق صاف، وهو يتخذ دنّه مذهبا له حتى يبهج روحه وقلبه بهذا الحب الربانى الذى بذل فيه روحه وكل ما يملك، فما للعذّال اللائمين وماله. وقد اندلع فى فؤاده هذا الحب وإنه ليشرب رحيقه من دنّ قدسى عظيم. ومن قوله فى موشحة ثانية:
يا حبيبى بحياتك
…
بحياتك يا حبيبى
رقّ لى وانظر لحالى
…
أنت أدرى بالذى بى
أنت دائى ودوائى
…
فتلطّف يا طبيبى
وهى كلمات تكاد تطير من الفم طيرانا لخفتها وعذوبتها وسلاستها. ولهذه السلاسة والعذوبة كان يكثر إنشاد شعره وموشحاته وأزجاله فى حلقات المتصوفة من شاذلية وغير شاذلية، ونوّه بها جميعا مترجموه، يقول الغبرينى: «شعره فى غاية الانطباع والملاحة،