الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير
الحمد لله الذي خلقنا لنعبده، وهدانا بالإِسلام إِلى صراطه المستقيم، وبعث لنا رسولًا بالهدى ودين الحق، أرشدنا إِلى طريق الفلاح، وعرفنا بالعبادات المشروعة، ونهانا عن المنكرات الممنوعة.
والصلاة والسلام على أشرف مخلوقاته، المبعوث رحمة للعالمين، بالكتاب والحكمة، مبلغًا للدعوة الإِسلامية، ناصحًا للأمة المحمدية، مبشرًا المتقين بنعيم الجنة.
أمَّا بعد، فإِن للبلد الأمين فضلًا عند الله: أقسم به في كتابه العزيز، وجعله رمزًا للتوحيد، وجعل فيه البيت الحرام مثابة للناس وأمنا، وفرض الاتجاه إِليه في الصلاة والطواف به في الحج. والحج إِلى بيت الله الحرام عبادة قديمة معهودة في ملة أبينا إِبراهيم فقد خاطبَه تعالى بقوله الكريم:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} (1).
وقد شُرِعت شعيرةُ الحج في الإِسلام، فكانت من القواعد الخمس وأركانه
(1) الحج: 27 - 28.
الركينة، قال تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1).
وبذلك تتحقق للمسلمين فوائده الكثيرة ومنافعه الجمة، ويشعرون أنهم يقصدون أول بيت وضع للناس بمكة مباركًا، ويستعيدون ما ارتبط به من ذكريات خالدة.
ولما كان لهذه العبادة قيمتُها السامية، ولهذا البيت مكانته الرفيعة في نفوس المؤمنين، فقد اتجه العلماء منهم - منذ صدر الإِسلام - إِلى التأليف في أحكام هذه العبادة وفي تاريخ هذا البيت وأعلام بلده الأمين، وتعددت مؤلفاتهم وتنوعت، وما زال الكثير منها في عداد المخطوطات البعيدة عن متناول عامة القراء.
وقد أتيحت لي فرصة ممارسة جانب من هذا التراث النفيس، عندما عهد إِليَّ مركز أبحاث الحج التابع لجامعة أم القرى بالتنقيب عن الوثائق المتعلقة بالحج وبالحرمين الشريفين، في تونس، والتعريف بها تمهيدًا لتصويرها للمركز المذكور. وشدتني هذه الوثائق إِليها، وعرفتني بما كان لأسلافنا من عناية بالغة بالوقف على الحرمين، ونظم الشعر فيهما، والتأريخ لهما، والترجمة لرجالهما، والعناية بالحديث عما فيهما من المعالم وما في الطريق إِليهما من المنازل، وبما كان لبعضهم من ولوع بتدوين رحلاتهم إِليهما، وبما بذل الفقهاء منهم من جهود في تصنيف مناسك الحج والعمرة، وآداب الزيارة.
ثم شدَّني أحد مصنفات المناسك وملك إِعجابي، عندما كنت في غمرة
(1) آل عمران: 97.
البحث عن مؤلفات الفقيه برهان الدين إِبراهيم بن فرحون استعدادًا للترجمة له ضمن التقديم لتحقيق كتابه "درة الغواص في محاضرة الخواص" الذي كان لي حظ الإِسهام في إِعداده للنشر سنة 1400 هـ.
هذا المنسك الذي أعنيه سماه مؤلفه ابن فرحون "إِرشاد السالك إِلى أفعال المناسك"؛ ظفرت به أول مرة ضمن المخطوطات التي كانت بمدينة صفاقس، ثم آلت إِلى دار الكتب الوطنية بتونس، وتبينت لي - بعد قراءته - أهميتُه، فدفعني ذلك إِلى البحث عن نسخ أخرى له عسى أن ييسر الله لي تحقيقه اعتمادًا عليها. وفي بعض رحلاتي العلمية عثرت على نسخة ثانية بالخزانة العامة بالرباط، ثم على نسخة ثالثة بمكتبة اللغات الشرقية بباريس. وتأكد عندي أن هذه النسخ كفيلة بأن تمدنا بنص كامل سليم لهذه المناسك الفرحونية، التي تحركت في نفسي الرغبة في تحقيقها تدفعني الاعتبارات التالية:
- أن المناسك عامة، مرجع تتجدد الحاجة إِليه كل عام، ولا غنى لحاج أو معتمر عن تعلمها، ولا غنى لمتعلم عن تذكرها.
- وأن هذه المناسك الفرحونية تفيد القراء من مختلف المستويات وتعرفهم بما يحتاجون من أحكام المناسك، وتوجههم - أحيانًا - إِلى تطهير الوجدان بأداء هذه المناسك.
- وأنها من أهم ما ألِّفَ في أدب المناسك على المذهب المالكي الذي بقيت أغلبت نفائسه محجوبة عن الأنظار، تحتاج جهود المحققين لإِعدادها للنشر، ونفض الغبار عنها، فهي ترينا مدى إِسهام بعض المالكية في هذا الفن الفقهي الذي راجت
كثير من مؤلفاته، عندما كان الناس يحرصون، كل الحرص، على تَعلُّمِ أحكامِ الحج قبل الشروع فيه.
- وأنها لقيت استحسان بعض العلماء السابقين، فنوه بها السخاوي والتمبكتي ونقل عنها مؤلفو المناسك كالحطاب وابن هلال السجلماسي.
- وأنها لم تغفل الرقائق والترغيب في الحج والعمرة والآداب التي يتحلَّى بها المسافر إِلى الحرمين.
- وأنها تتضمن بعض الإِفادات التاريخية والجغرافية المتعلقة بالحرمين.
- وأنها اشتملت على استنكار بعض البدع وبيان حكمها، مثل لمس القبر النبوي وإلصاق الجسم بجداره والدوران بالحجرة، ونحوها مما كان معروفًا في عصر المؤلف.
- وأن مؤلفها استفاد كثيرًا مما وجده من الثروة الزاخرة من كتب الفقه العامة، وكتب المناسك خاصة، فاستقى ومحص ونقح الروايات وأجاد التنسيق والعرض.
- وأنه خطط لتأليفه. وأحسن توزيع المسائل على أبوابها فقرب المنال، ويسر الاستفادة.
- وأنه من أعلام فقهاء المالكية، اشتهر بكتابه الذي ألفه في القضاء والدعوى "تبصرة الحكام" وكتابه الذي ترجم فيه لطبقات المالكية "الديباج المذهب" وبألغازه الفقهية "درة الغواص".
ويكون تحقيق هذا الكتاب مُبرزًا لجانب آخر له فيه اليد الطولي، وهو فن المناسك.