الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جالس بين الجنة والنار لا يراعي ولا يداهن، ولا يطمع الغنى في ميله، ولا يخاف الفقر من حيفه وجوره، وكان يتحلم على الجاهل ويتغافل عن سقطات اللئام، كما كان يمشي ذات مرة فأسمعه بعض الجهال كلامًا سيئًا، فقال له ابنه الشيخ عبد الله: لو ردعت هذا الجاهل فإنك قادر على حبسه وتعزيره، فالتفت إليه قائلًا: يا بني إذًا نتعب لو نعامل كل جاهل بما يستحق ولكن نعامل الناس على قدر ما نستحق، يا عبد الله: سدّ أذنيك وأغمض عينيك فهذا زمن السكوت ولزوم البيوت، ومن يتكلم بالحق فإنه ممقوت، ودعاه صديق مرة وكان لا يحب الإجابة، فلما جلس لديه في بيته سأله عن أبيه فقال: إنه في أقاصي البيت وسيأتي بعدنا ويلقي خيرًا، فقال له: يا بني أخطأت في هذه المعاملة لوالدك إذ الحق أن يكون مقدمًا في المجلس ومتصدرًا فيه، والآن فلا يحلو لنا طعامك، فأخذ بيد خادمه الريّس راشد الفرج، وكان مصاحبًا له في هذه الدعوة، فقال له: يا شيخ بل يذهب إلى أبيه فيدعوه فقال: لا بل المرة الثانية نجده حاضرًا، فطلب منه الريّس أن يرجع لأن صاحب الدعوة قد أحضر الغداء والإكرام، فخرج وذهب به إلى بيته وأمر أهله أن يأتوا بغدائه، وكان خبيصًا طيبًا فقدمه وقال له: تفضل يا ريّس من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، وقضى مرةً على شخص فقال: إلى الله أشكو، فلو كنت مثل فلان يقدم لك رقاب الضان لم تقضي علي، فضحك منه ولم يعاتبه، غير أن قال: جرّب بنفسك حتى نقضي لك إذا أصلحك الله، وكان فقيهًا أصوليًا متمسكًا بالتوحيد، وله ثبات عظيم أعظم من ثبات الجبال الرواسي التي جعلت للأرض أوتادًا، وإذا قضى في المسألة فقد يمضي ويوقع عليها بختمه، ولا يحب تزويق الكلام وتنميقه وتكلف الفصاحة، لكنه يوجد له بعض الرسائل في الفقه ولا تزال الرسائل تترى بينه وبين الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن وغيره من أئمة هذه الدعوة.
ذكر كراماته ومكاشفاته وماله من خوارق العادات
كان في وقته قوم يتكلمون في حقه بكلام سيء، فنام أحدهم فرأى في منامه كأنه أتى بالشيخ في صحن وجلسوا يأكلون من لحمه وهم كارهون، فقصها على
معبّر، فأخبره أنه على الحق وأعدائه على الباطل، وأمره أن يكون متبعًا له، ورأى بعض مخالفيه في المنام: كان الشيخ جالس وحواليه أصحابه، وقريبًا من ساحتهم بعض المخالفين له، فجاء ملك ووقف على رأسه وجعل يقرأ قوله تعالى:{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 109]، ويشير إلى الشيخ وأصحابه، ثم قرأ:{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون: 110]، ويشير إلى مخالفيه، ثم قرأ:{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111]، ويشير إلى الشيخ أصحابه.
وكان جلالة الملك عبد العزيز يقول في محفل كبير لما قدم مقاطعة القصيم: إنكم سموتم على أهل العارض يا أهل القصيم بشجرتين، شجرة آل سليم وشجرة نوع النخيل المسماة الشقراء، وكان لهذه المقالة سبب، وهو أنه دعي بجلالة الملك رجل من الإغنياء المياسير وكان قصده بذلك أن يستميل قلبه عن الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم، فساعة جلس في بيت هذا الرجل بدره ومن إليه ينحو بهذا الكلام قبل يبدأه، وهذا يعتبر إما فراسةً من هذا الملك الموفق، أو يكون الله تعالى أنطقه بما كان يختلج في صدورهم، ولقد جعل الله لهذا الشيخ هيبة عظيمة وسمعة طيبة، فكان يقتع بكلامه كل من سمعه، ولا يزال ذكره عاليًا يملأ المسامع، كما أن أمارات القبول لا تزال لائحة عليه، وأعين الخلائق شاخصة بالثقة إليه.
وقد أراده بعض الأشرار بسوء وذلك بإيعاذ من بعض الرؤساء له بقتله على ما تتصوره عقولهم، فلما همّ به سوء وجعل يكمن له بالليل عصمه الله منه وقبض على يديه، وأخبر الشيخ بما بيته له الأعداء وأن الله أعجزه عنه، وكان له معاملة مع ربه، فكان في عبادته والانكسار بين يديه أمرًا عجيبًا بحيث ضبط على جهة التحقيق أنه ما في جامع بريدة موضع قدم ولا شبر إلا وقد صلى فيه ركعتين وأودعه برهانًا يشهد به يومئذٍ تحدث أخبارها، وقد عمر المسجد الجامع في بريدة التزم بنفقته لو كانت بأجمعها، وكان الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن كثيرًا ما