الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا شيخ أنا في غاية المحنة لقد قدمت الدولة وتتابعت المحن وترادفت أسباب البلاء وقد بلغت بي الحال إلى أن أتمنى الموت؛ فأجابه الشيخ قائلًا له تفريجًا لكربته وتطمينًا لنفسه، يا أخي هل أنت تتصرف في الخلق والتدبير أم الله عز وجل هو المتصرف في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد الخلق يا ولدي له مدبر وتدبير الله لنا خير من تدبيرنا آمنا بالله، فقام الرجل منشرح الصدر مطمئن البال راضيًا بتدبر الله مفوضًا إليه الأمر.
فانظر يا أخي وفقني الله وإياك إلى كلام هذا العالم الموفق وإلى ما أرشده إليه حيث دله بعلمه وعقله إلى ما يستريح به من عدم تدبير نفسه وتدبير العالم وأن الله هو المدبر لا شريك له، فلو أن الإنسان رضي بأقدار الله وأقضيته لاستراح من هموم كثيرة، وهذا معنى ما ذكر عن بزرجمهر الحكيم أنه لما حبس وضيق عليه في أمر المأكل والمشرب زاره بعض أحبابه وإذا به لم يتأثر فسألوه عن ثباته وصبره فقال إذا لم أصبر فكيف أصنع إني لا أعين عدوي على نفسي بالجزع.
وكان من صفة ابن فداء أنه ناحل الجسم دائم السكينة وكان خائفًا متواضعًا كأن النار أمامه تهابه الأمة وتحبه وترجع إلى أقواله، فنسال الله أن يتغمده برحمته ويسكنه في جنته.
ذكر صدقه في معاملته لربه وثقته به
لما كان في زمنه شقاق ومخالفات وجهاد بالسيف والسنان والحجة واللسان اختفى في بيته فجاء إليه بعض المنافقين ليعذبوه على حين غفلة من الناس وقدموا واحدًا منهم على رأسه عمامة وقد ارتدى بعباءة برقاء فاستأذن الشقي عليه متسمًا بوسم أهل الديانة والفضل، وقد اختفى أصحابه خلفه ليفتكوا به فلما أن سمع الشيخ بالاستئذان الشرعي خرج فساعة خروجه جذبوه يريدون تعذيبه فأنقذه الله منهم ولم يصل إليه منهم شر وكفاه الله مؤنتهم.
ولما أن قدم عبد العزيز بن رشيد بريدة حال كونه حاكمًا في نجد تلقاه وجوه الأهالي وكبراء الناس يهرولون للسلام عليه واستقباله فلم يحضر الشيخ معهم، ولما أن فرغ الحفل سأل هل بقي أحد من الأعيان لم يفد إليه فقيل له بقي عبد الله بن فداء فجعل يبحث عنه حتى قيل أنه زاهد ولا يحب الخلطة بالناس وجعلوا يروون له عزلته وانفراده ولكنه اغتنمها أعداء الله ورسوله قائلين له أنه يبغض بيت آل رشيد، وما منعه إلا الكبر والاستخفاف بحقك أيها الحاكم فبعث إليه ابن رشيد من يخبره بأنه سيأتيه بنفسه لرؤيته والسلام عليه في بيته فخجل المسلمون وخافوا عليه من سطوته، ذلك ابن رشيد الذي لا تؤمن عقوبته فخرج على حصانه بين العبيد والرجال مغيطًا محنقًا لا ملئ به صدره من المسبة ولما أن وصل إلى بيته استأذن عليه فلم يسعه إلا الخروج إليه فخرج وعليه غترة قد طواها على رقبته كبيرًا نحيف البدن فلما رأه ابن متعب رق لحالته مع ما به من العنف والغلظة والجبروت وكاد أن يبكي فقال ابن رشيد لما رآه على تلك الصفة "حسبنا الله عليكم يا أهل القصيم فلو أن أحدًا سلم منكم لسلم هذا الشيخ" ثم سلم عليه فلم يزد في الرد على قوله الله يعافيك فتكلم ابن رشيد قائلًا ما لك يا شيخ لم تزريا للسلام علينا، فتكلم قائلًا نحن مقتصرون لا نأتي ولا نؤتى فقلبه الأمير إلى بيته ولم يصل إليه منه شر ثم عاد ابن رشيد إلى قصره، ولما أن قرب من القصر بعث إليه خادمًا بثلاثمائة ريال وقال له قل له يقول الحاكم هذه من النفقة الطيبة التي ادخرها لوالدتي فليتعاون بها على مؤونة الدنيا وأكد على الخادم أن يسلمها إياه فإن رجع بها قتله فجاء الخادم يحملها إليه، ولما أن استأذن ناوله الدراهم والوصية فأبى أن يقبلها فجعل الخادم يعالجه لقبولها فقال للخادم ردها عليه وأخبره أنا بخير ولما أبى وأصر على عدم قبولها استعان عليه الخادم بأحد إخوانه المجاورين له وأخبره أنه إذا رجع بها سيقتله فعرض عليه تلميذه أن يأخذها فأبى وقال للخادم خذها فهي لك أنا لا أريدها وقال لصاحبه اذهب أصلحك الله إلى أهلك فخجل الرجل وعاد بها الخادم يحملها إلى ابن رشيد ليخبره بعدم قبوله لها فلما أخبر سيده قال هذه المقالة "سلم منا" يعني الشيخ ابن فداء.
ويظهر أنه بعث إليه بها ليمتحنه بها، وكان معظمًا تزوره اللوك ويوقف عند كلامه وآراءه وكثيرًا ما يتمثل بهذين البيتين:
ومن العجائب والعجائب جمة
…
قرب الشفا وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظما
…
والماء فوق ظهورها محمول
ولقد خرج مرة لما نودي بالجراد ومعه رفيق له يدعى راشد بن حميد وكان مؤذنًا في مسجده، قال ابن راشد فلقطنا جرادًا في كيسين وأخذ كل منا كيسًا صغيرًا يسع صاعين فحملناهما على الرؤوس ورجعنا على أقدامنا من مسافة ساعتين لنبعث إلى الكيسين الكبيرين من يحلهما فمررنا ببئر لحسن بن مهنا أمير بريدة وكانت عظيمة سانيتها ثمانية من الجمال من هاهنا أربعة ومن هناك أربعة وفيها الخيل لها صهيل والأدباش وغير ذلك وتسمى "بالرفيعة" تقع عن البلد شرقًا على مسافة نصف فرسخ فالتفت إلى وقال يا راشد والله لو أعطوني بهذا الكيس كل هذه البئر بما فيها لما أبدلتهم فكيف بالكيس الكبير هناك يا راشد هذا مال حلال ليس فيه شبهة.
ولما كان ذات ليلة بعد صلاة العشاء الآخرة في فصل الشتاء صلى ما كتب له ثم قام يريد إغلاق المسجد فرأى غريبًا في ناحية المسجد ترعد فرائصه من البرد ويتضور جوعًا فأخذ بيده وذهب به إلى بيته فأوقد النار وقدم له تمرًا فجعل يصطلي على النار ويأكل تمرًا للجوع الذي أصابه، فكلمه الشيخ فإذا هو عراقي فلما دفئ وشبع قام موليًا فقال له أين تريد هذه الليلة الشتائية فأجابه بقوله أكلت واستدفأت وسأواصل سيري إلى السيد عبد القادر فقال له الشيخ يا عجبًا تذهب إلى عبد القادر وتذر القادر هلا عكست إن كنت رشيدًا، ثم أنه اقترح رحمه الله اقتراحًا بعد هذه أن لا يسأل غريبًا عن حالته لأنه أحزنه ذلك.
ولما فرغ مرة من صلاة الفجر وقام المؤذن لتفقد الجماعة دخل رجل يركض ركضًا وجلس في الصف من غير أن يصلي فحينما وصله دوره إذا به يتكلم بقوله "حاضر" وكان قد رآه أعني الشيخ، فقال يا بني إنما قد شرع التفقد مساعدة على
أداء الصلاة في الجماعة وأنت لم تصل، فقال وما أدراك بأني جنب لم أغتسل غير أني فعلت ذلك للسلامة من التبعة وقلت في نفسي أن الله أسمح منهم في حقه وألطف، فبكى الشيخ وتأثر لمقالته، ثم نهى عن تفقد المأمومين بعد صلاة الفجر.
ولما كان بعد الوباء المذكور بشهرين توفاه الله تعالى وانتقل إلى جواره مخفًا من الدنيا متقللًا متعففًا، فيا طوبى له إذ أحشر بين يدي رب الأرباب وراحم من خضع له وأناب، نقول هذا ولا نعلم إلا خيرا.
وكان إمامًا في مسجده الكائن بشرقي بريدة وبيته إلى جانبه فما زال كذلك حتى قدم إلى رحمة الله تعالى، وما كانت إلا ساعة قم انقضت وأعقبت الخير الدائم والمسرات والعيش الهني في شامخ الغرفات مع الذين أنعم الله عليهم من أهل الطاعات وأهل الفضائل والكرامات إن شاء الله تعالى.
وكان له من الأبناء عبد العزيز وعبد الرحمن؛ فأما عبد العزيز فكان ثقة عارفًا متفننًا في العلوم، وله أيضًا صلاح وزكاء وفضل، وأما عبد الرحمن فكان أيضًا رجلًا طيبًا وخلف أباه في الإمامة في مسجده ولا يزال من سلالته من يلازم على إمامة مسجدهم ويكرم لكرامة الشيخ عبد الله.
رجعنا إلى ذكر الشريف وعداوته لأهل نجد فنقول:
بعدما نكب في وقعة تربة وخسر جيشه بأجمعه لم يزدد إلا عتوًا وعدوانًا ومقاومة فأوصد البيت الحرام في وجوه أهل نجد ومنعهم من الحج كأن البيت الحرام ملكه أو ملك أبيه وجده وأخذت جريدة القبلة تنشر المقالات التي يحبرها الحسين بقلمه في الطعن بأهل نجد وابن سعود مما كان له الأثر الأسوأ في نفوسهم وصارت من أكبر الأسباب الدافعة لعبد العزيز بن سعود على فتح الحجاز كما سيأتي، ثم أن ابن سعود بعث بالتعاليم إلى رعاياه يحذرهم عن الشريف وشره بان لا يجلب عليه مبيع ولا يخدم عنده أحد، ولا يعان ولا يوالى وهذه صورة الكتاب.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود إلى جناب الكرام فهد بن معمر وكافة الجماعة سلمهم الله تعالى وأبقاهم آمين بعد مزيد