الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعد ما سمع هذا التهديد وذهب شاردًا وترك الشحية، ولم يرجع الجواب إلى الباشا، بل فرَّ هاربًا إلى المدينة، فلما كان مساء ذلك النهار بعد صلاة المغرب أرسل ابن سعود إلى الفاروقي ثلاثة من رجاله ينبؤنه ليكون متأهبًا بأنه هاجم عليه، ولا بد في اليوم الثاني بعد صلاة الفجر، وما كان جادًا في ذلك إنما كان تهويلة جاءت بفائدة، فقد أرسل الباشا ثلاثة من ضباطه مع رجال ابن سعود مسترضيًا، فجاء الضباط يقولون: إن الباشا وعسكره ضيوف عندكم واحسبوهم في معيتكم.
فلما استهل رمضان من هذه السنة صفي الجو وسكنت المتحركات إكرامًا لرمضان، فصام ابن سعود في عنيزة، ولكنه ما كاد يتم إلا وقد جاءت الأنباء تفيد بأن ابن رشيد يواصل السعي في استقدام عساكر الترك إلى حائل، وذلك يوم عيد الفطر.
ذكر رحيل الأتراك عن القصيم سنة 1324 ه
ـ
لما علم ابن سعود بمساعي ابن رشيد، جهز لحينه حملة من أهل القصيم ونزل البكيرية، ثم أرسل إلى الفاروقي بلاغًا جاء فيه أن يبارح القصيم وخيره بأحد أمرين، أما أن ينتقل بجيشه في خمسة أيام إلى وادي الدواسر فيحول بعده عن القصيم بينه وبين المفاوضات مع ابن رشيد.
وأما أن يرحله ابن سعود من نجد فيرسل الجنود العراقية إلى العراق والجنود الشامية إلى المدينة، وإذا رفض هذين الأمرين فهو هاجم عليه لا محالة.
وكان ابن سعود جادًا في هذه المرة فعندها قامت الجنود العثمانية والضباط لما علموا بهذه الخطة يطلبون من سامي باشا الإذعان بل طلبوا منه أن يرحلهم إلى بلادهم، وقام بعضهم يهدده بالقتل، وبعضهم قالوا له إن لم تفعل ستنضم إلى جيش ابن سعود، فلما رأى القائد ذلك قبل بترحيل الجنود، ولكنه اشترط أن يضمن عبد العزيز بن عبد الرحمن سلامتهم وسلامة معداتهم في الطريق إلى المدينة وبغداد، فقبل ابن سعود لذلك واشترط أن ينقل الجنود العراقيين إلى بريدة فيبقون فيها إلى أن يصل سامي باشا بجنوده إلى المدينة لأنه خشي أن يسير الباشا إلى حائل فينضم
إلى عسكر ابن رشيد فيعيد الكرة عليه ابن رشيد وصاحبه الباشا، وقد كان عبد العزيز بن سعود صريحًا على عادته فقال للفاروقي، إذا سرتم إلى المدينة رأسًا رحلنا جنود العراق وإذا حدتم عن الطريق ذبحناهم، وسنكون عالمين بمسيركم.
ثم دعا عبد العزيز شيوخ حرب إلى مأدبة طعام صنعها، وكانوا هم الذي قد حملوا العساكر، فقال لهم: أنتم الذين حملتم الترك من المدينة وأنتم الذين ترجعونهم إن شاء الله، وستبقون عندنا إلى أن يصلوا سالمين، فقامت حرب وحملت العساكر برجالهم وعتادهم على الجمال وارتحلوا، وبعد أسبوعين جاء رسول إلى ابن سعود يقول: إنهم اجتازوا الحناكية ورحلتهم المدينة فأمر إذ ذاك أن تجهز العساكر الذين في بريدة، فرحلوا على ركائب آمنين شاكرين إلى العراق فلما أن مضى شهران من تاريخ رحيلهم جاء الجواب من السلطان عبد الحميد بن عبد المجيد شكرًا للأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن على معاملته عساكر الدولة تلك المعاملة الشريفة ويسأله أن يرسل أحد رجاله لمقابلته، فأرسل جلالة الملك إلى السلطان عبد الحميد صالح العدل مصحوبًا برفيقين إلى الأستانة، فنزلوا ضيوفًا عند الحضر الشاهانية وتكلم الوزراء معهم بكلام سياسي لم يثمر شيئًا، ولم يجيبوا عليه بشيء، وصالح العذل هذا كان شيخًا نبيلًا اختاره عبد العزيز للرسالة، وكان صامتًا قليل الكلام، ولما سئل بعد ذلك: هل سررتم في الأستانة؟ قال ما سررنا بشيء مثل سرورنا يوم رحلنا منها.
وقد قال الشيخ سليمان بن سحمان حسان السنة في وقته قصيدة في ذكر مآثر الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن وأفعاله الحميدة في الإسلام وذلك لما جاهد الترك تلك المجاهدة وصابرهم ودافعهم بالمخادعة والإرجاف وأخافهم بالتهديد والوعيد والإرعاب حتى أذلهم الله وردهم خائبين، وبالذل والهوان راجعين فرحلوا عن القصيم وعلموا أن في الحياض من يذود عنها، كلا والله إن منال الثريا لأسهل من منالها والتدرع بالأكفان دون التدرع بوصولها وعناق القنا دون عناقها والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها:
أهاجك أم أشجاك رسم المعاهد
…
معاهد أنس بالحسان الخرائد
أتذكر عهدًا بالأوانس رافها
…
ويعقيد وصل حافد بالمقاصد
لفيداء سلسال المذاقة بارد
…
كيعقيد مشتار شهي الموارد
كأن وميض البرق في غسق الدجى
…
رفيف ثنايا كالأقاح النضائد
كان أريج المسك نكهة ثغرها
…
إذا هي ناجت وأمقاذا تواجد
لها مقل دعج وكف مخضب
…
رخيص كأعنام بغض العناقد
وفرع أثيث سابغ متجعد
…
كديجور ليل حالك اللون حاشد
وقدٌّ قويم ناعم متوئد
…
كغصن من البان المذلل مائد
برهرهة كالشمس في يوم صحوها
…
منعمة تسبي نها كل ماجد
فلو كلمت شيخًا بطاعة ربه
…
مديبًا عليها جاهدا غير حائد
لأصبح مفتونًا بها ومولعا
…
وخال رشادا أن تفي بالمواعد
فضلت على تلك الديار وعهدها
…
كمثل سليم شاجن القلب ساهد
فدع ذكر عهد قد تقادم عصره
…
وتذكار وصل للحسان الخرائد
ولكن زاح عنك الهموم وسلها
…
بعوجاء من قود الهجان الحرافد
وجب للمطاويح المفاوز قاصدا
…
ولا تخش من فتك اللصوص الرواصد
لشمس تبدي ضوءها فهو ساطع
…
وطالع سعد مشرق بالمحامد
رأى ضوءه من بالوهاد ومن على
…
يفاع الرعان الشامخات الفدافد
فثاب إلى ضوء المحاسن وأرعوى
…
إلى ظل أفياء لها كل شارد
وقد بلغت شرق البلاد وغربها
…
فكالشمس حلت في السعود الصواعد
تسامى لها شمس البلاد وبدرها
…
وجمع شراد المعالي الشوارد
هو الملك الشهم الهمام أخو الندى
…
مذيق العدى كاسات سم الأساود
إمام الهدى عبد العزيز الذي له
…
محامد في الإسلام أي محامد
أزاح جموع الترك عنا بهمة
…
تسامي بها فوق السها والفراقد
ومزقهم أيدي سبأ فتمزقوا
…
فما بين مقتول مصاب وشارد
وما بين محمول إلى عقر داره
…
كسيرًا حسيرًا خاسئًا غير فائد
بكره وإجبار وعنف توعد
…
فعادوا وقد باؤا بخيبة عائد
فهذا هو المجد الأثيل وإنما
…
حوى ذاك عن قوم كرام أماجد
وميراث آباء له ومآثر
…
تأثلها عنهم بحسن المقاصد
لعمري لقد أضحى بها متساميا
…
على كل أملاك البلاد الأماجد
فتى حسنت أخلاقه فتألقت
…
وغنت به الركبان فوق الجلاعد
فتى دمث سهل الجناب مهذب
…
ولكنه صعب المقاد لكائد
أذاق الأعادي والبوادي جميعها
…
كؤوس حتوف من سمام الأساود
وكم جر من جيش لهام عرمرم
…
يفادي به شوس الملوك السوامد
له رأي حزم كالحسام فرندة
…
ولهذم عزم نافذ للمعاند
ووثبة ضرغام أبي سميدع
…
إذا الحرب ألقت بالدواهي الشدائد
وبذل نوال كانسجام هوامع
…
تعودها طبعًا لعاف وقاصد
فيا من سمت أخلاقه وتألقت
…
محامده نحو السها والفراقد
عليك بتقوى الله جل ثناؤه
…
واصلاح ما يدعوا لعضل المفاسد
وبالعفو والإحسان والصدق والوفا
…
فإن بها تسمو لشاو المحامد
وراع جناب الحق في الخلق راجيا
…
جزيل ثواب الله يا بن الأماجد
وإياك أن تصغي لمن جاء واشيا
…
يرى أنه بالنصح أعظم وافد
وما قصده إلا ليحضى لديكمو
…
بما قال من زور وبهتان حاقد
وكن باذلا للجهد والجهد قائما
…
بنصرة دين الله عن كل كائد
فهذا الذي كنا نحب ونرتضي
…
لمن يتولى الأمر من كل قائد
وكان على دين النبي محمد
…
ويا حبذا الدين القويم لسائد
ونصح ولاة الأمر قد جاء ذكره
…
عن السيد المعصوم أرشد راشد
أبي وفي لا يخيس بعهده
…
ولكنه لا يرتضي بالمفاسد
وليس له قصد بأخذ تراثهم
…
وما جمعوا من طارف بعد تالد
ولكن ببذل المكرمات وفعلها
…
يجود وهذا قيد شبه الأوابد
وفيها وفاة الشيخ عبد الله بن دخيل رحمة الله تعالى عليه وهذه ترجمته:
هو الشيخ الإمام العالم العلامة الزهد الورع عبد الله بن محمد بن حمد بن عبد الله بن عثمان بن دخيل الناصري التميمي ولد في سنة 1260 وأخذ عن الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وعن الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن؛ وعن الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم، وأخذ عن الشيخ صالح بن فرناس، وأخذ عن الشيخ ابن راشد وغيرهم، ورحل إلى مكة المشرفة في سنة 1285 لطلب العلم من الفقه والحديث وإلى المدينة المنورة قبل ذلك في سنة 1279 وإلى بريدة في سنة 1293 وعنيزة والمجمعة والرياض وحفظ القرآن عن ظهر قلب، ثم أنه جلس للتدريس في بلد المذنب من بلدان القصيم وكان ركنًا عظيمًا وشيخًا فاضلًا زاهدًا عابدًا واستمر في التدريس من سنة 1300 إلى أن توفاه الله تعالى في هذه السنة وقد تولى قضاء المذنب.
ومن عجائب ما جرى في تاريخه أنه بينما هو مرة نائم في القائلة في حجرة ببيته إذا أيقظه موقظ ففتح عينيه فإذا حلقة من الجن قد أحاطوا به فسلموا عليه بأحسن تحية ودعوا له وطلبوا منه أن يدرسهم وقالوا نحن إخوانك من الجن نطلب منك أيها الشيخ أن تدرسنا كما كنت تدرس إخوانك الإنس فتعجل لنا وقتًا خاصًا نحضرك بمجلسك كل يوم مستمعين فنرجوا أن لا نحرم من تدريسك فلما رأى هيئتهم مزعجة في خلقهم قال لهم إن عقولنا لا تتحمل مجالستكم وتدريسكم أما إذا حضرتم واستمعتم فحياكم الله ووفقكم فدعوا له وقالوا نرجوا أن تبلغ فلانًا لرجل كبير يحمل عصا غليظة ويحضر مجلس الشيخ بأن يسمي الله عندما يلقى العصا واقفًا فإنه يؤذينا بعصاه إذا سقطت ثم تفرقوا عنه.
وكان الشيخ جهبذًا عظيمًا وعالمًا وعلمًا شهيرًا دفع ببلاده حتى تقدمت في العلم والتف إليه خلق كثير من طلاب العلم وضربت إليه آباط الإبل حتى أصبح يحف به من الغرباء الذين رحلوا إليه من الآفاق لاستفزاع منطوقة خمسة وتسعون تلميذًا وهؤلاء غير من كان لديه من الطلاب الأهالي، وكل هؤلاء رجال فضلاء
فجرت زيارة (1) ومواصلة وإقبال على العلم عظيم ولما كان عود الشجا في حلوق المنافقين توصل أعداؤه بمسبته إلى الأمير محمد بن عبد الله بن رشيد في زمنه فأجابهم يقول: إن ابن دخيل هو الذي رفع بواجب حقكم وإلا فبلدكم اسمها الذنب فسميت بسببه المذنب وكان الأهالي يذبحون كل ليلة لطلاب العلم الأجانب كبشين، ولقد تصدق بعض الأجواد بثمانين لباسًا من السراويل للغرباء ألقاها في سطح المسجد الجامع في أيام الصيف ولم يعلم به أحد وسبب ذلك أن فقيرًا من الطلاب انكشف فخذه وهو نائم فراءاه ذلك الجواد وتصدق بهذا القدر والله لا يضيع أجر من أحسن وبذلك تعلم إلى أي حد ما بلغ التدريس والجد والاجتهاد في ذلك الزمان، وكان يشجع بعضهم بعضًا ويتواضع بعضهم لبعض ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ويصبرون على مرارة العيش ويكابدون قلع الفيافي ومشاق السفر ولا يضجرون.
هذا وما كان هناك مكافئات ولا أرزاق لهم تصرف من بيت المال بل كانوا على بركات الله يسيرون ولا عنده يطلبون وكان الدافع لهم حسن نية وعقيدة.
وأنا أذكر لك مثلا هوان رجلا من الطلاب سافر لطلب العلم من إحدى قرى القصيم إلى الرياض وكان يحمل مزودًا على ظهره فيه كتبه وأوراقه وغالبها خط يد فلما كان في أثناء الطريق ضربه المطر بأرض لا ملاذ فيها ولا مخبأ ولا مناص غير أنه سلم لقضاء الله وقدره ولما سئم من السير حافيًا لأن نعليه مزقهما الماء آوى إلى شجرة فنام إليها وتوسد مزوده ولما أن برق الفجر قام من نومته بعدما أنهكه التعب فذكر الله تعالى وتوضأ من غدير حواليه وصلى ثم نزل ضيفًا على قوم وفتش في مزوده وإذا لم ينمح منه شيء.
(1) وقد كثرت الزيادة بين الإخوان من طلاب العلم في حائل والرياض والقصيم ويجتمع الأحبة إذ ذاك فيتفاوضون في البحث في مسائل العلم وتذكر السلف الصالح والعبادة والزهد وكان الوقت إذ ذاك قابلا للبحث والمناقشة في العلوم النافعة ويجتمعون في محبة الله عز وجل ويتفرقون على ذلك.