الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الهرم الذي قتل ولده أمامه فيخنقه، ثم ينتبه مرعوبًا وكلامه في أذنيه يقول له: يا ظالم والله لا تفلح، وقد قدمنا صفة قتلهم الذي سيجازيه الله عليه، وقد قتل في الموضع الذي قتلهم فيه قبل مضي سنة من قتلهم، هذا وما كان إلا في عتوّه، فهو يتنقل في أطراف القصيم ويجوس خلاله.
ولما كان في افتتاح هذه السنة في غرة محرم، نزل ابن سعود على غدير الأرطاوية المذكور، وجعل يجند الجنود حتى تكامل جيشه ألفًا وستمائة مقاتل، ألف ومائتان من الحضر وأربعمائة خيال من البادية، فزحف بهذا الجيش مسرعًا إلى القصيم، وقد دفع الراية إلى مطرف، وكان مسيره في آخر محرم يريد ابن رشيد في الثويرات من عقلة الزلفي لما ذكر له أنه معسكر هناك، وكانت أمكنة وعرة كثيرة الرمال.
ولما أن زحف إليه لم يدركه هناك، وكان ذلك في 17 صفر، وهذا في يوم من أيام الربيع العاصفة الماطرة التي لا يطيب الحرب ولا الغزو فيها للرياح والأمطار، فقد يدنوا المتحاربون بعضهم من بعض دون أن يشعروا بذلك، فإذا هم فجأة في المهلكة الكبرى، وكان ابن رشيد يتراجع ليصل إلى الشقة فيجتمع هناك بصالح الحسن الذي جاءه مناصرًا مصالحًا، وقد أخذه الله قبل أن يجتمع به، وكان حامل رايته رجل يدعى الفريخ.
ذكر قتل عبد العزيز بن متعب سنة 1324 ه
ـ
لما أراد الله أن ينفذ فيه إرادته، جرى منه غفلة أهمل بها أمر العدو، ذلك لأمر يريده الله تعالى، فإنه سار ابن سعود مجدًا في طلبه طيلة ذلك اليوم، ثم إنه لما كان من آخر النهار توقف ابن سعود ورجاله عن تتبعه، وذلك لأن شدة الأمطار والرياح منعتهم من أن يواصلوا السير نحوه، فعاد كشافة ابن سعود يخبرونه بأنه على مسيرة ساعتين منهم، وقد نزل روضة مهنا، فعندها بادر ابن سعود ورجاله مشيًا على الأقدام كي لا يشعر العدو بقدومهم، ولكن بعض كشافة ابن رشيد
بادروا إلى أميرهم بالخبر، وقد نام فجعلوه يوقظونه وهو يتأنى ليقضي الله أمرًا كان مفعولا، فاستيقظ وشرع يذمر جيشه، وكان مؤلفًا من ستمائة من الحضر وألف ومائتين من البادية الخيالة، ثم أمر أن تضرم النيران، فكانت سببًا لهجوم الجيش عليهم، فهجم الجيش السعودي إلى ساحة القتال، ولم تنتصف ليلة 18 صفر إلا وقد اختلط الجيشان وتواقعا تحت جناح الليل.
وكان السعوديون قد هجموا على جناح شمّر فزحزحوهم، وصال في موضعهم بعدما تقهقر جنود ابن رشيد.
هذا وما علم ابن رشيد بهذا الهجوم، بل ركب حصانه وتبع راية ابن سعود يظنها رايته لأنها تقهقرت رايته وثبتت في مكانها، وهو ينادي من هنا يا لفريخ من هنا، يا لفريخ أيش هذا التدبير، يا لفريخ، ولكن ابن الفريخ قد تقهقر مع المتقهقرين، فلما عرف السعوديون صوته صاحوا ينادون بقولهم ابن رشيد، ابن رشيد، يا طالبيه، فصوبت البنادق وثار به بضع وعشرون رصاصة، فخرَّ صريعًا عن ظهر جواده يتخبط في دمائه، فأخذ الجيش السعودي سيفه ونزعوا خاتمه وألقوهما بين يدي عبد العزيز بن عبد الرحمن، ذبحناه وهذا سيفه وخاتمه يا إمام، ثم إنه قطع رأسه وذهب به ثلة من السعوديين إلى سوق بريدة وهم يقولون نحن أهل العوجا مروية السنين أسنة الرماح، وجعل المسلمون يستبشرون بقتله، وانتهت حياته المملوءة بالدماء وآخرها دمه.
وهذه ترجمته نذكرها وإن كان قد تقدم بعضها:
هو الأمير الخطير وذو الشأن الكبير والعلم في الشجاعة، الرفيع الشهير عبد العزيز بن متعب بن عبد الله بن علي بن رشيد بن عبد الله آل رشيد آل خليل آل جعفر آل عبدة الذي شهدت له بالشجاعة أبطال الرجال، وتضعضعت عن ملاقاته عناتيب الأشبال، هو الذي تنفست عنه جزيرة العرب في القرن الرابع عشر، فكان فارسًا شجاعًا وبطلًا مغوارًا إلى حد الهوج، وبلغت به شجاعته درجة من القساوة والسطوة تعدت به عن حد السياسة التي هي من شروط الأمراء الأساسية وأعلى
درجة من الشجاعة الهوجاء، فهو الجبار العنيد وذو البطش الشديد، ولد في أوائل 1274 هـ قبل وفاة والده باثنتي عشرة سنة، وقال عنه القائد التركي لا شاهد تلك الجرأة والبسالة: هذا فارس كعلي بن أبي طالب في الشجاعة لا غير، ولا أظنه سمع بقول القائل:
الرأي قبل سجاعة الشجعان
…
هو أول وهي المحل الثاني
ولم يكن على شيء من السجايا التي تحبب القائد إلى رجاله والحاكم إلى رعيته، بل كان جبارًا عنيدًا عتيًا لا أثر للخوف في قلبه ولا شيء من الرحمة والحنان، أضف إلى ذلك أنه قطوب عبوس كثير التلثم، فسمي العبوس المتلثم الذي قلما يتبسم.
فمن عنفه وشجاعته أن رؤيته تذيب الأبطال وذكره يزعزع الرجال، وقد يقتل ذكره، ونحن نسوق شيئًا من عجائب سطوته، فإنه كان في أيامه رجلٌ يكاتب ابن سعود، فعثر رصدته في بعض الأيام على كتاب هذا الرجل، فأخذوه وقدموه إلى ابن رشيد، فلما علم بموضوعه بعثه مع خادم وقال للخادم ألقه بين يدي كاتبه، فعجب لذلك الخادم وسأله مستفهمًا أيقتله؟ قال بل ناوله كتابه وأئتني، فذهب وعمل بأوامر سيده، ولما فتحه ذلك البائس إذا بكتابه الذي بعث به إلى ابن سعود قد وقع في يد ابن رشيد فانزعج لذلك وانقطع قلبه فمات، وذلك لأنه علم أن ابن رشيد قد اطلع على موالاته لعدوه، وسيعاقبه على ذلك، وما كان لأحد أن يجيره منه فمات لذلك.
ولما انهزم مرةً، ذهب إلى جهة حائل فنزل ضيفًا برجل في إحدى قرى حائل ومع خمسة من رجاله، فغيّر هيئته وأخفا خبره لأن لا يعرفه ربّ المنزل، ولا قدم المضيف طعام العشاء، قام على رؤسهم يروحهم، وكان كهلًا كريمًا، فأخذ ابن رشيد يحادثه على غير معرفة قائلًا له: يا رجل هل سمعتم عن هذا الظالم ابن رشيد، إنهم يقولون أنه انكسر وظهر عليه ابن سعود، فأخبرنا عن الأخبار وما جرى لهذا الفاجر، فتخلل صاحب المنزل بلسانه وأجاب بقوله: أبشرك بأن الله خذله، فلعل الله أن يريح منه المسلمين، فقد طالما كانوا في أذى منه، فأجابه قائلًا: يا
عم أكل الناس يبغضه؟ قال ومن يحبه لعنه الله، ولكن يجب ألا يسمعنا أحد فيبلغه ذلك، وكانت الذبيحة التي قدمها يتسامن المعز، فسكت ابن رشيد ثم جعل يقلب عصعص التيس ويقول: هذا تيس يلعن حيك يردد هذه الكلمة، وكان نور السراج ضعيفًا فجعل المضيف يقلب النظر فيه بين مصدق ومكذب لما عرف لغته وتذكر ابن رشيد فإذا هو فصرخ الرجل صرخة لما كان يعلمه عنه وكان مستندًا على الحائط واقفًا، فأزال الأمير الكوفية عن وجهه وبدره بقوله: لك عهد الله وميثاقه أن لا يصلك مني بأس، فإذا به قد سقط على الأرض وقضى نحبه، فعياذًا بالله من هذه الفظاظة.
وكان ذات يوم جالسًا للناس في الفلاة بين أصحابه، فاحسّ بشيء يلدغه في ظهره، فخاف أن تكون شيئًا من الحشرات التي لا تستحق الاهتمام، فسكت وتجلد حتى انتهى من عمله، ثم دخل إلى الخيمة وطلب أحد عبيده فجاء ورفع ثيابه فإذ ما بين كتفيه عقرب كبير يلدغ جلده، فصاح العبد مذعورًا وخشي أن يمس العقرب، فتناوله الأمير عبد العزيز بيده ورماه خارج الخيمة، ثم أمر الخادم أن يذر على مكان اللدغ رمادًا حاميًا، ونام الأمير بعد ذلك كأن لم يكن شيء، وكل هذا يدل على صلابته وشدته وحدته وقسوته، وكان في ظلمه وعسفه وجبروته تضرب به الأمثال، ولا ريب أنه نقمةً أحلها الله بأهل نجد وعذبهم به، وكان يبعث رجاله إلى أهل القرى تنهب البطيخ واليقطين والرطب والبرسيم، ومن أبى فإنه يؤخذ ظهره بالضرب والتعذيب، وكان يبعث إلى أرباب البقر من يأتي بألبانهم إليه فبعدما يحلبونه ويمخضونه على مرأى من الأطفال والعوائل، ينتظرون خادم الأمير فيطرق الباب ويأخذه، وقد يبعث إلى أهل البيت بسبعة ريالات أو ستة لعلف البقر، أضف إلى ذلك مسائل أخرى من المحن.
وقد وصل في هذه الدرجة إلى أشياء يستحي من ذكرها، بلغت في التسفل إلى غاية لا يرضاها لنفسه كريم، وجرَّ عساكر الأتراك إلى نجد، وأهان أهل الدين والعلم وأجلاهم عن الأوطان، ولم يرع لكبير حرمة، ولم يعامل ضعيفًا برحمة،
وشدد الوطأة على الأغنياء حتى عزم على قتلهم، ثم إنه بدا له بعد ذلك أن يسبي أموالهم، وجعل عليهم ضرائب أرهقهم بها، ولقد فرح بقتله المسلمون حتى قومه من شمّر، وذلك لما كابدوه من الأهوال والحروب معه، ولما قتله الله على يدي جلالة الملك ابن سعود، وتحقق قومه قتله، أطلقوا أعنة ركابهم فارين منهزمين إلى حائل ولم يرى ابن سعود تتبعهم، فما أذن لرجاله أن يتعقبوهم.
وكان سنه يوم قتل خمسين عامًا، وقد أنشأ الأديب الشيخ حسن بن علي بن نفيسة الحنبلي قصيدة في قتل ابن رشيد وما جرى لابن سعود من النصر، وهي هذه:
لك الحمد يا منان والفضل والشكر
…
لقد قلت أن العسر يتبعه اليسر
ففرجت عنا الكرب من بعد ذلنا
…
تفضلت بالأنعام إذ مسنا الضر
ترينا بعدلٍ منك إظهار عجزنا
…
فتعطف بالحسنى علينا فتستر
فتحت لنا فتحًا وأظهرت أمرنا
…
وقدرت منا الحد فاعتدل النصر
لقد حشدوا أهل الشقاق وألبوا
…
جنودًا كأوباش الحما لها القفر
نجوم نفاق في قرى نجدنا بدت
…
ولكن خفت لما سمي فوقها البدر
وكل على ساق العداوة قائم
…
حراصًا لو اسطاعوا لنا فرصة كروا
وقد أجهد الطائي في حرب شيخنا
…
وحاول أمرًا والإله له أمر
وكاد ولم يترك خنا وخديعة
…
ولم يدر أن السوء يمحقه المكر
أتى بطغام أعسرين وأنهم
…
لدى القرن ميل إذ يصادمهم نفر
وساقهمو سوقًا حثيثًا لحينهم
…
ففاتهم الإقبال وأنهتك الستر
نشا العارض النجدي يبرق غدوة
…
كعارضٍ عاد حالك قذفه جمر
ولكنه للمسلمين مسرة
…
وبالعكس للطاغين يمطرهم شر
بوارقه حد الضباة ورعده
…
قواصف من أفواه ما أنتج الكفر
فسيَّره الرحمن قصدًا إليهم
…
وميكاله ليث الشرى ويعضل الكسر
إذا فل يومًا للمعادين راية
…
عليها عقاب الطير حلق والنسر
نصف على كل الخميس كواسر
…
وفي ظلها يشتد من ضمه الجمر
معودة من كفه واسع الغني
…
تضل شهورًا رزقها طيب وفر
فلما أراد الله يقضي مراده
…
وأنَّى لأمر حمَّه الله يزور
تحلب جوا فوق كل منافق
…
وصبت عز إليه الدما منهم نثر
وحيط بهم من كل أفقٍ وجانبٍ
…
فإذا عاينوا الأبطال خاروا وما فروا
فدقتهو والله ينفذ أمره
…
رحى الحرب ذا قتل وذا شده الأسر
فقل عزاهم عند عظم مصابهم
…
وحان بلادهم عندما استحكم الوزر
أميرهم المختال أكبر رزئهم
…
صريعًا وقد حضين من دمه النسر
فأكرم بها من وقعةٍ لو شهدتها
…
ولكن بحمد الله فيها لنا وفر
فأنا لهم من عصبةٍ مقرنية
…
مصاليت في الهيجا أسود لها زئر
سراعًا إلى الجلاد بطاء عن الخنا
…
ميامين هم ذخر لمن ضده الدهر
إذا رفدوا أغنموا وان عاهدوا وأوفوا
…
وإن سالموا سروا وإن حاربوا ضروا
وإن سئلوا جادوا بما في أكفهم
…
فلم يدر مجتدى متى خلق الفقر
حليفهم في شاهق العز ثاويا
…
وعيشهم خصب ونائلهم غمر
إلخ، وهي طويلة تضمنت مديح آل مقرن والثناء عليهم.
أما أولاد عبد العزيز بن متعب بن رشيد، فكانوا أربعة متعب، ومشعل ومحمد وسعود، فأما متعب فهو الذي تولى الإمارة بعد أبيه.
وأخر ما نقول عن عبد العزيز بن متعب أنه أوتي شجاعة غير أنه لم يؤت سياسة وقديمًا قيل:
أعطيت ملكًا فلم تحسن سياسته
…
وكل من لا يسوس الملك يخلعه
أما مبارك بن صباح فقد حيرته الأقدار وغلبت فكرته حيث لا تغلب.
وكان لما عنف بالكلام على ابن سعود وصالح ابن رشيد لم يشعر إلا وقد أحاط الله بابن رشيد، فبعث بكتاب إلى أين سعود لما علم بقتله كأنه لم يعلم، وكان هذا الكتاب طويلًا عريضًا يقول فيه:(إني لك دائمًا يا ولدي يا عبد العزيز أنا أبوك وعونك وعضدك ولم أصالح ابن رشيد إلا لأقهر الترك، ولكني مستعد أن أمدك بما تحتاج إليه من المال والرجال، المال مالك يا ولدي يا عبد العزيز والحلال والحرام).