المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وهذه صفة المعركة بتربة رسما - تذكرة أولي النهى والعرفان بأيام الله الواحد الديان وذكر حوادث الزمان - جـ ٢

[إبراهيم بن عبيد آل عبد المحسن]

فهرس الكتاب

- ‌ثم دخلت سنة 1320 ه

- ‌ذكر رجوع الإمام عبد الرحمن بن فيصل إلى الرياض بعد إقامته في الكويت

- ‌ثم دخلت سنة 1321 ه

- ‌ذكر تقدم ابن رشيد إلى الرياض

- ‌ذكر الاستيلاء على القصيم

- ‌ذكر ذهاب ابن رشيد إلى الدولة العثمانية يجرّها على المسلمين سنة 1321 ه

- ‌ثم دخلت سنة 1322 ه

- ‌ذكر واقعة البكيرية والشنانة وما جرى فيهما من الخطب الفادح

- ‌ذكر واقعة الشنانة وما جرى من ابن رشيد

- ‌ذكر واقعة وادي الرمة سنة 1322 ه

- ‌ثم دخلت سنة 1323 ه

- ‌ذكر ذبحة الحواشيش وما جرى من قساوة ابن رشيد

- ‌ الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم

- ‌ذكر قضائه وسعة علمه وحلمه وكيفيته وصفته

- ‌ذكر كراماته ومكاشفاته وماله من خوارق العادات

- ‌ذكر تلامذته والآخذين عنه

- ‌ذكر ما جرى عليه من الأمور وثقته بالله العزيز الغفور

- ‌ذكر أولاد الشيخ رحمه الله

- ‌ذكر الحركة والتقلبات في القصيم

- ‌ذكر أمر صالح الحسن بن مهنا

- ‌ثم دخلت سنة 1324 ه

- ‌ذكر قتل عبد العزيز بن متعب سنة 1324 ه

- ‌ذكر إمارة متعب بن عبد العزيز بن رشيد وما جرى من الحوادث

- ‌ذكر قتل صالح الحسن بعد إجلائه

- ‌ذكر المفاوضات بين ابن سعود وبين مندوب الدولة

- ‌ذكر رحيل الأتراك عن القصيم سنة 1324 ه

- ‌ذكر إمارة أبي الخيل في بريدة

- ‌ثم دخلت سنة 1325 ه

- ‌ذكر واقعة الطرفية الصغرى

- ‌ذكر واقعة السباخ

- ‌ذكر قتل سلطان بن حمود بن رشيد أمير حائل

- ‌ثم دخلت سنة 1326 ه

- ‌ذكر إمارة الحسين بن علي الشريف

- ‌تعريب الفرمان الذي صدر لحسين بن علي أمير مكة المكرمة

- ‌ذكر استقبال الحسين بن علي لما قدم الحجاز

- ‌ذكر ابن سعود ودخول بريدة في ولايته للمرة الثانية

- ‌ذكر ما جرى من الحوادث

- ‌ذكر قتل داعية الضلال عبد الله بن عمرو آل رشيد

- ‌ثم دخلت سنة 1327 ه

- ‌ذكر إمارة بريدة وقضائها

- ‌ثم دخلت سنة 1328 ه

- ‌ذكر الانقلاب في الدولة العثمانية

- ‌ذكر إمارة سعود بن عبد العزيز بن متعب

- ‌ثم دخلت سنة 1329 ه

- ‌ذكر حرب إيطاليا للدولة العثمانية

- ‌ذكر وفاة الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ

- ‌أخبار زاهد

- ‌ذكر نهاية أمر الشيخ إبراهيم بن جاسر

- ‌ثم دخلت سنة 1330 ه

- ‌ذكر مطلب الوحدة العربية

- ‌ذكر العداء بين الشريف حسين وابن سعود

- ‌ذكر ما جرى من العرائف والهزازنة

- ‌ثم دخلت سنة 1331 ه

- ‌ذكر فتح الإحساء سنة 1331 ه

- ‌الاستيلاء على القطيف سنة 1331 ه

- ‌ثم دخلت سنة 1332 ه

- ‌ذكر عقد المعاهدة بين ابن سعود وتركيا سنة 1322 ه

- ‌ذكر هادمة العهود ومفرقة الوفود وهي الحرب العظمى سنة 1332 هـ الموافق لسنة 1914 م

- ‌ألمانيا تعلن الحرب على روسيا وفرنسا

- ‌زحف ألمانيا على البلجيك

- ‌قتال روسيا في الجبهة الشرقية

- ‌بلغاريا تعلن الحرب على صربيا

- ‌ذكر الطراد أمدن وما جرى منه وعليه

- ‌ثم دخلت سنة 1333 ه

- ‌ذكر مساعي بريطانيا العظمى وقيامها ضد تركيا

- ‌مفاوضة الفريقين للشريف

- ‌ذكر النهضة العربية واتفاق الشريف مع الإنكليز

- ‌ذكر وقعة جراب سنة 1333 ه

- ‌ذكر التعريف بالعجمان

- ‌ثم دخلت سنة 1334 ه

- ‌وهذه ترجمته:

- ‌ مبارك بن صباح آل صباح

- ‌ذكر اتفاق ابن سعود مع الإنكليز وعقده معهم

- ‌معاهدة العقير سنة 1334 ه

- ‌ذكر الخلافة وعقد الحسين مع بريطانيا

- ‌ذكر إعلان الثورة

- ‌ذكر الحرب في المدينة والسواحل

- ‌ذكر الحرب في دمشق

- ‌ثم دخلت سنة 1335 ه

- ‌ذكر توتر العلاقات بين ابن سعود وبين الشريف

- ‌ثم دخلت سنة 1336 ه

- ‌ذكر اتفاق فلبي مع ابن سعود

- ‌ذكر سكون العرب العظمى

- ‌ذكر البدو والهجر

- ‌أسماء الهجر

- ‌ثم دخلت سنة 1337 ه

- ‌ذكر واقعة تربة

- ‌ذكر الهول في وقعة تربة

- ‌وهذه صفة المعركة بتربة رسمًا

- ‌ذكر صدقه في معاملته لربه وثقته به

- ‌ذكر ما جرى على تركيا من الهوان

- ‌ثم دخلت سنة 1338 ه

- ‌ذكر سوء التفاهم بين صاحب الجلالة عبد العزيز بن سعود وبين سالم بن صباح

- ‌ثم دخلت سنة 1339 ه

- ‌ذكر أنجال الشريف وإمارتهم

- ‌عبد الله بن الحسين

- ‌فيصل بن الحسين

- ‌زيد بن الحسين

- ‌ذكر واقعة الجهراء

- ‌ذكر جوده وكرمه

- ‌ذكر تدريسه وسعة علمه

- ‌ذكر شجاعته ونباهته وصفته ومقاماته في الإسلام

- ‌ذكر ثناء العلماء عليه وميل الناس إليه

- ‌إمارة عبد الله بن متعب بن رشيد وقتال أهل حائل بساحة دارهم

- ‌ذكر إمارة محمد بن طلال

الفصل: ‌وهذه صفة المعركة بتربة رسما

‌وهذه صفة المعركة بتربة رسمًا

[صورة]

ص: 248

وعندما وصلوا هكذا في منتصف ليلة 25 شعبان هجموا هجمة واحدة، وكانت الخيالة قد جاءت من وراء مخيم الأمير لتقطع عليه خط الرجعة، فتقدم خالد ومعه الذين شردوا من تربة فدخلوا الباطن ليستولوا على مخيم الأمير، مشوا وسلاحهم الأبيض يلوح في ظلام شفاف، فرفع الإخوان أصواتهم بالتهليل والتكبير فاصطدموا بالسرية الأولى من الجيش الحجاز فذبحوا رجالها كلهم، وكذلك السرية الثانية ثم هجموا على السرايا المقيمة عند مخيم الأمير فتكوا بهم فتكًا هائلًا، وهجم سلطان بن بجاد برجاله وكله من أهل الغطغط على الجنود النظامية وراء المتاريس والأطواب فكانت السيوف تشتغل كالمقاصل، وكان الرجل من أهل الغطغط يثب على المدفع فيذبح الضابط المقيد ورائه بالحديد، ولكن هم يظنون أنهم يبطشون بالإخوان.

أما فرقة الخيالة فقد قطعت خط الرجعة خصوصًا على حرس الأمير فلم ينجو منهم غير الأمير نفسه وبعض الضباط، ونجاب ابن سعود الثاني، وفرَّ عبد الله قبل أن يصل خالد ورجاله إلى سرايا الخيم فثبت بعضهم في النضال ليردوا العدو عن تعقبه وسقط من حاول الفرار صريعًا بين سنابك الخيل.

أما الذين نجوا من الذبح تلك الليلة ولم يستطيعوا الفرار فقد التجأوا إلى حصن من حصون البلد، فهجم الإخوان عليهم في اليوم التالي وجعلوا خاتمة المذبحة كأولها، فتراكمت الجثث بعضها فوق بعض، وكان من اللاجئين إلى ذلك الحصين الشريف شاكر، فكتبت له النجاة ونجا معه شاب من الأشراف اسمه عون بن هاشم سنة إذ ذاك خمس عشرة سنة، وكان يقول لمن يحدثه عن هول ذلك اليوم رأيت الدم يجري في تربه كالنهر بين النخيل فكنت بعدها قد بقيت سنتين عندما أرى المياه الجارية أظنها والله حمراء، ورأيت القتلى في الحصين متراكمة قبل أن طحت من الشباك، ومن عجب ما رأيت أن الإخوان أثناء المعركة يدخلون الجامع ليصلوا ثم يعودون إلى القتال، ثم لم ينج من جيش الأمير النظامي غير ستة ضباط واثني عشر جنديًا، ولم ينج من البدو غير من سلموا وانضموا إلى جنود خالد وأكثرهم من عتيبة وعددهم لا يتجاوز الألف.

ص: 249

فكانت هذه الواقعة هائلة خيم فيها الموت وتطايرت الرؤوس عن الأجسام، وجرت الدماء كأنها السيل والذين قتلوا في الوقعات من جنود الشريف على طريق الضبط خمسة آلاف مقاتل ولم يفلت غير الأمير عبد الله وستة ضباط واثني عشر رجلًا، واثنين من الأشراف وهما شاكر وعون، وفرَّ بقية المنهزمين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، وأدار الله دائرة السوء على الشريف وجنوده وقفت هذه الواقعة على آماله، وقتل من الإخوان أربعمائة لأنهم ألقوا نفوسهم على المكائن الرشاشة والأطواب، وقتل من أهل تربة والخرمة مائة فقط، ثم صارت هذه الأسلحة الثقيلة والخفيفة وجميع الأملاك والألات والأدوات التي استولى عليها عبد الله بن الحسين من الدولة الغابرة في كتابه الأول بتاريخ ربيع الثاني ملكًا لابن سعود وخسرها كلها الشريف بعد كتابه المشار إليه بأربعة أشهر واستولى عليها ابن سعود.

ومما هو جدير بالذكر أن الحسين قد جهز هذه الحملة بكل ما يملك من سلاح ومدافع ورشاشات حديثة مما كان أخذه من الحلفاء وغيرها من الأسلحة، فكانت من حسن حظ ابن سعود سلحت جيشه بأحدث الأسلحة بقدر ما أضعف من خصمه الحسين.

وكان ابن سعود قد حشد جيشًا عدده اثنا عشر ألف مقاتل، وجاء بهم قادمًا من نجد فزعةً لأهل الخرمة وتربة من هذا الظالم الشريف، ولم يعلم بما جرى إلا بعد الواقعة بخمسة أيام فلما زحف بهذا الجيش العرمرم التقي في الطريق بين ماء الفيصلية والخرمة بالنجاب الشارد فقص عليه الخبر، فاستمر عبد العزيز سائرًا إلى الخرمة ومنها إلى تربة فلما دنى منها رأى جثت القتلى كأنها الجبال فخنقته العبرة، وبكى لهذه الجزرة الهائلة وأمر بدفنهم، فجمع بين يديه الأثاث والآلات والأسلحة النارية فاستولى عليها.

وما كاد يستقر في تربة حتى صاح الإخوان بأصواتهم إلى الطائف رخص لنا بالطائف يالإمام، فمنعهم قائلًا: كفى الباقي جزاء بغيه.

ص: 250

وقد قال الشيخ حمد بن مزيد قاضي قبة قصيدة طويلة يهنئ فيها صاحب الجلالة بهذا الفتح وذكر فيها كيفية ما جرى، فلنذكر شيئًا من أبياتها وهي قوله:

الحمد لله ذي الآلاء مولانا

حمدًا كثيرًا على ما كان أولانا

وأشكر الله شكرًا لا نفاد له

وليس يحصى لذي الأنعام شكرانا

وحسبنا الله مولانا وناصرنا

على الذي رام للإسلام خذلانا

لقد أتى ابن حسين الوغد في خيلًا

بالكبر والفخر والإعجاب سكرانا

على ذوي الدين والإِسلام ذا حنقٍ

بالغيض والحقد والعدوان ملآنا

يقول جندًا كثير العدِّ ذا عدد

كادت تضيق به أفواه ريعنًا

بدوًا وحضرًا وإسقاطًا ملفقه

من كل قطر وأتراكًا وسوادنا

جاءوا بهولٍ عظيمٍ من مدافعهم

مع المكائن تحكي ضوء نيرانا

قد سلسلوا عندها أصحابها حذرًا

من أن يفروا إذا وقت الوغى حانا

جاء يريد إطفاءً لنور هدى

وينقضوا من الإِسلام أركانا

إذ جاء صيتان من عد الخبيث بما

يهيج من قلبِ ذي الإيمان أشجانا

وقال إخوانكم بالأمس قتلهم

وظل يسبي لأهل الدين نسوانا

فبادروا بالبكا حتى كأنهموا

ثكلى أعاد عليها الدهر أحزانا

وما استكانوا لذاك الهول بل صبروا

واستمنحوا الله تثبيتًا وإيمانا

سلوا السيوف وبانوا من ثيابهموا

واستبدلوها سرًا ويلًا وأكفانا

جاؤه في حفرٍ في الأرض خندقها

أعدَّ فيها دناميتًا ونيرانا

وخالطوهم عيانًا في خنادقهم

وأثخنوهم بحد السيف أثخانا

لما رأوا فعلهم فيهم وصبرهموا

ألقو سلاحهموا ذلًا وإذعانا

وظل جند الهدى بالبيض ليحصدهم

حصاد زرعٍ هشيم وقته حانا

لم ينج منهم سوى قوادهم هربوا

على جيادٍ لهم ذعرًا لما كانا

وخلفوا خلفهم رغمًا مدافعهم

مع المكائن مع بز وعقيانا

إذ فلَّ عبد العزيز الشهم رايته

وجاد بالنفس في مرضاة مولانا

ص: 251

في عصبةٍ من بني الإسلام عادتهم

يوم التحام الوغى تصريع أقرانا

وحارب النوم مع حلو الطعام ولم

يشرب لذيذًا ولو أن كان عطشانا

وظل كالأسد الموذى بغايته

له زئير ولم ينفعك غضبانا

حتى يضرج من آذاه في دمه

ومنه يخضب أظفارًا وأسنانا

إلى آخر القصيدة وهي طويلة أثابه الله.

ونحن نسوق قصيدة جادت بها قريحة شاعر نجد الشيخ محمد بن عبد الله بن عثيمين في هذه المناسبة فإنه قال: الحمد لله معز من أطاعه، ومذل من خالف أمره وأضاعه، يبتلي ويختبر، ثم يعيد الكرة لن أطاعه وينتصر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة موحد بلسانه وعمله وقلبه مستقبل من عثرانه وذنبه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المؤيد بالعصمة، القائل:"إن من الشعر لحكمة" صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه مصابيح الظلمة.

وبعد فإني نظمت في معالي إمام الهدى والدين حامي حوزة الإسلام والمسلمين الناصر لهم بسيفه وسنانه المؤيد في أفعال يده وأقوال لسانه إنسان عين الوجود وجوهر الموجود، عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود، ثم قال بعد ذلك:

عج بي على الربع حيث الرند والبان

وإن نأى عنه أحباب وجيران

فللمنازل في شرع الهوى سنن

يدري بها من له بالحب عرفان

وقل ذاك لمغنى قد سحبن به

ذل التصابي برسم الشجو غزلان

القاتلات بلا عقل ولا قود

سلطانهن على الأملاك سلطان

لله أحرر ساجي الطرف مقتبل

عذب اللمى لؤلؤي الثغر فتان

عبل الروادف يندى جسمه ترفًا

ظامي الوشاح لطيف الروح جذلان

كأنما البدر في لألاء غرته

يا ليت يصحب ذاك الحسن إحسان

يهتز مثل اهتزاز الغصن رنحه

سكر الصبا فهو صاحي القد نشوان

لو كان يمكن قلنا اليوم أبرزه

لينظر الغاس كنه الحسن رضوان

ص: 252

قد كنت أحسب أن الشمل ملتئمٌ

والحبل متصلٌ والحي خلطان

فاليوم لا وصل أرجوه فيطمعني

ولا يطيف بهذا القلب سلوان

في ذمة الله جيرانٌ إذا ذكروا

هاجت لذكرهم في القلب أحزان

فارقتهم أمتري أخلاف سائمةٍ

يسوقها واسع المعروف منان

لعل نفحة جودٍ من مواهبه

يروي بها من صدى الأقفار عطشان

أريش منها جناحًا حصه قدر

شكى تساقطه صحبٌ وإخوان

وفي اضطراب الفتى نجح لبغيته

وللمقادير إسعادٌ وخذلان

فاربأ بنفسك عن دار تذل بها

لو أن حصبائها درٌ ومرجان

طفت المعالم من شامٍ إلى يمنٍ

ومن حجاز ولبتني خراسان

فما لقيت ولن ألقي ولو بلغت

بي منتهى السد هماتٌ ووجدان

مثل الجحا جحة الغر الذين سموا

مجدًا تقاصر عن علياه كيوان

الضاربي الكبش هبرًا والقنا قصدًا

والتاركي الليث يمشي وهو مذعان

والفارجي غمم اللاجي إذا صفرت

أوطابه واقتضاه الروح ديان

والصائنين عن الفحشا نفوسهم

والمرخصيها إذا الخطى أثمان

خضل المواهب أمجاد خضارمة

بيض الوجوه على الأيام أعوان

غر مكارمهم حمر صوارمهم

خضرٌ مراتعهم للفضل تيجان

لكن أوراهم زندًا وأسمحهم

كفا وأشجعهم أن جال أقران

عبد العزيز الذي نالت به شرفًا

بنو نزار وعزت منه قحطان

مقدم في المعالي ذكره أبدًا

كما يقدم باسم الله عنوان

ملك تجسد في أثناء بردته

غيثٌ وليثٌ وإعطاءٌ وحرمان

خبيئة الله في ذا الوقت أظهرها

وللمهيمن في تأخيرها شان

ودعوةٌ وجبت للمسلمين به

أما ترى عمهم أمن وإيمان

حاط الرعية من بصرى إلى عدنٍ

ومن تهامة حتى ارتاح جعلان

فجددوا الشكر للمولى وكلهم

يدعو له بالبقا ما بقى إنسان

ص: 253

ورب مستكبرٍ شوس خلائقه

صعب الشكيمة قد أعماه طغيان

تركته وحده يمشي وفي يده

بعد المهند عكاز ومحجان

وعازبٍ رشده إذ حان مصرعه

بخمرة الجهل والإعجاب سكان

أمطرته عزمات لو قذفت بها

صم الشوامخ أضحت وهي كثبان

عصائبًا من بني الإسلام يقدمهم

من جدك المعتلي بالرعب فرسان

ويل أمه لو أتاه البحر ملتطمًا

أذية الأسد والأجام مران

لأصبح الغر لا عينٌ ولا أثر

أو شاعفته قبيل الصبح جنان

ومشهد لك في الإسلام سوف ترى

يوفى به لك يوم الحشر ميزان

نحرت هديك فيه الشركين ضحى

فانحر فنحر سواك المعز والضأن

أرضيت آبائك الغر الكرام بما

جددت من مجدهم من بعد ما بانوا

نبهت ذكرًا توارى منه خير علا

للمارقين ضباب فيه دخان

فجئت بالسيف والقرآن معتزمًا

تمضي بسيفك ما أمضاه قرآن

حتى انجلى الظلم والأظلام وارتفعت

للدين في الأرض أعلامٌ وأركان

دينٌ ودنيا وبأسٌ في الوغى وندى

تفيض من كفه بالجود خلجان

هذي المكارم لا ما روى عن هرمٍ

ولا الذي قيل عمن ضم غمدان

أقول للعيس إذ تلوي دفاريها

لإلفها ولها في الدو تحنان

ردي مياهًا من المعروف طاميةً

نباتها التبر لا شبح وسعدان

تدوم ما دام للدنيا بشاشتها

فاسلم فأنت لهذا الخلق عمران

ثم الصلاة على الهادي الذي خمدت

في يوم مولده للفرس نيران

والآل والصحب ما ناحت مطوقةٌ

خضبًا يميد بها في الدوح أغصان

ولما انهزم القائد عبد الله وفرَّ من بين رجاله على فرسه حاسر الرأس، حافي القدمين، وصل إلى الطائف وأثرت تلك الهزيمة في نفسه، ثم ألقى العمامة عن رأسه التي هي شارة الأشراف وآلى على نفسه أن لا يضعها على رأسه بعد ذلك حتى يتم له الأخذ بالثأر من ابن سعود، غير أنه شعر بغلطته وأنه لو احتاط للأمر وأصغى إلى نصح أحد لما حل به وبجيشه ما حل، وأنب نفسه.

ص: 254

ولما أن جرت واقعة تربة كما ذكرنا ارتج لها الحجاز ودوت بها اللاسلكيات في مشارق الأرض ومغاربها، وقام الحسين وقعد خوفًا على الحجاز، وسمع بها نجله فيصل وهو إذ ذاك ملك على سوريا فأرسل عددًا من الجنود السورية تبلغ ثلاثمائة وصلت إلى جدة بعد الواقعة، ولكن كيف يصنع الحسين بهذا العدد القليل وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأضاف إلى هؤلاء مائتين وجعل عليهم وزير حربيته محمد القيسوني، وخاطب رئيس حكومته عبد الله سراج يطلب منه الرأي في هذه المحنة فلم يجد لديه إلى الرأي الحازم، وهو متابعة الحرب ودفع الغزاة دفعًا لا هوادة فيه، ولكن أين الجيش، أين الغزاة، وعلى أثر ذلك خاف الحسين من النجديين أن يقتحموا الحجاز، ولكنه عاد ابن سعود إلى نجد بعدما أقام خمسة عشر يومًا في تربة، ولا يعلم ما الذي حمله على العودة.

وقد حامت حول الخطة عبارات المؤرخين، فقد قيل أنه اكتفى بما نال الحسين من الخيبة والفشل، ولم يرَ في تلك الفرصة السانحة أن يتقدم إلى الحجاز وأن الساعة لم تحن، وإلا فلو تقدموا تلك الساعة إلى الحجاز لما وجدوا أقل مقاومة، لأن الجيوش الهاشمية انحلت، ويتعذر جمعها، بل إن البادئ بالعدوان هو الشريف، فإن عبد العزيز التصف بالإناءة والحلم اكتفى بما نال خصمه، وأمر الإخوان بالرجوع إلى نجد وهذا احتمال حسن.

ولكن الصحيح أن الشريف حسين بن علي لما بلغت به الساعة الحربية غايتها حقوق الطلب من رئيس حكومته أن يتصل بسفير بريطانيا بجدة المستر "بولارد" يرجوه التدخل في شؤون هذه الشكلة الجديدة ويرد ابن سعود عن حدود الحجاز، فوعده بالسعي بعد أن قال له: أردنا أن نتدخل في الأمر من قبل فأبيتم، فاتصل السفير بلندن ورفع شكاية الشريف وطلبه حماية بلاده، وكان الشريف قد ذكر الإنكليز وعودها وعهودها، فجاء البلاغ من بريطانيا العظمى للسفير فكتبه وسلمه إلى محمد الطويل ناظر الجمارك ليسلمه إلى الحسين بمكة، فاستلم الشريف حسين البلاغ وبعث به إلى ابن سعود في تربة، وهذه صورته:

ص: 255

في ظهر 15 رمضان سنة 1337 هـ أمرتني حكومة جلالة الملك أن أبلغكم بأن تعودوا إلى نجد حالما يصل إلى يديكم كتابي هذا وتتركوا تربة والخرمة منظقة غير مملوكة حتى مفاوضات عقد الصلح وتحديد الحدود، وإذا أبيتم الرجوع بعد الاطلاع على هذا الكتاب فحكومة جلالة الملك تعد كل معاهدة بينكم وبينها لاغية، وتتخذ ما يلزم من التدابير ضد حركاتكم العدائية، وبالعكس تقدر عملكم إذا عدتم وتعتبر أنكم قمتم بحقوق الود والولاء وأخذتم بنصائحها الودية لأنها تعد الجميع أصدقاء لها، وهي تأسف أشد الأسف لما وقع بين أصدقائها سواء أكان النصر في جانبكم أو في جانب الحسين.

وما كاد ابن سعود يتم قراءة الخطاب الوارد عليه من السفير البريطاني إلا وهو ينادي بالرحيل في قومه، وغادر تربة والخرمة عائدًا إلى نجد، ورد على السفير وسلم رسوله الرد، وبارح تربة ميممًا بلاده حشية أن يكون سببًا في تدخل الأجانب في الحرمين، ولم تكتف بريطانيا ببعث ذلك الخطاب خوفًا من بأس ابن سعود وعدم إذعانه لنصحها بعدما حازه من نصر، فبادرت بإجابة طلب الحسين وأحضرت بواخر حربية رست في ميناء جدة تحمل كمية من المعدات والطائرات، وهمت بإنزال معداتها في رصيف خاص سمي سقالة الإنكليز.

ذكر الوباء (1) ومن توفى في هذه السنة

هذه السنة يؤرخ بها أهل نجد ويعرفونها بسنة الرحمة، لأنه وقع فيها طاعون والعياذ بالله، وهلك بسببه في قلب الجزيرة العربية ألوف من الأنفس البشرية، وكان عظيمًا، وفشى الرض في الناس وقلِّ من يسلم منه، وقد ذكر لنا عن شخص أصابه

(1) وكان وقوع الوباء في أوائل هذه السنة، وكان عامًا في نجد والإحساء والعراق وجميع المدن على الخليج العربي، واستمر ثلاثة أشهر والعياذ بالله، وبسببه هجرت مساجد وخلت بيوت من السكان وهملت المواشي في البراري، فلا تجد لها راعيًا ولا ساقيًا.

ص: 256

ذلك المرض فسلم، قال إني رأيت فارسًا أقبل علي وبيده رمح فأراد أن يطعن قلبي فأخطأه إلى الجنب الأيسر.

وكان الوباء فيما يزعمه أهل الكشف بأنه جراثيم قتالة لا تدركها العيون المجردة، ولهذه الجراثيم وخز خفي دونه وخز الرماح، هنا أقول فيه غير أننا نذكر ما نحن بصدده: فذكر لنا أن رجلًا من أهل الديانة والفضل موطنه بلد المذنب في القصيم، رأى في بداية هذا الطاعون في منامه كانه خارج البلد، فرأى فارسين خرجا من خلف أكمةً هناك سلاحمها ولباسهما وخيلهما البياض، فخاف لذلك خوفًا شديدًا وقام هاربًا من سطوتهما يعلوه الفزع والاضطراب، غير أنه لم يستطع السعي لشدة الهول حتى أدركاه فسلما عليه وسكناه بقولهما لا بأس عليك قائلًا: لا نقصدك وإنما نريد أهل هذه القرية، فوالذي لا إله غيره لأن لم يتوبوا لنفعلن بهم كما فعل بقوم هود أو قوم لوط، ثم دخلا قرية المذنب فاستيقظ من رقدته، وكان له ورد من آخر الليل يصلي ما بدا له ثم يوقظ أهله ويذهب هو إلى السجد، غير أنه هذه المرة عجز عن النهوض من منامه حتى أيقظه أهله وأقاموه، فتوضأ وذهب إلى المسجد بعدما طلع الفجر فحينما دخل السجد وجد الناس في الصلاة إذ سقط رجل خلف الصف ثم سقط آخر من الصف، ثم فشى الوباء.

وقد حدثني ثقة قال: مرض إمام مسجدنا ومؤذنه والواعظ الذي يرشد في المسجد، فكنت أؤذن وأصلي بهم وأعظ، وقد كان يصلي في المسجد الواحد في اليوم الذي هو اثنتا عشر ساعة على ما يربو عن مائة جنازة حتى تكسرت النعوش وجعلوا عوضًا عنها أبوابًا وبسطًا تحمل بها الموتى، وهلك من بعض بيوت أهل القصيم قدر من ثلاثة أرباعها، ومرض أهل بيت كلهم غير واحد كان يتولى قضاء حوائجهم ويقوم بميانته وكانوا اثني عشر من الأنفس البشرية، فكان ذلك الصحيح يتولى رعايتهم عنايةً من الله في تسخيره لهم، يتولى شؤونهم، وكان يقول إنني أنا مريض مثلهم غير أني لم أجد فرصة للنوم والمرض، ولقد كان المحسن من الناس من همه حفر الحفور والنقل إليها.

ص: 257

فممن توفى فيها من الأعيان تركي بين جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، وكان بكره ويكنى به وموضع الأعاجب منه لما له من الصرامة والشجاعة، وترى علامات النجابة عليه رحمه الله تعالى، وتوفى أيضًا إخوان له من أنجال الملك، وسنذكر بعض الأعيان:

فمنهم أخونا وشقيقنا عبد الرحمن بن عبيد بن عبد المحسن وهذه ترجمته:

هو الشيخ الشاب الأديب النبيه العارف الذكي ذو العلوم الربانية والمنح الألهية، العالم عبد الرحمن بن عبيد بن عبد المحسن آل عبيد قدس الله روحه ونور مرقده وضريحه، كان رحمة الله عليه عاقلًا ذكيًا مهيبًا، حفظ القرآن عن ظهر قلب وأخذ عن الشيخ عمر بن محمد بن سليم، ويحفظ المعلقات السبع وله معرفة تامة في علم الحديث والفقه واللغة، وجد واجتهد ونافس في نيل العلوم والسعي في طلبها، فأدرك ما قصر عن نيله غالب الأماثل، ونال مقام أولى النهى والفضائل، وكان قارعًا للشعر فصيحًا بليغًا منطقيًا جهوري الصوت، لا يمل الطالعة والمراجعة، وله بعض المؤلفات وغالبها ردود على أهل المخالفات لأنه نشأ في زمان كثر فيه الشقاق وظهرت علامات النفاق.

وكان والدنا السعيد يعجب من كثرة اجتهاده وحلاوة منطقه، ولما رآه بهذه المثابة فرغ بآله عن الأشغال وتركه وشأنه مكفي المؤنة، فلازم الشيخ عمر بن محمد بن سليم وتخرج عليه، واستمسك بغرزه حضرًا وسفرًا حتى صار آية من آيات الله، وأعجب به شيخ ورأى علامات القبول لائحة عليه، وتوفى وهو مصاحب الشيخ المذكور في الأرطاوية، وكان مولعًا بتلاوة القرآن ودرس كتب الصحاح والسنن والمسانيد واللغة والعروض، وما زال يتقدم حتى فاق أهل الزمان وتقدم الإخوان ونبغ من بين الأقران، يقول ويفعل ويتلو كتاب الله وبه يعمل، فلو سألت عنه الناس لملأ أذنيك ثناء، ولو سبرت حاله لرأيته جوادًا لا يبارى وسباقًا في الفضائل لا يجارى، وله جراءة عظيمة وصلابة في دين الله لا تأخذه في الله لومة لائم.

ص: 258

وهذه صفته رحمه الله:

كان قوي البنية ربعة من الرجال، يميل إلى الطول، أسمر اللون على وجهه أثر الجدري، وإحدى عينيه فيها نكتة بيضاء، قوي الإرادة شجاعًا، ولقد جرى له مع الشريف حسين بن علي قصة: وهي أنه حج في رفقة الشيخ عمر بن سليم، فبينما هو راكب في بعض شوارع مكة المشرفة وقد ازدحمت الشوارع بالحجيج وافق أن نفحت ناقته صبيًا برجلها من غير قصده ولا علمه، فما كان إلا قليل حتى أخذ وناقته صباحًا ورفعت المسألة للحسين، فلما علم أن صاحبها سعودي دعى به إليه ليسأله القصة، ولما أن جلس بين يديه وتكلم، عرف ما تحت الأديم من لسان بليغ وقلب عقول، فأعجب بكلامه وملأ عينيه، فعندها أخذ في البحث معه والمناقشة وكل إناء بالذي فيه ينضح، فسأله عن مشايخه وأساتذته فأخبره بأنهم آل سليم الذين أخذوا العلم عن آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب فأجابه الحسين بقوله: لعنهم الله لقد أضلوكم سواء السبيل، فقال له عبد الرحمن: لا تلعنهم فإنهم على تحقيق شريعة جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم نتبعهم لحسن لباسهم ولا لطيب أنسابهم، فأكرم الخلق عند الله أتقاهم، ولكنا وجدنا عندهم الشرع المحمدي فأخذناه عنهم، فقال له أخبرني يا بني عن التوسل وبغضهم للرسول؟ فقال: أما التوسل فعلى ما قرره شيخ الإسلام بن تيمية في كتاب التوسل والوسيلة ينقسم إلى ثلاثة أقسم:

- توسل إلى الله بأسمائه وصفاته فهذا مطلوب ومندوب إليه، حيث يقول الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].

- وتوسل بالأعمال الصالحة كما فعله أهل الغار فهذا جائز.

- وتوسل بذوات الأموات فهذا شرك وضلال.

وأما بغضهم للرسول فحاشا وكلا، إنهم لم يبغضوا الرسول، بل كانوا يرون الصلاة عليه في الصلوات الخمس والنوافل فرضة ولا تصح صلاة من

ص: 259

لا يصلي عليه فيها، وأنتم ترونها سنة فأصبح تعظيمهم له أعظم من تعظيمكم واحترامكم، أما دعائه وسؤاله الحاجات فغير مشروع.

ثم إنه دعى الشريف بطعان الغداء وقدم لذلك المأكولات قائلًا: اطعموا ضيفنا من غدائنا، تقدم أيها الشيخ للغداء فاطعم معنا، وكان رحمه الله قد غاب عن رفقته وتأخر عنهم، ولم يعلموا بما صدر منه ولا بغيابه، فقال: يا حضرة الأمير إن كرامة النفس فيما يلائمها ويوافقها وأنا لا يعجبني هذا الطعام، فأجابه الشريف قائلًا: وما طعامكم؟ فذكر له أن العجين يجعل أقراصًا فيلقى في الماء بعدما يغلي فيخرج من ذلك المرقوق وهو الذي يعجبني، فضحك لذلك الشريف ضحكًا شديدًا وقال: هل تريد الذهاب إلى رفقتك فإنك علينا لعزيز، قدم طلب ما تريده منا، فأجاب قائلًا: أريد بعيري والذهاب إلى رفقتي الذين لا يعلمون كيف حالتي، فأمر خادمًا أن يذهب به إلى ناقته التي قدم له البرسيم إكرامًا لصاحبها وشيعه مودعًا، فأخذ بخطامها وعاد إلى رفقته مصحوبًا بالسلامة.

ومن العجب أنه لم يخبر الشيخ والزملاء إلا بعد رجوعه إلى بريدة لما جلسوا على مائدتنا في القصيم، وكان سنه يوم وفاته ستًا وعشرين سنة، وهو أكبر إخواني وله قصائد حسنة، فنذكر منه قصيدة أنشأها جوابًا لقصيدة لبعض الأحباب وهي:

لك الحمد اللهم في كل حالةٍ

على نعم تسموا على عد حاسب

ومن بعده أزكى صلاةٍ على الذي

أقام منار الدين في كل جانب

كذا آله مع صحبه ثم تابع

على المنهج الأسنى على المراتب

وسار على قصد عن الميل معرضًا

ولم يثنه عذل العداة الكواذب

وبعد فقد عم الفتور مع المنى

وكذا العجز والتسويف في كل جانبٍ

نقضي زمانًا بالمنى ثم نرتجي

ونبغي ارتقاء الذرى والمراتب

وما ذاك إلا كالسراب بقيعةً

يراه الذي يهواه عذب المشارب

ص: 260

وأسباب جلب العلم يعلم أنها

بعيدٌ على أهل الفتور الخوالب

وأسباب حفظ العلم ليست خفيةً

فمن شائها يلقى وليست غوارب

فمنها لذكاء والحرص مع ذا اجتهاده

كذا نصح أستاذٍ وبلغه صاحب

وآفاته ضحكٌ جدالٌ مع المراء

كذاك اعتصابٌ للهوى والمناصب

كما قد نهى المختار في غير موضعٍ

فلا تعترض للنهي والمزح جانبِ

وقد جاءت الآثار في حظ فعله

فلا سيما منهم علي بن أبي طالب

وليس به بأسٌ إذا قيل قد روى

هداةٌ عن المعصوم أزكا الأطائب

فسل ربك التوفق والمن والهدى

لينجيك من نار عظيم اللهائب

ويا راكبًا إن ما لقيت فبلغن

سلامًا على أهل النهي والمناقب

ومن بعده أبلغه عني وصيةً

ونفسي وإخواني وكل مصاحب

على العلم فاحرص دائمًا في اقتنائه

فما بعده إلا الردى في العواقب

وأفنِ جميع العمر في غرس كرمه

ولازم تقى الرحمن والشر جانب

فإن تلقه فليهنك العلم إنه

حقيقٌ بأن تفنى وتحفي النجائب

فكم من حديثٍ قد تواتر لفظه

عن المصطفى والصحب يجلو الغياهب

بمدحٍ وحفظٍ للعلوم مع التقى

فتبًّا لبعدٍ للعلوم مجانب

يحن إلى الدنيا ولذات أهلها

يرى زهرة الدنيا على المناصب

ينافس مشتاقًا إليها وإنه

لفي غفلةٍ قد غره فعل ناكب

حريصًا على جمع التلاد وكنزه

ويمنع حق الله في كل نائب

يرى فعل هذا من كثافة جهله

سلوكًا على نهج الهداة الأطائب

وببغض أهل الحق والعلم دائبًا

ويمدح أهل الكفر من كل خائب

فلا تنتظر من قد سما عنك رتبه

وأعني به في المال لا في المراتب

كذلك أقنع بالرزق لا تطلب المراء

فإن الغنى بالنفس لا في المطالب

ولازم تقي الرحمن في كل مشهدٍ

ولا تكثرت بالناس في العلم دائب

وأسأل رب العرش ذا المن والهدى

سلوكًا على سير الهداة الأطائب

ص: 261

وعني على الشيطان والنفس والهوى

وكل أمور الشر خبث المآرب

وآخر قولي وابتدائي مصليًا

على المصطفى المبعوث للشرك عائب

مدى ما بدا نجم وما هبت الصبا

وما اهتز روضٌ من هطول السحائب

وما ضحكت أنواره وترعرعت

وما سبحت ورقاء في كل ثائب

محمد المعصوم والصحب كلهم

هداة الورى للحق خير المطالب

وله قصائد حسنة منها قصيدة رد فيها على أعداء الشيخ صالح بن سالم آل بنيان وذبَّ فيها عنه، فمن معرض أبياتها قوله في الشيخ صالح منوهًا في فضله ومبينًا عقيدته:

فقد طالما دل العباد بعلمه

إلى الله ذي الأفضال يا نعم ما عمل

وقرر توحيد الإله بحجةٍ

ووالى لمن والى فيا حسن ما فعل

وصابر ما يلقى وقام بجهده

على نصرة الدين الحنيفي وما نكل

فما زال هذا دأبه وجهاده

إلى أن أتاه الحق في الفعل لم يزل

إلى أن قال:

بأي دليل تستبيح لعرضه

لدى كل نادٍ تحتليه بلا خجل

ستعلم يوم الحشر ما قلت نادمًا

وتخرج مما قلت يا ويل من خذل

فربك بالمرصاد لا تستهن به

ثكلتك فاستعتب هديت ولا تمل

إلى آخر القصيدة التي بلغت خمسة وثمانين بيتًا، وله قد قدس الله روحه ونور مرقده وضريحه كتاب رد فيه على بعض المنافقين وغير ذلك، وجمع كتبًا كثيرة وغالبها أوقفها على أخوته وله رسائل مثبتة في خط يده، ومات ولم يتزوج لاشتغاله بالعلم ولأن المنية لم تمهله.

وممن توفى فيها من الأعيان الشيخ عبد الله بن صالح الربدي كانت أسرته من أكبر الأسر في مدينة بريدة، وظهر من أسرته رجال عظماء لهم شهرة ومكانة في العالم خدموا أمتهم وقضوا واجبًا يشكرون عليه، فمنهم زعيم بعث إليه صاحب الجلالة عبد العزيز بن عبد الرحمن في حال شدة وضيق لا أرهقته الحروب يستقرضه

ص: 262

قرضًا وبعث إليه برهان ليقبضها، فبعث إليه يقول هذا القرض اليذي طلبه منا نحن ومالنا تحت إشارته، والرهن مردود وفي كرامة عن قبضه، فإن أظهره الله قضانا ورد علينا القرض، وإن كان غير ذلك فما كان المال بأعز منه.

وكان المترجم عالمًا عارفًا مقبلًا على الله والدار الآخرة، وله همة في طلب العلم والجد والاجتهاد والصبر على ضيق المعيشة ما كان موضع الإعجاب، وكان زميلًا للشيخ عبد الرحمن، وتوفى معه في الأرطاويه لأن الشيخ عمر بن محمد بن سليم إذ ذاك فيها وهو من الملازمين له أيضًا.

وممن توفى فيها أيضًا الشيخ عبد الله بن محمد بن جربوع كان أيضًا من أسرة عظيمة في بريدة ويلقب "الدبيية" تصغير دباة على وزن سمية والدة عمار بن ياسر، وكان عالمًا متقنًا متفننًا عارفًا، وله أكباب على طلب العلم، ومن خيرة تلامذة الشيخ عمر وزميلاه اللذين قبله، توفى في الأرطاوية صحبة الشيخ المذكور نسأل الله تعالى أن يتغمدهم برحمته ويجبر الصاب بفقدهم، وإنها لخسارة عظيمة، ورزء فادح أن يصاب الإسلام بهؤلاء وأمثالهم، فإنا لله وانا إليه راجعون.

وممن توفى فيها عبد الله بن إبراهيم بن معارك، كان رحمه الله إمامًا في أحد مساجد بريدة المشهورة، وزاهدًا متعففًا، وفيه رقة وخشوع عند تلاوة الذكر الحكيم، كما نقل لنا عن بعض رفقته في السفر أنه كان راكبًا جملًا لحج بيت الله الحرام، ويتلوا القرآن وهو راكب فلما بلغ قوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، فجعل يرددها ويبكي حتى جعلت لحيته تهتن بالدموع من خشية الله تعالى، وكان محبوبًا عند الناس لأنه مؤدب ومعلم للصبيان ومتواضع، وله سجع مليح في الكلام وذا عبادة وصبر على قوارع الزمان.

وله من الأولاد عثمان وعلي، فأما عثمان فإنه جد في طلب العلم حتى نال درجة القضاء، وأما علي فكان دمث الأخلاق، طلق المحيا، خدم حيكومته في المنطقة الشرقية وكان موضع الثقة والتقدير.

ص: 263

وممن توفي فيها من الأعيان أيضًا الشيخ عبد الله بن فداء وهذه ترجمته:

هو الشيخ الإمام العالم العلامة الزاهد الورع التقي من نشر الله ذكره في العالمين وجعل له لسان صدق في الآخرين، ذو الأسرار الإلهية والمعارف الربانية، الموسوم بالفضل والدين وشهاب الرحمن على أعناق الكافرين عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مُفَدَّا هل وزن مهنا ويعرف بين الناس (بابن فداء) من آل ظفير.

ولد في سنة 1271 وأخذ العلم عن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ وأخذ عن الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وأخذ عن الشيخ محمد بن عمر بن سليم وأخذ عن الشيخ محمد بن عبد الله بن حمد بن سليم وغيرهم، ورشح مرات للقضاء فرفض وكان الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن يراسله بكتب ويكتب له بابن مفداء وطلب منه أن يقابله عدة مرات ليتفق به فقابله الشيخ عبد الله ووعظه وأهدى له نصائح وأسدى إليه مواعظ في مقابلته منها قوله (يا عبد العزيز إياك والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة كررها ثلاثًا) ثم انصرف الشيخ عنه وتركه.

أما الذين أخذوا عنه العلم فمنهم: الشيخ عبد الله بن سليمان بن بليهد، ومنهم الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع مدير المعارف سابقًا، وأخذ عنه عبد العزيز بن عودة السعوي، وأخذ عنه الشيخ عبد الرحمن بن عبيد، والشيخ عبد المحسن بن عبيد، وأخذ عنه سليمان بن ناصر السعوي، وأخذ عنه الشيخ محمد بن مقبل وغير هؤلاء خلق كثير؛ وألف بعض الرسائل فمن مؤلفاته "القول المتين في الرد على المحتالين في المعاملات" وقد لقي بعض المضايقات من بعض أمراء القصيم فاضطر إلى النزوح إلى بلدة عنيزة، وصبر وصابر وعلم وأرشد وله عناية بالرفق وكان عالمًا بصيرًا في دينه زاهدًا في الدنيا معرضًا عنها مقبلًا على الله والدار الآخرة ويندر مثله في زمانه لأنه جمع بين العلم والزهد والورع وله محبةٌ في قلوب المؤمنين مديمًا على العزلة لا

ص: 264

يزور ولا يزار خاليًا بربه وفاطره محبًا لأهل الدين مبغضًا للكفار والمنافقين وكهفا منيعًا لأهل الحق ينتابونه في الشدائد ويفزعون إليه في وجوده إذا دهمتهم المهمات والمكائد.

أما عبادته واجتهاده وزهده وورعه فشيء لا تبلغه العبارة، ولقد كانت شهرته تكفي عن ذكر ترجمته:

جاء إليه صاحب له فقال له: يا شيخ كيف أصبحت فقال لست بطيب إذا لم أخلف الصراط خلف ظهري فلست بطيب، وجاء إليه صديق يشكو الحال من كثرة الاختلاف والشقاق وقال: يا شيخ إن الناس في خبط وتقلب، فأجابه قائلًا، يا أخي قل الله اجعل هواي تبعًا لما جاء به نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ودع الناس في خبطهم لهم مدبر يدبرهم، فلله دره ما كان أعرفه بربه، فانظر إلى ما تحت هذا الدعاء من السر البديع.

ولما سمع بقدوم الدولة العثمانية إلى بريدة خرج إلى خب يسمى "زنقب المريدسية" فارًا بدينه ونزل عند نسيب له فيها وكان قد استصحب معه منيحة عنزًا اشتراها بنفقة طيبة فكان يشرب حليبها هناك فقدر أن انطلقت ليلة من الليالي إلى خضرة الجيران تأكل فلما علم بذلك تأثر واغتم لها ودعا بأهل البرسيم ليقوموا ما أكلته فأبوا عليه وأخبروه أنهم في حال المسرة بذلك وعلى الرحب أن تأكل منيحة الشيخ منهم لحبهم لصاحبها، فحبسها سبعة أيام واجتنب درها فيها.

ولما جاءته زوجته مرة بلوبيا من فلاحة أهلها لعشائه فسألها من ناولها إياه أأمها أو أبوها وحرج عليها إذا لم يعلم به أبوها فلترجع به عنه، وهذا غريب في زمانه وبعد زمانه وشيء يعجب له من تركه المشتبهات، وإنه ليجمل بنا ذكره.

ولما أن قدمت الدولة العثمانية إلى بريدة بسعي الأمير عبد العزيز بن متعب ابن رشيد كما قدمنا خرج إليه بعض أحبابه وأصدقاءه في خبه ذلك وجلس إليه يبكي مما دهى من العضلات والفتن وكان الزائر من المنتسبين إلى العلم وقال له

ص: 265